الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قراءة فى أحلام فترة النقاهة (حلم 47)، (حلم 48)

قراءة فى أحلام فترة النقاهة (حلم 47)، (حلم 48)

“يوميا” الإنسان والتطور

10-4-2008

العدد: 223

قراءة فى أحلام فترة النقاهة

(حلم 47)، (حلم 48)

حلم‏ 47

فى ‏الطريق‏ ‏لعب‏ ‏أمامى ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏الصبية‏ ‏فشعرت‏ ‏أنهم‏ ‏يضمرون‏ ‏لى ‏السوء‏. ‏وعجبت‏ ‏لأنه‏ ‏لم‏ ‏يحصل‏ ‏بينى ‏وبينهم‏ ‏ما‏ ‏يدعو‏ ‏إلى ‏ذلك‏، ‏وسرت‏ ‏فى ‏حذر‏ ‏وأنا‏ ‏أتذكر‏ ‏بدهشة‏ ‏حالى ‏عندما‏ ‏كنت‏ ‏فى ‏سنهم‏.‏

ووجدت‏ ‏أمامى ‏محلا‏ ‏كبيرا‏ ‏يعد‏ ‏ليكون‏ ‏محلا‏ ‏لبيع‏ ‏الحلوى ‏كما‏ ‏فهمت‏ ‏من‏ ‏لافتته‏ ‏الكبيرة‏، ‏وكان‏ ‏العمل‏ ‏على ‏أشده‏ ‏فى ‏إعداده‏ ‏فاقتربت‏ ‏منهم‏ ‏وسألتهم‏ ‘‏هل‏ ‏ستقدمون‏ ‏ضمن‏ ‏الحلوى ‏بقلاوة‏ ‏وكنافة‏’ ‏وكف‏ ‏العمال‏ ‏عن‏ ‏العمل‏ ‏واتجهوا‏ ‏بأنظارهم‏ ‏نحوى ‏وعلى ‏حين‏ ‏قهقه‏ ‏الصبية‏ ‏وصفروا‏. ‏وجاء‏ ‏من‏ ‏أقصى ‏المحل‏ ‏رجل‏ ‏بدا‏ ‏أنه‏ ‏صاحبه‏ ‏وسأل‏ ‘‏هل‏ ‏حقا‏ ‏مازال‏ ‏يوجد‏ ‏أناس‏ ‏يحبون‏ ‏البقلاوة‏ ‏والكنافة؟‏’ ‏وسرت‏ ‏بين‏ ‏العمال‏ ‏همهمة‏ ‏وراح‏ ‏الصبية‏ ‏يرقصون‏ ‏ويصفرون‏ ‏ويكورون‏ ‏قبضات‏ ‏أيديهم‏ ‏فى ‏وجهى‏

****

القراءة

هل هو إعلان بموت الطفولة الحقيقية داخلنا وخارجنا؟ وأن ثَمَّ تخطيطا يجرى إعداده لطفولة أخرى، لها صفات أخرى وقوانين أخرى؟

لاحت ملامح هذه الطفولة الجديدة ساخرة قاسية،

محل الحلوى الذى لوّح بنوع آخر من الحلوى ليس جاهزا بعد، ولا هو أوحى بما يبين لنا أى حلوى سينتج أصلاً، لكن الراوى لا يعرف إلا طفولته “وأنا أتذكر بدهشة حالى عندما كنت فى سنهم”،

من الذى يحق له أن يستغرب فى هذا الموقف؟

العمال استغربوا لسؤاله حتى توقفوا عن العمل،

وبرغم سخرية الصبية منه منذ البداية حتى توجس شرا، إلا أنه مضى يتساءل عما يسأل عنه طفلٌ مُنذْ كان طفلا،

بديهى أن نسأل عن بعض أنواع الحلوى فى محل يعد لبيع الحلوى، وهل سوف يكون ضمن ما يبيع للأطفال خاصة، البقلاوة والكنافة، لكن بعد أن تغير الحال بدا أن الراوى حين سأل سؤاله هذا البسيط الساذج قد خرج عن المألوف،

هو قد أعلن بسؤاله هذا عن مدى بعده عما آل إليه الحال.

إن لم تكن البقلاوة والكنافة ضمن الحلوى التى يحبها الأطفال فما هو نوع الحلوى الذى يمكن أن يقدمها محل يعد لبيع الحلوى، لهذه الكائنات الجديدة الساخرة المتوعدة؟

كيف يسأل هذا الأبله عن “حلاوة” فى عالم لم يعد به حلاوة؟

بدلا من أن تكون الدهشه مما آل إليه الحال، ومن غموض الموقف، بدت أصلاً على صاحب المحل الذى راح يتساءل – متعجبا- عن أناس مازالوا يحبون البقلاوة والكنافة:

ماذا يمكن أن يحبه الناس الأطفال، أو أطفال الناس، إن كان عليهم أن يكفوا عن حب البقلاوة والكنافة،

هل يكتفون بالسخرية والقهقهة والتصفير وإضمار السوء للناس الطيبين الذين لم يبلغهم خبر ما آل إليه الحال؟

محلات الحلوى بلا حلوى! والعمال مغتربون إلا عن مواصلة الاغتراب!! ما هذا؟

غريب هو إذن!

هو بتلقائيته وبساطته بدا غريبا وهو مازال يتصور أنه يمكنه أن يحافظ على طفولته الحقيقية.

يبدأ الحلم وهو يستشعر أن الصبية يضمرون له السوء،

وينتهى وهم يرقصون ويكورون قبضات أيديهم فى وجهه،

ما هى تهمته بالضبط؟

أنه احتفظ بطفولته؟

أنه لم يعلم بما آل إليه الحال؟

أنه مازال يأمل ويرجو؟

*****

حلم‏ 48

أقبلت‏ ‏فوجدت‏ ‏فى ‏الحجرة‏ ‏الحرافيش،‏ ‏وسألت‏ ‏عن‏ ‏الغائب‏ ‏الوحيد‏ ‏فقالوا‏ ‏إنهم‏ ‏أرسلوا‏ ‏إلى ‏الموسيقار‏ ‏سيد‏ ‏درويش‏ ‏فى ‏طلب‏ ‏فرقة‏ ‏البالية‏ ‏الجديدة‏ ‏ولا‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏فسد‏ ‏الجو‏ ‏بينى ‏وبينهم‏ ‏وتجهمت‏ ‏وجوههم‏ ‏جميعا‏، ‏وهممت‏ ‏بمغادرة‏ ‏المكان،‏ ‏ولكن‏ ‏فرقة‏ ‏البالية‏ ‏وصلت‏ ‏وفى ‏الحال‏ ‏عزفت‏ ‏الموسيقى ‏ودار‏ ‏الرقص‏ ‏وخفت‏ ‏التوتر‏ ‏بيننا،‏ ‏واندمجنا‏ ‏فى ‏الرقص‏ ‏والنغم،‏ ‏بل‏ ‏وصفت‏ ‏القلوب‏ ‏وانهالت‏ ‏علينا‏ ‏النشوات‏ ‏وغمرنا‏ ‏الحب‏ ‏والمودة‏.‏

وإذا‏ ‏بنا‏ ‏ننضم‏ ‏إلى ‏فريق‏ ‏الراقصين‏ ‏والراقصات‏ ‏ونشارك‏ ‏فى ‏الأناشيد‏ ‏والأغانى ‏وتعاهدنا‏ ‏دون‏ ‏كلام‏ ‏على ‏أن‏ ‏نؤرخ‏ ‏تلك‏ ‏الليلة‏.‏

****

القراءة

هاهم الحرافيش يظهرون، وبالاسم، مرة أخرى

حين التحقت بالحرافيش احتياطيا فى الوقت بدل الضائع، كنت ألاحظ تكرار الحديث عن ذلك الغائب من الحرافيش التاريخيين الحقيقيين بشكل متواتر، حتى بعض الحرافيش المتبقين كانوا يحضرون كالغائبين، اقتصر الحرافيشُ الذين لحقت بهم بعد انتهاء “الزمن الأصلى” على توفيق صالح وشخصى وشيخنا لبضعة سنوات، كان أحمد مظهر يحضر بالكاد، وبمحاولات متكررة منى، منّا، وتحايلات متنوعة، فى حين كان جميل شفيق يحضر كالضيف أحيانا حين يجد الوقت، أما بهجت عثمان فقد كان حضوره مفاجأة لا يمكن الاعتماد على تواترها، الغائب الحاضر طول الوقت جدا كان محمد عفيفى “وأنا لم أره فى حياتى برغم فضل كتابته علىّ فى مطلع شبابى”، أما عادل  كامل، فقد  جعلوا يحكون عنه أمامى بحب وشوق، حتى أحضرته الذاكرة إلينا من أمريكا ذات يوم لمدة اسبوعين، وفوجئت أنه هو هو الذى صوره لى الحرافيش القدامى من فرط دقة وصدق الحكى عنه ومدى حبهم له.

قلت أكثر من مرة – فى مواقع أخرى- أن الحرافيش الحقيقيين (وأنا لست منهم) لن يعرف عنهم التاريخ شيئا حقيقيا، ليس لأن هناك ما ينبغى أن يخفى أو لا يصح التصريح به (أو لعل بعض الأمر كذلك)، ولكن لأن ما سمعته عنهم من بعضهم، هو غير قابل للتسجيل أصلا، فأضافت هذه الحقيقة إلى حذرى من تصديق التاريخ عموما، وهو ما يدعم شكى مهما بلغت دقة النقل وشرف الأمانة وحسن النية.

بدأ هذا الحلم وثمَّ حرفوشُ غائب، الراوى هو الذى افتقده دونهم، ومع أنهم أرسلوا لسيد درويش، فلم يكن هذا يعنى أنه الحرفوش الغائب، فهم قد أرسلوا إليه فى ‏طلب‏ ‏فرقة‏ ‏الباليه، لم يكن سيد درويش من الحرافيش طبعا، لماذا يظهر سيد درويش وكأنه متعهد فرقة الباليه الجديدة؟ ولماذا يكون رد الفعل لسؤال الراوى هكذا؟،

رسالتهم هذه إلى سيد درويش، كانت سببا فى فساد الجو بينه وبينهم.

الاختلاف وارد فى ثلة الحرافيش الحقيقيين – على قدر ما بلغنى وعايشتُ- وإلا فهم ليسوا حرافيش ولا بشر ولا أصدقاء، صحبة بدون خلاف ليست هى.

 الخلاف هنا له احتمالات عدة: اختلاف فى انفراد أحدهم برأى يخالف كل الآخرين، وهذا وارد، والتفاعل له بالنفى وارد أيضا، وهو ليس أسوأ من الموافقة المجاملة،

الاختلاف حول إدخال حرفوش جديد ليس بحرفوش وارد أيضا،

أذكر حين دعانى شيخى لأول مرة فى أوائل سنة 1995 للانضمام إليه هو وتوفيق صالح، (جماعة الحرافيش لا تصلح بأقل من ثلاثة) أن أبلغنى حصوله على موافقة توفيق لانضمامى، لكننى اعتذرت لأسابيع لحين أتأكد من الموافقة النهائية، وذلك تحسبا واحتراما لطقوس الدخول إلى هذه الصفوة الخاصة جدا، التى لا أعرف عنها شيئا، وحين صرت عضوا فيما تبقى من وقت المباراة عرفت بالممارسة الطقوس والشروط الواجب احترامها طول الوقت (اهتزت هذه الطقوس كثيرا ومرارا فى السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت الحرافيش ليست حرافيشا – تقريبا)

المهم أين يقع سيد درويش من كل هذا؟ وما حكاية فرقة الباليه الجديدة؟

‏ثم كيف خف ‏التوتر‏ وصفت‏ ‏القلوب  بينهم بعد أن عزفت‏ ‏الموسيقى‏ ‏واندمجوا هم أيضا فى الرقص و‏النغم‏ ‏حتى انهالت عليهم‏ ‏النشوات‏ ‏وغمرهم‏ ‏الحب‏ ‏وسادت المودة‏؟

ثم لماذا الباليه الجديد (أو الفرقة الجديدة)، وليس الباليه فقط؟

التوفيق (بل الجدل) بين ما يمثله سيد درويش، وما يمثله فن الباليه الذى ليس له علاقة مباشرة بسيد درويش هو وارد، بل لعله هو الذى غاب عن كثير من الحرافيش (ليس بالضرورة هؤلاء الحرافيش)

 رفضُ الجديد والحذر منه واردُ أيضا وتماما من الأغلبية، ومن يجرؤ أن يقترح غير ذلك فعليه أن يتحمل ما يقابَلُ به من رفض وتوجس، لكن حين يثبت بالتجربة والممارسة أن الجديد هو إضافة أصيلة، وأنه لا يكون إبداعاً فائقا  إلا إن كان ناتج جدل خلاق مع قديم أصيل، حين يثبت ذلك نتيقن أن استيعابنا للحر القديم هو الطريق إلى تواصل الإبداع والنمو باضطراد.

 لاحظ التعبير “أرسلوا‏ ‏إلى ‏الموسيقار سيد‏ ‏درويش‏ ‏فى ‏طلب‏ ‏فرقة‏ ‏”الباليه ‏الجديدة‏” فهو لم يقل سيد درويش دون صفة الموسيقار مما يؤكد استبعاده من أنه أحد الحرافيش، فهم لا يسمون بعضهم بألقابهم أو مهنتهم أبدا (تقريبا)، ولا حتى لفظ الموسيقار هنا يؤكد أن سيد درويش يُستدعى بصفته موسيقارا، وياليت الأمر كان كذلك فحسب، لكنه استدعى بصفته موسيقارا مهمته أن يستدعى فرقة الباليه، وهى ليست أية فرقة، لكنها فرقة الباليه الجديدة، لفظ “الجديدة” هنا – كما أشرت، هو أيضا وصلنى بدلالة خاصة.

إن الحرفوش (الراوى) الذى لاحظ ما ينقص هذه الثّلة التى تكاد تنغلق اكتفاءً بذاتها وتقليديتها وذكرياتها، هو الذى أعلن غياب أحدهم، شخص ما، (أو شىء ما). إنهم حين اقترحوا أن سيد درويش وهو موسيقار قديم رائع هو الذى يستدعى الفرقة الجديدة التى قد تقدم إبداعا آخر كانوا كمن يختبر احتمال تعويض ما ينقصهم، شريطة ألا يكون على حساب القديم، ولا مانع أن يرقصوا مع فرقة الباليه الجديدة على أنغام ما تطوّر من سيد درويش.

المرة الوحيدة التى شاهدت فيها ما يسمى “الباليه الحديث” كانت فى باريس، سنة 1969، وقد فزعت منه مثل أى مبتدئ يقرأ قصيدة نثر لأول مرة، هو شىء آخر غير الباليه التقليدى الذى تتدرب عليه – حتى الآن – حفيداتى، اندماج الحرافيش مع الراقصين فى هذا الباليه الجديد، له دلالته لمن يستلهم معنى لفظ “الجديد” هنا.

 حين يتم مثل هذا التآلف “معا” وتصدح الانغام وتتحرك الأجساد راقصة ليضم الجديد القديم، ثم يشترك المشاهدون مع الفرقة فالسماح، تكون النتيجة الطبيعية أن يصبحوا جزءًا متناعما فى لحن حركية الوجود معاً، ومن ثم: تنهال عليهم ‏النشوات‏ ‏ويغمرهم ‏ ‏الحب‏ ‏وتفيض بهم المودة‏،

 لم يتم ذلك بهذا الجمال “معاً” إلا بعد أن وصلت إلى مستوى ما من وعيهم دلالة كل ذلك بعمقه الممتد إلى كل المجالات حتى جعلوا هذه الليلة علامة يؤرخ بها (وكأنها بداية أخرى للتاريخ..!!)

‏وتعاهدنا‏ ‏دون‏ ‏كلام‏ ‏على ‏أن‏ ‏نؤرخ‏ ‏تلك‏ ‏الليلة‏.‏

لماذا دون كلام؟

لأن ما حدث هكذا بكل دلالاته هو أقوى وأطول عمرا وأقدر على اختبارات الزمن، من الكلمات والتسجيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *