“يوميا” الإنسان والتطور
17-4-2008
العدد: 230
قراءة فى أحلام فترة النقاهة
(حلم 49)، (حلم 50)
حلم 49
قصدت المبنى الأبيض الأنيق: فى صدر البهو جلست السيدة الجميلة، واجتمعنا إليها فراحت تتحدث عن شركة الإنتاج الفنى التى قررت إنشاءها. ورحبنا بالشركة وصاحبتها ومضى كل منا يدلى برأيه فى الإنتاج والعمل. ولم نختلف إلا حول الأجور. فقد كان رأيها أن يحدد الأجر تبعا للاتفاق معها. وكان رأيى الذى أيده البعض أن يحدد الأجر بنسبة ثابتة من تكاليف الفيلم أو المسرحية. وأجلت المناقشة إلى جلسة أخرى. وقلت لزملائى إن الأخذ برأيها يجعلنا تحت رحمتها وإن النسبة توضح الأمر وتغلق الباب أمام الانتهازية.
ودعتنا السيدة مع آخرين للعشاء. وبعد العشاء أقيمت حفلة موسيقية. وما ندرى إلا والسيدة تتجرد من ثيابها وترقص عارية وبصورة غاية فى الإثارة.
واستقر رأيى بصفة نهائية. قررت أن أبتعد عن الشركة وصاحبتها.
*****
القراءة
هذا حلم من الأحلام التى تصلنى فاترة – على ندرتها- وقد تعلمت من المشاركة، واحترام رؤية الآخر، (مثلما حدث بالنسبة لحلم40) ألا أتعجل فى إصدار مثل هذا الحكم فالفتور – كما اعترفت من قبل- قد يكون سببه المتلقى – أنا – بقدر ما قد يكون دليلا على حق المبدع أن تتراخى حدة إبداعه أحيانا.
وصلنى هذا الحلم باعتبار أنه قام بتعرية هذه السيدة اللعوب التى تستغل حاجة الناس للعمل والمشاركة والإنتاج، تستغل ذلك لصالحها المادى، دون اعتبار لا للفن ولا للعدل ولا للأخلاق، وهى تضرب عرض الحائط بأى رأى إلا رأيها، كما أنها قد تلجأ لكل الطرق لتحقيق مأربها، هذا النوع من رجال/نساء الأعمال لا يتورعون عن استعمال كل الوسائل لتحقيق أغراضهم، واتمام الصفقات سواء على موائد العشاء أو فى أماكن أخرى.
لم يصلنى التعرى هنا كنوع من الإغراء لتمرير الصفقة بشروطها، إذ لو كان الامر كذلك، لأخذتهم الواحد تلو الآخر سرا، كل بما يحتاجه حسب شخصيته، لكن أن تتجرد هذه السيدة تماما هكذا من ثيابها ثم ترقص عارية وبصورة غاية فى الإثارة ، فهذا تعرٍّ آخر، يحتاج لنظرة أعمق.
أما النهاية، فقد رجحتْ لى ذلك الانطباع الفاتر الأول أكثر ، هذا الانسحاب الهادئ احتجاجا أو بحساب المكسب والخسارة “قررت أن أبتعد عن الشركة وصاحبتها” ليس من طبيعة هذه الأحلام عامة، ولا هو من طبيعة أحلام فترة النقاهة خاصة، تُرى ماذا تبقى من آثار تلك “الإثارة” التى بلغت غايتها، وهو ينسحب، هل انسحب وهو أكثر إثارة، أو ربما تنقلب الاثارة إلى ثورة، وقد تحدث نقلة أكثر غموضا، وبالتالى أكثر تنشيطا وتحوَّلا، وحُلْماً، تترك لنا نهاية الحلم مفتوحة ينهيها كلٌّ منّا بما شاء… كيف شاء.
……….
……….
فجأة خطر لى أن المسألة كلها ليست صفقة فنية ولا اتفاقا ولا اختلافا على طريقة الأجور.
خطر لى ما كاد يصالحنى على الحلم، لكننى خفت من استسهال قراءته رمزاً خالصا.
خطر لى أن المبنى الأبيض ليس سوى البيت الأبيض،
وأن السيدة ليست إلا “أمريكا” (غير ممثلة فى كونداليزا رايس بالذات، فهى لا تصلح لهذا الحلم تحديدا)…
هنا يصبح التعرّى – بعد طرح مشروع الانتاج الفنى العوْلمى لأمْرَكَةِ الأتباع مقابل معونة ثابتة بعد الاتفاق معها- هو تبجح أمريكا دون حياء فى عرض وفرض شركتها الخاصة بشروطها الخاصة لإدارة شئون عموم البشر، ويحدد الأجر حسب الاتفاق معها بما يسمح لها بمواصلة نشاط فرقتها من خلال التحالفات الثنائية، وغيرها، ومن ثمَّ الغزو المسلح دون قرار دولى، وترويجها لمبدأ القتل الوقائى كحق مشروع للأقوى، ورفضها توقيع معاهدة كيوتو للحفاظ على البيئة، ووقاحتها فى فرض استثناء رجال قواتها المسلحة من المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائم الحرب… إلخ، كل ذلك هو نوع من التعرّى الفاضح، لامرأة قوية وفاجرة وظالمة ومتبجحة، تأبى إلا أن تكون هى صاحبة الرأى الأوحد وهى تعرض بضاعتها وتفرض شروطها التى لا تناقش.
الذى منعنى أن أتمادى فى هذه القراءة الثانية هو ما حدث من “رقص” عاِرِ غاية فى الإثارة، فتعرى أمريكا بما سبق ليس رقصا، ولا هو غاية فى الإثارة، وإنما هو وقاحة مقززة، غاية فى إثارة الاشمئزار والغثيان، قبل تفجير الثأر فالقتل القصاص، أو ما شابه.
ثُم إنى لم أستسغ طريقة الاحتجاج فى نهاية الحلم باللجوء إلى الابتعاد عن الشركة وصاحبتها، لم أرَ أنها الرد المناسب على مثل هذه الوقاحة القارحة، ولا حتى الرقص العارى المثير.
أدعوك –عزيزى القارئ- أن تعيد قراءة الحلم والنقد من جديد على هذا الأساس أيضا، أو أصلاً.
يا ليتك تفعل وتقول لى ، أى القراءتين وصلتك أقرب؟
أو لعل عندك قراءة ثالثة أو رابعة.
*****
حلم 50
كنت أتطلع إلى امرأة فاتنة تسير فى الطريق، فاقترب منى بجرأة وهمس فى أذنى انها تحت أمرى اذا أمرت. كان براق العينين منفرا ولكنى لم أصده. واتفقنا على مبلغ وأصر على أن يأخد نصفه مقدما فأعطيته النصف. وضرب لى موعدا ولكن عند اللقاء كان بمفرده واعتذر بتوعك المرأة وكان على أتم استعداد لرد المقدم ولكنى صدقته وأبقيته معه. وكان يقابلنى فى حلى وترحالى ويطالبنى بالصبر. وخشيت أن تسئ هذه المقابلات سمعتى فأخبرته أننى عدلت عن رغبتى ولن أسترد المقدم ولكن عليه ألا يقابلنى. ولم يعد يقابلنى ولكنه كان يلوح بها فى أكثر الأماكن التى أختلف إليها. وضقت به كما كرهته وقررت الانتقال إلى الاسكندرية. وفى محطة سيدى جابر رأيته واقفا وكأنه ينتظر.
*****
القراءة
الراوى الحالم هنا لا يتردد فى السماح للطبيعة الفجة بداخله أن تتوجه إلى ما تتوجه إليه، المرأة فاتنة ، وهو جاهز، لكن الأمور تتطور إلى شىء آخر، وسيط دخيل يقفز بينهما ليتمم الصفقة، انقلبت المسألة من نداء واحتمال استجابة إلى صفقة لها ثمن ومقدم ومؤخر، ومثل كل الصفقات: تَحتمل التلاعب والتأجيل والمغالطة وكل شىء،
نلاحظ أيضا أن الرجل ذو البريق المنفِّر فى عينيه، لا يعتذر بتوعكه هو، ولكن بتوعك المرأة، وأتصور أنه حين كان يزعم أنه كان على استعداد لرد المقدم لم يكن جادا، وأن صاحبنا حين صدقه لم يكن يصدقه فعلا، وأنه كان يتصور طول الوقت أنه يمكن أن يحصل على مطلبه بشكل ما ولو تأخر مهما تأخر، وحين طال الزمن لم يعد ثمَّ مفر من تبين الحقيقة والتراجع والتضحية بالمقدم، ظلَّ هذا المنفِّر يقابله (لا يلاحقه) فى حله وترحاله، ويطالبه بالصبر.
إحلال كلمة “المقابلة” اللصيقة فى الحل والترحال، محل “المتابعة” أو “الملاحقة” فى أحلام أخرى، جعلنى أميل أكثر إلى أن أقرأ هذا الوسيط الدخيل من الداخل.
يقفز لى (من الداخل) هذا التفسير جاهزا كلما لاحت لى تنويعات الملاحقة فى الإبداع والمرض على حد سواء، يحضرنى هذا التصور بشكل خاص حين أكتشف أن الملاحقة تتواصل حتى بدون سبب واضح ظاهر، أو حين نتابع الملاحقة وهى تظهر فى أماكن لا نتوقع فيها الملاحقة، أو حين تختلط الملاحقة بالمقابلة أو الهمس الخفى.
ثم إن المفروض أن الذى يلاحق هو صاحب الحاجة دافع المقدّم وليس العكس، إذن نحن هنا بإزاء تتبعٍّ غامضٍ أكثر منها ملاحقة كتلك التى ألمحنا إلى ضرورة العودة إليها فى الدراسة الشاملة (حلم 47).
هذا الآخر بداخلنا حين ينفصل عن حركية “الواحدية” ONENESS يظهر لنا فى المرض فى صورة أعراض معروفة هى بعض أعراض “شنايدر” من المرتبة الأولى[1]، أصوات تُعقِّّب، أصوات تُناقش (أحوال المريض)، أصوات تلاحق..الخ” هذا الداخل الآخر هو ذاتٌ ملاحِقة ملوّحة، متى انفصلت قبل التمادى فى التفسخ فإنها تمضى تعرى المسائل، وهى تظهر هنا مُسقطة فى صورة هذا القواّد المقزز، فهو يعلن أن الإعجاب بامرأة فاتنة هو عرض للمضاجعة، ثم هو يدفع صاحبه أن يتقدم لإتمام صفقة محددة المعالم، وهو يكشف أن العزوف عن تلك الرغبة ليست زهدا حقيقيا أو تغيرا فى الموقف وإنما هو يأس من تحقيق الصفقة، وهو يريد أن يتخلص من إلحاح الرغبة فى المرأة، وأيضا من تعرية نفسه أمام نفسه، بخبطة واحدة، فيتنازل عن المقدم، ويعلن العزوف، ليتخلص من هذا الانفصال المزعج للداخل، وما ترتب عليه.
هذا التفسير من داخل الذات يرجحه أيضا أن الحلم ينتهى بظهور الرجل فى محطة سيدى جابر وكأنه ينتظر
ينتظر ماذا؟
من هو المفروض أن ينتظر؟
هذا الذى دفع المقدم بدون مقابل؟ أم ذلك الذى كنا نتوقع أن يزوِّغ من صاحب الحق، خشية أن يقلبها جدا ويطلب المقدّم؟
لابد أن هذا الذى ينتظر إنما ينتظر شيئا آخر.
*****
من هنا نبدأ
………
……….
وبعد،
بعيدا عن الحلمين
حين لاحظت أننى قد وصلت إلى الحلم رقم (50) خطر لى ما يلى :
أن أقرر – دون استئذانكم – أن أتوقف عن قراءة الأحلام نقداً لفترة محدودة (قد تمتد غصبا عنى)،
أما أسباب هذا القرار فهى أننى اكتشفت أننى أحتاج لما يقرب من عامين من الآن لكى أنهى قراءة كل الأحلام بما فى ذلك مناقشة بعض ما يصلنى حولها ، (السنة 52 أسبوعا لا أكثر)، وأنا لست متأكدا- بداهة- إن كان ربى سوف يسمح لى بهذا الوقت أم لا، وفى نفس الوقت وجدت عندى مسودات نقد لأعمال محفوظ تحتاج للإنهاء، وهى ليست أقل أهمية، من بينها تكملة القراءة الجامعة للأصداء، وتكملة الوعود التى جاءت فى نهاية قراءتى البادئة فى ملحمة الحرافيش، ثم إعادة قراءة السراب، وكذلك قراءة ابن فطومة مقارنة بساحر الصحراء لكويهلو، وربما أهم من كل هذا تحديات قراءة حديث الصباح والمساء، بل وأهم من الأهم هى دراستى لحضرة المحترم، كل ذلك جاهز فعلا أو كالجاهز، فماذا أفعل ؟
هل أواصل قراءة الأحلام على حساب كل ذلك؟
أم أنتهى أولا من توصيل هذه التركة وفاء لصاحبها، لعلها تصل إلى اصحابها قبل أن أقضى؟
لا يقتصر الأمر على إشكالة الوقت، وإنما يمتد إلى تساؤل حول موقع النشر وطريقته، فهل تستوعب هذه النشرة اليومية- كما ألمحت سابقا- تلك الأعمال النقدية المطولة التى سوف أضطر إلى تقسيمها على حلقات اعتبارا بطبيعة مثل هذا النشر اليومى من جهة، ولصعوبة المتابعة من قارئ مزدحم من جهة أخرى؟
لا أعرف.
أنتظر آراءكم
ولا أعد أننى سوف آخذ بها (كما عودتكم)
[1] – Schneider’s First Rank Symptoms: Voices commenting voices arguing…etc.