نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 19-11- 2015
السنة التاسعة
العدد: 3002
ص 211 من الكراسة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
جاء رجل يحمل سيفا وحمل على
السائرين فى الطريق ضربا وطعنا حتى
قتل وجرح خلقا كثيرا ولما قبض عليه
تبين انه يصفى ثأرا قديما بينه وبينهم
وعبثا حاول تذكر الثأر والأسباب
ولم يتذكر شيئا كذلك لم يتذكر الباقون(؟؟)
على الحياة من ضحاياه فاعتبره القاضى
مجنونا وافرج عنه لأنه لا عقوبة على
مجنون
نجيب محفوظ 10/9/1995
القراءة:
أنهيت نشرة الأسبوع الماضى بهذا السؤال:
عاودنى الخاطر الباكر: يا ترى لو نُشِرَت مشروعات هذه الأقاصيص ضمن أحلام المجموعة الجديدة “لأحلام النقاهة” دون ذكر أنها تداعيات، هل سيستطيع القراء أو النقاد أو الجميع أن يستخرجوها من بين الأحلام؟
وهأنذا أجيب عليه:
طبعا يمكن أن يخرجوها، فما وصلنى من هذه الأجنّة الجميلة، هى أنها أجنّة فعلا، وجميلة، لكنها ليست أطفالا حديثى الولادة، إنها أجنة فعلا بعضها يبدو لى عمره خمسة أشهر والأخرى سبعة وكان يمكن لرحم الإبداع أن يتمها طفلا كامل النمو، أو أن تضعها الأم المبدعة بعد الولاده فى حضانة المراجعة والتنقيح حتى تتم طور نموها، حتى بعد خروجها من الرحم فى الشهر السابع، على أن بعض هذه الأجنة بدت لى ليست قادرة على استمرار الحياة، وكما قلت سابقا إنه لا يصح لناقد، ولا حتى لقارئ أن يتعامل مع هذه الأجنة بالنقد التقليدى، ولا حتى بالنقد نصا على نصّ، لكن لمن شاء أن يلتقط منها ما يشاء فليفعل دون أن يسمى ذلك نقدا، ومن هذا المنطلق قلت أعاملها مثل سائر التداعيات التى لم يلتزم صاحبها إلا بأن يطلقها حرة متناثرة حتى يعود إليها أو لا يعود.
بالمناسبة نشرت هذا الأسبوع المجموعة الثانية من أحلام فترة النقاهة، وهى تؤكد لى الفرض الذى حضرنى من أن هذه التداعيات الحالية (فى التدريبات): القريبة من الحلم، يمكن فعلا أن تعامل كأجنة لما ظهر بعدها من أحلام فى الجزأين.
خلاصة القول:
إن هذه إرهاصات لا يجوز فيها النقد، لكنها تصلح لدراسة “بدايات عملية الإبداع” وطبيعته وجذوره عند مبدع ليس كمثله مبدع، وأيضا هى صالحة أن يتداعى منها ما تثيره من إيحاءات.
وبعد:
أستأذن فى تأجيل تداعياتى على هذه الأجنة اليوم بهذا الاستطراد عن هذه المجموعة الثانية من أحلام النقاهة، بالملاحظات التالية:
أولا: صدرت المجموعة الثانية وبدأت الترقيم برقم 200 وكنت قد أشرت على المسئولين عن النشر أن يبدأو الترقيم برقم (1) حتى يميز النقاد الأحلام المملاة على الحاج صبرى(1)عن الأحلام المكتوبة بخط يد المؤلف المبدع، فهما موقفان فى الإبداع مختلفان، وتمييزهما له دلالته عند المبدع وهذا غالبا ما يصل إلى الناقد الفاحص المدقق، لم يأخذ المسئولون برأيى ولهم كامل الحق أن يفعلوا ما يشاؤون إذا كانون يريدون وصْل العمل الأول بالعمل الجديد، دون قطيعة، لكن إن كان الأمر كذلك فقد كان المفروض أن يبدأ ترقيم المجموعة الجديدة برقم (210) (لأن آخر حلم فى المجموعة الأولى كان رقمه (209).
ثانياً: كتبت المبدعة الرقيقة سناء البيبسى مقدمة لهذه الأحلام الجديدة، وصلتنى قصيدة وفاء وحب وتقدير وعرفان، وفى نفس الوقت هى تخطيط لدراسة ناقدة مبدعة شاملة، فتذكرت حب شيخى لها وأنه اختص مجلتها “نصف الدنيا” بهذه الثروة وغيرها، وكنت أتعجب كيف يكتب هذه العملاق لمجلة نسائية دون المجلات الثقافية المختصة التى تتمنى نشر أى حرف مما يخط، لكنه حين حدثنى عن سناء البيبسى عرفت الإجابة التى اكتلمت بهذه المقدمة الدقيقة المحبة المبدعة.
إلا أننى وددت لو أن الآراء التى جمعها الابن “سامح سامى” بأمانة وحب، وشملت أراء نقاد ومبدعين ومحبين أصدقاء أعدد منهم (أ. بهاء طاهر– أ. محمد سلماوى – د. زكى سالم – أ. بهاء طاهر – أ. أحمد مراد – أ. حسن كمال – د. علاء الأسوانى – أ. حلمى النمنم – أ. صبرى حافظ) وتم نشر أرائهم فى هذا الإبداع جملة من حيث المبدأ استلهاما من الجزء الأول من الأحلام، لو تم ذلك – فى رأيى – لاكتمل التقديم وحسن التعريف.
ثالثاً: لاحظت أن الملحق المعنون باسم “ملحق الأصول المخطوطة” وهو صورة لما كتبه الحاج صبرى – بخط يده – وليس طبعا – بخط المؤلف – فيه مخاطرة أن يتوهم القارئ أن هذا هو خط يد المؤلف نجيب محفوظ لأن كل هذا النشر لا يثبت مبدأ الإملاء أكثر وأصدق مما ذكره الحاج صبرى من أن شيخنا المبدع محفوظ كان يحفظ الحلم عن ظهر قلب قبل أن يمليه، وكان الأفضل أن تذكر رواية الحاج صبرى هذه فى المقدمة لأن هذه هى النقطة الجوهرية هى التى أكدت مصداقية مصدر هذه الأحلام، وليس نشر النص بخط سكرتيره الفاضل.
رابعاً: لاحظت أن مستوى الأحلام فى هذا الجزء الثانى بصفة عامة لا يرتقى إلى المستوى الشعرى الذى قمت بنقده فى المجموعة الأولى وخاصة فى الفصل الثانى من كتابى الذى صدر من دار الشروق (2) – نص على نص – وهو ما اسميته “تقاسيم على اللحن الأساسى”، صحيح أن كثيرا من أحلام هذه المجموعة الجديدة يرقى إلى جواهر شاعرية المجموعة الأولى لكن فى رأيى أن عددا غير قليل منها قد يتراجع عن هذا المستوى كما عقبت على بعض منها فى المقابلة الأولى لبحث مصداقيه مصدر هذه المجموعة قبل النشر عقبت بأنها “ليست حلماً” وكنت أعنى أنها ليست شعرا خالصا كما فى المجموعة الأولى أو بقية الأحلام.
وهذا لا يعيب المستوى العام للإبداع بل إليه ترجع فضيلة استعمال فرص التحسين والتجويد باستمرار
خامساً: بالرجوع إلى منهج النقد الذى اثبُّته فى المجموعة الأولى قررت أن يكون نقدى لهذه المجموعة الجديدة بمنهج التقاسيم على اللحن الأساسى تطبيقا لمنهج أن الشعر لا ينقد إلا شعرا، قد بدأت فعلا وفى هذه المهمة بما تيسر من استلهام وإيحاء مناسب وهو منهج قد يُثبت الأطروحة التى أعدها حاليا للنشر فى دورية محفوظ النقدية لأثبت من خلالها كيف يكون النقد بالمشاركة بالوعى البينشخصى، شاكرا لك يا شيخنا أن تظل تعلمنا هكذا من هذا الإبداع الذى أنار المزيد عن أطروحتى عن الأحلام ومستوياتها وتفسيرها وفروضى عن علاقة الحلم بالشعر بالجنون، وعلاقة كل ذلك بالوعى البينشخصى والوعى الجمعى(3)وبعد
كنت قد أجلت التعقيب على النص الذى جاء فى تدريبات الأسبوع الماضى، وإذا بى أفاجأ هذا الأسبوع بجنين آخر، لم يكتمل كالعادة، أو اكتمل قسرا بقيصرية، وحين هممت بالتداعى منه، تذكرت عزوفى عن أخيه الأكبر الذى سبق فى الصفحة السابقة، فقررت أن أبدأ بالأكبر وأن أسمح لتداعياتى دون نقد، أن تنطلق كالعادة، ذلك لأننى أتعامل معهما كأجنة رائعة واعدة، ومن حق كاتبهما الا أقرأ أيا منهما إلا كتداعيات، وليست كإبداع جاهز للمناقشة لذلك فسوف اكتفى بتداعياتى عليهما على الوجه التالى.
النص الأول: نص الاسبوع الماضى:
“جاءنى خطاب من المصلحة، يخبرنى بالترقية إلى الدرجة السابعة، فرحت فرحا عظيما وطبعت بطاقة، جديدة، ومشيت بين الناس بخطى، جديدة حتى صدفتنى غلطة غيرت مجرى حياتى و”ضمت”(؟؟) على بذل معروف ومجهول وكانت السبب الأول الذى دفعنى فى النهاية إلى ارتكاب عشرة جرائم قتل منها قتل قطة – “مسالمة” (؟؟)- فكانت السبب فى تبرئتى من جميع الجرائم”(4)
وكل ما سمحت لنفسى أن أتداعى به هو ما يلى:
هذا هو نجيب محفوظ المبدع الذى تحضره وظيفته الروتينية البسيطة فيكتب لنا “حضرة المحترم ” و”القاهرة الجديدة” وغيرهما.
وهو هو نجيب محفوظ الذى يحترم “المعروف” و”المجهول” بنفس الدرجة كما يعلمنا النفرى عن ضروره احترام “العلم الذى ليس ضده الجهل” و”الجهل الذى ليس ضد العلم”، وكما أن العلم ليس ضد الجهل، فمحفوظ يشير هنا إلى أن المعروف ليس ضد المجهول.
أما ارتكاب عشر جرائم قتل منها قتل قطه (لم أستطع أن أقرأ صفتها) فهو يعود بى إلى نقدى لليالى ألف ليلة “القتل بين مقامى العبادة والدم”(5) وكيف اكتشفتُ احتواء نجيب محفوظ لغريزة العدوان طبيعة بشرية تفسيرا لكمّ القتل الذى جاء فى هذا العمل (الليالى).
النص الثانى:
“جاء رجل يحمل سيفا وحمل على السائرين فى الطريق ضربا وطعنا حتى قتل وجرح خلقا كثيرا ولما قبض عليه تبين انه يصفى ثأرا قديما بينه وبينهم وعبثا حاول تذكر الثأر والأسباب ولم يتذكر شيئا كذلك لم يتذكر الباقون(؟؟) على الحياة من ضحاياه فاعتبره القاضى مجنونا وافرج عنه لأنه لا عقوبة على مجنون”
إن الحكم بالبراءة هنا لاعتبار القاتل مجنونا لمجرد أنه نسى أسماء الضحايا، وتفاصيل بواعث الثأر، هو تبرير أقل كثيرا من زخم مفاجآت محفوظ ولا أزيد، وهذا ربما ما عنيته بالولادة القيصرية لبعض أجنة الإبداع أحيانا.
لكن إذا جمعنا نهاية النص الأول، ونهاية النص الثانى بمعنى الحكم بالبراءة فى الحالتين قابلنا محفوظ الذى يلتمس العذر لكل الناس حتى لمن اعتدوا عليه، هكذا تمنى لهم النجاة وحين خاطبته فى ذلك وأنه ما دام بهذا السماح فليطلب ذلك رسميا من الجهات القضائية أو الرئاسية، رفض اقتراحى مع مزيد من الشفقة عليهم، وقد علّل لى رفضه بأنه يحترم القانون بشكل مطلق وليس من حقه أن يتدخل فى مهمة العدالة، فذكّرنى بموقف “سقراط فى المحاكمة الأخيرة” حين رفض أن يهربه تلاميذه من السجن حتى لا يخالف ما علّمهم إياه عن احترام القانون.
[1] – بعد التأكد من حفظهما فى الذاكرة ومراجعتها وأنا شاهد على قوة ذاكرته فى هذه السن
[2] – يحيى الرخاوى: “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى”أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ – دار الشروق 2011.
[3] – للأسف عثرت على أخطاء شكلية لا يلام فيها إلا المراجع أوُردُهَا من باب الاحترام والأمانة على الوجه التالى: بالرجوع إلى الكتاب يوجد فى صفحة الكتاب (135) حلم رقم (401) ثم يليه مباشرة حلم رقم (405)، وأيضا فى صفحة الكتاب رقم (140) يوجد حلم رقم (417) رغم الحلم السابق له رقم (413) فى صفحة (139)، وبالرجوع إلى الأحلام فى الملحق بخط يد الحاج صبرى وجدت نفس الأخطاء الشكلية فى الترقيم بدون تفسيرا، وإذا كانت الأمانة تقتضى الاحتفاظ بنفس ترقيم الأصل إلا أنه كان الأفضل أن يتم التنويه على ذلك بالنسبة لهذه الصفحات، وبديهى أن شيخنا محفوظ إذا كان يحفظ أحلامه قبل أن يمليها حلما حلما فإنه غير ملزم بحفظ الأرقام وتدقيق تتاليها بانتظام.
[4] – ابتداء انبه أن هناك كلمتان فى هذا النص غير مقروئتين وهما ما أتبعتهما بعلامات الاستفهام بين الأقواس: (؟؟) وقد حاولت تقريبهما إلى أى كلمات يستقيم معها التداعى (أو مسودة الحلم، أو معالم الجنين) فلم أستطع.
[5]- يحيى الرخاوى: “القتل: بَين مقامى العبادة والدم” فى ليالى ألف ليلة” عدد يوليو 1984 مجلة “الإنسان والتطور”