نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 31-5-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4656
قصة قصيرة
.. يقظة أى شىء حقيقى (1)
نفاذٌة، مخترقٌة، قوية، ناعمة، كامنة، عاصفة، ندية، تمد يدك لتقبض عليها، فتحيطك بها، تبدو كأنها تتسحب عبر أنفك، لكنك تفاجَأ أنها تأتيك تتهادى إليك من خلالك كُلك، فتحسها وقد ملأتكَ، دون استئذان،
هذه الرائحة!!
رائحته؟
تغمرها بدءًا من أرنبة أنفها صاعدة إلى خصلات شعرها ممتدة إلى كلها.
لماذا جعلتْه يعرفها أكثر مما تسمح به لأى أحد، ولا حتى لها؟
كيف وصلت تلك الرائحة إلى قدميها المدفونتين فى الرمل؟
كيف اخترق هو شروطها وهى لم تكن قد أعلنتها له، أو لنفسها؟
تفتح عينيها لتتأكد من أنها لا تحلم، تلتقط نظرتها المتجوّلة ذلك المربع الصغير اللامع وقد عجزت الرمال أن تغطيه، أو لعله هو الذى نفض الرمال عنه،
تُلَعِّب أصابع قدميها بهدوء فتتأكد أنه إظفر الاصبع الكبير لقدمها اليسرى، تسكن فيستكين المربع فى حضن الرمال من جديد،
تتأمله وإذا به يحمّر خجلا تحت أشعة الشمس،
هى لا تطلى أظافرها بأى شئ، الناس تقرأ الكف وهى تقرأ الأظافر، تحفظ أظافره ودوراتها عن ظهر قلب، من الخدْش اللذيذ، إلى دور الاختفاء المتربص … إلى غير ذلك.
عادت تنظر إلى المربع الصغير وهو يحاول أن يدارى حمرة الخجل تحت الرمال وهى تهسهس له، فينصت أكثر ولا يستبين، تدغدغه فلا يعرف كيف يخفى ضحكة كادت تغلبه!
هى لم تحاول أن تدفسه أكثر فى الرمل ولا أن تعرية أكثر،
هل ازداد خجلا لذا هو يزداد احمرارا؟
هل ملأته الرائحة؟
هل يمكن أن تتسرب منه؟
أغمضت عيناها خشية أن يتحقق ظنها.
حين فتحت عيناها هذه المرة تجاوزت المربع الصغير إلى الشاطئ، رأتهما يسيران معاً كأنهما يعدوان، يهرولان، هما لا يهرولان، لا يسيران، هى التى تتابعهما وتحدد سرعة خطواتهما “بريموت” الملاحقة؛ عيناها.
الفتاة شقراء، ليس لها عمر، نحيفة، كيف تجتمع كل هذه النحافة مع هذه الأنوثة الكاملة؟ لوحّتها شمس “دهب”، هل للذهب الخام لونٌ ورائحة؟ يدها اليمنى تمسك يده اليسرى، أو لعل يده اليسرى هى التى تمسك يدها اليمنى، تلتقيان فى شوق وجِل، تخاف كل يد أنها إنْ تركت الأخرى، فقد لا تعثر عليها من جديد!
لا تستطيع أن تميز وجهه من شعر رأسه من ملابسه التى تتفرق على جسده بلا نظام، أو بنظام اللانظام الذى ليس له لون إلا لونه، القميص الأسود كأنه اشتعل باللون الرمادى وقد خرج صاحبه لتوه من منجم فحم مجهول، رجلا السروال ينزلان إلى تحت الركبتين بقليل، وهما غير متساويتى الطول، بلا نشاز.
لا يمكن أن تنفى عن هذا الكيان الشاب فجاجة متوحشة، لكنها ليست بدائية، طيف الألوان المبرقشه تلمع بحيوية، وكأنه يرتديها تحت جلده النحاسى وليس فوقه. تختلط معالم جسده بملابسه، بحضوره، برقته الحانية، حتى تتجدد درجات الألوان وتتبادل بسرعة تحت أشعة شمس مترددة،
تحاول تبين حجم كفه التى تحتضن يدها، تصورتْها كبيرة، مع أن الفتاة هى التى كانت تحيط بها، هى لم تر ذلك بدقة كافية، لكنها استنتجته
ما الفرق بين الرجولة والذكورة والفحولة؟
كيف بعد كل ذلك لا تختفى أنوثته الحاضرة، أو أمومته الحانية؟؟!!
شئ ما يربط بين الكفين، شئ مثل الكهرباء قبل اختراع الكهرباء، أو مثل هسهسة طائر نادر ليس له اسم،
همت أن تقوم تتابعهما، أن تلحق بهما، أن تعدو خلفهما لتتأكد من شىء ما، شىءِ فيه فرح جميل، لم تفعل، عادت تنظر إلى المربع الصغير وسط الرمال فخيل إليها أنه يتململ وهو يحاول أن يزيح الرمل من حوله مع أنه يستدفئ به، تأكدت أن الرائحة لم تتسرب منه، وهى مازالت تملؤها كلها.
لو أن الشاب والفتاة كانا مسرعين هكذا كما حضرا فى وعيها منذ قليل، لاختفيا من مدة، هل وُجدا أصلا؟،
الرائحة، نفس الرائحة، تحيط بهما بموافقة ضمنية من الأمواج الهادئة،
حين اختفيا انكشف لها البحر بعباءته “الندّاهة”، ابتسمت له، فابتسم فى خبث طيب وهو يقر أنها امتلكت كل الأسرار من وراء الجميع،
همت أن تغمز له بعينها اليسرى شاكرة مطالبة إياه أن يحافظ على سرها، لم توافق عينها اليمنى، إيش أدخلها هذه فى هذا؟
رائحة رجولة حرة هى تلك التى ملأتها أم رائحته هو بالذات؟ أم رائحة فحولة أنوثتها؟ أم رائحة نبض الكون هذا الصباح؟
الرائحة التى توقظ الرائحة، هى مثل أى شئ حقيقى حين يوقظ أى شئ حقيقى، هى التى تجعل الأشياء الحقيقية تتخلق معا إلى أى شئ حقيقى.
ابتسمت من جديد، ثم تذكرت، فجأة،
وإذا بالدموع تملأ عيناها دون أن تنهمرْ.
ما ذنبها هى؟
لا شئ ينبغى أن يحرمها من فرحتها الآن، من امتلائها هذا بهذه، حتى لو قررت أن تستشهد غدا دفاعا عنهم، عن الحياة!
وجدت نفسها تعتذر لشيخ مجهول طيب ملئ بالأبوة، تعتذر عن هذا القصف المستمر.
تقوم من تحت الشمسية، تلملم أشياءها، تنصرف راضية متألمة، تمضى إلى الكشك خلف الشمسية وهى تلف أطراف الرائحة حول جسدها، تلك الملاءة اللف التى “تقول” أكثر من أى “مايوه” يسير على الشاطئ دون جسد،
تحبك الملاءة حولها لتمنع أى تسرب فتطمئنها الملاءة راقصة أن الانغام الآن هى التى تحول دون التسرب أكثر من الحبكة،
مع أن هذا الشاطئ يُحظر فيه دخول المحجبات،
تحتضن عينيها صبى الكشك وهى تسأله:
– ألم يأتِ هذا الصباح؟
يبتسم النادل ولا يسألها:
“مَنْ”؟
تقول له:
“شكراً، أنا آسفة”
تمضى دون أن تلتفت خلفها
[1] – نشرت فى الموقع نشرة “الإنسان والتطور” بتاريخ: 2-4-2008 بعنوان: “… برجاء وضع ما تشاء من عنوان” وأخيرا وبعد ستة عشر عاما عثرت لها على هذا العنوان الحالى، أرجو آلا يمسخها.