الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (21) علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة (2) عن الديالكتيك

كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (21) علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة (2) عن الديالكتيك

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 21-4-201321-4-2013_1

السنة السادسة

 العدد: 2060

كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (21)

علاقة هذا العلاج الجمعى بالفلسفة (2)

عن الديالكتيك

مقدمة

أنهيت النشرة السابقة بوعد بالحديث عن هيجل والديالكيتك، ولعل هذا هو أصعب مراحل تقديم الخلفية النظرية لهذا العلاج ، وفيما يلى بعض ما يوضح موقفى إزاء هذه القضية:

أولاً: منذ وصفت هذا العلاج بأنه “تنشيط ديالكتيك النمو” وهذا مثبت بوضوح فى الكتيب المقدمة (1978) (1)، لم أعد إليه لمزيد من الإيضاح وحتى الآن.

ثانياً: إن قراءة هيجل أو الاستشهاد به أو فهمه، كل ذلك يمثل لى مهمة صعبة، لا أزعم أننى فى مستوى تناولها.

ثالثاً: إن الحديث عن الديالكتيك، أو الكتابة فيه، هو ضد الديالكتيك نفسه (هذه ليست مقولتى، ولا أذكر أين قرأتها لكنها أفادتنى كثيرا)، لكنها مقولة صحيحة، بالغة الدلالة.

رابعاً: جرى استعمال لفظ الديالكتيك فى علاجات نفسية، مفيدة وهامة، لكننى وجدتها أبعد ما تكون عن ما وصلنى من هذا اللفظ، ومن استعماله له لشرح طبيعة العلاج الجمعى الذى نمارسه،  ومن ذلك العلاج السلوكى الديالكتيكى Dialectic Behaviour Therapy، وقد ابتدعته مارشا لينهان Marsha M.Linehan 1999، (2)  وهو علاج  ليس له علاقة بالعلاج الجمعى بالذات، كما أن آلياته وأساليبه مليئه بالمناقشات والتوجيهات والتدريبات السلوكية الظاهرة، يهدف كثير منها إلى تعديل الأفكار السلبية والسيطرة على موجات الانفعال الانفجارية، كما أنه يمثل إحدى تجليات العلاج المعرفى المتتالية مثله مثل علاج القبول والالتزام Acceptance Commitment Therapy   أو علاج “شحن الذهن”Mindfullness الذى يساعد المريض على احتواء فرط الانفعال …الخ، وما لكل ذلك من آليات لا تستعمل عادة فى العلاج الذى نمارسه، بل إن بعضها نتجنب استعماله بشكل محدد، لكثرة ما فيه من التوجيهات والتدريبات.

خامساً: لم أجد كلمة بالعربية – للأسف- تفيد ما وصلنى من الكلمة بالانجليزية Dialectic، بل إن الكلمات الجاهزة للترجمة مثل جدل وجدال تفيد أنواعا من الحوار (الفكرى واللفظى والتجريدى) تبعدنا عن حقيقة حركية الديالكتيك كما وصلتنى وكما أود أن أنجح فى تقديم بعض أبعادها.

سادساً: إن انتمائى الأساسى الجوهرى لنظريات التطور جعلنى أفهم كيف أتعامل مع ظاهرة الديالكتيك بشكل عام على أنها أساس فى حركية “الطفرة” التى تتخلق منها الأنواع من خلال الجدل الحيوى بينها، وأنا اعتبر هذا فرض يحتاج إلى فحص من علماء التطور أساسا وليس من علماء النفس أو الطب النفسى.

سابعاً: إننى مثل كثير من الفروض التى وصلت إليها من خلال غوصى فى فعل الإدراك ودوره فى الحفاظ على الحياة عبر التاريخ (قبل وبعد التفكير واللغة) قد اكتشفت أن غموض طبيعة الادراك المتجاوز للحواس إنما يرتبط بشكل ما بغموض طبيعة الديالكتيك وصعوبة تناولها.

ثامناً: بفضل التركيز المتناهى فى “هنا والآن” فى هذا العلاج الجمعى الذى نمارسه وصلتنى من نشاط مجموعات بشرية لا تتناقش ولا تتحاور ولا تتصارع مع بعضها البعض، وإنما تتفاعل وتتواجه و”تتادَلَكْ” (3) أسبوعا بعد أسبوع (بل ثانية بعد ثانية، بل فى أجزاء الثوانى) وصلتنى طبيعة حركية التواصل البشرى على مسار النمو الإنسانى بشكل لا يفسره إلا الملامح الأعمق لهذه العملية المسماة الديالكتيك.

تاسعاً: قدرت أن تقديم الديالكتيك قد يتضح ولو نسبيا إذا أكدنا ابتداء على ما هو ليس هو كالتالى:

 (1) ليس الجدل حواراً عقلياً كما يتصور البعض.

 (2) وليس محدد بصراع بين ضدين بمعنى “الصراع” Conflict ، ومن ثم تحقيق درجة مناسبة للتكيف فى محاولة حل هذا الصراع.

(3) كما أنه ليس حلا توافقياً وسطاً بين قطبين على أقصى محور ممتد، أى أنه ليس “حَلْوَسَطَاَ” Compromise  تسكينا.

(4) ولا هو احتواء أحد المتصارعين للآخر.

 (5) وليس الديالكتيك مبرراً للحفاظ على سلبيات الحياة بجوار أو حتى بداخل ايجابيتها (ولعل هذا الفهم الخاطىء هو ما استثار كيركجارد ضد هيجل وضد اجتماع الأضداد بالذات حتى الرفض).

(6) ولا هو عملية تبادلية تسمح باتفاق دورى يتم من خلاله تبادل الأدوار وتناوبها بين المتناقضين بشكل منتظم، لأن هذا ينتمى إلى “الإيقاع الحيوى” وهو أحد آليات التطور، وأساس استمرارية الحياة، وله علاقة بحركية الديالكتيك، لكنه ليس هو.

 (7) وأخيراً: فالديالكتيك تجريدا منفصلا عن عيانية نشاط المخ، ولا عن الأساس البيولوجى للنمو والحياة.

تعريف النفس من هذا المنطلق (البيولوجى/الديالكتيكى)

ماهية النفس:

ألفنا أن نتحدث عن النفس: بمعنى نشاط المخ،  أو بمعنى رمزى تجريدى فتنفصل عن المخ والجسد بلا تحديد، أو بمعنى دينامى على أساس أنها محصلة قوى متصارعة مع بعضها، ولكننا لم نتعود أن نتحدث عنها بمعنى الناتج النامى المتجدد النابض الممتد لحركية النمو الديالكتيكى للجهاز العصبى كله فى احتكاكه المستمر بالبيئة (وخاصة بالآخر الإنسانى).

ماهية الديالكتيك:

“إن الديالكتيك هو حركة المواجهة المتلاحمة الحية الصادقة بين الأضداد.. التى إذا استمرت فى حيوية لوقت كاف .. دون أن تقضى على الكائن الحى (أو على الشعب أو على الفكرة) فإنها قادرة على تفعيل هذه الأضداد فى كلٍّ جديد مختلف نوعيا، وأقدر كميا من مجموع أجزائه، وبالتالى فهذا الكل الجديد هو ذو نوعية جديدة وله قوانين جديدة ….”

فالديالكتيك الحى ليس فيه غالب ومغلوب، بل ولا سلب وإيجاب، بل ولا حسن وسئ، وإنما أدنيان إلى أرقى، ولا شك أن هذه الفكرة قد خطرت كأمل عند المفكرين الإنسانيين فى علم النفس بل وكمرحلة طبيعية فى نمو الشخصية ويظهر هذا واضحاً فى تفكير ماسلو، وحديثة عن مرحلة اختفاء الاستقطاب بين المنطق والنزوة، بين الوسيلة والغاية، وبين الأنانية والأثرة ..الخ وهو فى حديثه عن حل هذا الاستقطاب Resolution   يتحدث عن الولاف Synthesisويتكلم عن الاتحاد التعاونى Synergic Union ولكن الذى أعنيه هنا ليس تكرار ألفاظ هذا الأمل ولكن محاولة تفسير حقيقة طبيعة خوض التفاعل الديالكتيكى (لا مجرد الاتحاد أو التعاون)، ثم الإشارة إلى أن الطريقة محددة المعالم والبيئة (المحيط) واضحة القوانين هى المناخ الذى يتيح لهذا الديالكتيك الحيوى أن يستمر تصاعداً.

ماهية الأعراض:

من هذا المنطلق تصبح الأعراض هى مضاعفات الحركة التطورية الديالكتيكية إذا ما فرضت على الكيان البشرى قبل أن يستوعب المرحلة السابقة وقد استكملت مقومات نمائها واستعدادها، لتخليق الولاف التالى:

ماهية العلاج النفسى:

وبالتالى فيكون العلاج النفسى من هذا المنطلق هو مساعدة هذه الحركة التطورية على مواصلة هذه المرحلة إلى الولاف الأعلى . . .، أو على التراجع عن هذه المحاولة حتى تستعد وتستكمل مقومات الحركة الناجحة فى الخطوة القادمة.

خطوات ومثابرة:

إن العلاج النمائى عموما وخاصة العلاج الجمعى – يخطط لما أسميناه تنشيط حركية الحياة بإحياء ديالكتيك النمو ويشمل ذلك خطوات متكاملة متعاقبة متداخلة معا، تتم ممارستها من خلال فنية تحريك الوعى، أفرادا وجماعة، وقياس كل ذلك بالنتائج الظاهرة ما أمكن ذلك، وأيضا بالمتابعة لرصد نتائج الفروض المشيرة إلى حتمية التغيرات المتناهية الصغر القابلة للتكثيف وإعادة التشكيل، ومن ذلك:

 (1) تعتعة الجمود الساكن لتخثرات متفرقة، أو لكتلة الشخصية المتوقفة أو المتكلسة أو الدائرة فى المحل، وذلك من خلال التحريك الفنى العلاجى  بكل آليات هذا العلاج بدءًا بالتركيز فى “هنا والآن” وبالسيكودراما، وأداء العكس، والألعاب النفسية بأنواعها وبكل ما ذكرنا وسوف نذكر من تقنيات.

 (2) إعادة مواجهة هذه القوى مع بعضها البعض لا لإحياء للصراع فى ذاته، وإنما لإعادة تقييم التناقض، والاعتراف بوجود أطرافه، ومن ثم التنشيط فالتحريك، فالدياكتيك، فالنمو.

(3) الحفاظ على استمرار هذه المواجهة وتصعيدها بالدرجة التى تسمح بها دعامة المجموعة والمعالج.

(4) تجنب القصد فى ترجيح أى منظومة (بيولوجية كيانية) بذاتها، مهما شاع أنها الأقدر تكيفا والأكفأ قيادة (اللهم إلا مرحليا: انظر بعد) بمعنى أن المطلوب ليس هو – مثلا- مجرد ترجيح الأنا Ego الفرويدى، أو “الفتى”ADULT التفاعلاتى، أو التلقائية الجشتالتية.

(5) مواكبة مراحل النمو المتصاعدة، حيث كل وحدة أكبر من سابقتها – ولكنها وسط على الطريق – والوحدة تتم: بنجاح التوليف لتشكيل وحدات أكبر، وأيضا: باحتواء مؤقت للجزء المتبقى من الضد الذى لم يتم تمثّله لحين تحريك جديد فى نبضة نمو جديدة طبيعية، أو من خلال التنشيط العلاجى.

 (6) مع استقرار الوحدة الأكبر (التى تسمى الولاف الأعلى Higher Synthesis) لفترة تؤكد فيها نوعيتها فإنه يتم السماح بتحريك جديد يسمح بظهور الجزء المحتوى داخلها ليلتحم بالتناقض خارجها وتبدأ مواجهة جديدة … وهكذا ..

(7) باستمرار هذه العملية وتكرارها يقل هذا الجزء المُحتوى بعد كل نجاح أعلى حتى يبدو وكأنه يمكن أن يتلاشى (ولو نظرياُ) وهنا يكاد يصبح الوجود مطلقاً والتكامل خالداً وهذا غير وارد عمليا طالما يظل الانسان كائنا بشريا، ولكنه قد يتجلى للحظات فى الابداع والتصوف ومثل ذلك من خبرات …

(8) بما أن هذا الهدف الأبعد هو هدف نظرى بالضرورة فالحركة تظل مستمرة (إيقاعيا) نحو التكامل إلى أبعد مما نستطيع أن ندركه فى حياة الإنسان الفرد المحدودة حتى الآن.

*****

وبعد

هكذا نستطيع أن نراجع طبيعة هذا العلاج قيد البحث من خلال هذا المنظور بأن نعيد تأكيدنا أنه ليس كبتاً، ولا قمعاً وتحكما ولا تصالحاً وتبادلا بين أجزاء أو كيانات النفس، وإنما هو تنشيط حركية تهدف إلى تهيئة الظروف المساعدة لإنجاح هذه الخطوات التطورية بعد أن هددها الفشل فى صورة المرضى وأعراضه .. وذلك للوصول إلى الولاف وهكذا.

ملحوظة: فى حالة مجموعات المواجهة تجرى نفس هذه الخطوات دون الحاجة إلى التعامل مع أعراض وأمراض، وإنما نتيجة للوعى ببطء خطوات النمو والرغبة التلقائية فى إحياء الحركة وكسر الجمود ضد الابداع.

 ولهذا حديث آخر.

 

 

[1] – مقدمة فى العلاج الجمعى، عن البحث فى النفس والحياة، يحيى الرخاوى، دار الغد للثقافة والنشر.

[2] – Janowsky, David S. (1999). Psychotherapy indications and outcomes. Washington, DC: American Psychiatric Press. p. 100. ISBN 0-88048-761-5.

a b Linehan, M. M. & Dimeff, L. (2001). Dialectical Behavior Therapy in a nutshell, The California Psychologist, 34, 10-13.

[3] – أول مرة استعمل فعل تدالّكَ من ديالكتيك، وأعتقد أنه قد آن الأوان لنحته فورا تخرج من هذا المأزق.

تدالك، يتدالك، أى عاش لعلنا الديالكتيك ومارسه فهو متدالك والاسم ديالكتيك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *