الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى كراسات التدريب – نجيب محفوظ : إعادة تجميع الحلقات من 11 – 15

قراءة فى كراسات التدريب – نجيب محفوظ : إعادة تجميع الحلقات من 11 – 15

نشرة “الإنسان والتطور”
12-5-2011
السنة الرابعة
العدد: 1350
عودة إلى:

Mafouz-Yehia-1-300x110

إعادة تجميع الحلقات من 11 – 15

المقدمة:

كما اتقفنا

سوف أنشر ما سبق نشره فى خمس نشرات متتابعة آملا فى تواصل المتابعة خمس صفحات معا، هذه هى الحلقة الثالثة (وبقيت حلقتان)

***

من الكراسة الأولى

صفحة 11

111-220x300

نجيب‏ ‏محفوظ

أراك عصى الدمع

امتى الهوى

من قد إيه كنا  هنا

سلمى ياسلامة

خفيف الروح بيتعاجب

نجيب‏ ‏محفوظ

 ‏5/2/1995

 

القراءة:

ربما هذا ما كنت أعنيه حين قلت عن كتابة التدريب فى اليوم السابق أنها انتهت بأبى نواس وهو يصف آثار ما جرى فى إيوان كسرى، فى جو من البهجة والأنس والصحبة والشرب، وأنه امتد عند الأستاذ إلى اليوم التالى ، فيلاحظ هنا أنه:

أولا: كتب “نجيب محفوظ” مرة واحدة (ربما لم يكن محتاجا اليوم إلى “تسخين”)

ثانيا : أن كل التدريب كان أغان جميلة ، غرام، وعتاب، وشوق وبهجة ، بحيث قد لا يحتاج ما ظهر على قمة الوعى اليوم إلى البحث أكثر من استقباله بما هو:

“أراك عصى الدمع”، “امتى الهوى”، “من قد إيه كنا  هنا”، “سلمى ياسلامة”، “خفيف الروح بيتعاجب”

ولو أعدنا ترتيب هذه البهجة، وربطنا احتمال أن يكون هذا اليوم قد حمل له رسالة قرب السلامة، فاستجلب بكل هذا الحب والطرب ، فإن الأمر يمكن أن يبدأ باستشعار السلامة لينتهى بخفيف الروح وهو يتعاجب فيكون الترتيب كما يلى:

سلمى ياسلامة

من قد إيه كنا  هنا

أراك عصى الدمع ،

 امتى الهوى ….

 خفيف الروح بيتعاجب

الذى يسمع عن شيخ ، فى هذا العمر، أصابه ما أصاب شيخى، وعن ظروف مقاومته، وصعوبة حياته اليومية، لا يمكن أن يخطر على باله أى احتمال أن يكون هو هو “خفيف الروح (اللى) بيتعاجب”، أو أنه يحاول أن يتذكر “من قد إيه كنا هنا”، أو أنه ينتظر أن “الهوى ييجى سوا”،

 هذا الرجل “العصى الدمع”، حين تنسم رائحة السلامة،(سالمة يا سلامة)  راح يرقص بالكلمات

……..

ياه ، يا شيخى الجليل

لماذا ذهبت هكذا مبكرا ونحن أحوج ما نكون إلى أن نتعلم منك كيف الحياة”؟؟

لم قلتها شيخى “كفى” ؟؟!

لكنَّ ما قدّمتَ علَّمنا “الطريق” إليه عبر شعابها:

لمّا عرفتَ سبيل دربك نحوه،

كدحاً إليه :

ودخلتَ فى عمق العباد تعيد تشكيل الذى غمرتْه أمواجُ الضلالْ، حتى  تشوّه بالعمى والجوع  والجشع الجبانْ،

شيخى الجليل:

ما دمت أنتَ فَعَلتْهاَ

فانعم بها

واشفعْ لنا

أن نَحمل العهدَ الذى أوْدَعْتنَاَ

***

شيخى الجليل:

نمْ مطمئنا،

وارجع إليه مُبْدعاً،

عبر البشر،

وادخل إليها راضيا،

أهلا ً لهاَ.

هذا هو ما أنهيت به قصيدتى فى رثائه، وقد عاد إلىّ الآن لألومه من جديد فى نهاية قراءتى لصفحة التدريب رقم (11)

“ياه، ياشيخى الجليل

لماذا ذهبت هكذا مبكرا؟”

****

صفحة (12)

 122-223x300

 نجيب‏ ‏محفوظ

ـــــــ

الله يهدى من يشاء

مصر عليك تحية وسلام

(أو : محمد عليه تحية وسلام)

(لم أتمكن من ترجيح كفة أيهما أقرب إلى صحة ما كتب برسم هذه الكلمة)

صنت نفسى عما يدنس نفسى

 نجيب‏ ‏محفوظ

‏  6/2/1995

 

  القراءة:

لست متأكدا إذا كان يعنى نفس المعنى، حين يكرر نفس الجملة، أو العبارة، أو المقطع فى أيام تدريب متتالية.

 ناقشت فيما سبق ما وصلنى من كلٍّ من “صنت نفسى عما يدنس نفسى” (الحلقة “الخامسة” بتاريخ  7-1-2010) وأيضا، “الله يهدى من يشاء” (الحلقة “الثامنة” بتاريخ 28-1-2010)، أنا – شخصيا- أرجح أنه مهما كرر، فهو يعنى معنى ومعان متنوعة كل مرة، لكننى أشعر أننى أعجز عن إثبات ذلك، ما لم أناقشه فى ذلك، وأنا لم افعل.

كذلك لن أعود للإشارة مرة أخرى إلى أنه كتب اسمه فى البداية أم لا، وهل ذكر اسم كريمتيه أم لا مما سبق أن ناقشته بما فيه الكفاية وأيضا هذه الأشكال التى ابتدعها ليدرب يده على الأتساق.

الجملة الجديدة هنا هى “مصر، عليك تحية وسلام”، أو “محمد عليه تحية وسلام”

لست متأكدا، ويمكن للقارئ أن يفك شفرة خط يده بنفسه، وهو يتذكر أنه كثيرا ما تسقط منه آخر مقطع فى الكلمة.

هذا التعبير “عليك تحية وسلام، يقال فى حب الوطن”

وطنى عليك تحية وسلام

ما أشرقت شمس وجن ظلام

لك فى الفؤاد محبة قدسية

فى وصفها قد حارت الأقلام

كما أن هذه التركيبة، قد وردت أيضا بكثرة  فى حب ومديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلا فى موشح أقبل عليك تحية وسلام:

أقبل عليك تحية وسلام

يا ساهراً والغافلون نيام

بالله جـُدُ بتوجهٍ وتعطف

يا سيداً للمرسلين إمام

هذه مجرد إشارة أستطيع أن أدخل منها إلى علاقة شيخى بكل من مصر، ومحمد صلى الله عليه وسلم

إذا كان لى أن أستعمل كلمة “الحب” استعمالا راقيا رائقا، فمن حقى أن اصف كلا العلاقتين بأنهما كانتا علاقة حب، حب حقيقى مثل الذى يتكلم عنه الغارقون فى أمواج الحب بكل مستوياته ودرجاته، حب الأم، حب الأخ، حب الإبن، حب الحبيب،… الخ، من أهم تجليات الحب الذى عايشته مع شيخى حيا، متوهجا، دائما، متجددا، هو أنه كان يحب مصر، ويحب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ويحب الله، (فضلا عن حبه لسعد زغلول والنحاس والناس) وصلتنى معنى الشفاعة التى ينتظرها من حبيبه محمد عليه السلام، وهى أن يسهل له حب الله، سبق أن ذكرت فى هذه التداعيات (فى شرف صحبة نجيب محفوظ، نشرة:14-1-2011) على قول فرانسوا ميتران عن احتمال ملل الخلود فى الآخرة، وكيف لام الأستاذ ميتران أنه يفتقر إلى الخيال وذكر الأستاذ تدعيما لرأيه أن الحبيب لا يمكن أن تشعر بجواره مهما طالت صحبته بالملل، وكان يعنى جوار الله حبا،

 ما وصلنى أيضا هو أن علاقته بمصر هى علاقة حب خالص: مصر الأرض، ومصر الناس، ومصر التاريخ، ومصر القاهرة، عرفت أنها علاقة من نفس نوع علاقته بمحمد رسول الله عليه الصلاة السلام، محمد رجلا، وقائدا، وإنسانا، وزوجا، وأبا، ومبدعا، وصانع حضارة ممتدة، وكلا العلاقتين كانتا تحت مظلة حبه لله.

 ذات ليلة، كنت أجلس معه وحدنا فى فلفلة المنيل بجوار كوبرى الجامعة، وكان برد الشتاء لم يزحف بعد، واستأذننا مدير المكان أن الجزء المغطى من الحديقة الذى اعتدنا أن نجلس فيه مع دخول الشتاء، مشغول هذه الليلة بحفل عرس، وأن الجو بديع طازج، يسمح بأن نجلس هذه الليلة استثناء فى الحديقة، أحكم شيخى ياقة معطفه حول رقبته، ووافق بكرم طيب، وجلسنا فى الحديقة بالقرب من المكان المغطى الذى سوف يقام فيه الفرح، ولم أخشَ عليه من الصخب والأغانى والضوضاء لأسباب لا تخفى، إلا أنه حين بدأت الزفة ووصلتنا بعض أصواتها سألنى هل بدأ الزفاف، وأجبته بالإيجاب، فدعا للعروسين وكأنه والدهما أو جدهما أو أقرب، وأشرق وجهه وهو يرجو لهما السعادة.

ثم وصلتنا  أقرب فأقرب بعض أصوات الزفة والدفوف والترديد والزغاريد، فأصاخ السمع وكأنه يدهش لما يصله برغم عدم تمييزه التفاصيل، سألنى عما إذا كانوا يغنون “إتمخطرى يا حلوة يا زينة مثل زمان:، أم ماذا؟ قلت له: إنهم يزفون العروسين بأسماء الله الحسنى، قال لى مندهشا بفرحة ” لا يا شيخ؟!!”، قلت له إن هذا تقليد جديد، يتماشى مع مد السلوك الإسلامى، “بما له” و”ما عليه”، هذه الأيام، تغير وجهه قليلا وقال: خلنا الآن “فيما له”، ثم أخذ يصف لى كيف كان ينجذب من أعماقه مع كل اسم من أسماء الله حين يسمع الشيخ النقشبندى وهو ينشدها، قال ذلك وهو يشير  بيده من قلبه إلى السماء، وصمتَ، فصمتُّ. هذا ما تعلمته من عشرتى له حتى اعتدته:

 حين تحضره ذكرى، يريد أن يستبقيها مدة أطول بصمته، تكون المشاركة هى صمت مقابل، مفعم بالسماح .

حبه لله، ولرسوله، ولمصر، يصل لمن يريد، دون ذكر المحبوب تحديدا، لو أراد أحد أن يعرف كيف يحب هذا الرجل الله ورسوله وطين أرضه وناس بلده ، فما عليه إلا أن يعاشره، فيصله ما تيسر من فيض هذا الحب، دون أن يتبادل معه حرفا واحدا عن ذلك، وهذا يكاد يكون عكس ما يرد فى الأحاديث الصحفية السخيفة التى يضطرونه بإلحاح، أن يجيب على تساؤلاتها المسطحة، فيجيب بكل طيبة وهدوء بما تستطيع الألفاظ أن تحمله، وما أقله بالنسبة لما يصل إلى من يعايشه فى هذه المناطق: حبا خالصا رائقا، عميقا، هادئا، صاخبا بلا كلمة واحدة،

ياه !!!!.

*****

صفحة (13)

13-226x300

نجيب‏ ‏محفوظ

الشك يحيى الغرام

الصبر جميل

نصيبك فى الحياة لازم يصيبك

 نجيب‏ ‏محفوظ

‏  7/2/1995

 القراءة:

أما عن الصبر، وتكرار ذكره، فقد ناقشناه فى نشرات سابقة فى سياقات مختلفة : فى الحلقة الرابعة أثبتنا ما كتب فى 31 ديسمبر 2009 نفس التعبير “الصبر جميل” جاء باكرا بعد خروجه من المستشفى بأسابيع، كما أنه جاء هناك بعد دعائه لكريمتيه، بأن يحفظهم الله ويباركهم، وتمنيه أن الشباب يعود يوما، ثم ذكر أن الصبر جميل، ليتبعه مباشرة “إن الله مع الصابرين” ، كل هذا أشعرنى وأنا أقرأ كلمة الصبر هناك أنه كان بمثابة إعلان مضىء لقدرته على استيعاب حادث الاعتداء ومعقباته،

أما فى صفحة 25 /1/ 95 فقد كتب “الله مع الصابرين” ، فقط  بعد اسمىْ كريمتيه، ثم ألحقها بأنه “سبحان الملك الوهاب” لينهى التدريب بـ: “سلمى يا سلامة، وخفيف الروح بيتعاجب” وقد وصلتنى بهجته تلك المرة بما جعلنى أشعر أن الربط بين “أن الله مع الصابرين”، حتى وصل إلى “خفيف الروح بيتعاجب” هو إعلان بهجة هى الدليل على أنه قد اختار الصبر بمحض إرادته.

أما هنا فقد الحق بمقولة “الصبر جميل” أنه  “نصيبك فى الحياة لازم يصيبك”، وكأنه يتقبل جرعات الواقع بشكل أكثر ألما وتحديدا واحتراما معا.

نرجع إلى ما بدأ به تدريبه هذا اليوم – بعد كتابه اسمه – “الشك يحيى الغرام:

حين قرأت هذه العبارة “الشك يحيى الغرام: خطر لى لأول وهلة أن أستدعى حديثنا معا عن “عطيل”، أو أن أسترجع بعض ما دار فى إبداعاته عن علاقة الغيرة بالحب بما لفت نظرى وتناولته فى أكثر من موقع نقد، وخاصة فيما لم أنشره بعد من بقية نقدى لملحمة الحرافيش، أو اللص والكلاب، أو “الطريق” مما أدعو الله أن اتمكن من الرجوع إليه وتكملته ونشره.

 فجأة عدلت عن ذلك حين خطر لى أن الأستاذ وهو أثناء التدريب، لا تخطر على باله  مثل هذه القضايا بحيث تتيح لمثل هذه العبارة أن تطفو على قمة جبل مستوى الوعى الذى تحرك فى هذه المنطقة. ثم فجأة أيضا حضرنى صوت أم كلثوم من بعيد، لماذا؟ لست أدرى، خيل إلى أن لها أغنية فيها هذه الكلمات، تذكرت “أراك عصى الدمع”، واستبعدتها، ثم تذكرت”يا أمرّ الفراق”، ونحّيتها جانبا، ولم تسعفنى الذاكرة أكثر من ذلك. رحت أستشير سيدنا جوجل فإذا به يعيدنى إلى ما لم يخطر لى على بال، وإذا  بأم كلثوم لها أغنية قديمة جميلة بهذا الاسم  “الشك يحيى الغرام”، غنتها لأول مرة عام 1928 ألفها أحمد رامى، ولحنها محمد القصبجى، من أين تأتى هذه الأغانى إلى وعى هذا الشاب (الشيخ!!) الجميل فى هذه الظروف الخاصة جدا؟ وكيف يستطيع أن يسمح لهذه الأنغام أن تغمره حتى تظهر قمتها على السطح هكذا برغم ظروف الإعاقة، والسن، وبرغم ظروف البلد القاسية التى يعايشها معنا يوما بيوم؟

اقتطفت من هذه الأغنية ما أختم به قراءتى اليوم، وأعتقد أنه أقرب إلى صبره الجديد الجميل أيضا، وإلى بهجته العميقة فى نفس الوقت، تلك البهجة التى تجمل له ولنا وبه هذه الحياة برغم كل شىء.

الشك يحيى الغرام

ويزيده نار ولهيب

الهجر فيه والخصام

يحلى فى عين الحبيب

…….

…….

…….

هو القمر عنده خبر

عن طول سهدى

هو البلبل لما يرتل

يعرف وجدى!!

*****

 صفحة 14

14-226x300

 ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏

نجيب‏ ‏محفوظ

الهدى من الله

قفا نبك من ذكرى حبيب

نجيب‏ ‏محفوظ‏

نجيب محفوظ

 8/2/1995

القراءة:

ليس فى كتابته اليوم جديد، فقد سبق أن ناقشنا بإفاضة متوسطة، ما ذا يمكن أن يعنى تكرار هذا المعنى “الهدى من الله ” (نشرة الحلقة الثامنة بتاريخ 28-1-2010).

الجديد هنا هو هذا الشطر الذى هو  بداية معلقة امرؤ القيس ” قفا نبك من ذكرى حبيب  ومنزل…”

لا أعلم مدى تعلق شيخى بالشعر الجاهلى بالذات، وإن كنت أذكر أننى سألته ذات مرة عن من يفضل من الشعراء، ولم يخب ظنى، برغم اختلافى معه، أن جاء المتنبى فى المقدمة، وأحمد شوقى طبعا، وأعتقد أننى تماديت فسألته عن إعجابه بالشعراء غير العرب، فأجابنى بما لا أذكر الآن  منهم إلا طاغور، وإن كان قد نبهنى إلى صعوبة ترجمة الشعر من حيث المبدأ، بحيث يمكن أن نظلم الشعر والشاعر لو قرأناه بغير لغته، ووافقته جدا على ذلك.

ذِكْر امرؤ القيس هنا هكذا فى كراسة التدريب، قد أعاد لى بعض الذكريات معه، التى لم أدونها فى حينها، ومن ذلك:

 ما يتعلق بأحد أصدقاء يوم الجمعة (ممن سيأتى ذكرهم بعد) وهو المرحوم الأستاذ الدكتور محمد راضى، أستاذ أمراض القلب، فى كلية الطب، جامعة ، وكان هذا الأستاذ موسيقارا معتمدا كملحن من الإذاعة، وصديقا أو تلميذا لمحمد عبد الوهاب كما أبلغنا، وكان دارسا للموسيقى بشكل شبه أكاديمى، كما كان يعشق اللغة العربية عشقا لا مثيل له، كتب فيها كتابا لم تنشر إلا بعد وفاته المفاجئة المؤلمة لنا جميعا، هذا الأستاذ الدكتور رحمه الله كان يتقن أيضا اللغتين الفرنسية والإنجليزية كأهلهما، وهو قبل ذلك وبعد ذلك ، أستاذ كما ينبغى أن يكون الأستاذ فى كلية الطب، وهو يافع ناضج يفيض بالحيوية والحب، وقد أعود إلى ذكر بعض حضوره لاحقا إذا لزم الامر (غالبا من الذاكرة) . ما زلت لا أنساه وهو يردد على الأستاذ ما استنتجه من موسيقى ونبض فى معلقة امرؤ القيس هذه، وبالذات ، وهو يكرر شطر البيت ” فسُلّى ثيابك من ثيابىّ تَنْسُلِ”.

أغـرّك منى أن حبك قاِتلى

وأنك مهما تأمرى القلب يفعل

وإن تك قد ساءتك منى خليقة

 فسُلِّى ثيابى من ثيابِكِ تَنسْل

أذكر كيف كان المرحوم أ.د. راضى يمثل بيديه، وبصوته الجهورى، وهو يبين لنا ونحن حول الأستاذ: جمال هذه اللوحة التشكيلية، وكيف امتزج الثوبان ببعضهما البعض، بهذا التلاحم المتناغم الذى جعل من الشخصين جسدا وروحا لحنا واحدا، وكيف أن امرؤ القيس صوّر احتمال انفصالهما عن بعضهما البعض، كيف ينتزع كل منهما نفسه من الآخر بهذه الرقة الطروب، بكل ما يصحب ذلك من ألم وحب وتسليم وإباء، وكيف أن “تنسل” إنما تعبر عن تلقائية استجابة “الشىء” ليكمل إرادة البشر، وكأن الجماد تدب فيه الحياة فيكمل بإرادته إرادة من بدأ تحريكه، وأذكر أن ذلك أحضر لى بيت الشعر الذى “تَضْرى” فيها النار وحدها “فتضرم”، بعد أن بُعثت  بفعل فاعل كما جاء فى معلقة زهير بن أبى سلمى.

وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ
وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً
وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ

………

………

*****

صفحة (15)

 

15-223x300  

………..

 ………..

‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏

إذا جاء نصر الله والفتح

الرحمن علم القرآن

فبأى آلاء ربكما تكذبان‏

نجيب محفوظ

9/2/1995

   القراءة:

جاء التدريب فى هذه الصفحة متواضعا جدا ، وقاصرا على آيات من كتاب الله عز وجل،

“إذا جاء نصر الله والفتح”

يا ترى أى نصر كان ينتظره شيخى هذه الأيام، بل وأى فتح أيضا؟ لا أتصور أن ما حضره من جبال الوعى التى حركها تدريب اليوم، هو قاصر على أسباب ومناسبة تنزيل هذه الآية تحديدا، هذا الرجل – كما وصلنى منه – ينتظر نصر الله لنا، ولكل الناس، فى كل مجال، وبكل وسيلة، أى والله، كما أنه ينتظر أن يفتح الله علينا فتحا حقيقيا نحطم به الأصنام، والأسوار فى وقت واحد، وباستمرار.

أن ينتظر نصر الله لنا (وللناس)، وفتح الله علينا (وعلى الناس)، أصبح هذا وذاك يمثلان لى حقيقة تفاؤله، وكم ناقشته فى مسئولية التفاؤل، وبالذات حين كنت أتألم من تفاؤلى شخصيا، وأنا أحكى له آمالى فى حركية الشباب بالذات، فى مواجهة كل الهجوم الذى ينالهم مما شاع فى الإعلام والفتاوى والبكاء على أطلال أخلاق الماضى مِمَّن يصفون شباب اليوم  بالتفاهة والضياع والسطحية، كل هذا كان مرفوضا منى أساسا، ومنه أحيانا كثيرة، كان يؤنسنى تفاؤله هذا بقدر ما تصورت أنه يحترم تفاؤلى، بل إنه أحيانا كان يفرح جدا حين أخبره برأيى أن الشباب عبر العالم أصبح يتواصل بينهم وبين بعضهم البعض بعيدا عن وصاية الإعلام المركزية، وأن هذه هى إشارة  لبدأ تكوين شبكية وعى إنسانى أشمل، يتكون بفضل التكنولوجيا الأحدث، والنشاط الشبابى الأكثر طزاجة، بحيث تفتح باب الأمل لرفض الوصاية العولمية المركزية، وغسيل الأمخاخ البشرية لصالح قوى الغطرسة والاستغلال، كان يكاد لا يصدق، لكنه يفرح بشكل لا يخطئه أحد، وكأنه أحد هؤلاء الشباب الذى يقوم بتشكيل الوعى البشرى التكاملى الجديد.

الآية الكريمة الأخرى هى بداية سورة الرحمن، وقد أثبتَ منها فى التدريب أولها: الرحمن، علم القرآن، “ثم الآية المتكررة بشكل هندسى سيمفونى رائع طوال السورة “فبأى آلاء ربكما تكذبان”.

لم أناقشه فى هذه الآية الكريمة بوجه خاص، وإن كنت أذكر أن جاء ذكر سورة الرحمن كلها فى مقام آخر. أذكر أننا اتفقنا على إيحاءات جمالها، دون الغوص فى دلالة ألفاظها، لكننى أذكر أنه شاركنى الرأى فيما توحيه سورة “إقرأ” أول نزول القرآن الكريم، وما صاحبها من اعتذار أو إعلان عن عدم القدرة “ما أنا بقارىء”، وقد أبلغته كيف أن هذا أوحى لى أن الأمر بالقراءة هنا ليس له أية علاقة بأن الرسول أمى لا يعرف القراءة والكتابة (وإن اختلف معنى “أمى” عند الباحثين) ولا علاقة له أيضا بالقراءة التى نعرفها أصلا، وإنما وصلنى أنها إذن بالكشف للداخل والخارج على حد سواء بالطول والعرض مما لا مجال لتفصيله الآن هنا.

سورة الرحمن التى أسعدتنا أطفالا ثم كبارا دون، أو بغير، حاجة إلى فهمها جيدا، تبدأ بأن الله سبحانه “علم القرآن” وليس –هنا- الذى أنزل القرآن، أظن أننى ربطت بين ذلك وبين أول آية نزلت “إقرأ”، ثم لعلى ألمحت إلى أهمية أن نلاحظ موقع “خلق الإنسان” واكتماله بالآية اللاحقة “علمه” البيان،

– بمنهجى هنا – يبدو أن هذه القضايا المكثفة تحتاج لالتقاطها وعيا نشطا أكثر مما تحتاج تفسيرا معجميا قد يثير خلافا فقهيا عن “خلق القرآن” وما شابه،

وربما، كانت تلك القضايا وما إليها هى التى تحركت فى هذا التدريب فجاءت هذه الإشارة هكذا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *