نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 2-3-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4200
قراءة فى النفس البشرية (1)
(من واقع ثقافتنا الشعبية)
الفصل الأول:
فصل فى: الحاجة إلى كبير (2)
”من الاعتمادية الطبيعية إلى رحاب الناس”
المثــل الرئيس:
“إللى مالـُوش كبير… يشتريـلـُه كبير”
****
(إللى مالـُوش كبير… يشتريـلـُه كبير)
علاقة الكبير بالصغير (وبالعكس) حكاية قديمة، قدم الوجود البشرى، أو قدم وجود الحياة ذاتها، وإلى يومنا هذا ومعالم هذه العلاقة لم تتضح بالدرجة الكافية، ثم جاء ما يسمى بعلم النفس الحديث، فأسهم إسهامات لا بأس بها فى تقنين الصراع بين الأجيال وتوصيفه، كذلك ظهرت إشاعات التربية الحديثة فسمحت بحركة أوسع، وحرية أخدع لمن هو صغير فى مواجهة الكبير، وكعادتنا، وبسبب اضطرار أمْلـَتـْه ظروف مرحلة تطورنا (أو تخلـُّفنا!) أخذنا نردد، ونقلد، ثم نتراجع، ثم: يبدو أننا نقف على السلم الآن، نرقص أو نترنح (سواء)، ولكننا لا نصعد ولا نهبط ولا يرانا أحد.. ولكن يتربص بنا مصيرنا والتاريخ. المهم، تعالوا نبحث فى أوراقنا القديمة والحديثة ثم ننظر أين نحن؟ وكيف؟ ثم ماذا؟، إلى أين؟! لعلنا نتحرك كما ينبغى!
يبدو أننا (3) مازلنا ندرك حاجتنا الشديدة إلى الكبير، بشــكل ما، وأنــنا قبــل وبعــد الإغـارة الغــربية، مازلنا أقــرب إلى كونفوشيوس منا إلى لاوتسو (4)، وإلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام منا إلى إبن نوح.
وهذا المثل يعلن عدة أساسيات يمكن أن ننظر فيها على الوجه التالى:
أولا: أننا كبشر – صغار مهما كـَبـُرْنا- وتعبير “اللى مالوش” لا يقتصر على الصغير، بل يمتد إلى كل من ليس له كبير بغض النظر عن سن شهادة الميلاد.
ثانيا: أن حاجتنـــا إلى الـــكبير هى حاجة أصــيلة، لايمكن الاستغناء عنها، أو حتى الاستسلام للعجز عن إشباعها، وهذا وذاك وارد دائمــا، وخاصـــة لو افتقرنا إلى مصـــادر إشباعها.
ثالثا: أن الكبير – إن لم يوجد طبيعيا أو تلقائيا – فإنه يمكن أن يُـصـَنـَّع تصنيعا (أو يُشترى شراء)، ليسد هذه الحاجة الأساسية.
رابعا: أن ثمَّ تناقضا بين أن يكون الكبير مُشترى، وبين أنه يقوم فى نفس الوقت بدور الكبير القادر على تحمل الاعتماد، وتوجيه المسار (5) .
والمثل بهذا التركيز، وهذه الدقة، يذكرنا بأن معركتنا فى سلسلة التطور ليست فى التخلص من الحلقة السابقة (الوالد)، وإنما فى الاعتماد عليها حتى تجاوزها دون الاستغناء عنها، أى بإعادة تنظيم العلاقات بحيث تأخذ مكانها المناسب فى التركيب الجديد، فليس المطلوب هو أن يتحرر الإبن من أبيه، وإنما المطلوب فى النهاية هو أن يصر الإبن – فى الوقت المناسب – أن يكون قائد المسيرة بأبيه – وليس بالرغم منه، ولا تحت أمره، ولا بدونه – مكمِّلا حلقات التطور المتداخلة إلى من يليه.. (يليهما) هكذا.
فإذا رجعنا إلى المثل وجدناه يعلن عن الحاجة إلى الكبير، دون تقديس له أو انسحاق تحته، بل هو يشير إلى تفوق واع، فالمشتـَرَى عادة هو تحت أمر وإذن الشارى لغرض ما، إذ لا يعقل – من حيث المبدأ – أن يكون ما أشتريه هو سيدى وقائدى، حيث أن فــعل الشراء نفســه يضــعه فى حجمه المتواضــع، ولأَنْ أشترى لى كبيرا أتوكأ عليه، وأستعمله فى حوارى ومسارى، لهو أمر يحمل معنى أنى (الشارى) أنا القائد، وفى نفس الوقت أنى أحتاج إلى شراء هذا الكبير وأنا قادر على ذلك، لماذا؟ لأستمر به إلى ما هو بعدنا: هو وأنا، (6) اللهم إلا إذا اضطرب المسار واهتزت القوانين، وطغى المُشـْتـَرَى بعد أن تمكن (وهذا وارد أيضا، تاريخا، وفعلا).
ثم يأتى موضوع شراء الكبير فى الصداقة والعلاج النفسى وفى رحاب مشــايخ الطــرق، والشراء فى المثــل (وفى الحيــاة) لا يستلزم بالضرورة مقايضة مادية: مالا محددا، وأبسط أنواع المقايضة التى تجرى بالاعتمادية المتبادلة، يكون فى الصداقة، فصديقى هو كبيرى لأنه ناصحى ومســتشارى وملجئى ورفيـق طريقى، وأنا له كذلك، واحـدة بواحـدة، أو لعل ثمَّ (صديق) ثالث يقوم لأىٍّ منا بدور الكبير وهكذا، أى أن عقد شراء صداقة قد لا يكون بين اثنين فحسب، بل بين مجمــوعة من الناس تتبادل الشراء دون علم أفرادها بطبيعة الصفقة (7) وحسابات المكسب والخسارة، وشراء الصداقة يشمل شراء الكبير.
[1] – الفصل من كتاب “قراءة فى النفس البشرية” (من واقع ثقافتنا الشعبية) (ص 11- ص 13) (الطبعة الأولى 1992، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] مجلة الإنسان والتطور “مثل وموال” (علم بالنفس: من أقوال الناس) عدد يناير 1985
[3] – أعنى مصر والمصريين أساسا، ثم بعض ما هو عربي، ثم عمق ما هو إنساني
[4] – يقف هذان الحكيمان الصينيان فى هذه المسألة على طرفين متناقضين، فبينما يمثل كونفوشيوس ضرورة الأستاذية ودقة التعاليم، يمثل لاوتسو أصالة الحرية وطلاقة الفطرة والثقة بالنمو الذاتي، وهما معاصران لبعضهما دون تناقض، بل لعلهما يكمل أحدهما الآخر.
[5] – يمكن مراجعة تاريخ المماليك وحركة تصعيدهم من “شرائهم” إلى تعيينهم “حكاما”، كذلك عبدة الأوثان، ينحتون الحجر ثم ينحنون أمامه تقديسا
[6] – لاحظ أن الاستمرار هكذا قد تخلـّص من التبعية إلى الجدل الخلاق للاثنين معا.
[7]- هذا هو روح ما يجرى فعلا فى “العلاج الجمعى” الذى نمارسه، وهو ما أعدت صياغته فى مواقع أخرى من منطلق حركية الوعى البينشخصى، ثم الجمعى، ثم الجماعى، إلى ما بعد ذلك 2017 www.rakhawy.net