نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء : 31-3-2015
السنة الثامنة
العدد: 2769
الثلاثاء الحرّ:
قصة جديدة:
البنت والكلب والدموع
(1)
كانت البنت قد قررت فجأة أن تمارس قدرا مما يسمى “حرية” سمعت عنها ولم تجربها أبدا، قررت أن تزوغ اليوم من المدرسة لتكتشف: ليستْ تدرى ماذا، ست على أريكة الحديقة التى ساقتها إليها تذكرة مترو وحكاية سمعتها عن “بوذا” من صديقتها التى تسكن حلوان، لم تكن قد زارتها من قبل، ولكنها لم تجد صعوبة فى السؤال عنها والوصول إليها، لم تجد صعوبة أيضا فى العثورعلى ركن هادئ بعيد منعزل، فنحن فى الصباح فى ساعات العمل والدراسة، والحديقة تكاد تكون خالية، وضعت حقيبتها بجوارها، وهدْهدَتها وكأنها تنيّم طفلا عزيزا عليها، ثم انسابت الدموع من عينيها دون أى سبب ظاهر أو ذكرى حاضرة !!!
(2)
اقترب الكلب من البنت بخطوات هادئة بطيئة وهى تتابعه بلا انزعاج، تطلع الكلب إلى وجهها وكأنه يستأذن، هى لا تخاف من الكلاب، هكذا طول عمرها لم تخف من الكلاب، هى تخاف من القطط ، مع أن الكلاب – كما سمعت- هى التى يمكن أن تكون مسعورة، وهى التى تهجم على الغرباء، كما تعتدى على من يهاجمها، إنها لا تخاف من القطط فقط، بل إنها تكرههم أيضا، علمت من أمها أنهم ينقلبون إلى شياطين – بسم الله الرحمن الرحيم – متى حل الظلام، كما أنها ما زالت تذكر إذْ هى طفلة منظر ذلك القط الذى كان يحتل قاعدة شباك بئرالسلم، وكأنه كان ينتظرها حتى ظهرت من باب الشقة، ولم تكد تنزل سلمتين حتى قوس ظهره ونظر إليها بعينين راحتا تلمعان فى الظلام وكأنهما قذيفتا ليزر مما جعلها تعدل عن الخروج وترجع إلى الشقة وتصفق الباب وراءها وتعدل عن المشوار.
اقترب الكلب أكثر، وفى عينيه طيبة جدٍّ حنون، لم تكن تأكل شيئا يغرى الكلب بالاقتراب، ولم يكن فى الحقيبة ما ينبعث منه رائحة مما تدفسه أمها فيها عادة حتى يصبـّرها إذا جاعت، يزداد الكلب اقترابا وهى لا تنفر منه، ولا حتى تتقزز من احتمال قذارته، العكس هو الذى حصل، رأته جميلا ليست تدرى كيف، وكلما زاد قربا زاد جمالا، هذا ليس كلبا جبليا من الكلاب الضالة التى تجوب التلال المحيطة، ولا هو كلب ابن ذوات مدلل من كلاب أولاد الناس، هو ببساطة : كلب إبن كلب، فهو جميل، تعجبت من هذه الأفكار الجديدة عليها، وكأن الكلب سمعها، فراح يقترب أكثر بعشم أوضح حتى التصق تقريبا بسروالها الجينز، وكاد يركن رأسه على أسفل ساقها ، مدّت يدها وربّتت على راسه، فلم يفزع، بل هز ذيله وجلس أرضا ومدد ساقيه أمامه، وامتدت رأسه إلى أسفل حتى استكانت بينهما،
(3)
زقزقت عصفورة صغيرة يبدو من صوتها أنها حديثة الفقس، جاء صوتها من أعلى الشجرة التى كانت البنت تجلس تحتها، رفعت البنت رأسها فى اتجاه الصوت، فإذا بها ترى قطا يتسلق ساق الشجرة صاعدا نحو العش، رعبت ولم تعرف ماذا تفعل، لفتت تبحث عن الأم فلم تجد لها أثرا، تذكرت القط الذى رأته يوما يذل فأرا بعد أن تمكن منه ووضعه بين أنيابه، كان يتركه يجرى أمامه وقبل أن يبتعد شبرا أو شبرين يلاحقه ويضعه فى فمه من جديد بدلا من أن يجهز عليه ويلتهمه لفوره، ساعتها جرت نحو أمها وحكت لها ما رأت فلم تصدقها، عادت تنظر إلى الكلب وكأنها تستنقذ به ليلاحق القط يمنعه من مواصلة تسلق الشجرة، نظر إليها الكلب وهو يعتذر بأن الكلاب لا يتسلقون الشجر.
(4)
أصوات وقع أقدام تقترب فتزداد دقات قلب البنت وتلتفت ناحيتها فإذا برجل فارع القوام يقترب من الناحية الأخرى، يتملكها خوف ليس أقل من خوفها على الصغير فى العش، يقترب الرجل فإذا فى وجهه طيبة مصرية عريقة، فتطمئن برغم ضخامته، وبعد أن يلقى عليها تحية الصباح برقة لا تتناسب مع حجمه، لكنها تتفق تماما مع ملامح وجهه، يعرفها أنه “أمين شرطة”، وأنه موجود بالقرب منها، وأنها ما عليها إلا أن تنادى بأية إشارة إذا ضايقها أحدهم، وستجده بجوارها فورا، وحين لمح حقيبتها وسألها أحسنت الكذب عليه قائلة إن مدرستها فترة مسائية، وهى تنتظر موعدها، فراح يدعو لها بالنجاح وهو يستأذن ويوصيها أن تراجع دروسها على راحتها، كما راح يدعو لها وهو ينصرف، فجعلت تشكره وتدعو له بدورها أن يحميه الله من شرورهم.
(5)
ساورتها شكوكٌ لم تسمح لها أن تتمادى، ثم عادت تنقل نظراتها بين القط وموقع العش، وخافت أن تقذفه بطوبة فيهرب إلى أعلى، لكنها اطمأنت لوقفته على الساق، وكأنه وجد سطحه أملس من أن يتسلقه فتوقف، أرهفت السمع فلم تصلها زقزقة الصغير، حمدت الله وأخرجت كيس لب أبيض من حقيبتها، وكيسا آخر يبدو فارغا، راحت تقزقز اللب بهدوء وتضع القشر فى الكيس الفارغ، ولما اطمأنت إلى عجز القط عن مواصلة الصعود، نظرت إلى ما تبقى فى كفها من حبات اللب، وقررت أن تمارس وسواسها الطيب، المزعج أحيانا، فراحت تعد اللب وهى تقول أنه إذا جاء العدد زوجيا فسوف تنتصر مصر، أما إذا جاء فرديا فسوف تضاعف دعواتها لمصر ولأمهأ أن يشيفهما الله ” شفاءً لا يغادِرُ سقّمَا”، كما كان جدها يرقيها إذا مرضت.
(6)
وقع أقدام أكثر من الناحية الأخرى، أصوات كثيرة متداخلة تبدو شبابية، ما بين القهقهة والكركرة والصراخ، لم تلتفت لكنها تذكرت أمين الشرطة واطمأنت أنه قادر على نجدتها إذا لزم الأمر، وحين مروا خلف أريكتها لم يفزعوها، ولم يعلقوا على وحدتها، ولم يكفوا عن الضحك والضجيج، حتى فضلت أن تعتبر أنهم لم يلاحظوها أصلا، تبينت أنهم ثلاثة أو ربما أربعة، بدا من أصواتهم أنهم هائصون منتشون تماما لسبب لا تعرفه، ودّت ألا يكون مصنوعا من خارجهم، ولاحظت أنها انقبضت بنفس درجة انتشائهم، وكلما هاصوا أكثر غاصت أكثر، حتى انسابت دموع أخرى بدت كأنها تنساب حول قلبها لا من عينيها، ودعت لمصر ولأمها من جديد.
انتبهت إلى أن الكلب قد قام من رقدته ربما على أصوات الشباب، نظر إليها الكلب يسألها إن كانت تحتاج إلى مساعدة، فشكرته ولم تذكر له اطمئنانها إلى أمين الشرطة حتى لا تحرجه، عاد ينظر فى عينيى الفتاة طويلا حتى صدَّقها، ثم التفت وعاد ينظر إليها يستأذنها بعينيه، ثم انطلق يعدو فى الاتجاه الذى ذهب فيه الشباب وكأنه يريد أن يلحقهم.
(7)
يبدو أن النوم عدوى، كما أن التثاؤب عدوى، لعلها انتقلت إليها من صديقها الكلب الذى رحل وراء من لا تعرف، وغالبا هو أيضا لا يعرف، و مع زيادة دفء شمس هذا اليوم البارد المنعش، تركت جفونها ترتخى قليلا قليلا، نظرت إلى ساق الشجرة من جديد فلم تر القط ورجحت أنه فشل وتراجع، ثم رأت العصفورة الأم ترفرف عائدة إلى العش وفى فمها ما تيسر من رزق، فاطمأنت على الصغير، وعلى اقتصاد مصر، أخذت حقيبتها ووضعتها فى حجرها حتى إذا غلبتها العدوى التى شعرت أنها تنتقل إليها من صديقها الذى تركها، كانت الحقيبة فى أمان.
راحت تسير وتسأل، وتسأل وتسير، لا هى تعرف تحديدا عن ماذا تسأل، ولا هى متأكدة إلى أين تسير، وكلما طال السير تسارعت خطواتها إلى مجهول أوسع، وتراجعت الخضرة، وماتت الأشجار، وزادت الصخور قسوة وبُعدا وتحديّا، جاءها الصوت أن “اتبعينى وأنا أجيبك عن كل ما سألت عنه”، فقالت له “أتبعك إلى أين؟، قال “إلى ما كنت تسألين عنه”، قالت : “لكننى لا أعرف ماذا كنت أسأل عنه، فقال لها لا تشغلى بالك: أنا أعرفه” ، ثم اختفى الصوت ليحل محله نفير أكثر من عربة نجدة وكأنها تتسابق، انتظرت لتظهر العربات فلم تظهر، لكن النفير تكاثر واقترب وزاد حتى بدا كالرعد، التفتت إلى الرصيف القريب فإذا بالأرض تنفتح بحذائه لتخرج منها عربة مترو مكشوفة ، فقررت ان تسارع بركوبها دون أن تسأل عن وجهتها حتى تخرج من هذا الموقف المرعب الدائم الاتساع، وحين اقتربت من عربة المترو أكثر، بدت لها أنها ليست كذلك، وأنها مركبة فضاء مثل التي تشاهدها فى السينما، بل هى أقرب إلى ما تشاهده فى مجلة ميكى، حين يستعمل عبقرينوا آلة الزمن ، خفف ذلك من ترددها، وشجعها المحصِّل الذى كان يقف بباب العربة وكأنه يبحث عن زبائن، دخلت إلى العربة وجلست فى أقرب كرسى، ثم التفتت حولها فلم تجد أى ركاب غيرها، وحين تقدم إليها المحصل يسألها عن وجهتها ليقطع لها تذكرة، احتارت فى الإجابة ، فألح فى السؤال فوجدت نفسها تقول وهى تمزح : إلى الكرة الأرضية، اندهشت أنه لم يتبين أنها تمزح، وقطع لها تذكرة ولم يطلب ثمنها، فصمتت، فكل ما يهمها هو أن تغادر هذه الصحراء القاحلة. بلا معالم.
(8)
حين فتحت عينيها فوجئت بكل هذه الخضرة حولها من كل جانب، ثم نظرت أسفل فوجدت الكلب قد عاد إلى موقعه، وراح ينظر إليها وكأنه يعتذر عن تأخره فى العودة، ويبدو أنه قرأ فى عينيها السماح، فاقترب أكثر، وأسند رأسه على ساقها من جديد، وتمسح به فى أمان.
سمعت صوت الأقدام الثقيلة فعرفت أنه أمين الشرطة، وفعلا كان هو، اقترب منها قائلا : “لا عليك ، لقد رأيتهم” ، قالت: ” الحمد لله، كدت أنادى عليك، لكنهم كانوا طيبين”، قال:” ليس تماما، هم ليس عندهم فكرة” قالت :”عن ماذا”، قال: “عن أى شىء، الحمد لله أنك لم تنادينى” قالت” لماذا، الم تكن تقدر عليهم؟ قال ” أقدر ونصف” ، قالت “إذن لماذا؟” ، قال “ربنا أمر بالستر، “يا لهؤلاء الشباب!! هؤلاء الشباب!!” هذه بضاعة هذه الأيام،
نظر الكلب شذرا إلى أمين الشرطة ، وزام بغضب وتحُّفز، فنظرت إليه الفتاة قائلة :
” إهدأ، إهدأ، فهو صديق”
فتحت حقيبتها، وأخرجت منها حزمة المناديل الورق، واحتضنت حقيبتها بحميمية، وانصرفت مطأطئة رأسها، وحين علا نشيجها، أخرجت منديلا من الحزمة، والتفتت للكلب وهى تقول:
– والله العظيم ثلاثا سوف تفرج غصبا عنهم جميعا.