الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى كراسات التدريب – نجيب محفوظ : الصفحة 29

قراءة فى كراسات التدريب – نجيب محفوظ : الصفحة 29

نشرة “الإنسان والتطور”

14 -7- 2011

السنة الرابعة

العدد: 1413

 Mafouz & Yehia (1)

مقدمة:

أرجو من الصديق الذى ينوى قراءة هذه اليومية أن يبدأ باخفاء المحاولة لنقل النص بالحروف المطبوعة على الجانب الأيسر من المتن، ثم يحاول أن يقرأ السطرين الأول والثانى من النص الموجود على الجانب الأيمن ليحل شفرته بأى تقريب محتمل، ثم يرفع الورقة التى كانت تخفى النصف المطبوع ليقرأ محاولتنا، أما كيف توصلنا إليها، فهذا ما سيرد فى اجتهادنا فى القراءة حالا

شكرا.

استدراك:

لم أنتبه الأسبوع قبل الماضى نشرة 30-6-2011 قراءة فى تدريب الصفحة 27 من الكراسة الأولى” إلى تعليقى على ما ورد فى نشرة 4-2-2010 تدريب الصفحة (11) من الكراسة الأولى”  على أغنية “أراك عصى الدمع” وأغنية “سالمة يا سلامة” وربما وجب الرجوع إلى ذلك قبل نشر النسخة الورقية لهذا العمل إذا ما أتيح له ذلك.

تذكرة:

 … ثم أذكر القارىء أنه سوف يتبع هذه الدراسة التشريحية – غالبا–  دراسة جامعة فى محاولة إعادة تربيط التداعيات أو الأفكار أو المواقف المحورية فى كل الكراسات معا، ربما ينجلى من خلالها شيخنا أوضح فأقرب.

ص 29 من الكراسة الأولى

14-7-2011

بسم الله الرحمن الرحيم

—-

نجيب‏ ‏محفوظ

غرّد‏ ‏الطير‏ فنبه ‏من‏ ‏نَعَسْ

‏ و‏أدر‏ ‏كأسك‏ ‏فالعيش خُلَسْ

—-

من‏ ‏يجتهد‏ ‏ينجح

—-

فى التأنى‏ ‏سلامة

‏ ‏وفى‏ ‏العجلة‏ ‏الندامة

 

رب‏ ‏قوم‏ ‏قد‏ أناخوا ‏حولنا‏ ‏

نجيب‏ ‏محفوظ

‏ 25/2/1995

القراءة:

بعد البسملة وكتابة اسمه، لم أستطع أن أقرأ السطر الأول والثانى إلا بشكل تقريبى ناقص مشوه، فلم يصلنى ما يفيد، وحين جمعت هذا السطر أو الشطر إلى ما يليه لم يسعفنى أى من ذلك..، فاكتفيت بمقطع “أدرْ كاسك”، ووجدت شعرا جميلا لابراهيم الأحدب الطرابلسى من لبنان (1824م – 1891م) ذلك الشاعر الطليق، والأديب المحقق الشامل يقول:

 “أدر على ذكر أيام الصبا كاسى”،

 ورجعت إلى نص التدريب بخط يد الاستاذ، فلم أجد أدنى علاقة تبرر التقريب، ولو افتعالا، ولم أرتح لذلك حتى الرفض.

عدت ابحث بشكل أكثر تدقيقا، وفجأة عثر أحد مساعدىّ، الابن أحمد السيد، على نص أقرب رجّح أنه هو الذى أراده الأستاذ، وهو نص من ترجمة محمد السباعى لرباعيات الخيام، وتجرأت وقررت أن هذا هو ما كان يقصد الاستاذ كتابته تحديدا، حتى لو لم يتحدد تماما فى شخبطته الجميلة، وهو نص من رباعيات الخيام ترجمة محمد السباعى إلى خماسيات السباعى (والد يوسف السباعى، ومالك ناصية الفصحى والشعر كما سنرى) وهى ترجمة رصينة قوية وسابقة، وقد أحببتها شخصيا ومازلت أحفظ منها ما يقربنى من الخيام، ومن الموت، ومن شجاعة لقائه، هذه الخماسية (من ترجمة السباعى) التى مازلت أحفظها لكثرة ما ترددت فى وعيى خلال سنوات تقول:

إشرب  الصهباء فى ظل الصِّبا

ما شدا طيرٌ بتيجان الرُّبَى

فإذ ساقى المنايا أوْجَبا

شربةً غصّتْ ومَرّت مطعما

فاحسُ جلداً حمَرة الموت الزؤام

رأيت هذه الشجاعة، شجاعة مواجهة الموت، فى شيخى ليس فقط فى تصرفه بعد محاولة اغتياله، ولكن فى ترحيبه بلقاء ربه لدرجة أن يحب الموت طريقا إليه سبحانه وتعالى، أنا لم أسمعه شخصيا وهو يقول مثل ذلك إلا تعقيبا على تصريح فرانسوا متران وهو يتكلم عن شعوره (متران) لو فوجئ بعد موته (كان ذلك بعد أن حكيت للأستاذ تصريح متران وهو ينتظر الموت بعد إصابته بالسرطان انظر (نشرة14-1-2010 الحلقة السادسة فى شرف صحبة نجيب محفوظ) حين عقب شيخى على أن الخلود بجوار المحبوب (رب العالمين) مهما طال لا يبعث الملل كما صرّح متران، أضف إلى ذلك تصريحه فى برنامج تكررت إذاعته وهو يقول ما معناه أنه فى هذه الفترة المتأخرة من حياته يحب –ضمن ما يحب- “الموت”، وهو المعنى الذى ورد على لسانه وهو يعدد مواضيع حبه قرب النهاية ومنها “الحياة” وكذا “الموت”.

ثم عدت إلى تدريبات اليوم 

لم أكن أعرف أن شيخنا أحب ترجمة محمد السباعى لرباعيات الخيام إلى هذه الدرجة، درجة أن تقفز إلى وعيه فى تدريباته هكذا، وكنت أتصور أن أم كلثوم بشدوها للرباعيات هى التى أحضرت عمر الخيام إلى وعى الأستاذ كما ذكرت سابقا (نشرة 2-6-2011 “قراءة فى صفحة التدريب 24من الكراسة الأولى) وإن كنت لمْ أوفِ ما وصلنى عن علاقة الأستاذ بالخيام حقها بعد، المهم فرحت فرحا حقيقيا حين وجدت بقية أصل ما شخبط الأستاذ حتى أعجزنى وهو كما يلى:

غرّد الطير فنبّه من نَعَسْ

وأدِرْ كأسك فالعيش خُلَس                          

سلَّ سيفُ الفجر من غِمد الغلس   

وانبرى فى الشرقٍ رامٍ أرسلاَ

أسهم الأنوار فى هام القلاع

(الخُلَسْ: = الفرصٌ الهرّابة)

(والغلَسْ: = ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح)

وقد توقفت طويلا عند صورة سيف الفجر وهو يُسَلّ من غمد ظُلمةِ آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح (الغَلَس) ثم توجُه أسهم الأنوار فى هام القلاع!!!

إذن، فالاستاذ لم يكتف بترديد ما تردده أم كلثوم من ترجمة أحمد رامى للخيام، ولم يكتف بالاطلاع على ترجمة محمد السباعى، بل حفظها حتى قفزت فى تدريباته بهذه التلقائية، ولعل البيتين الأوليين هما أقرب إلى ترجمة رامى فى مقطع:

أفِق خفيف الظل هذا السحر

نادى دع النوم وناغى الوتر

(لا.. لا أظن، عذرا!)

وبصراحة، أعجبتنى رصانة محمد السباعى وامتلاكه ناصية الفصحى بهذه القوة، وتعجبت مرة أخرى كيف حضر هذان البيتان الأوليان إلى وعى الأستاذ هكذا!!

(هذا وقد أعود إلى ما وصلنى أكثر حين أعود لعلاقة الأستاذ بالخيام)

بعد هذين البيتين تأتى فى صفحة التدريب حكمتان بسيطتان أقرب إلى ما نقوله للأطفال، لكنهما حين تطلان الواحدة تلو الأخرى فى تدريبات الأستاذ تكتسب كل منهما عمقا آخر، ونبضاً آخر، أو هذا ما وصلنى كالتالى:

حين يكتب الأستاذ “من يجتهد ينجح”، وتحضرنى تدريباته وسط هذا النغم الشعرى الرائق والصور الجميله، لا أكتفى بأن استقبلها كما كنت أفعل طفلا، بل يحضرنى معنى اجتهاد الاستاذ الذى يمثله لى ما عرفته فيه وعنه شخصيا، وكيف أنه حقق ما حقق من إبداع وتفوق ليس فقط بالموهبة والتدريب وطلاقة قدراته الإبداعية وإنما أيضا بالاجتهاد والمثابرة والعناد وطول النفس، ثم يحضرنى مباشرة وتحديدا متحديا كيف اجتهد فى تدريب يده هكذا حتى عاد إلى الكتابة كما نرى! وقد لاحظت كيف كان حضوره وسطنا يحمل كل هذه المعانى حتى تصبح هى خير دافع لكل منا أن يواصل ويكمل، ومازلت أذكر –كما ذكرت سالفا- كيف كان يحرص على أن يسألنى كلما رجعت من إجازة نهاية الاسبوع عن ما أنجزته مما كنت أحتج به وأنا أعتذر عن مشاركته لقاء الجمعة فى بيتى/بيته، وأيضا أذكر- كما ذكرت- كيف كان ينهرنى بقوة أب محب حين أفكر فى تأجيل الندوة الثقافية الشهرية التى أعقدها فى مستشفاى كل شهر منذ سنوات، أما حين كنت ألمحّ أننى أفكر فى توقيفها بعد أن شككت فى جدواها فكان ينزعج محتجا أنه غير موافق حتى تصلنى منه أنه “لا” يعنى “لا”، وأعتقد أن تاريخ مثابرة واجتهاد صديقنا وابنه الروحى د. زكى سالم قد يكون مثالا متواضعا لهذا التأثير الرائع، فهو – د.زكى- محاسب أساسا (كلية التجارة)، وليس لدراسته الجامعية الأساسية علاقة بكل هذه الفلسفة والتصوف، اللتان غرق فيهما، وعكف عليهما للمعرفة اساسا، بل تماما، فراح يجتهد وهو يواصل دراسته للفلسفة ليحصل على ماجستير(فى الغزالى)، ثم على الدكتوراه (فى ابن عربى) بهدف الاستنارة فالإنارة لا أكثر، وكذلك كانت مثابرته على طريق الإبداع القصصى، ومع أننى تحفظت – ناقدا محبا– على كثير من كتاباته الأولى، إلا قليلا، لكن “اجتهاده” أوصله مؤخرا إلى النجاح فى إبداع رواية قصيرة رائعة (أو قصة قصيرة طويلة) بعنوان “حكيم” أعجبتُ بها إعجابا شديدا، وذكرت ذلك فى إحدى النشرات (نشرة 9-7-2010 “حوار/بريد الجمعة)

وأخيراً فقد تمنيت وأنا أكتب هذه الجملة البسيطة الآن “من يجتهد ينجح” أن ما نمر به حاليا آملين أن تنجح انتفاضة 25 يناير لتكون ثورة ممتدة، تمنيت أن تصل هذه التوصية البسيطة الواضحة “من يجتهد ينجح” إلى الشباب، فكل الناس، فنجد أنفسنا ننتقل من مرحلة إنجاح فورة الثورة، إلى بناء الدولة الجديدة، فالحضارة الباقية، وحتى أتأمل هذه الكلمات الثلاثة من جديد بعد أن وصلتنى تتقاقز من حركة أصابع يد الاستاذ المجتهده، رحت أضرب هذه الحكمة فى عدد الأيام بل الساعات بل الدقائق فى عدد شعبنا، أو على الأقل فى عدد من يريدونها ثورة بحق وحقيقى من شعبنا، وقلت: هكذا تصبح ثورة فعلا، اجتهاد فى الصبر، ثم اجتهاد فى الاستمرار، ثم تراكم غاضب فإفاقة منطلقة، فبداية وولادة وطفرة، وهكذا، وهكذا، كل ذلك هو: “من يجتهد ينجح”.

تأتى الحكمة التالية، أيضا بسيطة معادة “فى التانى السلامة، وفى العجلة الندامة”

لكن لا!! لم تصلنى بهذه البساطة كم قلناها، وكم رددناها أطفالا، لكنها تصلنى من تدريبه الآن بشكل آخر، فأتذكر كيف كنت – ومازلت – أتوقف أمام سطرين فى إحدى رواياته وقد كتبهما – غالبا – فى بضع ثوان، لكن يصلانى وهما يحتويان دهرا بأكمله فأجد فيهما هذا التآنى الآخر، وليس مجرد البطء الذى يصل من ظاهر اللفظ، حدث لى ذلك بخاصة وأنا أنقد “ملحمة الحرافيش”، ثم “حديث الصباح والمساء”، فتصلنى السلامة هنا بمعنى الجمال والحبكة، وأطرد معنى قبيحا نبهنى إليه والدى له علاقة بهذه الحكمة، نبهنى إليه وهو يعلمنى كيف يمسخ الحرص على الوزن فى الشعر العمودى الحكمة: حتى يسطِّحها حين يقول الشاعر:

قد يدرك المتأنى بعض حاجته            وقد يكون مع المستعجل الزلل

نفس الجو المختلف والأعمق، أو أقل قليلا، وصلنى من حضور “العجلة” فى تداعيات شخينا التدريبية هذه، فأنا لم أره متعجلا أبدا إلا فى الوفاء بواجب صديق، أو الوفاء بموعد ملزم، فكان هذا وذاك يمثلان لى قيمة حضارية، وليس أبدا نصيحة تجعل العجلة  مقترنة بالندامة دائما بهذه البساطة..

………………..

……………….

يختم شيخنا تدريب اليوم بهذا الشطر الجميل،

“رب قوم قد أناخوا حولنا” ….

فأجد تكملة النص فى “شعر عدى بن زيد” فى رواية تقول:

نزل النعمان بْن المنذر ومعه عدى بْن زيد (وكان قد تزوج ابنته) فِى ظل شجرة عظيمة ليلهوا،

 فَقَالَ عدى بْن زيد: أتدرى ما تقول هذه الشجرة ؟

 قَالَ: لا

 قَالَ عدى بن زيد، تقول:

رب قوم قد أناخوا عندنا      يشربون الخمر بالماء الزلال

ثم أضحوا لعب الدهر بهم     وكذاك الدهر حالا بعد حال

فيذكرنى ذلك بتدريب سابق تناولتُ فيه قراءة موازيه، وهى التى وردت فى (صفحة التدريب رقم 10 نشرة 5/5/2011) وفيها شطر أبى نواس

“ودار ندامى عطلوها وأدلجوا” …

فأكملناها هكذا:

ودار ندامى عطلوها وأدلجوا…  بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارسُ

مساحب من جر الرقاق على الثرى     وأضغاث ريحان جنىّ ويابسُ

وناقشنا أنذاك احتمالات علاقة الأستاذ بهذا الجو برمته

وبعد

ألا يحق لى، ولكم أن نشكر شيخنا وأستاذنا الذى يعلمنا كل ذلك حتى بعد رحيله

شكرا

هل صدقتم أصدقائى الأعزاء أنه مازال معنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *