نشرة “الإنسان والتطور”
3-11-2011
السنة الخامسة
العدد: 1525
مقدمة:
حين قررت أن أشير إلى أجزاء نصوص التدريب التى وردت سابقا كنت أتصور أننى تركت تداعياتى فى كل ما سبق تنطلق بنفس زخم الطلاقة التى انتهيت بها فى الحلقات الأخيرة، لكننى أكتشفت أن هناك سطورا، وأحيانا فقرات، لم أتعرض لها أصلاً، واستلزم ذلك أن أعود مراجعة تفصيلات الحلقات السابقة التى ورد فيها نص سابق، وأن أقوم بالربط المناسب حسب كل نشرة دون التزام بقاعدة معينة.
النص: ص (42) من الكراسة الأولى
——–
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
ألا ليت الشباب يعود يوما
صنت نفسي عما يدنس نفسي
الشكوي لأهل البصيرة عيب
نجيب محفوظ
11/3/1995
القراءة:
عاد بنا تدريب اليوم إلى نفس الترتيب الذى بدأ به شيخنا أولى صفحات التدريب من حيث البدء بذكر اسمه فاسمى كريمتيه، ثم اعقب ذلك بـ “ألا ليت الشباب يعود يوما”، وبالبحث وجدت أن هذا الشطر قد ورد فى بداية البداية (صفحة رقم “2”بتاريخ 6-1-1995)(1) ، وفى (صفحة رقم “8” بتاريخ 2-2-1995) (2) دون أن أعقب عليه أصلا. لا فى وروده الأول، ولا الثانى، فهل يا ترى كان ذلك بسبب السهو أم بسبب أننى لم أكن قد التزمت، أو اعتدت، التعقيب على كل كلمة، أو لسبب آخر؟
أعتقد أننى لم ألمح هذه الأمنية – أن يعود الشباب يوما- خلال العشر سنوات التى صاحبت فيها شيخى، وبرغم من فيض الذكريات التى عشتها معه ومع توفيق صالح، وما صاحب استعادتها من روحها الزائطة أحيانا وما وصلنى منها عن ما كان بها من بهجة وفرحة وأنس وصحبة، فإننى لم أشعر من أى منهما هذا الحنين إلى ما يسمى عادة “أيام زمان”، وتعلمت من ذلك ومن شيخى بوجه خاص أنه قادر على أن يعيش لحظة “الآن” بحقها، وهو الأمر الذى تعلمته بكل عمقه من العلاج الجمعى الذى أمارسه منذ أربعين عاما والذى يركز على قاعدة “هنا والآن” طول الوقت، بل إننى من خلال ذلك اكتشفت أننى لا أترحم على يوم انقضى أجله، ولا أرغب فى استعادة ماضيا مهما كان مليئا بكل ما يستحق استعادته، ثم إننى شخصيا لم أعتد أن أتذكر أيام طفولتى، أو حتى شبابى، بهذا الحنين المشتاق إليها جدا، شيخنا لم يصرح بمثل ذلك بالألفاظ مع أنه كان هناك الكثير والكثير مما يمكن أن يترحم عليه، لاحظت أنه حين يتحدث بعض الأصدقاء (فى غير جلسة الحرافيش عادة) عن مسلسل جديد، أو برنامج أو فيلم عرض حديثا فى التليفزيون، كان يطلب الأستاذ منه أو من أحدنا ممن شاهده أن يحكى عنه، وعن رأيه فيه، أكثر مما كان يترحم على أيام كان يشاهد التليفزيون فيها ساعات محددة وبانتظام، كل يوم أو كل ليلة تقريبا، وحين سألته – مثلا- عن علاقته بالمسرح، وكنت أعنى المسرح المصرى، أجابنى أنه كان يتردد عليه، ويتمتع به، لكن منذ حال سمعه أن يصل إليه الحوار مهما علا صوت المكبرات، توقف عن ارتياد المسرح مضطرا، وصلنى من هذا الموقف صفتىْ الرضا والصبر الجميل، كان ذلك موقفا ثابتا حتى تصورت أنه كان يرحب بشيخوخته حتى صارت هى هى شبابا متجددا، قياسا على ما وصلنى من ترحيبه بالموت باعتباره الوجه الآخر للحياة.
الأرجح عندى الآن أن هذا الشطر “ألا ليت الشباب يعود يوما” ورد إلى تدريباته ومعه بقية البيت: “ألا ليت الشباب يعود يوما.. فأخبره بما فعل المشيب”، مجرد إخبار طيب، وليس نعابة وحسرة ورثاء.
هل هذا هو الذى جعلنى أغفل أو أهمل التعقيب باكرا على هذا الشطر حين تكرر وروده فى النشرتين السابقتين حيث ورد فيهما؟
أما الجملة الثانية (الشطر الثانى) التى وردت فى صفحات سابقة أيضا، فهى “صُنْتُ نفسى عما يدنس نفسى”، وقد وردت باكرا أيضا فى صفحة التدريب رقم (8) وأخذت حقها من تداعيات فأكتفى هنا بإكمال البيت:
صُنْتُ نَفْسِى عَمّا يُدَنّس نفسى وَتَرَفّعتُ عن جَدا كلّ جِبْسِ
وأوصى – لمن شاء- بالرجوع إلى تداعياتى فى النشرة السابقة (صفحة التدريب رقم “12” بتاريخ 6-2-1995)(3) أما حين وردت لاحقا بعد قراءتى الأولى، وذلك فى (صفحة التدريب “39” بتاريخ 7-3-1995)(4)، فلم أعقب عليها، ولم أشر أيضا إلى سبق ورودها حيث لم أكن قد طبقت منهج القراءة بالربط المناسب ما أمكن ذلك كما يحدث الآن.
لم يبق فى نشرة اليوم جديدا إلا سطر يقول: “الشكوى لأهل البصيرة”
بصراحة، فى البداية عجزت أن أقرأ الكلمة بعد عدة محاولات، فهل هى “شيصب”؟، وهل توجد كلمة هكذا، قلت أقرّبها إلى “عصب”، ثم رجحت أنها: ربما تكون “عيب”. لكننى رفضت هذا الترجيح لرفضى المعنى الذى وصلنى لأول وهلة، إذ كيف تكون الشكوى لأهل البصيرة عيب؟ لا يمكن!! تعلمت من مرضاى ومن قرّائى ومن نفسى وغيرهم أن البصيرة هى أغلى ما يمكن أن يتمتع به صاحب الرؤية الثاقبة والقلب النقىّ، فكيف تكون الشكوى لهؤلاء عيبا؟ والشاعر يقول: فلابد من شكوى إلى ذى مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع”، وهل ذو المروءة إلا من أهل البصيرة، فإذا كان الأمر كذلك فكيف تكون الشكوى له عيبا؟
استعننت بصديقى سكرتيرى أحمد السيد، فإذا بى أعرف مما أتى لى به بعد استشارة “جوجلية” أن هذا التعبير هو تعبير يستعمله العامة وهم يزورون الأضرحة ويسألون صاحب الضريح أن يستجيب لطلباتهم أو يشفع لهم عند الله ليجيب دعاءهم، كما عرفت أن تمام هذا القول (العامى) الشائع فى مثل هذه المواقف أنه “العارف لا يعرف، والشكوى على أهل البصيرة عيب”(5).
أورد الآن مقتطفات مما وصلنى بهذا الصدد:
جاء فى “الكَشْف المُبْدِي لتمويه أبي الحسن السُّبكيّ تكملة «الصّارم المنكي» تأليف الشيخ : محمد بن حسين بن سليمان بن إبراهيم الفقيه”، وكان فى سياق النهى عن مثل ذلك لأنه يعطى لصاحب القبر القدرة على الاستجابة لطلب المتوسل لصاحب المقام حتى دون أن يشكو إليه لأن “العارف لا يُعرَّف، والشكوى على أهل البصيرة عيب”، جاء ما يلى:
“.. وهذه الزيارة التي يزورها بعض الناس اليوم لقبور الصّالحين لا يريدون بها إلا حصول جميع ما ذكرناه! ….، يعرف ذلك من وقف عند قبور الصّالحين؛ فيسمع ويرى ما تقشعر منه جلود الموحدين؛ فيسمع الزائر يقول: يا سيدي! أنا في حَسيبِك لا تَرُدني خائبًا، العارف لا يُعرَّف، والشكوى على أهل البصيرة عيب!
أما بقية ما رصد هذا الكاتب من صور التوسل فهو يؤكد أن هذا القول خاص بهذا الموقف التوسلى المرفوض منه، وهو ما نبه إليه قائلا: كما جاء فى هذا النص:
“.. رأيت أن أقوم بواجب النصيحة فأنبِّه على ما شاع بين كثير من الناس في توسلاتهم وزياراتهم للأولياء، فقد توسعوا في ذلك توسعاً غير مرضي، وخرجوا عن الحد المشروع وفاهوا بألفاظ منكرة مثل: يا سيد اشفعني سقت عليك النبي. الشكوى لأهل البصيرة عيب. العارف لا يعرف. خلِّ بالك معي، أنجحني في القضية الفلانية، أعطب عدوى، إلى ألفاظٍ من هذا القبيل ظاهرها يقتضي الكفر”
(انتهى المقتطف)
برغم كل ذلك فأنا لا أتصور أن ما ذكره الأستاذ ينطبق عليه هذا الذى جاء فى رفض التوسل بهذه الصورة التى توصف بالشرك وما إليه، شيخى لا يتوسل بأحد إلى الله، فالأرجح عندى أنه يفوض أمره إلى الله أولا وأخيرا ودائما، وهو فى نفس الوقت يرفض أن يجهر بشكواه عادة، وهو لا يضجر من آلامه واثقا أن الله يرى أحواله دون شكوى، فلا مبرر للشكوى، الله سبحانه ليس من أهل البصيرة بل هو الحق العدل الرحيم خالق البصيرة وواهب أهلها ما تيسر من رؤية، رأيت من خلال ذلك أن شيخنا يستغنى عن الشكوى للناس مهما قربوا وذلك بتفويض أمره لله وفى صمت عادة، لأنه على ثقة من أن الله سبحانه يعلم ما بحاله دون توسل أو شكوى، وهو يعرف تعريف الإحسان: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، فما دام الله يراك فلم الشكو جهرا؟
شيخى لا يشكو عادة إلا من عارض جسدى يلم به طارئا، لم أسمعه يشكو من إعاقة دائمة أو قصور فرضه القدر، وهو قد يشكو من لين أو حرارة أو ألم محدد هنا أو هناك، فنكتشف مع كل شكوى ما يبررها موضوعيا وجسديا طارئا، أما عن ما نحن فيه من صعوبات وامتحانات جسيمة ماثلة فهو قد علمنا روعة التحدى والاستمرار بأى قدر مما تبقى من قدرات دون شكوى، فلعله كان يستلهم هذا القول الشعبى وهو يتوجه به إلى الله دون سواه، الذى هو الأول والآخر وشيخنا ينزهه، أنه يحتاج لشكوى بالألفاظ، أو لتوسل بغيره.
لكن عندك،
ألم يشكو رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى ربه فى الطائف؟ الشكوى إلى الله “دعاء وليست شكوى”: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلةَ حيلتى…” إلى أن قال “..لك العتبى حتى ترضى”
نعم
هكذا تكون الشكوى – حتى لأهل البصيرة – فى مرتبة أقل جدا
فهى عيب
[1] – نشرة 31-12-2009 (قراءة فى كراسات التدريب صفحة رقم “2” العدد 853)
[2] – نشرة 28-1-2010 (قراءة فى كراسات التدريب صفحة رقم “8” العدد 881)
[3] – نشرة 11-2-2010 (قراءة فى كراسات التدريب صفحة رقم “12” العدد 895)
[4] – نشرة 13-10-2011 (قراءة فى كراسات التدريب صفحة رقم “39” العدد 1504)
[5] – ولن أعود لذكر كيف تحل حروف الجر محل بعضها عموما وكيف تكرر ذلك فى تدريب الأستاذ