اليوم السابع
السبت، 8 -3-2014
“قيمة البشر”: وزارة الصحة.. إنتاج أم خدمات
بدأت مقال أمس بالتساؤل عن “بماذا تقاس ثروة الأمم: بعدد سكانها؟ أم بساعات العمل الحقيقى”…الخ، وطالت منى المقدمة حتى أجلت الحديث الأهم عن الاقتصاد والبشر، وكان دافعى الأول هو تعرية الهيجة الدائرة حول فيروس “سى” ما بين جهاز الجيش، والعقار الأمريكى ذى السعر الفلكى، وضرورة الربط بين صحة الناس وقيمتهم كثروة قومية، هذه ليست مسألة طبية معملية تقنية بحته، وإنما هى إشكالة فى عمق السياسة والاقتصاد، ضمن ما اسميه الاحتلال العلماوى الجديد: زحفوا علينا أولاً بالوصاية على الاقتصاد، ثم على معانى الحرية التى اختزلوها إلى الديمقراطية (على عينى ورأسى مؤقتا)، ثم زحفوا على الأديان فابتدعوا مقدسات جديدة وصل تقديسها وتكفير من يخالفها أكثر من اتهامات كنيسة القرون الوسطى للعلماء بالهرطقة، ولم تسلم الأديان الحقيقية من التهميش والخنق، ثم إن ما تبقى منها اختزلوه إلى ما هو داخل الكنيسة والمسجد (على عظمة ذلك) دون النظر إلى فاعلية حضور الإيمان فى وعى الناس ودون الجهاد بحضور الله فى كل لحظة فى وعى البشر وخارجه.
فى مجال الطب، يـُرَبـَّى الطبيب على أن ينظر لما فى الكتاب والمجلة المدعمة بشركات الأدوية أكثر مما ينظر فى مريضه، أو إلى مريضه، وفى نفسه فى آن واحد، كما يعلمونه أن يقيّم نتائج عمله الذى هو أساسا لوجه الله والحفاظ على الحياة السليمة (مع أكل عيشه) بما هو مكتوب له، وليس بما يراه أمامه رأى العين، الاستعمار العولمى العلماوى الجديد انتقلت سطوته إلى استعمار العقل البشرى الطبى أيضا بفرض “طريقة التفكير” التى تخدم أغراضه، فلم يقتصر على فرض محتوى التفكير المتحيز وحشر الحسابات المالية سرا فيه، لكنه نجح أن يقصر النظر إلى النتائج الفعلية بمقياس مدى اتفاقها مع ما حفظ وسمّع، الذى يخدم مدى ما يجمعون ويكسبون، وليس بمدى تعافى مريضه وعودته إلى فاعليته وصحته.
أنا أحب مهنتى (الطب عامة وليس مجرد تخصصى) حبا جمّا، لكننى صرت أشفق عليها وعلى مرضاى من وصاية مالية علماوية خارجية، ذات ياقات بيضاء وقبعة مرفوعة وبوفيهات مفتوحة، ورحلات مرفهة، جنبا إلى جنب مع وصاية مفتعلة تحت لافتات إنسانية لها محامون مختصون وقواعد مكتوبة، أما مهنتى التى هى مداواة ومواساة، والتى مارسها البشر لبعضهم البعض قبل نشأة ما يسمى كليات الطب وبعدها، فقد توارت فلسفتها وعلاقتها بالطبيعة وبالله سبحانه الشافى الرحمنالرحيم، كما تراجع فن اللأم والتطبيب، ليتبقى جدول ضرب التشخيصات والوشم باللافتات، ثم جداول العقاقير الكيميائية المصنعة التى يتراجع الأرخص منها حتى يختفى بفعل فاعل لتحل محلها هذه الجرائم العلماوية المدعمة بكل مؤسسات الربح الكموية.
ياه!! سوف ينتهى منى هذا المقال أيضا دون أن أدخل فى الموضوع الأصلى وهو قيمة البشر كثروة اقتصادية، وقيمة عبادة الله بالمحافظة على الإنسان كما خلقه سليما قويا جميلا، وقيمة احترام هذا الإنسان كنزا مكرما معزَّزا حرا فاعلا.
دعونى أوجز ما أريد أن أقوله فى المرات القادمة حتى ألزم نفسى أكثر تحديدا:
أولاً: الإنسان فى ذاته نعمة من الله على الأرض يعمّرها، وهو نعمة منه تعالى على نفسه يكرمها بالعبادة والإيمان، وهو نعمه على من حوله بدءًا برعيته الأقربين، امتدادا إلى كل البشر.
ثانياً: الإنسان – على ذلك – أمانة، علينا أن نرعاها، بما فى ذلك رعاية صحته، كلٌّ فى موقعه، وكل فى مجاله، بتعاون الشرفاء معا.
ثالثاً: الإنسان – كثروة قومية وأداة إلهية – هو مجموع دقائقه (جمع دقيقة) مضروبا فى مساحة وعيه، مقاسا بناتج فعله له ولمن حوله فى دوائر متسعة تصل آخرها إلى آخر من لا يعرف (وهذا ما نأمل أن نفصّله فيما بعد).
رابعاً: وزارة الصحة مهمتها الأساسية هى الإسهام فى الحفاظ على صحة هذه الأمانة الهدية من الله أعنى هذه الوحدات البشرية السالفة الذكر، بالمواصفات السالفة الذكر، وهذا دورها الوقائى.
خامساً: الدور العلاجى لوزارة الصحة وللطب هو العودة بالإنسان – كفرد متألم أو معاق باعتباره ثروة قومية – إلى سوائه وهارمونيته وصحته ومن ثم إلى إنتاجه، وذلك لكل المواطنين بأكبر قدر من العدل الممكن.
سادساً: وزارة بالصحة – على ذلك – هى وزارة إنتاج أساسا وليست (فقط) وزارة خدمات، وهى تكون كذلك أكثر فأكثر حين تعمل سائر مؤسسات الدولة، بل وسائر نشاطاتنا على الحفاظ على هذه الثروة البشرية فى كفاءة قادرة منتجة.
وهذا – غالبا – هو حديثنا القادم.