“يوميا” الإنسان والتطور
6-12-2007
قراءة فى أحلام فترة النقاهة
الحلم (13)
هذا هو المطار. جوه يموج بشتى الأصوات واللغات. وكن قد فرغن من جميع الاجراءات ووقفن ينتظرن. اقتربت منهن وقدمت إلى كل منهن وردة فى قرطاس فضى، وقلت:
– مع السلامة والدعاء بالتوفيق
فشكرننى باسمات وقالت إحداهن
– إنها بعثة شاقة ونجاحنا يحتاج إلى أعوام وأعوام.
فأدركت ما تعنى، وغمر الألم قلبى وتبادلنا نظرات وداع صامتة ولاحت لأعيننا مسرات الزمان الاول
وتحركت الطائرة وجعلت أتابعها بعينى حتى غيبها الأفق.
وحال عودتى الى بهو المطار لم أعد أذكر إلا رغبتى فى الاهتداء إلى مكتب البريد، وكأننى ماجئت إلا لهذا الغرض وحده. وسمعت صوتاً يهمس أنت تريد مكتب البريد؟ فنظرت نحوه ذاهلا فرأيت فتاة لم أرها من قبل فسألتها عن هويتها فقالت بجرأة:
– أنا بنت ريا. لعلك مازلت تذكر ريا وسكينة؟
فقلت وذهولى يشتد
إنها ذكرى مرعبة
فرفعت منكبيها وسارت وهى تقول:
– إن كنت تريد مكتب البريد فاتبعنى.
فتبعتها بعد تردد غاية فى العنف.
القراءة
وَداع وديع، ووعد مؤلم، وانتظار جديد، ومتابعة غامضة.
فى حلم “4”، كان الراوى ينتظر تراما خاليا، وتبع فتاة ليل لا تَعِدُ بكْسر وحدته، وإن كانت تلوّح بوقت زائط، أو تسكين مريح.
المسرح هنا مطار، وهو يشير إلى الإقلاع بقدر ما يشير إلى الهبوط، لكن جميع الراحلات ينتظرن، وهو أيضا ينتظر، هن ينتظرن الإقلاع، وهو ينتظر – كما اكتشف لاحقا أن هذا هو السبب الحقيقى لقدومه -: ينتظر “رسالةٌ ما من مكتب البريد“،
السماح ظاهر فى طقوس الوداع بالزهور لكل واحدة دون استثناء، وذلك رغم آلام الفراق، وذكرى المسرات-كان ثَمَّ هاجس يطمئن أن هذا الوداع ليس هجرا بقدر ما هو وعدَُ بلقاء ما، بشكل ماَ، فى وقت ما، حتى لو طال الزمن لسنوات.
لكن الأمر لم يكن تماما كذلك، فالألم جاهز، وذكرى مسرات الزمان الأول تلوح فتزيده حدة، وتفتح نوافذ الأشواق “للآتى”.
وسط كل ذلك هو يدعو لهن – متألما- بالتوفيق.
التوفيق إلى ماذا؟
فى مهمة، قد تكلل بالنجاح،
الوصل عن بعدٍ محتمل، ثم وعٌُد غير معلن بلقاء قادم، كل هذا يعود بنا من جديد إلى “برنامج” الذهاب والعودة، أساس العلاقات البشرية، حركية النمو والتواصل:
مع السماح بالرحيل يبزغ ألم الحاجة إلى الوصل، بمن سافر، وبالمجهول، وبالآتى، مهما طال الزمن، فيتجلى الانتظار (كل من انفصل عن أصله -أو انفصل عنه أصله- يطلب أيام وصله).
حين عاد إلى بهو المطار بعد رحيل الطائرة تأكد له أن حضوره المطار لم يكن للوداع أو التوديع، ولكن كان لرغبته فى الوصْل، (الاهتداء إلى صندوق البريد)، حالةٌ متجددة من اليقظة والتوقع، تسمى “الانتظار”.
الانتظار يفتح ذراعيه لمجهول أكثر غموضاً، لكنه يبدو أنه الأهم.
الفتاة التى ظهرت كأنها الرسول الذى يربط بين الرحيل وبين الانتظار تعلن بصوتها الهامس أنها همزة الوصل، وأنها تعرف حاجته، كما تعرف السبيل إليها .
هى ليست نقيض الراحلات تماما، هى ليست ريَّا لكنها ابنتها.
وهى ليست فتاة الهوى على محطة الترام 3 (حلم 7)،
ومع ذلك فهى الدليل إلى مكان الوعد الغامض: مكتب البريد.
التنقل من هذا الوعد الأول الذى أعلنه السماح بالرحيل برغم ألم الفراق، إلى التهديد الخفى بذكرى مفاجآت القتل للسرقة هو من طبيعة حركية النمو برغم ظاهر التناقض.
نحن لا نستبدل أمانا بأمان وإلا كان نموا ماسخاًَ فاتراً، نحن نستبدل أمانا واعداً بانتظار غامض، يتفجر منه احتمال خطر مخيف. مجرد احتمال، لأن ابنة ريا قد تكون امتدادا لريا، لما تمثله ريا، وقد لا تكون، لكن الرعب امتلكه لمجرد ذكر الأسم،
ثم إنه رضى أن يتبعها بعد تردد غاية فى العنف (لاحظ كيف يكون التردد عنيفا مع أن التردد يصحبه عادة، أوينتج غالبا من، خورِ وعجز عن اتخاذ قرارٍ ما)
لا يحول تردده دون اتباعها بعد أن أكدت واثقة من أنها تعرف مكتب البريد.
ما العلاقة بين ابنة ريا وبين تلك الراحلة التى قالت له إنها بعثة شاقة؟
إن البصيرة بوعورة الرحلة (بعثة شاقة)، وفى نفس الوقت إعلان حتم الانتظار الحذر، لا يبرران العزوف عن المغامرة.
قد تكون هذه المرشدة – مرة أخرى: التى هى ليست ريا، بل ابنتها – هى معبر الوصْل بين الحاضر والآتى بعد الرحيل الطيب: المؤلم، مهما طال الزمن.
هل يقول لنا الحلم شيئا عن طبيعة نقلات النمو، وضرورة استيعاب الواقع، مع اليقين بتحرك الزمن من ريا إلى ابنتها، وتحمل الانفصال الواعد المؤلم، جنبا إلى جنب مع التردد البالغ فى العنف، وتوقع المجهول تحت مظلة الرعب؟
يظل المسرح كله فى المطار حتى النهاية، وكأنه يذكرنا أننا نعيش دائما على “الحافة” بين السماء والأرض، بين الوعد والانتظار، بين الخوف من المجهول واتباعه.
بدأ حلم (2) والراوى يتبع الفتاة إلى الشقة، وانتهى وهو يجره نحوها قبل أن تذوب فى الزحام وسط البشر.
أما حلم (7) فقد انتهى والراوى يسير فى أثر فتاة محطة الترام (دون تردد)،
لكنه هنا هو يتبع الفتاة بعد تردد فى غاية العنف،
هل ستسعفنا الأحلام بعد ذلك بما قد يفسر تكرار ظهور هذه الفتاة وتلك المتابعة؟.
أتوقع ذلك، لكننى لا أعد بالبحث مسبقا خشية أن أتوقف.
ولتكن لنا عودة وعودة فى الدراسة الطولية للأحلام معا (مع أننى لم أنتهِ من دراسة الأصداء طوليا بعد!!).
****
الحلم (14)
تريضت على الشاطئ الأخضر للنيل. الليلة ندية والمناجاة بين القمر ومياه النهر مستمرة تشع منها الأضواء. هامت روحى حول أركان العباسية المفعمة بالياسمين والحب. ووجدت نفسى تردد السؤال الذى يراودها بين حين وآخر. لماذا لم تزرنى فى المنام ولو مرة واحدة منذ رحلتْ؟ على الأقل لأتأكد من أنها كانت حقيقة وليست وهما من أوهام المراهقة. وهل الصورة التى طبعت فى خيالى هى الصورة الحقيقية للأصل؟
وإذا بصوت موسيقى يترامى إلىّ من ناحية الشارع المظلم. صارت أشباحا ثم تجلت مع ضوء أول مصباح صادفها فى طريقها أدهشنى أنها لم تكن غريبة على، هى الموسيقى النحاسية التى كثيرا ما استمعت إليها فى صباى ورأيتها تتقدم بعض الجنازات، وهذا اللحن أكاد أحفظه حفظا، أما المصادفة السعيدة غير المتوقعة فهى أن حبيبتى الراحلة تسير وراء الفرقة. هى هى بطلعتها البهية ومشيتها السنية وملامحها الأنيقة، أخيرا تكرمتْ بزيارتى وتركت الفرقة الجنائزية تسير ووقفت قبالتى لتؤكد لى أن العمر لم يضع هدرا، وقمت واقفا منبهرا وتطلعت إليها بكل قوة روحى. وقلت لنفسى إن هذه فرصة لا تتكرر – لألمس حبيبة القلب.
وتقدمت خطوة وأحطتها بذراعى ولكنى سمعت طقطقة شئ يتكسر وأيقنت أن الفستان ينسدل على فراغ. وسرعان ما هوى الرأس البديع إلى الأرض وتدحرج إلى النهر وحملته الأمواج مثل ورد النيل تاركة إياى فى حسرة أبدية.
القراءة
قفزة أخرى فوق الحاجز يين واقع اليقظة، وواقع الحلم،
وفى نفس الوقت هى قفزة فوق الحدود بين الحياة والموت، ثم إن ثمة تداخلات موازية: بين الخيال والحقيقة، وأيضا بين الامتلاء بالحب والضياع فى الفراغ..!!
محفوظ هنا يستدل على الحقيقة من الحلم “لماذا لم تزرنى فى المنام….. لأتاكد أنها كانت حقيقة؟.
ذلك أنه يجعل الحلم هنا هو المقياس الذى يقيس به مطابقة صورتها على الأصل!! (إن كان هناك أصل).
وصول صوت الموسيقى قبل التيقن من طبيعتها استجلب الماضى مفتوحاً للأنغام (ربما أنغام المراهقة بالذات)، ثم تتعين الأنغام فى أشباح، لا تتحدد معالمها إلا فى نور مصباح بالصدفة، يتعرى الموقف أكثر حين تتحدد الموسيقى فى هذا اللحن الجنائزى، لكن متى كانت جنازاتنا العادية يصاحبها الموسيقى ويتقدمها العازفون؟ ومتى كانت تعزف لحناً يُحفظ؟ فنتذكره.
لم تستجلب الموسيقى الجنائزية أية ذكريات حزينة: لا ذكريات الموت ولا ذكريات الفراق، لعلنا لاحظنا فى الفقرة الأولى كيف أن السؤال كان حول عدم زيارة المحبوبة (الحقيقية أو المتخيلة) له منذ رحلت. هو لم يقل إن كان هذا الرحيل هو إلى بلد آخر أو إلى عالم آخر. أقول لم تستجلب هذه الموسيقى الحزن أو الأسى أو الحنين، بل جاءت “بالمفاجأة السعيدة”.
هذه المفاجاءة قد تقتصر على أن الحبيبة عادت بعد طول غياب، وقد تمتد إلى أنها ليست هى التى بداخل النعش، فهى تسير وراء الفرقة بين المشيعين، هى لم تَمُتْ إذن.
هذه المفاجأة لم تتجلَّ حلماً، حضر المنظر وهو ينتظر يقظاً مشتاقا إلى محبوبته، يتمنى أن تزوره حتى ولو فى الحلم، حل المنظر المحكى فى بؤرة واقعٍ حلمىّ أكثر إغرابا من الحلم.
الحبيبة تركت المشيعين والجنازة والموسيقى والميت ووقفت قبالته ترد على تساؤلاته: أنها موجوده لم تمت، أنها لم تنسَهْ، وأنها هاهى قد عادت إليه.
قوة روحه جعلتها أوقع من الواقع، ومع ذلك فاللمس هو الحد الفاصل (نحن نعرف كيف يقرص الواحد منا نفسه ليتأكد ان ما هو فيه: علم لا حلم).
لماذا افترض من البداية أنها فرصة لن تتكرر؟
إن كانت قد عادت، حتى لو كان حلما، فلماذا لا يتكرر
وإن كانت ليست هى التى داخل النعش وإنما هى تسير بين المشيعين، فلماذا لا يتكرر اللقاء؟.
ثم إن قوة روحه هى التى ربطته بها، فكيف لا تتكرر الفرصة؟.
لعله عرف أنها فرصة لن تتكرر لأنها لم تكن موجودة أصلا.
حتى الهيكل العظمى الذى طقطق لم يكن إلا فراغا: الرأس البديع الذى هوى كان راسأً وليس جمجمة، وقد تعرف عليها من خلاله (هى هى بطلعتها البهية.. وملامحها الأنيقة).
أما ما تحت الراس، ما ينسدل عليه الفستان، فلم يكن إلا الفراغ حتى لو طقطق داخله ما يمكن أن يكون هيكلا عظميا هشاً.
هذا الرأس البديع – وليس الجمجمة – هو الذى هوى إلى النهر.
هل هو نفس نهر البداية؟.
البداية كانت مياه النهر تشع منها الاضواء وهو يتريض على شاطئه الاخضر.
أما نهر النهاية فقد توارى خلف ستائر ورد النيل، لتغوص فيه رأس الحبيبة بلا رجعة.
الحسرة الأبدية هنا لها أوجه متعددة، تثير تساؤلات مقابلة:
هل هى حسرة أنها لم توجد أبدا إلا فى خياله؟.
ام حسرة أنها عادت لتثبت أنها كانت حقيقة، ثم تختفى؟.
أم حسرة للتيقن من جوعه الذى لا يرويه خيال ولا حقيقة؟.
أم كل ذلك معا؟.
لعله كل ذلك معا.