نشرة “الإنسان والتطور”
5-5-2011
السنة الرابعة
العدد: 1343
عودة إلى:
إعادة تجميع الحلقات من 6 – 10
المقدمة:
كما اتقفنا
سوف أنشر ما سبق نشره فى خمس نشرات متتابعة آملا فى تواصل المتابعة خمس صفحات معا، هذه هى الحلقة الثانية (وبقيت ثلاث حلقات)
*****
من الكراسة الأولى
صفحة 6
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
ولكن لا حياة لمن تنادى
سبحان الله الوهاب
يأتيك بالأخبار من لـ(م) تزود
نجيب محفوظ
3-1- 1995
القراءة
لم يكتب شيخنا اليوم اسمى كريمتيه فى البداية، إذن، فهو غير ملزم، فهما دائمتا الحضور فى وعيه، برغم أنه نادرا ما يذكرهما باللسان، أو يحكى أخبارهما لأحد، حماهما الله ورعاهما.
بدأ هذه المرة بكتابة اسمه ثلاث مرات – كالعادة غالبا- ثم ألحقه بأنه لا حياة لمن تنادى.
نجيب محفوظ هو المتفائل الدائم، تفاؤلا بمسئولية رائعة، كنت كلما حدثته عن احتمال أن ثورة التوصيل والتواصل، خاصة بين الشباب، يمكن أن تنقل الإنسان المعاصرإلى ما ينقذه فى مواجهة السلطات العالمية المستهلكة والمغتربة، فرح فرحة من وجد وسيلة لتحقيق تساؤله (1)
حين يكتب اليوم، انه “لا حياة لمن تنادى”، لا يكتبها بمعنى التقرير، بقدر ما يكتبها بمعنى الحث أن نحيا.
المنهج الذى اتبعته حتى الآن (لم نتعد بعد الصفحة السادسة) هو أن أعتبر العينة التى قفزت إلى وعيه أثناء التدريب، فكتبها، ليست هى بالضرورة كل ما يحتاج إلى تعليق او قراءة تأويلية، بل إننى آخذها مفتاحا لما وراءها، فأبحث عن أصل النص، أو بقيته، وأعتبر أن النص قد حضر كله، أو على الأقل أكثر مما دوّن بكثير، يحضر النص فى عمق ما من مستويات وعيه، لكنه لا يدون منه إلا بضع الكلمات التى سطرها، والتى أعتبرها مجرد قمة جبل الوعى الذى حل بقلمه وقتها، البيتين الذين يوحيان باليأس، يكتبهما شيخى وهو لا يعرف اليأس، هما لعمر بن أبى ربيعة
وقد أسمعتُ إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو نارا نفختَ بها أضاءت ولكن أنت تنفخ فى رماد
لو أن محفوظ تصور ثانية واحدة أنه ينفخ فى رماد، أو أنه ينادى موتى، لما استمر يخط كل ما خط حتى آخر لحظة فى حياته، لقد ظل ينحت فى صخر وعينا طول الوقت، طول العمر، وهو يتناول قضايا الوجود بعد أن تغطت بالخوف والتأويل السطحى والتفسير الوصى، كما يتناول قضايا الواقع من ناحية أخرى، كل ذلك من جوف جوف وعيه الخلاق، فثم حياة لمن ينادى، وثم نور يضيء من نفخه فى نار إبداعه، وفى رأيى أنه ما جاء ذكر هذا الشطر من هذين البيتين فى تدريبه، إلا ليقول لنا: إياكم أن تكونوا مثل ذلك، فأنتم لستم كذلك، لأننى أواصل النداء، وأواصل النفخ فى النار لتضىء لكم، لى، لنا ، الطريق ، إليه، إلينا!!
يلحق هذا المقتطف مباشرة أنه “سبحان الله الوهاب”،
فإن لم تكن ثمة حياة لمن تنادى، فالوهاب – سبحانه- هو واهب الحياة وباعث الموتى
أليس كذلك؟
ثم ينهى تدريبه هذا اليوم بأنه “…يأتيك بالأخبار من لم تزود”
يمكن أن نختصر التعليق فى أنه بعد الحادث، وربما كان كذلك قبله، كان محفوظ فى حالة تلق دائم، ومتابعة دقيقة يومية لكل ما يجرى، كان الحاج صبرى يأتيه كل صباح، يقرأ له الأهرام بانتظام، حتى بعد أن تدهور الأهرام إلى ما صار إليه، وكان يوسف القعيد هو راوى الأخبار الشفاهية التى لا تكتبها الصحف، لأسباب مختلفة طبعا، وبمصداقية يوسف أدرى بها، كان الأستاذ يستمع إلى هذا وذاك، ويعقب بطريقته على ما شاء منها، ويحتفظ برأيه فى مايقال، إلا إذا سئل، فى فرح بوت أولا بأول، فيرد بما يريد، أو يدور إلى ما يريد.
وبحسب المنهج الذى أشرت إليه حالا، رجعت إلى أصل البيت، فى القصيدة التى أفترض أنها حضرت فى وعيه بشكل ما، فقفز منها شطر هذا البيت الذى جاء فى معلقة طرفة بن العبد، وهو بيت فى سياق شديد الجمال والدلالة فى موقفنا هذا، كما يلى :
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
ثم:
لعمرك ما الأيام إلا معارةٌ
فما اسطعت من معروفها فتزودِ
…..
لعمرك ما أدرى و إنى لواجل
أفى اليوم إقدام المنية أم غد؟
طبعا لا أدرى أى من هذه الأبيات كان فى خلفية وعى الأستاذ من معلقة طرفة، لكننى انتقيت ما خطر ببالى، وأود ان أنبه إلى ما سوف أعود إلى ذكره كثيرا غالبا، وهو أن الأستاذ لم يكن أبدا واجلا متى يأتيه الموت، وما زال يتردد فى أسماعنا حديثه المذاع مرئيا، والمسجل منذ سنوات من أنه يحب الحياة، ويحب الناس، ويحب الموت، وما جاء فى هذه النشرة اليوم من ذكره كيف أنه يحب البقاء قريبا من الله، وكلما امتد ذلك زمنا فزمن، كان أفضل، وكان ذلك تعقيبا منه على حديث ميتران عن الموت، وبالرغم من ذلك، نلمح صدقا إنسانيا، وواقعا حيا يعلن أن انتظاره لما تأتى به الأيام، وما تفاجئه به الأحداث، هو مثل انتظار أى بشر طيب رهيف، لم يكن انتظارا وجِلا، كان انتظارا يقظا، لا أكثر.
* * * *
صفحة 7
نجيب محفوظ
أم كلثوم
فاطمة
إنما الأعمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوى
الحمد لله رب العالمين
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
1/2/1995
القراءة:
لم يكتب شيخنا كثيرا هذا اليوم
هل يا ترى هو قد اطمأن إلى قدرته على الكتابة؟ أم أنها اصبحت أقل جذبا؟
وهل يا ترى استغنى عن بعض الكتابة بالرسوم أعلى هذه الصفحة
اليوم كتب اسمى كريمتيه دون أن يلحق بأى منهما “نجيب محفوظ”، فتأكد لى خطئى السابق فى تفسير تواتر كتابة أسمائهما، هو يكتبهما لأنهما معه طول الوقت، إسماهما تماما هما اسمه، رقة ابوته بالغة، لم أفهم بعض تفاصيلها، ولم أناقشه فيها، حاولت أن أتعلم منها، لكن يبدو أن الآوان قد فات.
المحتوى هذا اليوم بسيط
إنما الأعمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوى
وهو واضح الدلالة بما لا يحتاج إلى تعقيب تقريبا
النص مختصر جدا وذائع ومتكرر، والشريف له دلالته العميقة التى لا ينتبه لها العامة بالقدر الكافى”..
أنا لم أطلع على هذه الكراريس أولا بأول لأرى ما كتبه فيها يوما بيوم، كنت أتصفحها مقارنا، لأميز التقدم فى شكل الكتابة ، دون النظر فى محتواها، لكننى الآن (اليوم الاثنين 17 /1/2010) أسمح لذكرياتى وتداعياتى التى تحضرنى من صحبتى معه أن تنساب مستثارة بما كتب .
ذات مرة سألته عن رأيه فى حكاية حسن النية، وموقفه منها، وقلت له إننى عادة لا أقبل الاعتذار بحسن النية، حتى من مرضاى، فأنا أحترمهم لدرجة أننى أحملهم مسئولية ما لا يعرفونه عن أنفسهم، لنبدأ من جديد معا، وتماديت فقلت إننى أفضل أن أتعامل مع سوء النية، حتى أواجه صاحبها بمسئوليته، كان الأستاذ يرفض منى عادة مثل هذه المواقف، كنت أشعر أنها تتناقض مع سماحه الشديد، لم أفلح أبدا أن أوصل له مثل هذه الآراء التى تبدو قاسية لأول وهله، كان يحترم ما أقوله ثم يعترض، بطريقته، اعتراضا هادئا قويا كعادته، لا يوجد تعارض بين القوة والهدوء، وحين تماديت فى شرح وجهة نظرى، وأن موقفى ينطلق من احترامى الشديد للإرادة الداخلية لكل إنسان، وأن أى واحد مسئول مسئول مسئول عن كل مستويات وعيه ونواياه، حتى المجنون أنا أتعامل معه بمسئولية مشتركة احتراما وسماحا فى نفس الوقت. ، لم أفلح أن أوصل فكرتى بدرجة كافية. أذكر أن المناقشة انتقلت بنا إلى استشهادى بمقولة لا أذكر قائلها تفيد أن كثيرا من الكوارث الكبرى تحدث تحت مظلة حسن النية، واذكر أننى استشهدت بتصريحات بعض المسئولين عن هزيمة 1967 بأنهم كانوا حسنى النية إذ أغلقوا مضايق تيران بعد أن أخفوا علينا أنهم فتحوها طوال هذه السنين، وأنهم لم يتصوروا – بحسن نية- أن الحرب سوف تقوم بسبب ذلك، ناهيك عن الهزيمة، كانت هزة رأسه هذه المرة أقوى وأحنى وأرحب، وكنت قد اعتدت أن أعرف الموافقة من عدمها، من زاوية انحناءة رأسه بالإيماء نحو صدره.
مرة أخرى ، قلت له ما رأيك فيما وصلت إليه من أنه : “إنما النيات بالأعمال”، فصححنى من جديد، وقال : بل إنما الأعمال بالنيات ، مثلما كتب ذلك فى هذا التدريب المؤرخ أول فبراير 1995، لا أذكر طبعا إن كان هذا النقاش دار قبل ذلك أو بعد ذلك، أصررت أن أوصل له فكرتى وأننا نعيش الوعود المفرغة من ضمان تنفيذها، وحين نواجه قائلها لا ينكر أنه عجز عن الوفاء بها، بل يحتج بأنه حين وعد كان حسن النية، ويتكرر ذلك حتى صرت ألقى كل هذه النوايا جانبا إلى أن أرى فعلا ماثلا، ومن هنا لا ينبغى أن نطمئن لأية نية – مهما حسنت- ما لم تحمل بشائر ومقومات تنفيذها اليوم، خريطة الطريق مثلا هى خريطة بلا طريق، هى بمثابة تشكيلات ورقية على مكاتب المفاوضين، لا علاقة لها بالزمن ولا بأرض الواقع. فلا قيمة لها إلا إذا ترجمت فعلا إلى خطوات تنفذ كأعمال نراها رأى العين، وهكذا، كل مفاوضاتنا مع إسرائيل ووسطائها لم تنتقل من مرحلة النوايا، حتى أننى لم أعد أصفها بالنوايا الحسنة، لأنه لا يوجد ضمان أنها حسنة مهما ادعى صاحبها ذلك، لعل الأستاذ وافقنى بصعوبة على ما أعتقد، إن كان قد وافقنى.
ثم تطرق الحوار إلى أصل الحديث الشريف، لست أذكر أهو الذى ذكرنى به أم أنا الذى أردت أن استوثق من وجهة نظرى بتفسيرى الخاص جدا، قلت له إننى أقرأ “لكل امرئ ما نوى” أن ذلك بشرط أن يخرج ما نوى إلى عمل ملموس، وأن الله لا يجازى الفرد على مجرد النية، فنبهنى من جديد إلى أن الله سبحانه يجزى من همّ بحسنة ولم يفعلها جزاء حسنا، فاستعبطت، وقلت له كما أن من هَمَّ بسيئة ولم يفعلها فله حسنة، ولهذا فأنا أحترم سوء النية أيضا، وكله بثوابه، وضحكنا.
وأنا أكتب الآن ما أكتب، قلت أرجع إلى منهجى فى قراءة ما خطّ شيخى تدريبا. حضرنى حديث آخر أكثر تحديدا وتفصيلا، وتصورت أنه قد كان – أيضا – وراء تلك الكلمات البسيطة التى خطها شيخى هذا اليوم، أذكر القارئ بالمنهج الذى أتبعه فى هذه القراءة : وهو أننى أعتبر ما خط شيخى من كلمات، هو مجرد قمة جبل الوعى المعرفى الذى حضره ولم يظهر منه إلا هذه الكلمات التى تركها لنا على الورق دون قصد، ، فجاءنى حديث شريف آخر، اعتبرته مكملا، وهو حديث شريف عن من “تسعر” بهم النار يوم القيامة (استعرت النار : توقـَدت) : “…من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم ومجاهد ومُنفق، اما العالم فيسأله الله يوم القيامة عن علمه فيقول، يارب تعلمت العلم وعلمته للناس فى سبيلك، فيقول له الله عز وجل : كذبت تعلمت العلم ليقال إنك عالم وقد قيل فيأمر الله فيؤخذ الى النار، اما المجاهد فيساله الله عن جهاده فيقول، يارب قاتلت فى سبيلك لتكون كلمتك هى العليا، فيقول له رب العزة :كذبت قاتلت من أجل أن يقال إنك شجاع وقد قيل فيأمر الله فيؤخذ الى النار، اما المنُفق فيساله رب العزة عن ماله فيقول، يارب انفقته فى سبيلك، فيقول له رب العزة: كذبت أنفقته ليقال إنك جواد كريم وقد قيل فيأمر الله فيؤخذ إلى النار
قد يرجح أن المنهج الذى أتبعه الآن قد يكون مناسبا، وأن هذه الكلمات القليلة وراءها موقف عميق دال، ما أذكره حول نفس الموضوع حين كنا نتحاور حول ما آل إليه حال البحث العلمى فى الجامعة وغير الجامعة، وأن قلة نادرة هى التى تتعامل مع البحث العلمى على أنه “بحث” و “علمى”، وأنه أصبح مجرد وسيلة لغير العلم، وغير المعرفة، وكنت استشهد بالحديث الذى أثبته الآن، قياسا، وأقول له: فمن كانت “دكتوراهُهُ” لدرجة ينالها، أو وظيفة يشغلها، “فدكتوراهُهُ” لما قصده بها، ومن كانت “دكتوراهُهُ” للبحث والعلم والكشف والنفع، فهى لوجه الله والناس والوطن، وكان يفرح بهذه القياسات، لكنه يشك فى مبالغتى حين أمد هذا القياس إلى الأساتذة، ولجان الترقى، وأحيانا، إلى بعض الذين يكتبون أدبا (يسمونه إبداعا) يخاطبون به مسئولى الترجمة فى الخارج وهم يعرفون ماذا يجذبهم، وماذا لا يشغلهم.
كان شيخى إذا ما زوّدتها فى هذه التعرية، حتى دون تعميم، يلتفت إلىّ وكأنه ينهرنى أنه ليس إلى هذا الحد يا شيخ (مش قوى كده يا شيخ)، وكان زكى سالم، وأيامها كان يعد الدكتوراه فى ابن عربى، وقد نالها بتوفيق بعد ذلك بسنوات، (الآن د. زكى سالم،واشهد أن “دكتوراهُهُ” هى لابن عربى ومن يمثله) كان يؤيدنى بروايات من واقع اتصاله بالجامعة، وهو من خارجها، فيبدو على شيخنا التصديق، لكنه يدق وهو متألم بحق وكأنه يود ألا يصدق، فعلاقته بالعلم والعلماء، هى علاقة خاصة جدا، ومبجَّلة جدا، وآملة جدا، ومُحبة جدا، وسوف يأتى ذكرها فى يومية قادمة بالتفصيل غالبا .
* * * *
صفحة (8)
نجيب محفوظ
أم كلثوم
فاطمة
الهدى لمن اهتدى
الصدق منج
العمل عبادة
نجيب محفوظ
2-2-1995
القراءة:
وددت اليوم لو أننى أعدت تكرار الاعتراف بخطئى فى تفسير تواتر كتابة اسمىْ كريمتيه، فها هو مرة أخرى يكتب اسميهما مجردين دون لقبهما، وهو ما ذكرته فى قراءة الصفحة السابقة.
أما تلاحق هذه الجمل فى حـِكَمٍ مرسلة هكذا، فهى لم تصلنى على أنها منفصلةٌ دلالاتها كما ذكرت سالفا. وذلك حين عقبت على ما كتبت منذ يومين: “يعجبنى الصدق فى القول، والإخلاص فى العمل”، أقول إن تعاقب هذه الجمل قد لا يعنى ربطا ضروريا فيما بينها.
نجيب محفوظ لا يكتب حِـكـما، ولا يلقى مواعظ كما ذكرنا، وهو نادرا ما يستشهد بالأمثال.
فيما كتب هنا، هو يضيف إلى”العمل” صفة شديدة الدلالة عنده، إذ يبين أن العمل عبادة، حين تابعت علاقته بما يعمل، بعد كل ما أعاقه، حتى بالنسبة لإعاقات الحواس قبل الحادث، كنت أشعر فعلا أنه يصلى وهو يعمل، وأنه أقرب إلى ربه ، ربنا، وهو يبدع (يعمل إبداعا).
العبادة عند نجيب محفوظ تشمل “التوجّه” و”الإتقان” و”الناس”، سعيا غير معلن، حتى لنفسه إلى وجه مطلق لا سبيل إليه إلا بالإيمان بتفتح آفاق الإبداع على ما لا نعرف: الغيب.
العمل عنده، كما بلغنى منه، وما شاهدته كان كذلك تماما.
العبادة تشمل رضا الله من ناحية، ونفع الناس من ناحية أخرى
مدح الصدق بأنه مـُنْجٍ كما شاع عند الغالبية هو أقل من قيمة الصدق الذى ينتمى إليه هذا الرجل، وقد أعود إلى ذلك فى مقام آخر إذا سمحت كتابات التدريب بذلك، لكننى أكتفى بأن أبين كيف أن ما وصلنى منه يبرر أن أقرر أنه لا يعنى –هنا – النجاة من مأزق، أو أنه أسهل لحل المشاكل مما لو كذبنا، وأشياء من هذا القبيل، غلب على ظنى أنه يعنى أيضا، وربما أصلا: الصدق مع النفس، نعم، الصدق مع النفس ينجى الواحد منا من أن يكون غير نفسه، ما أمكن ذلك، نجيب محفوظ يمارس الصدق لأنه صادق، وليس بهدف النجاة بالمعنى البسيط السائد، ولعله يدعونا أن ننجو بأنفسنا لأنفسنا مما هو ليس كذلك.
حين أمارس النقد فى إبداعه (وكان آخر ذلك تلك الدراسة المقارنة التى أشرت إليها فى الحلقة قبل الماضية بين “سيميائى” كويلهو، ورحلة “ابن فطومة” أقف أمام عبارة واحدة من كتاباته وصفا أو حوارا، وأشعر أنها المثال النموذجى لما هو صدق، لا أريد أن أسمى ذلك بالاسم الشائع لمثل ذلك، وهو: “المعادل الموضوعى”، لكننى اشعر أن هذه الجملة صادقة من حيث أنها تفيد ما يريد توصيله بلا زيادة ولا نقصان، فهو صادق حين كتبها بهذا الإحكام، وفى هذا ما يجعلها تصل إلى متلقيها بما تحمل بالضبط، وأن النجاة هى فى هذا التطابق الجميل للتواصل.
ربما.
أجلت التعليق على ما كتبه أولا، وهو يقرر، أو يكرر أن “الهدى لمن اهتدى”، لأن هذا المعنى شغلنى كثيرا جدا، وتمنيت أن ترد مناسبة أرحب أتناوله فيها كما جرى بيننا أحيانا، فهى قضية مهمة بالنسبة لى، وقد انتبهت إلى أنها مهمة بالنسبة له أيضا استوقفتنى طويلا مع ما وردنى من تداعياتها، مثل: “إن الهدى هدى الله”، و”…الله يهدى من يشاء”، كل هذا يثير التساؤل البدئى الذى يقول: كيف يكون الهدى لمن اهتدى؟ وهل ينبغى أن يهتدى الإنسان أولا حتى يستحق أن يعيش الهدى، أو ينال الهدى أو يكمل الهدى، تماما مثلما استوقفتنى الآية الكريمة ” يا أيها الذين آمنوا، آمِنوا…”، لقد آمنوا فعلا، فكيف يؤمنون من جديد. كان ذلك حين كان تفكيرى هو التفكير “الحل مشاكلى”، Problem Solving أما حين تحرك وعيى مع حركية المعرفة، وعلمت أنه “لا شىء فى ثبات”، لا الهدى ولا الشك ولا الإيمان ولا حتى الموت، بمعنى أن كل شىء، وكل فكر، وكل وجدان، هو فى حركة نشطة، وبالتالى يكون الهدى (الجديد المتجدد)، لمن اهتدى (لمن حسب أنه وصل إلى غاية الهدى)، وحضرنى بشكل ما أن الإيمان عملية مستعادة متجددة، وليس معتقدا يقينيا جامدا، فكلما آمنا دعانا ربنا إلى إيمان جديد، ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا..”.
أنا لا أزعم أن هذا كله كان وراء هذه الجملة البسيطة الكبيرة فى وعى محفوظ وهو يتدرب، ويعلم يده الكتابة، لكن لعلمى به، ولمناقشتنا طوال هذه السنوات، ومن خلال نقدى أعماله، كنت أرى هذه الحركة المتجددة، حتى فى نقدى الأخير لابن فطومة، ذلك أنه حين وصل قنديل العنابى (إبن فطومة) إلى ما حسبه “الجبل”، وهو من بداية رحلته لم يسع إلا ليصل إلى “دار الجبل”، أقول “حين وصل لم يصل”، فها هو يظهر أمامه فى الأفق البعيد جبل آخر على مدى الرؤية، جبل لا يصله إلا من يسعى إليه “فردا”، لتنتهى الرواية ، الرحلة، كما تنتهى الحياة، تنتهى وقنديل يسعى، كما كان محفوظ يسعى، وكما كان يرجو لنا أن نسعى، مثله، ومعه، وبعده قنديل يصل إلى الجبل ليواصل إلى الجبل.. إلى الجبل، والأرجح أنه سوف ينتقل من جبل إلى جبل “مجذوبا” إلى سحر “دار الجبل” أبدا
طيب، إذا كان “الهدى لمن اهتدى”، فماذاعن من لم يهتدِ، من أين يحصل على حقه فى الهدى؟
مادامت العملية مستمرة، لأن نبض الحياة/الموت هو عملية إيقاع حيوى مستمر، مما جعلنى أرى الموت-أخيرا- باعتباره “أزمة نمو”، فالفرصة متاحة لمن لا يكف عن الحركة، والهدى ليس له حجم محدد، ولا نهاية معروفة، وهو ليس مرتبطا أيضا بمضمون بذاته، وفاتحة الكتاب تشهد بذلك، فهى لم تحدد الصراط المستقيم (اهدنا الصراط المستقيم) كما خنقه بعض المفسرين بغير وجه حق، وإنما أشارت إلى السائرين فيه، ليهتدوا، فيهديهم الله، فيهتدوا، فيهديهم فيؤمنوا، ليؤمنوا، وهكذا، بلا توقف.
عشت هذا مع محفوظ فى نقدى إبداعه مكررا،
وأدعو الله أن أعود إليه حين أعاود نقده،
ثم ها هى الفرصة تتاح لى أن أعايشه وعيا لوعى، بمصاحبته شخصيا.
صفحة (9)
الأنسة فاطمة
الأنسة أم كلثوم
الحلم سيد الاخلاق
الله يهدى من يشاء
ويرزق من يشاء
نجيب محفوظ
3-2-1995
القراءة
ياه !!! يا شيخنا ! فى اليوم التالى مباشرة تواجهنى بما أردت أن أزوغ منه، منك.
أمس قلتَ، كتبتَ، أن الهدى هدى الله، واليوم تقذف فى وجهنا أن الله يهدى من يشاء،
طيب، دعنا نرى ، والله يجمعنا معك على خير.
“الله يهدى من يشاء”،
“مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً..”، ” ومن يضلل الله فلا هادى له..”.
إنك لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .
أعتقد، أو أذكر، أو أتصور، أننى تناقشت معه فى كثير من ذلك، سواء ونحن نفتح ملف موضوع التسيير والتخيير، أو الحرية، أو ونحن نناقش احتكار تفسير كلام الله لمن لا يعرف من اللغة إلا ما فى معاجمها، ولم نختلف كثيرا، وإن كان الأستاذ لا يقبل بسهولة ، وأحيانا: ولا بصعوبة، الأبجدية التى أستعملها فى بعض شطحاتى الاستلهامية، مثل ألفاظ : “بيولوجى”، و”الإيقاع الحيوى”، و”الغريزة التوازنية”، ومثل هذا الكلام
المهم فى هذا الصدد هو أن كتابته لهذا الجزء من الآية الكريمة، مثل كل كتابات التدريب، قد لا تستدعى كل هذه التداعيات، لكن بنفس منهج قراءة هذه المخطوطات التى تدرب فيها،(خجِلا من التكرار) أتصور أن كثيرا من ذلك كان حاضرا فى مستوًى ما من مستويات وعيه، وليس عندى ما أضيفه أكثر من توضيح بسيط يقول:
عندى أن حركية الهدى والهداية هى عملية متصلة متصاعدة، ما بين الداخل والخارج فى اتساق لا ينفصل ولا يتصل، لا ينفصل بمعنى لا يستقل، ولا يتصل بمعنى لا يتلاشى، وأن الحرص على التأكيد على أن البداية من الله ليست اغترابا أو انتظارا لفضل يهبط بالصدفة من بعيد، لكنه حفز أو دعوة أن نطمئن إلى أن نقطة البدء هى أن يقبل الواحد منا هذه المسلمة “ربى كما خلقتنى”، لتنطلق منها هذه الحركية فى تواصل الكدح فى طريق الهداية. هذه البداية من الله الأقرب من حبل الوريد ، والذى وسع كرسيه السماوات والأرض فى نفس الوقت، هى الضمان لاستمرار دفع الفرص للانتماء لهذه الحركية التى متى بدأت فهى الطريق (إلى الهدى).
أعرف أننى ألغزت أكثر
سامحونى
ننتقل إلى تحد آخر، وموقع محفوظ منه ، حين سَطَرَ أنه :
“ويرزق من يشاء”
أين يقع هذا من فكر محفوظ، ومن الإخلاص فى العمل، ومن العمل العبادة، هل هو مجرد تلاحق ما اعتدنا عليه من أنه بمجرد ذكر أن الله يهدى من يشاء، نجد أنفسنا نلحقها بـ “ويرزق من يشاء”، وخلاص؟ وأحيانا نضيف “بغير حساب”؟
أولا: لم لا؟ لم لا يكون محفوظ أثناء تدريبه وجد قلمه يلحق هذا بذاك، وخلاص.
هذا هو الأرجح عندى الآن فى هذا المقام
أذكر أننى تكلمت معه فى الرزق كثيرا، وذكرت له ذات مرة، كيف أن أبى كان يتنافس مع قريب لنا لا يتمتع بما يتمتع به أبى من ألمعية وشطارة وإبداع، بالإضافة إلى حبه للارض وللناس وللاختلاف، وكان الفارق بين أبى وبين قريبى هذا الذى تخرج معه من دار العلوم ربما فى نفس السنة، واضحا للعامة قبل الخاصة، وحين فتح الله على قريبى هذا برزق قريب مما اجتهد أبى فيه بذكائه ومثابرته وواقعيته، قال فلاح أمى عجوز أعرف معزته عند أبى حتى الصداقة، قال لأبى وكأنه قد التقط دهشة أبى وربما حقده لما اصاب قريبنا من رزق، قال هذا العجوز الطيب اللئيم: يا توفيق افندى، ما انت عارف، ما هو “الرزق بيسْتَلْطَخْ”، وكنت حاضرا وشاهدت وجه الشيخ الفلاح وهو يندهش لما نطق به تلقائيا، فبدا لى أنه انتبه، ولكن بعد فوات الأوان، أن أبى من المرزوقين أيضا، وبالتالى فقد يصيبه المثل ويجعله “لطخا” بالضرورة، فاستدرك الشيخ لفوره قائلا لأبى دون أن يعتذر حتى لا ينبهه أكثر: “….ساعات يعنى”.
حين حكيت للاستاذ هذه الحكاية لم يكن تعليقا على ما كتب، فكما ذكرت من قبل، أنا لم أكن اقرأ ما يكتب أولا بأول، لكنه راح يضحك بعد سماعه الرواية وهو يتعرف على نوع آخر من المصريين، فهو قاهرى قاهرى حتى النخاع، وكان يفرح حين أحكى له عن لؤن (بالنون بمعنى لؤم) أهل بلدنا، ويؤكد أنه على قدر ما يعرف القاهرة بشوارعها وحواريها، ونوع ذكاء أولاد البلد والفتوات فيها، ليس له علم بمثل هذا الذكاء الفلاحى المصرى المختلف، وحين قلبوا قصته “حكاية بلا بداية ولا نهاية” إلى مسلسل تجرى أحداثه فى الريف، وأنا لم اشاهده، لكن صديقا ذكر له ذلك، صفق بيديه بهدوء، وهو يتساءل: “لا يا شيخ، هل هذا معقول”؟ وخلاص.
أمثال أخرى كثيرة جرت فى حديثنا معا عن الرزق، وكيف يمكن أن يكون للموعودين دون الحسّابين، وأن الشخص لا يحصل فى النهاية إلا على رزقه “إجر يا ابن آدم جرى الوحوش غير رزقك لم تحوش”، وكان يتعجب من حضور هذه الأمثال جاهزة فى حديثى، فأعزو ذلك إلى مخالطتى للفلاحين فى بلدنا فى الاجازات الصيفية بشكل أطلعنى على طباع أهلى التى لا يعرفها إلا من عاشها، وبالتالى لابد أنه لدغ منها مرارا، ويضحك الأستاذ لحكاية لدغ منها هذه، وأيضا لإصرارى على أن لؤم الفلاحين هو لؤن بالنون، وليس بالميم، ويسأل وهو يعرف الإجابة وهل هناك فرق؟ وأقول، طبعا، ويضحك ثانية، ولا يسألنى عن الفرق، فهو يعلم أننى أعجز عن وصفه!
أما أن الحلم سيد الأخلاق، فمنظومة شيخى الأخلاقية تحتاج لموسوعة لترتيب هيراركيتها وبيان تعريفاتها، ربما نعرف ما هو “الحلم” عنده، وهل صحيح أنه السيد، سيد الأخلاق، ثم ما الذى يليه، ثم ما إذا كانت الأخلاق ترتب أصلا.
أتذكر أننى تناولت بعض منظومته الأخلاقية فى كثير من دراساتى النقدية لأعماله، خاصة أصداء السيرة الذاتية، وملحمة الحرافيش، وليالى ألف ليلة، وفى الأغلب سوف أعود إليها فى تكملة نقدى لابن فطومة، وغيرها، إن كان فى العمر بقية.
* * * *
صفحة (10)
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
تبارك الذى بيده الملك
والعصر إن الانسان لفى خسر
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
نجيب محفوظ
4-2-1995
القراءة:
فى هذا اليوم، كتب اسمه: “نجيب محفوظ” ثلاثا دون كريمتيه، لم ينسهما، هو لا ينساهما أبدا، أكرمهما الله، وفى نفس الوقت لا يذكرهما كثيرا فى أحاديثه، طمأنه الله عليهما فى كل حال.
ثم
“تبارك الذي بيده الملك….” هذا ما ظهر مما نعتبره قمة جبل الوعى، لا أكثر، هذا الفرض الذى يسمح لى أن أكمل بنفس المنهج (الحلقة الأولى نشرة 27-9-2007):
“تبارك الذى بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا “
لماذا جاء الموت قبل الحياة فى هذا التنزيل الكريم، توقفت طويلا أمام هذا الترتيب، فالمنطق السطحى يعتبر الموت هو لاحق للحياة، نحن نعيش ثم نموت وليس العكس، وبالتالى يمكن ببلاهة أن ننتظر أن يكون التسلسل هكذا “الذى خلق “الحياة والموت” لكن الحق تعالى فى تنزيله الحكيم، أن الذى بيده الملك قد خلق الموت، الحياة، وليس خلق الحياة فالموت.
كتبت فى نقدى لملحمة الحرافيش فصلا كاملا عن الموت، بل لعل كل نقدى كان ينبعث من ذلك، أكتفى هنا بنص موضح ذلك :
“….. الموت لا الولادة الجسدية هو البداية، الحياة هى إرادة التخلق من يقين الموت والوعى به، منذ السطر الأول يعلن محفوظ أن ملحمته تدور “… فى الممر العابر بين الموت والحياة”
(لم يقل “فى الممر العابر بين الحياة والموت) فالموت هو الأصل، والحياة احتمال قائم،
وهذا الترتيب هو ما جاء فى الآية الكريمة “الذى خلق الموت والحياة”
ما قمت به وأنا استعمل المنهج الذى أتبعه، هو أننى رجعت إلى الآية الكريمة فوجدت أن لها وضع خاص حتى فى الأحاديث النبوية الشريفة، قدّرت أن سورة “تبارك” قد حضرت فى وعيه كلها أو على الأقل بدايتها، وأن هذه القمة التى ظهرت لنا فى تدريبه هذا اليوم، إنما تعبر عن كل ما تلى هذه الآية الكريمة، من أن الموت هو أصل الحياة وهو باعثها، وأن الرحلة بين الموت والحياة هى ليبلونا أينا أحسن عملا، وأعتقد أن الذى يرجع إلى الحلقات السابقة مباشرة يمكن أن يرصد موقع العمل فى وعى محفوظ، من أول “الإخلاص فى العمل” (بتاريخ 14-1-2010) حتى “العمل عبادة”
الآية الثانية التى كتبها بعد ذلك مباشرة، هى بداية سورة العصر، وهى تأتى فى نفس السياق من أنه لا ينجو من الصفقة الخاسرة فى هذه الحياة (إن الإنسان لفى خسر)، إلا من يؤمن، ويعمل ، وأذكر أننى أشرت إلى كيف أن والدى أخبرنى وأنا حول الثامنة، أنه حين كان يضيق بضيف يضيع وقته، أو يفسد مزاجه كان يقرأ سورة العصر لا أذكر كم مرة ، أو لعله يظل يقرأها فى سره حتى ينصرف الضيف الثقيل، وحين كبرت وحضرتنى مراجعة معنى ذلك، تصورت أن والدى بانصرافه عن ضيفه الثقيل بقراءة هذه السورة هكذا مكررا، قد يوصل رسالة “عدم الانتباه”، فينصرف الضيف، ما علينا، عذرا للتكرار إن كنت قد ذكرت ذلك سالفا.
أن تتلاحق بداية سورة تبارك، بما وصل إلينا الآن مع بداية سورة العصر، ربما لا يحتاج إلى بيان التكامل فيما بينهما أكثر من ذلك.
يلى ذلك شطر بيت أبى نواس فى إيوان كسرى المهجور:
“ودار ندامى عطلوها وأدلجوا”
فى الصفحة الأولى من التدريب، (31-12-2009) كان شطر هذا البيت قد جاء هكذا “ودرا ندامى غادروها“، لكنه هنا يثبت الأصل وكأنه يصحح نفسه تلقائيا عطلوها غير غادروها. (عطل الأبل: خلاّها بلا راع ، عطّل البئر: ترك وردها، وفى التنزيل وبئر معطلة وقصر مشيد”، عطل الدار: تركها ضياعا “وكل ذلك يختلف عن مجرد غادروها” عادت ذاكرة الأستاذ حادة كالسيف وبرغم غرابة وندرة استعمال مثل هذه الألفاظ، فهو قد صحح نفسه وراح يكتبها اليوم كما هى “ودار ندامى عطلوها وأدلجو”
السياق فى المرة الأولى فى ذكر دار الندامى فى المرة الأولى (الصفحة الأولى) كان يتكامل مع ما جاء معه فى التدريب من أن “الصبر جميل” ثم “إن الله مع الصابرين”، وقد عقبنا فى (الحلقة الرابعة 31-12-2009)على ذلك قائلين:
“……كل ذلك متسق تماما مع موقف هذا العظيم الواعى جدا، بربط الموقف الذى نحن فيه، بأن له نهاية، كما أن لهذه الدار نفسها نهاية، وأن من يتعلق بها هو يندم عليها (أو لا يندم) يغادرها حتما، فلا أفضل من الصبر، والصبر هنا له صفة عشتها معه بكل فرحة هى صفة الجمال فعلاً، للصبر مرارة، وللصبر جمال، وأنا لم أشاهد مرارة الصبر معه أبدا، حتى فى أزمات مرضه قبل الأخير (إذ لم تتح لى فرصة معايشة مرضه الأخير)، والذى يجعل الصبر جميلا، هو ما أنهى به يوميته هذه: “إن الله مع الصابرين”
السياق هنا الآن يختلف، فهو يرتبط من ناحية بربنا وهو يبلونا أينا أحسن عملا، وبأن الإنسان لا ينجو من الخسران المبين، إلا إذا آمن وعمل، وبالتالى يأتى هذا البيت بأصله أقرب إلى أن يحضر إلى ذاكرتنا أو إلى وعينا إيوان كسرى المهجور الذى قال فيه أبو نواس هذا البيت بعد أن عطلوا إيوان كسرى، ثم غادروه بليل (“أَدْلَجَ” القوم ساروا من أول الليل، “أدَّلَجَ” القوم: ساروا فى آخر الليل”)، البيت كله يقول:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس
حكاية هذا البيت أنه يروى أن أبا نواس ونفر من أصحابه -كما يروى عن الصولي في زهر الآداب وثمر الألباب- أنهم رأوا في قصر كسرى آثاراً في مكان حسن تدل على اجتماع كان لقوم زاروه قبلهم، فأقاموا خمسة أيام يشربون ثم سألوا أبا نواس ليصف لهم هذه الحادثة فقال أبياتا منها:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الرقاق على الثرى وأضغاث ريحان جني ويابس
إلى أن قال:
تدار علينا الراح في عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارس
…………….
…………….
بعد أن قلب الصفحة إلى الصفحة التالية رقم (11) أكتشفت أن ذكر أبو نواس، وصحبه ومزاجه ولهوه هو أقرب إلى ما جاء فى التدريب فى اليوم التالى، وكأن مزاج الاستاذ الرائق الطروب قد امتد فى نفس الجو حتى كتب ما تلاه بنفس الإيقاع ونفس الحالة المزاجية:
[1] – ألا تلاحظ أن هذا له علاقة بما حدث منذ 25 يناير 2011، علما بأن هذا الحديث دار بيننا قبل خمسة عشر عام تقريبا، وقد تكرر مرارا ونشر أغلبه “فى شرف صحبة محفوظ”.