الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى كراسات التدريب نجيب محفوظ صفحة (108) من الكراسة الأولى (2)

قراءة فى كراسات التدريب نجيب محفوظ صفحة (108) من الكراسة الأولى (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الخميس: 7 – 3 – 2013

السنة السادسة

العدد: 2015     

mahfouz 2

ص 108 من الكراسة الأولى  (2)

7-3-2013إن‏ وأن، وكأن، وليت، ولعل، لا ‏ (ك.غ)

(ك.غ)  ‏ابراهيم‏ ‏اسماعيل‏.. ‏ويل

‏ ‏للمصلين‏ ‏ويل‏ ‏للكافرين‏ ‏ويل‏ ‏للمؤمنين‏.‏

………

حسن‏، ‏الحسين‏، ‏الحسيني‏، ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏

الحمصاني‏، ‏(ك.غ)‏، ‏البراني‏، ‏الجواني‏، ‏التحتاني‏.‏

يوم‏ ‏اشرقت‏ ‏الشمس (ك.غ) ؟؟ من الغرب (؟)

نصر‏ ‏الله‏ ‏والفتح‏ ، ‏يوم‏ ‏جاء‏ ‏السباعي

هو‏ ‏الله‏، ‏هو‏ ‏الواحد‏، ‏هو‏ ‏العارف

الخالق‏، ‏هو‏ ‏العاشق‏، ‏هو‏ ‏الجميل

نجيب‏ ‏محفوظ

 ‏ 21/5‏

 القراءة:

قررت بوضوح، قبل أن أبدأ القراءة اليوم، أن أنتهى من هذه الصفحة حتى لو تركت فيها بعض الكلمات دون تعليق، خاصة التى هى (ك.غ= كلمة غير مقروءة) وربما يحق لى بدءا من الآن أن أنتقى ما أعقب عليه أو أستلهمه مما تبقى من صفحات (وهى مئات!!)، ولو أننى حين اتبعت هذا المنهج،منهج الانتقاء، مع مواقف النفرى فاتنى الكثير، حيث غلبنى الاستسهال فى كثير من الأحوال. المهم دعونا نرى:

توقفت فى النشرة السابقة عند “ويل للمؤمنين”،

 ونبدأ اليوم بـ.. “حسن والحسين الحسينى“، والأرجح أن المكتوب كان هو: “الحسن والحسين” (كما بدا من “شخبطة فوق الحاء” فى حسن)، كما أننى اعتبرت أن الحسينى هو الحسين!

هذا قد بلغتنى بعض أنباء علاقة شيخى بالحسين شخصاً ومقاما وتاريخا، محبة واحتراما وربما أنجذابا، لكننى لم أسمعه أبدا يتكلم عن الحسن، وحين رجعت إلى سيرتهما وجدت أن للحسن أخبارا لابد أن شيخنا اهتم بها واحترمها بقدرها.

الحسن بن علي بن أبي طالب، ولد في النصف من شهر رمضان عام 3هـ إستشهد سنة 50 هـ ودفن في البقيع.

إستلم الحسن الخلافة بعد والده لستة أشهر فقط، وقيل ثمانية، حيث عقد الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، وقد توقفت طويلا عند هذا الصلح، والذى بدا فيه الحسن حريصًا على المسلمين وعدم تفرقهم، فتنازل عن الخلافة، لتكون الخلافة واحدة في المسلمين جميعاً، ولإنهاء الفتنة وإراقة الدماء، راسله معاوية في تسليم الخلافة إليه فقام يخطب في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: “إنّا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع….الخ وجاءت شروط الصلح معقولة وأهمها: العمل بكتاب الله وسنة نبيه (ص). أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن ثم الحسين.  وألا يقضي بشيء دون مشورته، وألا يُشتم علي وألا يذكره إلا بخير. وألا يلاحق أحداً من أهل المدينة والحجاز والعراق مما كان في أيام أبيه…. الخ.

وقد بدت لى مواد هذا الصلح معاهدة سلام مكتملة الأركان، لكن ما أسهل نقضها من الأقوى والأكثر دهاء، وغدرا.

وقد كان

 وافق الحسين على صلح أخيه ولم يعترض, وبعد وفاة الحسن استمر في عهد أخيه مع معاوية ولم يخرج إلا بعد استلام يزيد الحكم،  لكن معاوية بن أبي سفيان فاجأ الأمة الإسلامية بتعيين ابنه يزيد للخلافة من بعده مخالفا الصلح مثل أى جبار غادر، وبدأ في أخذ البيعة له في حياته ترغيبا وترهيبا، في سائر الأقطار الإسلامية، ولم يعارضه سوى أهل الحجاز، وتركزت المعارضة في الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير ……… الخ.

 توفي معاوية بن أبي سفيان سنة 60هـ، وخلفه ابنه يزيد؛ فبعث يزيد إلى واليه بالمدينة لأخذ البيعة من الحسين الذي رفض أن يبايع “يزيد” كما رفض- من قبل- تعيينه وليًا للعهد في خلافة أبيه معاوية، وغادر من المدينة إلى مكة لحج بيت الله الحرام، فأرسل إليه يزيد بأنّه سيقتله إن لم يبايع حتى ولو كان متعلّقا بأستار الكعبة. فاضطر الحسين لقطع حجّته وتحويلها إلى عمرة فقط وخرج ومعه أهل بيته وأكثر إخوته وأطفاله من مكة قاصدا الكوفة بعدما أرسل له الآلاف من أهلها الرسائل بأن أقدم إنا بحاجة إلى إمام نأتم به.

وبعد

توقفت طويلا عند كل هذا وأنا أتساءل: ما الحكاية بالضبط!!؟

 ولماذا لا نتعلم من التاريخ، حكاما وشعوبا؟ وهل جاءت هذه الصفحة تذكرة من الأستاذ لنا الآن بذكر الحسن والحسين لنتذكر غدر المواثيق وجشع امتلاك الناس ونقلهم بالتوريث مثل نقل ملكية الأرض وما عليها من عبيد، وهل أنت تشعر بنا يا شيخنا هكذا ونحن نعيش هذه الأحوال بلغة معاصرة وخبائث محلية ومستوردة بلا حصر، هل هى مصادفة أن تذكرنا بالتاريخ بكل هذا الوضوح؟ هل أنت أدرى بأحوالنا ومتابع لأخبارنا إلى هذه الدرجة؟ فتظهر لى هذه الصفحة الآن هكذا لنتعلم؟

…….

أما الحسين “القاهرى” فما بلغنى من الأستاذ بتعلقه بمقام الحسين ومنطقة الحسين حيث نشأ، وكتب، وأحب، وأحبوه، هو كثير، ومهم، لكننى لا أذكر أننا تطرقنا إلى تاريخ الحسين كقائد، ومجاهد وشهيد فى حضورى قليلا أو كثيراً لكننى أكاد أذكر مناقشة جانبيه عن ما إذا كان رأسه رضى الله عنه موجود فى مقامة فى القاهرة فعلا (وهل هناك فرق؟!) أم لا.

لكن بالنسبة لعاطفة شيخى نحو المقام وصاحب المقام وما حول المقام فأذكر منها بعض ما جاء فى كتابى “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” الأربعاء 28/12/94. كمثال:

28/12/94

كانت‏ ‏من‏ ‏مداعابات‏ ‏الاستاذ‏ ‏أمس‏ (‏الثلاثاء‏) ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أكل‏ ‏”الطعمياية‏”، ‏وقطعة‏ ‏الجبن‏ ‏وحمد‏ ‏الله، ‏جاءت‏ ‏أطباق‏ ‏صغيرة‏ ‏من‏ ‏الممبار‏ ‏المحشى ‏بالأرز، ‏فعزم‏ ‏عليه‏ ‏الغيطانى ‏بواحدة‏ (‏مذكرا إياه‏ ‏بعلاقة‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “ممبار‏” ‏بالحسين)، ‏فشكره‏ ‏الأستاذ‏ ‏معتذرا‏ ‏قائلا‏: ‏لا‏ ‏يا‏ ‏عم‏ ‏أخشى ‏أن‏ ‏يأخذها‏ ‏الدفاع‏ ‏ضمن‏ ‏أدلته‏ ‏لإنكار‏ ‏الحادث، ‏ألا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقولوا‏ ‏أنظروا‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏إنسانا‏ ‏مصابا‏ ‏هكذا‏ ‏كما‏ ‏تزعمون‏ ‏ثم‏ ‏يأكل‏ ‏ممبارا؟‏ ‏تكفى ‏الطعمياية‏ ‏وقطعة‏ ‏الجبن، ‏إنهما‏ ‏أدل‏ ‏على ‏جدية‏ ‏الإصابة‏!!

 ‏وعلى ‏ذكر‏ ‏الحسين، ‏كان‏ ‏الغيطانى (‏بحكم‏ ‏التاريخ‏ ‏والانتماء‏ ‏لنفس‏ ‏المنطقة‏ ‏مثل‏ ‏أستاذنا‏) ‏يقترح‏ ‏مكررا‏ ‏أن‏ ‏نذهب‏ ‏إلى ‏الحسين‏ ‏فى ‏إحدى‏ ‏خروجاتنا، ‏وفشلنا‏ ‏أن‏ ‏نجد‏ ‏اليوم‏ ‏المناسب، ‏فعرضت‏ ‏على ‏الاستاذ‏ ‏مثل‏ ‏ذلك، ‏فحسبها‏ ‏وتحفظ، ‏وقال:‏ “شا‏ ‏الله‏ ‏يا‏ ‏حسين‏ ‏ولكن‏ ‏نأخذ‏ ‏بالأحوط”، ‏إلا‏ ‏أننى ‏لمحت‏ ‏داخله‏ ‏رغبة‏ ‏حقيقية‏ ‏فى ‏الزيارة، ‏فاستأذنت‏ ‏رجال‏ ‏الأمن‏ ‏أننا‏ ‏ونحن‏ ‏فى ‏طريقنا‏ ‏للهرم‏ ‏نمر‏ ‏على ‏الحسين‏ ‏من‏ ‏فوق‏ ‏كوبرى ‏الأزهر، ‏ونـقرأ‏ ‏الفاتحة‏ ‏فى ‏السيارة‏ ‏لا‏ ‏أكثر، ‏وافق‏ ‏الاستاذ‏ ‏وفرح، ‏وحين‏ ‏مررنا‏ ‏مقابل‏ ‏الحسين‏ ‏نبهته،‏ ‏فدعا،‏ ‏وقرأ‏ ‏الفاتحة‏ ‏واتسعت‏ ‏أساريره، ‏ثم‏ ‏أشار‏ ‏إلى‏ ‏اليمين‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الأزهر‏ “‏العظيم”، ‏وأضاف:”هل‏ ‏ياترى ‏قد‏ ‏رجع‏ ‏فى ‏كلامه‏ ‏بشأن‏ ‏أولاد‏ ‏حارتنا‏.‏

…..

ثم جاء فى هذه الصفحة الحالية أيضا بعد ذلك اسم “عبد الله” لم أجد عندى تعقيب فأنا لا أعلم، أى عبد الله كان يعنى شيخنا، فعبيد الله بلا حصر، اللهم إن كان يعنى كنية الحسن “بأبى عبد الله” (وهو اسم الشهرة لابنه: على الأصغر).

ثم تأتى كلمة “الحمصانى“.

وأنا لا أعرف إلا المذيعة آيات الحمصانى، وهى مذيعة ناجحة وذكية، فهل يا ترى أجرت مع شيخنا حديثا فتذكرها ؟ المهم.

الكلمة التالية غير مقروءه،؟؟ “الحلجانى” فنغفلها، لو سمحتم لندخل إلى أهم ما فى الصفحة.

ما جذبنى فى هذه الصفحة ما أنا منشغل به هذه الأيام (ومنذ حوالى عام) وهو مرصود هنا فى عشرات النشرات فيما يسمى “ملف الإدراك” من نشرة 1-5-2012 – الإدراك (32) إلى نشرة 2-12-2012 –  الإدراك (94) ، فإن ما فوجئت به اليوم هو أن هذا الملف يكاد يحوى كل ما أثارته فىّ هاتين الكلمتين كما كتبهما محفوظ  “البرانى والجوانى” ثم اسمحوا لى أن  أضم التحتانى إلى الجوانى.

نعم منذ أكثر من ثمانية أشهر وأنا أدور حول هذه المسألة ولكن باسماء أخرى هى: التفكير مقابل الإدراك كمنهجين ومنهلين للمعرفة، ولم أعتن حينذاك كثيرا بالرجوع إلى ما يقابلهما فى نظريات المعرفة، اللهم إلا إشارات محدودة إلى علاقة الإدراك والحلم بعملية “اعتمال المعلومات” Information Processing،  وكذا فيما يتعلق بالحلم وأحيانا الحدس، وإذا بشيخى يجرجرنى جرا إلى هذا الموضوع بالذات تحت مسميات أعرق، وإن لم تكن أقرب إلىّ هذه الأيام بعد استغراقى فى تجليات العلم المعرفى Cognitive Science بأغلب فروعه الأحدث فالأحدث دون دعم مباشر من الفلسفة.

ولشرح بعض ذلك أقول:

إن التفكير المرتبط أكثر بالنصف الكروى الطاغى هو الأقرب إلى ما هو “البرانى” (تقريبا) أما الإدراك فهو المرتبط أكثر بالنصف الكروى المتنحى، أى ما يقابل ما هو الجوانى، أما التحتانى كما قلنا فهو أقرب إلى “الجوانى” غالبا، وربما إلى بقية توظيف الأجزاء الأقدم فاالأقدم من المخ تحت النصفيين الكرويين، طبعا كل ذلك لم يخطر على ظاهر وعى شيخنا غالبا وهو يتدرب، مع أنه سألنى عدة مرات بعض الأسئلة فى هذه المنطقة، وبالذات عن تميز عمل النصفين الكرويين وتبرعت مرات أخرى بالحديث فيها.

ثم إن كلمة الجوانى بالذات أعادت إلىّ ذكريات قديمة عن فلسفة رائعة أهملتُ دراستها مقصرا، وذلك حين كنت أبحث عن فيلسوف عربى أو إسلامى مبدع، لأميز بين الفيلسوف الذى أفتقده عندنا الآن، وبين أستاذ الفلسفة وعالم الفلسفة أو حتى دارس أو مدرس الفلسفة، ذلك أننى تذكرت أننى – ربما من عشرات السنين- قد اقتنيت كتابا عن “الفلسفة الجوانية” للأستاذ الدكتور عثمان أمين، لكننى لا أذكر أننى أوفيته حقه، فرحت أبحث عنه الآن، ولم أعثر عليه حتى هذه اللحظة، لكننى رحت أعيد النظر فى موقفى السابق – بفضل ما ذكرنى به شيخى لأتعرف من جديد على بعض هذا الذى أستطيع الآن أن اسميه فيلسوفا بحق، أ.د.عثمان أمين، ولن أحكى عن هذا الفيلسوف وتاريخه المشرف وقدراته المتميزة وعطائه المتعدد كما وجدتها برغم أنه لم ينل كل حقه من التسجيل والتقدير، ذلك، لأن ما يهمنى هو ما فوجئت به عن مباحثه فى “الوعى الإنسانى” وما يتعلق به، وبرغم الإشارة إلى أن هذه الفلسفة هى فلسفة روحية، فإننى مازلت أصر أن أتجنب استعمال ما هو “روحى” كصفة فيما أتناول، كما أحذر من استعمال هذه الصفة  كعادتى التى شرحت أسبابها مرارا إلا أننى قبلت أن تكون هذه الفلسفة فلسفة تجديد إسلامى إصلاحى ونحن أحوج ما نكون إلى ذلك هذه الأيام

خلاصة ما وصلنى الآن من آراء المعلقين هو أن الفلسفة الجوّانيّة ليست إلاَّ نموذجاً للتّفاعل بين عناصر الفلسفة الإسلاميّة والفلسفة الرّوحيّة الغربيّة، إذ نشأت في إطار تطوّر الاتّجاهات الفلسفيّة المعاصرة، فتأثّرت بها وبالثّقافة الرّوحيّة للفلسفة الغربيّة، كما جاء فى بعض التعريف برائدها أنه: “عثمان أمين” فيلسوفٌ إسلاميٌّ قبل كلّ شيء، أي أنّه يصدر عن رؤية إسلاميّة تجديديّة للعالم وللمجتمع والفرد. لهذا فإنَّ أيّاً من الدّارسين له لا يستطيع الدّخول إلى فلسفته والوقوف على طابعها الأخلاقي دون أن يرصد عمليّة نهله للمبادئ الإسلاميّة بعامّة والأخلاقيّة منها بخاصّة، أنَّ الأخلاق الإسلاميّة من وجهة نظر عثمان أمين هي أخلاقٌ جوّانيّة في مبدئها . وجوّانيّتها تكمن في أنّها أخلاقٌ تولي الأهميّة لما هو كامنٌ ومستتر داخل الإنسان (للنيّة الخالصة والضّمير الحيّ والعمل المبني على الإرادة والجهد الإنسانيين

كذلك تأثّر عثمان بعددٍ من الفلاسفة والمفكّرين الإسلاميين في إشادة مذهبه، (كـالغزّالي، ومحمّد عبده، والعقّاد، وآخرين). فها هو يتحدّث عن الجوّانيّة الأخلاقيّة عند الإمام الغزّالي ويبرز بجلاء تفرقته بين الجوّاني والبرّاني، وإيلائه الأهمّيّة للقلب والزّهد والإخلاص في حياة الإنسان. ثمّ يتحدّث عن أثر محمّد عبده والعقّاد في فلسفته، ليخلص إلى نتيجةٍ مفادها، الاعتماد على المقياس الرّوحي في مقابل المقياس الحسّي في النّظر للأمور والأشياء

وهنا أتوقف لأتذكر مناقشتى مع أ.د. عاطف العراقى، وهو المشرف على رسالتى الماجستير والدكتوراه للصديق الابن الدكتور زكى سالم، وكان دعاه ضيفا لسهرة ليلة حرافيشية ودارت المناقشة حول موقف الذين ينكرون وجود شئ اسمه “الفلسفة الاسلامية” أصلاً، قديما وحديثا وسألته: لماذا لا يدرج المتصوفه المسلمين العمالقة مثل ابن عربى والنفرى كفلاسفة أعمق وأخطر، ولا أذكر بماذا أجاب أ.د.عاطف العراقى تحديدا، لكن يبدو أن تعريف فيلسوف كان أضيق من أن يحيط بعطائهم المعرفى الفلسفى الرائع، أو أنهم كانوا أكثر جوانية من المقيِّمين البرائيين، وأذكر موافقة الصديق د. زكى سالم على السؤال على الأقل أو فرحته بالسؤال، ولا أذكر تعقيبه، أما الأستاذ فأظن أنه ترك الاجابة للمختص ولم يعقب.

عموما: الفلسفة الجوّانيّة ترى في الوعي نقطة البداية، وأنه هو الّذي يقوم بوظيفة المعرفة عن طريق التّعاطف العقلي، كما هو الحال عند برغسون في تعريفه الحدس بأنّه: نور منبثق بعد طول صحبة، لذا عدّ برغسون بحقّ أحد أهمّ المصادر الفلسفيّة المكوّنة للجوّانيّة عند عثمان أمين

وقد أدهشنى أن يأتى فى كتاب عثمان أمين بعنوان : “نظرات فى فكر العقاد” تأويل شخصية العقاد وأدبه تأويلا جوانيا من وجهة نظره، وسوف أرجع له لأننى أعتقد، أو كنت أعتقد أن العقاد، برغم إصراره على أن تأتى شاعريته فى المقام الأول من إبداعه، إلا أننى كنت أعتقد أنه برّائى من الطراز الأول وهأنذا تتاح لى الفرصة للمراجعة، وسوف أعود لهذا الفصل عند عثمان أمين فى أقرب فرصة.

عموما، ولمن شاء وأن يقارن بين ما جاء فى “ملف الادراك” هنا فى النشرات (فى مقابل التفكير وأيضا بما يوازى المقابلة بين النصفين الكرويين للمخ، أقتطف الخطوط العريضة للفلسفة الجوانية كما وصلتنى،

هى فلسفة تركز على الباطن دون الظاهر، وتقف عند الجوهر دون العرض، وتذكر المحسوس لتقبل بما وراء المحسوس وتتأمل الحياة الدفينة الخفية دون الظواهر البرانية المرئية..

والجوانية ترى أن إصلاح الشىء أو تغييره يأتى من الداخل، وينبع من العمق

وخلاص الأنسان من ذنوبه وخطاياه- لا يأتى بمساعدة أحد وإنما يأتى من داخله.

والجوانى هو الذهن أوالعقل “إذا كان للرأس عينان فللقلب عيون”، والمقصود هنا بالعيون هى العقول.

والجوانية تقدم الذات على الموضوع ،والإنسان على الأشياء،والرؤيه على المعاينة..فتتحدى الواقع المطروح، وتراه قاصراً وينبغى تجاوزه إلى ما هوأسمى وأجل، وهى لا تعيش فى الماضى ، وإنما تعيش المستقبل تمهد له وتبينه،

 وهى بهذا تصلح أسلوباً للحياة حيث تتجه أساسًا إلى الأنسان فى روحه وجوهره

تعقيب:

ولى فى كل هذا  رأى لا يكتمل أو يتأكد إلا بعد أن أرجع للأصل كاملا، لكننى أحببت أن أضيفه فى شكل ملاحظات موجزة لربطه بملف الإدراك من جهة، والتذكرة من جهة أخرى.

أولاً: إن استعمال تعبير “دون” ينبغى ألا يعنى النفى  مثلا “الباطن دون الظاهر” وتقف عند الجوهر دون العرض”…الخ، لأنه مهما كان للباطن من غلبة وأهمية مثلما قلنا عن الإدراك دون العقل والتفكير.

ثانياً: مهما كان التغيير (دع جانبا كلمة إصلاح الآن) يأتى من الداخل أو ينبغ من العمق، فإنه لا يتم إلا بجدل مع الخارج (البرانى) فى الممارسة والمراجعة.

ثالثاً: قد يحق للكاتب (الفيلسوف) أن يحدد أن المقصود بالعيون هو العقول، لكننى أوصى القارىء والباحث بضرورة الحذر من استعمال كلمة “عقل” و”عقول” بهذا التقديس الذى كان قديما، كما نبهت فى نقدى كتاب للفيلسوف دانيال دينيت باسم “أنواع العقول” فأخذت كلمة “عقول” على أنها “برامج البقاء المتصاعدة” فى داخلنا من تراثنا الحيوى وأعنى بها “منظومات الوعى الفاعلة“.

رابعاً: وبالتالى لا يكون الجوانى هو الذهن أو العقل خاصة وأن أغلب الاستعمال المعاصر لكلمة “عقل” يقصرها على نشاط التفكير باللغة المنطقية الرمزية بالذات (نشاط المخ الطاغى، أو النصف الكروى الطاغى).

خامساً: إن تقديم الذات على الموضوع والإنسان على الأشياء يحتاج حوارار طويلا فى ضوء المنهج الفينولوجى كما بينا بالتفصيل فى ملف الإدراك.

سادساً: لا أعتقد أن الجوانية تتحدى الواقع المطروح (مع أن الإدراك هو الأهم) إلا إذا تم اختزاله تحت وصاية التفكير الرمزى المنطقى.

سابعاً: أما أن هذه الفلسفة تعيش المستقبل، فهذا ضد مبدأ الـ “هنا والآن”، وهو الذى هدانى إلى عظمة وأولوية الإدراك، مع الاعتراف أن المستقبل ليس إلا نتاج “هنا والآن” فهو لا يتخلق لا يوجد إلا مع تعميق اللحظة  الآنية.

ثامناً: ثم إن القول أنها فلسفة تصلح أسلوبا للحياة فالأرجح عندى أنها كذلك، بأن تكمل معارفنا الحالية لا أن تحل محلها.

كل ذلك حتى أرجع للأصل ولا أقتصر مؤقتا على هذا المقتطف وليكن تنبيها لمن اقتطف وأوجز وليس للعمل الأصلى بإذن الله.

وبعد

وهكذا غلبتنى هذه الصفحة أيضاً فأؤجل بقية التداعى إلى الإسبوع القادم.

آخر لحظة

قبل إدخال هذه النشر إلى الموقع هذه الليلة (الأربعاء 6/3/2013) عثرت على كتاب عثمان أمين وفوجئت به يتناول كل ما كتبت أحتاج لأقدم هذه الفلسفة بشكل أعمق وأدق، وكفانى الإطلاع على المحتويات، وكان علىّ أن أدخل هذه النشرة عدة أسابيع حتى أوفى الموضوع لكننى قررت أن أتركها كما هى مكتفيا بإشارة محدودة عن الجوانية فى أخلاق الصوفية حيث جاء ما يلى:

“إن الجوانية – التى عبر عنها الرسول عليه الصلاة والسلام فى قوله : “لكل امرىء جوانى وبرانى: فمن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه؛ ومن أفسد جوانيه أفسد الله برانيه”- دعوة إسلامية صريحة، ولذلك كان لابد أن تشغل مكان الصدارة من أخلاق المحققين من الصوفية المسلمين”.

ورغم تحفظى على علم الجرح والتعديل ضمن تحفظاتى عموما على كتابة التاريخى فقد ذهبت أبحث عن أصل الحديث فيما لدىّ من كتب التراث، وعبر عمنا جوجل فلم أجده لكننى وجدتها مقولة عن سلمان الفارسى كالتالى:

“قول سلمان الفارسي رضي الله عنه في كلمة مختصرة جليلة، يعبر بها عن معنى كبير يقول:’ لكل امرئ جواني وبراني – جواني يعني: الداخلي، والبراني: هو الخارجي – لكل امرئ جواني وبراني فمن يصلح جوانيه يصلح الله برانيه ومن يفسد جوانيه يفسد الله برانيه”.

(كتاب  الزهد لابن المبارك ‘زيادات نعيم بن حماد’ ص 17)

ولنا عودة!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *