نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 10-3-2016
السنة التاسعة
العدد: 3114
ص 228 من الكراسة الأولي
بسم الله الرحمن الرحيم
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
كل يوم يمر يخلف وراءه درسا
الدروس تسر وتحزن
على الانسان أن يعتدل فى
الفرح بما يسر كما أنه يمكنه أن
يتوافق مع ما لا يسر
قمة الاستهانة هى قمة الراحة
العذاب أغلبه سوء تصرف
فلسفة الراحة تتخلص فى كلمة
واحده هى لا تبالِ
لا تبالِ، من فضلك لا تبالِ
نجيب محفوظ
27/9/1995
القراءة:
بعد كل هذا المشوار، وقد اقتربتُ من إتمام السنة الرابعة مع تدريباته، وحسبتُ أنه لم يعد أمامه إلا أن يعيد، مع أننى تعلمت أنه لا يعيد أبدا حتى لو أعاد، أفاجـَأ اليوم وقد قاربت الكراسة الأولى على الانتهاء – ما زال لدينا ست كراسات بالتمام ونحن الآن فى “صفحة 228” من الكراسة الأولى!!)- أقول بعد كل هذا أفأجأ بهذه الصفحة ليس فيها تكرار واحد إلا البسملة واسمه واسمْى كريمتيه والتوقيع.
يا عمنا ما كل هذا الجديد؟ من أين؟ وإلى من؟ أردت بمواصلتى صحبتك كل خميس منذ زعموا رحيلك أن آنس بوعيك الطليق كما كنت آنس بصحبتك البديعة، وكنت – ومازلت – أرجو أن يصاحبنا بعض محبيك، ينهلون معى من هذه الكنوز الزاخرة، إلا أن ذلك لم يحدث كما أرجو، ولا بأقل مما أرجو.
المهم اليوم كله جديد فى جديد،
وصلنى اليوم أيضا أنك ما زلت فى حالة تجلى الحِكَم الاستشراقية التى بدأتْ منذ أيام قليلة، والتى علَّمـْـتـَـنا من خلالها بعض ما وصلك من خبرة، وحكمة، وصبر، ودواء، وشفاء.
تقول لنا اليوم، ودعنى أرقّمُ الفقرات بعد إذنك:
(1) “كل يوم يمر يخلف وراءه درسا”
طبعا يا شيخنا، الدرس دائما هناك سواء وعيناه أم لم نعه، أنت تعلم أننى أتحرك فى هذه الأيام فى مجاهل ومعالم التطور بكل لغاته وعلومه، وأننى بقدر ما أحاول استيعاب أجزاء الثوانى أفرد وعيى ليمتد إلى بلايين السنين، وقد وصلنى أنه ليس كل يوم بل كل جزء من ثانية (لا أذيع سرا حين أقول: من ألف جزء من الثانية) يخلف وراءه درسا، وهذا الدرس – بلغة التغير والتطور – هو تغير تشكيلىّ إبداعىّ نوعىّ فى الكائن الحى: وهو إما أن يكتمل فيـُـبْقِى على النوع، أو يُجهَضُ فينقرض النوع: لو تراكم الإجهاض.
(2) “الدروس تسر وتحزن”
لو أن الدروس كانت تسر فقط أو تحزن فقط لما تحرك شىء نحو الأرقى والأنقى، ولعل هذا العطف بحرف العطف “الواو” ينفى صيغة الاستقطاب “إما أن تسر أو تحزن…” لمن يريد أن يتلقى درسك.
(3) “على الانسان أن يعتدل فى الفرح بما يسر كما أنه يمكنه أن يتوافق مع ما لا يسرً”
“لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ”
أنا أعرف يا شيخى الغالى أنك تتابع هذه النشرة منذ صدورها وحتى الآن، بل وقبل صدروها، وقد كتبت فى هذه الآية الكريمة (نشرة 25-2-2016 صفحة التدريب “226“) وربطت بينها وبين ما قاله مولانا النفرى “إن الله لا يحب إلا الفرحان” (نشرة 10-8-2009) (نشرة 4-10-2014) و(نشرة 11-10-2014)
الاعتدال فى الفرح هو استيعابه وليس مجرد الإقلال منه لنقترب من الوسط المائع الذى حذرت من التصفيق له مرارا، أما التوافق مع ما لا يسر، فهو أن نستوعبه ونحمل مسئولية الإنطلاق منه، هكذا تؤكد لنا ضرورة التصنيف الاستقطابى الغبى، وأيضا تجنب التوسط المائع..
(4) “قمة الاستهانة هى قمة الراحة”
أنا أعرفك لا تستهين بصغيرة ولا بكبيرة، ولا تستهين بصغير أو كبير، فما الحكاية؟ كما أنه قد وصلنى أيضا أنك لا تصفق للاعتدال الماسخ ومستعد أن آتى لك بمئات الأدلة من إبداعك مما اجتهدت فى نقده ومن غيره، فماذا يا ترى تقصد بالاستهانة هنا؟ وماذا تقصد بـ “قمة الراحة” أنا ما رأيتك تسكن إلى الراحة الراحة أبدا، وإنما رأيتك تنتظم فى هارمونية الإبداع مع كل نبضة وإيقاعحيوى، هل هذا هو ما تعنيه بقمّة الراحة؟
ثم ماذا يا ترى تقصد بالاستهانة التى تؤدى إلى هذه الراحة؟ ولها أيضا قمّة!
وصلنى أنك توصينا – توصينى على الأقل- بدعوة شيخ العرب السيد البدوى بأنه اللهم أعنِّى “أن أرى الأمور كما هى” لعل الاستهانة الإيجابية التى تقصدها هنا هى تجنب المبالغة فى الفرح حتى القفز فى المحل، كذلك تجنب الاستغراق فى الغوص إلى القاع حزنا حتى الشلل والعجز، الاستهانة الإيجابية التى هى قمة الراحة هى: حين “نرى الأمور كما هى”.
(5) “العذاب أغلبه سوء تصرف”
تعودت مؤخرا أن استعمل كلمة “الألم”، وبالذات “الألم النفسى” لتحل محل ما لحق كلمة “الحزن” من إهانة بعد أن قلبها زملائى الأطباء إلى ما يسمى “اكتئاب” ولم يسمعوا تنبيه صديقك الحرفوش “صلاح جاهين” وهو يقول: الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع… الحزن زى البرد زى الصداع”.
كلمة العذاب التى وصلتنى منك الآن ليست مرادفة لأى من ذلك، وإن كانت أقرب إلى الألم النفسى، وقد وصلتنى على أنها ضرب من الخلل نشوزاً، حين ينفصل الحزن أو الألم عن بقية طبقات الوجدان والوعى، أو حتى ينفصل الفرح عن هارمونية النغم الكلّى، فيقفز هذا الناشز على أى من الناحيتين يفسد اللحن الأصلى المتكامل: فى محاولة تفرد غبى مضطرب، هذا ما وصلنى من معنى “سوء التصرف” فهل هذا صحيح؟
(6) “فلسفة الراحة تتخلص فى كلمة واحدة هى لا تبالٍ
أولا: “لا تبالى” كلمتان وليستا كلمة واحدة، وثانياً: دعنى أعترف أننى طوال معرفتى بك عن قرب أو عن بعد، من قبل ومن بعد، وأنا لم ألحظ أى قدر من “اللامبالاة” عندك لثانية واحدة، فأنت تبالى بكل أحد وكل كلمة وفى كل ثانية ومع كل حرف، ثم – ثالثا: ما هذه الفلسفة التى تسميها “فلسفة الراحة”؟
ولكن قف!!، (أقولها لنفسى)، فلسفة الراحة غير الراحة، لعلها أقرب إلى حكمة بوذا، أو استلهام رؤية مولانا النفرى وما قاله له، الأرجح أنك تقصد القدرة على احتواء الواقع فى الداخل والخارج بعمق الغيب وطول المدى، فإذا كان هذا هو ما تعنيه “بفلسفة الراحة” (وليس الراحة فقط) وبما هو “لا تبالى”، فأهلا بدعوتك لنا إلى تلك اللامبالاة الرائعة التى توصينا بها حبا وأبوّه وأنت تختم هذه الصفحة بكل هذه الرقة الحانية قائلا:
(7) “لا تبالِ، من فضلك لا تبالِ”
حاضر
حاضر
يا شيخنا العزيز، حضرنى دور “محمود البولاقى” الذى ورد فى تعليقى على إحدى صفحات تدريباتك سابقا (صفحة رقم “161” نشرة 10-7-2014) حين قرأت ما كتـَبـْتـَهُ فى تلك الصفحة تقول: “وما قدر كان وراحة النفس فى التسليم بالقدر” وقد استدعَى قولك هذا عندى ذكرى وأنا طالب طب حكاها لنا أستاذ علم الأمراض حين قال لنا ذات يوم فى أول المحاضرة كمقدمة، كان ذلك سنه 1953 “…إن سر قلق الإنسان المعاصر أنه لم يستمع إلى هذا النصح الجميل” “الله المدبر، والدنيا شؤون… لا تكثر لهمك ما قُـدِّرْ يكون“، وكنت أحسب أنها أغنية لصالح عبد الحى، حبيبك، لكننى اكتشفت فى تداعياتى على ما كتبتَ انها أغنية محمود البولاقى وليست كما كنت أحسب ولعل صالح عبد الحى غناها بعده، لا أعرف.
وهأنت ذا يا شيخى تختم صفحة اليوم وكأنك تغنى من جديد:
“لا تبال … من فضلك لا تبالى”
فأكمل بدورى
“الله المدبر… والدنيا شؤون
لا تكثر لهمك ما قُـدِّرْ يكون”
حاضر يا شيخنا حاضر
ربنا يقدرنا ويخليك.