“يوميا” الإنسان والتطور
13-12-2007
العدد: 104
قبل قراءة الأحلام:
أول أمس كان يوم مولده، 11 ديسمبر 1911، ذهبت بدعوة من د. زكى سالم إلى فرح بوت، قابلت صديقين عزيزين حسن ناصر ونعيم صبرى، ياه!! بالإضافة إلى الداعى ومحبيين أفاضل أوفياء،
لم أكن قد ذهبت لأعوام حتى قبل رحليه (إن كان قد رحل)، قررت أن ألحق بقراءة هذه الأحلام القصيدة التى كتبتها فى عيد ميلاده الثانى والتسعين وكذلك قصيدة رثائه أيضا، حتى لو كنت قد نشرتها عشر مرات.
بل إننى إذا أعطانا الله العمر،
أريد أن أعترف أننى كلما قرأتهما حسبت أنى أقرأهما لأول مرة، وأننى لست الشخص الذى كتبهما.
****
قراءة فى أحلام فترة النقاهة
الحلم (15)
بهو رُصّت على جوانبه المكاتب .. إنه مصلحة حكومية أو مؤسسة تجارية والموظفون بين السكون وراء مكاتبهم أو الحركة بين المكاتب.
وهم خليط من الجنسين والتعاون فى العمل واضح والغزل الخفيف غير خاف. وأنا فيما بدا من الموظفين الجدد ومرتبى على قد حاله وشعورى بذلك عميق، ولكنه لم يمنعنى من طلب يد فتاة جميلة وهى كموظفة أقدم وأعلى. والحق أنها شكرتنى ولكنها اعتذرت عن عدم الاستجابة لطلبى قائلة:
- لا نملك ما يهيئ لنا حياة سعيدة
وتلقيت بذلك طعنة نفذت إلى صميم وجدانى.
ومن يومها تحسبت مفاتحة أى زميلة فى هذا الشأن على الرغم من إعجابى بأكثر من واحدة. وعانيت مر المعاناة من العزلة والكآبة.. وألحقت بالخدمة فتاة جديدة فوجدت نفسى فى مكانة أعلى لأول مرة. فأنا مراجع وهى كاتبة على الآلة الكاتبة. ومرتبى ضعف مرتبها إلا أنها لم تكن جميلة بل الأدهى من ذلك أنى سمعت همسا يدور حول سلوكها، وبدافع من اليأس قررت الخروج من عزلتى فداعبتها فإذا بها تداعبنى ومن شدة فرحى فقدت وعيى وطلبت يدها، وقالت لى:
- آسفة!
فلم أصدق أذنى وقلت وأنا أتهاوى
- مرتبى لا بأس به بالإضافة إلى مرتبك
فقالت بجدية:
- المال لا يهمني
وهممت أن أسالها عما يهمها حقا ولكنها ذهبت قبل أن أنطق.
****
القراءة
هذا الشعور الأساسى فى الوجود، أن تكون مقبولا، أن تريدك “أنت” أخرى،
أن تسمح لك أن تكون رجلها،
هذا هو صك الاعتراف بوجودك من عدمه،
دع كل ما بعد ذلك جانبا:
البدء أن تكون مقبولا، مرغوبا فيك.
منعت نفسى أن أسمح “لعثمان بيومى” (حضرة المحترم) أن يتسحب إلى قراءتى لهذا الحلم، الفروق بلا حصر، لكن هناك ما أحضر عثمان إلى الساحة، فطردتُه،
القبول اعترافٌ بوجودك، تخليقٌ لك، يأتى بعد ذلك الحب أو الجنس أو الزواج على أرضية هذا القبول،
يبدأ الإعتراف بك من قِبلَ “الأم”، وقد ينتهى به، وقد يتطور منه،
الواضح فى هذا الحلم أن المرأة هى السيد، هى التى بيدها القبول والرفض،
الأم هى أول من يُنْتدب للموافقة على حضور ابنها إلى هذا العالم،
ومع أنها هى التى سمحت لطفلها أن يغادرها، أن يخرج منها، لينطلق إلى العالَمْ حيث ينتظره غيرها منهم ومنهن، إلا أن موافقتها بقبول وجوده خارجها معها، ثم خارجها بعيدا عنها، هى خطوة لا غنى عنها.
دعَ جانبا دور الرجل – فيما بعد – فهو دور خادع مخادع إذ يتصور أن الأمر بيده لمجرد أنه – غالبا – هو الذى يتقدم بالطلب
الأهم هو: “من التى تقبل”؟ وهل تقبل؟
…………
المسرح فى الحلم تقليدى هادئ هامس: العمل نمطى رتيب، بلا حركة حقيقية، العقول ساكنة وراء المكاتب، أما الحركة فتبدو حركة “سيرا فى المحل”: بين المكاتب.
وبرغم ذلك فالرسائل الخفيفة تتبادل بين الجنسين: فواتح كلام، أو لتزجية الوقت .
الراوى يحسبها بالقلم والمسطرة هى: “موظفة” أقدم وأعلى (نستنتج نحن أنها أكبر سناً)، لكنه يُقْدم، فترد عليه بالقلم والمسطرة أيضا: “لانملك” ما “يهيئ” لنا حياة “سعيدة”
فمن أين الطعنة، وفى صميم الوجدان؟
المتقدم مطمئن للنتيجة، وهو يعرف موقعه منها، فهى أقدم ليس فقط وظيفيا، وإنما، ربما، اجتماعيا، كما بلغنى من بقية الحلم، وربما من كلمة “أعلى”، فالرفض وارد، والأسباب موضوعية واضحة، فلماذا ينتهى المشهد بالطعن، وفى صميم الوجدان؟ (الوجود!)
الطعنة تأتى من عمق رسالة “الرد”، وليس من مجرد الرفض: إنه غير مرغوب، فيه غير مقبول = غير موجود!! وكأنها بهذا الرفض قد انتزعت هوية وجوده من جذورها.
…………
ها هو يعيد حساباته ليتجنب كل أسباب الرفض الظاهرة السابقة، دون الغوص إلى الأسباب الحقيقية، (مع أنه يعرفها، غالبا، لا شعوريا على الأقل)،
الفتاة الثانية تبدو نقيض الأولى، هو يتغاضى عن كل شئ حتى يتجنب الرفض، جمال متوسط، درجة وظيفتها أدنى، تعيينها أحدث، ثم ماذا يهمه عن الهمس حول سلوكها.
التقدم هذه المرة كان بدافع اليأس، اليأس من ماذا؟ اليأس من جدوى الانسحاب النهائى إلى قوقعته، اليأس من التنازل عن حقه فى الوجود.
ها هويكسر قوقعته، يخرج من عزلته مرة أخرى، ويبدأ بالمداعبة، (وليس مباشرة بطلب يدها)، فتستجيب (فإذا بها تداعبنى)، إذن فثم قبولُ مبدئى،
ما لاح من قبول مبدئى هذه المرة يجعل الطعنة أقسى، حتى بعد أن “جاء على نفسه” جوابها جاء ببساطة أنها “آسفة”،
الرفض فى المرة الأولى، كانت أسبابه ظاهرة وعملية، كما قلنا
الرفض هذه المرة هو رفض آخر، أقسى وأمرّ، هو رفض له شخصيا، رفض له رجلاً ، هل كان رد المداعبة ترضية خاطر؟ أو موافقة موقوته مرتبطة بالهمس حول سلوكها؟ ربما؟
أما أَنْ تقبله رجلها، الآن، ثم دائماً؟ فهذا أمر آخر .
الطعنة هذه المرة فى الصميم، فى بؤرة وجوده تماما.
ما أن لاح له احتمال أنه مرغوب فيه (فإذا بها تداعبنى) حتى فقد وعيه
وفى غمرة نشوة احتمال القبول إذا بالصفعة تصقعه أنه “ليس هو الذى …”، ليس أنت.
“لستَ أنت!
أنت لست مرغوبا فيك من أصله”.
ما الذى ينقصه ليكون مرغوبا فيه؟
ماذا فعل حتى لا تعترف الواحدة تلو الأخرى بوجوده؟
ماذا عليه أن يفعل.
هل اعترفت به أمّه أصلا؟
هل اعترف به أحد؟
هل اعترف هو بنفسه، لنفسه؟
هل كان عليه أن يعدل من البداية عن المحاولة الأولى؟
هل كان مطلوب منه ألا يتنازل عن نقائص الثانية وما شاع عنها؟
هل كان عليه أن يحجم عن أية محاولة من الأساس؟
هل كان عليه ألا يصدق أنها بادلته المداعبة؟ إلا من باب المجالة، أو استجابة موقوتة متسقة مع الهمس حول سلوكها.
المال لا يهمها.
ما الذى يهمها؟
ما الذى يهم؟
هل يعود إلى قوقعته؟
إلى كهفه؟
لكن بالله عليكم: ماذا يغرينى فى جوف الكهف،
وصقيع الوحدة يعنى الموت؟
لكن الموت الواحد: … أمر حتمى ومقدر،
أما فى بستان الحب،
فالخطر الأكبر
أن تنسونى فى الظل،
ألا يغمرنى دفء الشمس
أو يأكل برعم روحى دود الخوف.
فتموت الوردة فى الكفن الأخضر،
لم تتفتح
والشمس تعانق من حولى كل الأزهار،
هذا موت أبشع،
لا..
لا تقتربوا أكثر،
جلدى بالمقلوب
والقوقعةُ المسحورة
تحمينى منكم
(هذا الجزء الأخير هو من ديوانى “سر اللعبة” 1973)
وهو يدور حول مثل هذا الموقف بشكلٍ ما!
****
الحلم (16)
هنأنى الطبيب المساعد على نجاح العملية .. عقب إفاقتى من التخدير أشعر بارتياح عميق وبسعادة النجاة الصافية. دخلت الحجرة فجاءت الممرضة بكرسى وجلست مقتربة برأسها من رأسى. تأملتنى مليا ثم قالت لى بهدوء شديد:
طالما كانت أمنيتى أن أراك راقدا بلا حول ولا قوة!
قالت باحتقار وحقد
- جاء وقت الانتقام
وقامت وغادرت الحجرة تاركة إياى فى دوامة من الحيرة والقلق والخوف، كيف تتصور تلك المرأة أننى أسأت إليها على حين أننى أراها لأول مرة فى حياتى، وجاء الطبيب الجراح ليلقى على نظرة فتشبثت به قائلا:
- أدركنى يا دكتور فإن حياتى فى خطر!
فأصغى إلى وأنا أقص عليه ما جرى. وأمر بعرض الممرضات المكلفات بالخدمة فى العنبر على ولكنى لم أعثر على الممرضة بينهن
وغادرنى الدكتور وهو يقول:
- ‘أنت هنا فى كامل الرعاية’
ولكن صورة الممرضة لم تفارقنى
ولم تغب عنى الوساوس.
وكل من دخل الحجرة نظر إلىّ بغرابة كأننى أصبحت موضع تساؤل وشك. وتراءى أمام عينى طريق طويل ملئ بالمتاعب.
****
القراءة
أهى عملية قيصرية؟
ليس تماما،
لكنها الولادة.
لا مفر هنا من استطراد لعرض موجز للأسس المبدئية لنظرية العلاقة بالموضوعObject Relation Therapy (المدرسة التحليلية الإنجليزية، ما بعد فرويد – ميلانى كلاين – فيربيرن-جانترب)، مع التحذير المبدئى من أن نقرأ كلمات بارنوى Paranoid، أو اكتئابى depressive، أو شبه فصامى schizoid (شيزيدى) على أنها تشير إلى، أو تدل على، أية أمراض، إنها الألفاظ التى ارتضت هذه المدرسة أن تستعملها لوصف مراحل النمو العادية عند كل البشر.
نجيب محفوظ لم يقرأ التطورات الأحدث فالأحدث فى التحليل النفسى والمدارس النفسية، وهذا أفضل، هو يكتشفها أعمق وأروع، ويعلمنا ماهيتنا متأصلة انطلاقا من إبداعه (أبعد من ديستويفسكى لأسباب ربما أذكرها فيما بعد).
أعرف عنه احترامه لفرويد، وقد شاهدت تأثير فرويد فى بعض كتاباته هنا وهناك، واعترضت على المباشرة والرمزية فى بعضها، ومع أنه (نجيب محفوظ) غاص إلى ما غاص إليه كارل يونج، إلا أنى رصدته قد غاص بحدسه على حسابه دون تأثر مباشر بيونج، مع أنهما وصلا – تقريبا – إلى ذات القاع، مثلا فى (ليالى ألف ليلة لمحفوظ).
– حين أصدرنا أول عدد من مجلة الإنسان والتطور أرسلنا إلى كل من وثقنا فى رأيه نطلب توجيها ونقدا، لم يرد علينا سوى أربعة كان نجيب محفوظ أحدهم، جاء فى رد نجيب محفوظ ما يلى:
السيد الاستاذ / رئيس التحرير
تحية طيبة وبعد
فقد اطلعت على مجلتكم فكانت سبيلى – مشكورة – إلى تصور جديد لعلم النفس يماشى تطلع الإنسان المنهك المعاصر إلى التوازن والقيم والإيمان, وثق من أننى أتمنى لها الاستمرار والنجاح, وكانت أول نتيجة لاطلاعى عليها الاسراع فى اقتناء أحد مراجعها المتاحه وهى: علم النفس الانساني
ولا أشك فى أنها تحوى جديدا
كما أعتبرها مجلة علمية ثقافية
كما أعتبرها نفحة حياة طيبة فى الركود الخانق
وفقكم الله ودمتم للمخلص
نجيب محفوظ
24/1/1980
هكذا كانت روعة متابعته وتشجيعه لكل جديد فى علم النفس وغيره، هكذا كا تشجيعه لكل محاولة جديدة، ولم أكن أعرفه آنذاك إلا قارئا عاديا لأعماله!! ولو كان عرف عن مدرسة العلاقة بالموضوع التى أقدمها الآن لكان أحاط بها أحسن منى.
هذه المدرسة التى أقدمها حاليا ترتب مراحل النمو العادى تدرّجا من مرحلة إلى مرحلة، تسمى كل مرحلة “موقفا“، وهى ترجع هذه المواقف إلى علاقة الطفل بأمه،
1- نبدأ بالطفل فى بطن أمه وعقب الولادة مباشرة حيث ليس له علاقة بأى آخر كموضوع أصلا، وتسمى هذه المرحلة الموقف الشيزيدى Schizoid position [1]
2- ثم بعد الولادة بقليل جدا يبدأ الطفل التعرف على الموضوع (بدءا بأمه) حيث يغلب التوجس والحذر، ويكون أسلوبه فى التعامل مع أى آخر هو “الكر والفر” باعتبار الموضوع هو مصدر خطر فقط، إنه العدو الذى يهدِّدْه وجوده، وعليه أن يدافع عن نفسه تجاهه، وأن يتقى شره، وتسمى هذه المرحلة الموقف البارنوى paranoid
3- ثم يأتى الموقف الثالث حين يتبين الطفل أن الموضوع الذى كان يعتبره الطفل خطرا هو هو مصدر الحياة (الرضاعة) والدفء (الحضن) والحنان (العلاقة)، لكنه فى نفس الوقت هو مصدر خطر أيضا، لكنه خطر من نوع آخر، الخطر فى هذا الموقف الثالث يأتى من التهديد بالهجر، ومن ثم الموت جوعاً وضياعاً.
إذا تهدد الطفل من مصدر الحياة الأساسى بأن ثم احتمال للترك أو الهجر فإنه يستعد للانقضاض عليه للاحتفاظ به، فيخاف عليه، ويتقدم إليه، ويحتاجه، ويرفضه، ويكرر ذلك، وهذا هو ألم الاكتئاب الدافع للنضج إذا استمرت مسيرة النمو فى الاتجاه الصحيح.
“الموضوع“ هنا فى الموقف الاكتئابى حقيقى، وبعيد، وقريب، وفى المتناول، ويهدد بالاختفاء فى نفس الوقت، ذلك لأنه موضوع مُحبّ وخطر فى آن واحد.
……
أعرف أننى أطلت، لكننى شعرت أن تقديم هذه المدرسة، ولو بهذا الإيجاز، هو ضرورة مبدئية ونحن بعد فى حلم 16، ذلك لأن أسس هذه المدرسة هى محور فكرى النظرى، والتطبيبى والنقدى أحيانا،
فمثلا كانت هى الأساس الجوهرى فى نقدى لكل من يقين العطش لأدوار الخراط ، واسم آخر للظل.
الحلم
تدخل الآن إلى قراءة هذا الحلم (16)
يبدأ الحلم بإخطارنا أننا فى الموقف الشيزيدى الحالم الناعم تحديدا، قرأت ذلك باعتباره أننا فى مرحلة قبل ظهور الوعى الذاتى، نحن داخل الرحم حيث لا موضوع، يمتد هذا الوضع إلى ما بعد الخروج من الرحم مباشرة، لم أستنتج ذلك من بداية الحلم فقط، وإنما من فقرة فى أصداء السيرة الذاتية.
نتوقف هنا لنقرأ بعض فقرة “99” فى الأصداء
…. تحية للعمر الطويل الذى أمضيته فى الأمان والغبطة. تحية لمتعة الحياة فى بحر الحنان”.
من خواطر جنين فى نهاية شهره التاسع
هنا فى هذا الحلم يمتد “بحر الحنان” بما يمثله “التخدير” إلى ما بعد الولادة (العملية)، الفرق هو ان هذا التخدير يحقق ما أسماه هنا “ارتياح عميق وسعادة النجاة الصافية“ هذه هى الجنة قبل الوعى بالوعى، ومواجهة الآخر الموضوعى.
يشير الحلم هنا تحديدا إلى امتداد هذا الموقف إلى ما بعد الولادة (غير الأصداء)، وهو الموقف الشيزيدى الذى يمتد فعلا أياما او أسابيع بعد الوضع.
ينقلنا الحلم بعد ذك مباشرة إلى الموقف التالى:
تظهر الممرضة وتقترب مثلما يقترب وجه الأم من الطفل،
أول عاطفة يشعر بها الطفل تسمى البَهرْ Orientation حين تقع عيناه على أول وجه آدمى (وجه أمه عادة)،
بمجرد أن يتبين العقل أن ثمّ آخر – بعد دهشة البهر- يتحقق من أن هذا الكيان الآخر هو غير كيانه “لا أنا” “” not me موجود فى الدنيا، فى العالم، فنجد أنفسنا فى الموقف البارنوى يعيش الطفل موقف المطاردة والكر والفر والاتهام دون جريرة.
إعلان نية هذا الآخر فى الانتقام هو مجرد شكل من أشكال توضيح أن الآخر عدو بلا أدنى شك، وأن الثأر قديم قدم الخروج من الجنة (الرحم).
المهم هو أن هذا الموقف البارنوى يعلن أن كل من هو “ليس أنا” هو خطر علىّ.
استقبالنا التخدير هنا على أنه مرحلة ما قبل الوعى، يجعل الاستنقاذ بالطبيب (أدركنى يا دكتور فإن حياتى فى خطر) بمثابة إعلان للرغبة فى التنازل عن الوعى البازغ، بمعنى أنه إعلان الرغبة فى العودة إلى المرحلة السابقة (التخدير- الرحم) وهذا من آليات النمو فيما يسمى برنامج الدخول والخروج: in – and – out program (مما يحتاج لتفصيل لاحق).
التطمين الذى منحه الطبيب (لم يذكر هنا المساعد) قد يكون إعلانا لبداية النقلة إلى الموقف الإكتئابى حين يصبح الآخر مصدرا للطمأنية، لكن دون ضمان طمأنينه دائمة، وهذا ما يشير إليه استنقاذ الكيان المهدَّدْ بالجانب الحانى واهب الحياة الجراح الكبير، لكن فى نفس الوقت مع الوعى بالمخاطر بنفس الدرجة.
من هذا يمكن أن نلمح بزوغ مرحلة الانتقال إلى الموقف الاكتئابى (لم يظهر بعد)
اختفاء وجه الممرضة الخطرة، واستبداله بممرضات عاديات مكلفات بالخدمة، قد يشير إلى أن الخطر ليس واقعا بقدر ما هو “مصنوع” انطلاقا من الموقف البارنوى.
هكذا أصبحنا فى بداية الطريق الطويل الملئ بالمتاعب،
هى رحلة الحياة بكل ما بها، وما تطلبه وما تعد به.
عودة مرة أخرى إلى نفس الصدى فقرة (99) لنتأكد من القراءة، نسمعه وهو يقول:
…. دع عنك ترهات الإنتقال إلى حياة أخرى، كيف ولماذا وأى حكمة تبرر وجودها، أما المعقول حقا فهو ما يحزن له قلبى.
(من ذكريات جنين فى الشهر التاسع)
****
الأهرام: 15/12/2003
فى عيد ميلاده الـ “92”
صالحتنى شيخى على نفسى ..
… ما عاد رسم الحرف يقدُر أن يحيطَ ببعضِ ما يوحيهِ لى، فى عيد مولدك الجميلْ، فجر جديدْ.
فى كل عام أحمـد الله الكريم وأرتجيه يكون ‘يومى قبل يومك’، وأعود أكتشف الحقيقة أننى لم أصدق الله الدعاء. طمعاً بأن نبقى معاًً عاماً فعـاماَ.
…. كم أنت سهـلُ معجزُ تسرى كمثلِ الماءِ إذْ ينساب عذباً رائقاً بين الصخوِر من الجليد وقد تربَّع شامخا فوق الجبل.
****
… زعموا بأنِّى قادر أشفى النفوسَ بما تيسر من علومٍ أو كلامٍ أو صناعةْ
عفواً، ومن ذا يشفِى نفسِى حين تختلطُ الرؤى، أو يحتوينى ذلك الحزن الصديق فلا أطيق؟
حتى لقيتــكَ سيدى، فوضعت طفلى فى رحابك. طفلُ عنيد. مازالُ يدْهش كلَّ يومٍ من جديدْ.
صالحتـنى شيخى على نفسى حتى صرت أقرب ما أكون إليه فينـا،
صالحتـنى شيخى على ناسي، وكنت أشك فى بــله الجماعة يخْدعون لغير ما هـم.
صالحتـنى شيخى على حريتى، فجزعت أكثر أن أضيع بظل غيري.
صالحتنى شيخى على أيامنا المرَّة مهما كان منها.
علمتنى شيخى بأنا قد خُـلقْنا للحلاوِة والمرارة نحمل الوعْىَ الثقيلَ نكونـه كدحا إليه.
****
وسألته يوما:”هل ثم حلَّ فى الأفق”؟
فأجاب يحفز هـمـتى: ”كلا”.
فسألته جزعا: لماذا ؟
قال: “صاحبـنا تصور أنه صار المسيح المنــتـظـر.”
قلت : “الصليب نهايتــه..”؟
فأجاب وهو يكاد يقرص بعض أذنى: ‘لسنـا يهـوذا’. …. وهو ليس المنتظــر.
****
من وحى أحلام النقاهة- سيدى- نشطت خلايا داخلى:
” فحلـمـتُ أنِّى حامـلُ، وسمعت دقــا حانيا وكأنه وعْدُ الجنينْ.
جاء المخاضُُ ولم يكنْ أبدا عسيرا، وفرحت أنى صرت أما طيبة،
لكننى قد كنتُ أيضاًً ذلك الطفل الوليدْْ،
فلقفت ثدى أمومتى،
وسمعت ضحكا خافتا. لا،.. ليس سخرية ولكن.…..
…. وسمعتُُ صوتاً واثقا فى عمق أعماقى يقول: ‘المستحيل هو النبيل الممكن الآن بنـا’.
لمست عباءتــك الرقيقة جانبا من بعض وعيي، فـعـلـمـت أنـــك كـنـتـه’.
وصحوت أندم أننى قد كنت أحلم.
****
شيخى الجليل:
سامح مريدك إذ تتطاول فاستباح القولُ دون البوِح يشطحُ تحت ظلِّ سحابة الغفرانِ والصفح الجميلْ.
****
نشرت فى الدستور
6-9-2006
لِمَ قُـلتَها شيخِى: “كَفى” !!
ماذا جرى؟
كيف جرى؟
قد كنتَ فينا رائحاً أو غادياً تخطو بنا نحو الذى قد صاغَنَا،
وجعلتَ إيقاع الحياة له صليلٌ مثل نبض الكون سعيا للجليل،
حتى حسبنا أنها لا تنتهى،
وظللتَ تخطرُ هامساً كالطيفِ، كالروحِ الشفيفِ، كظلِّ رب الكون فيما بيننا،
وجعلت تنحت جاهدا لتعيد تشكيل البشرْ:
حُـلماً فحلماً: واقعاً منّا، لنَاَ،
نسعى إلى عمق الوجود ليلتقى فينا بنا،
“لتَعارَفُوا“
هذا “طريق الزعبلاوى”، نحو وجه الحق، نحو النور، نحو العدل، نحو الله فينا حولنا.
ومضيتَ تقهرُ كلَّ عجزٍ، كلَّ ضعف، كلَّ هَم،
حتى دعْونا ربنا أن تقهر الساعات تسحَـبُنا إلى المجهولِ إذْ تخفى العدمْ,
حتى نسينا أننا بشرٌ لنا أعمارُنا
****
لم قلتََها شيخى : “كفى”؟
الآن؟ كيف الآن ؟ شيخى !؟ ربنا !؟ بالله ليس الآن،
إرجعْ عقارب ساعتكْ،
لا،
نحن لسنا قدْرها,
ليستْ “كفى”
لا ،
ليس هذا وقتُـها ،
أفلستَ تعلم أننا فى “عِـز” حاجتنا إليك؟
أفلستَ تعرف ما جرى؟
أفلستَ تعرف كيف تنهشنا السباعُ الجائعة؟
أفلستَ تعرفُ أن ما يأتى بدونك لهْوَ أقسى ألف مرة ؟
لو كنتَ أقسمتَ عليِه،
من أجل خاِطِرنا،
لأبرّك الله العزيز بقدر ما وعد الذين هـُمُـوا كمثلك.
لمَ قلتََها شيخى: “كفىً؟
كنا نريدك دائما تخطو جميلا بينناَ،
كنا نريدك خالدا فى قرة العين هنا،
كنا نريدك مثل أطفالٍ أبوْا أن يُفطموا من حلو ما نهلوا عطاءك، مثلنا،
كنا نريدك نحتمى فى دفء بُرْدِكَ من برودةِ عصرنا.
لكنَّ خاتمة الكتاب تقررت، فسمعتّهَا،
وكتمتََهَا حرصا علينا،
وانسحبتَ برقةٍ وعذوبةٍ،
وتركتَنَـا.
لمّ هكذا؟
علـّمتنا شيخى بأنا قد خُـلقنا للحلاوةِ والمرارةِ نحملُ الوعى الثقيل نكونُـه سعيا إليه.
فاجـَـأْتَنَا،
ورحلتَ دون سَؤاِلنَا
وبكى الخميسُ لقاءَنا،
وتركتَ بيتىَ خاويا فى كل جُمعةْ.
****
ماذا جرى؟
كيف جرى؟
هل يا تُرى : قد كان همسا من وراء ظهورنا يدعوك سرًّا:
ورجوتَ أن تلقاه شيخى بعد ما طال العناءْ؟
فاستاذن الجسدُ العليل بشجّةٍ فى الرأس كانت عابرة؟
لا لم تكن أبدا مصادفة ً، ولم يشأِ القدرْ،
كانت نذيراً بالوداعْ،
قطعتْ حباَلَ وِصَـالنا
فتهتك العهدُ القديمُ وحرَّرَ الجسدَ العنيدْ،
والشيخ درويشُ “الزقاقِ” يقولها:
“لا شىء دون نهايةٍ”
وهِجاؤها:
“قد حان وقتٌ للرحيل”.
****
عَّلمتنا شيخى الجليل:
أن الخلودَ بهذه الدنيا عدمْ،
والموتُ لا يُنهى الحياةََ لكلِِّ من أعطاها مثلَك نفسَهُ،
الموتُ ينقلها إلى صُـنّاعها من بعض فيضك،
قد كنتَ رائدَ حملها
يا للأمانة !!
يا ثقلها !!!
هل جاء من أنباكَ أنّا أهلُها؟
حتى الجبال أبيْنَ أن يحِمْلنَها.
كيف السبيل, وكل هذا حولها ؟
****
لكنَّ ما قدّمتَ علَّمنا “الطريق” إليه عبر شعابها:
لمّا عرفتَ سبيل دربك نحوه،
كدحاً إليه :
ودخلتَ فى عمق العباد تعيد تشكيل الذى غمرتْه أمواجُ الضلالْ، حتى تشوّه بالعمى والجوع والجشع الجبانْ،
****
شيخى الجليل:
ما دمت أنتَ فَعَلتْهاَ
فانعم بها
واشفعْ لنا
أن نُحمل العهدَ الذى أوْدَعْتنَاَ
شيخى الجليل:
نمْ مطمئنا،
وارجع إليه مُبْدعاً،
عبر البشر،
وادخل إليها راضيا،
أهلا ً لهاَ.
[1] – فضلت التقريب لمنع الخلط الذى يحدث حين نترجم Schizoid إلى شبه فصامى، وهو خطأ صرف.