نشرت فى الدستور
9-1-2008
تعتعة
قبلات وأحضان، وحوار الأديان
فرضت علىّ مهنتى، و”لغات” مرضاى، أن أُحسن الانصات للغات كثيرة معاً، عبر قنوات كثيرة من أهمها تعبيرات الوجه والجسد والعيون، كما فرضت علىّ الفرص المتنوعة التى تتيح لى متابعة الشأن العام أن أقرأ صور الأخبار أكثر من الأخبار والكلمات المتبادلة.
فى مهنتى أسمح لأم المريض أو أخته أن تظل مرتدية النقاب وهى تبلغنى أحوال ابنها أو أخيها، (هى حرّة!) لكننى أعتذر عن مواصلة الكشف على مريضة تصر على ارتداء النقاب لأن الوجه قد يقول كلاما غير الكلام، فإذا رفضتْ وأصرت فإنى أعتذر وأُرجع لها الكشف، وسوف تجد أفضل منى.
كذلك فى العلاج، خاصة العلاج الجمعى، نعتنى بالانتباه إلى تفاصيل تغيرات الوجه والعينين، وتغير لون البشرة، وقد صوّرت ذلك فى ديوانى “أغوار النفس” قائلا “…. مش بَسّ عْنيِكّ، تَدْويرهْ وشَّكْ، وسلاْم بُقَّكْ على خَدَّكْ، والهّزه فْ دَقْنكَ، وكلام اللونْ: اللون الباهت المّيتْ، واللون الأَرضِى الكَلْحَانْ، واللون اللّىَ يطقّ شَرَاْر، واللون اللِّى مالوشْ لون، وعروق الوشّ، والرقبهْ، وخطوط القورة، وطريقةْ بَلْعَكْ ريقَك، تشويحة إيدكْ، إلى آخْرُهْ !
الصور التى تنشر فى الصحف لا يصلنى منها لون أو رائحة، وإن كنت أخلّقُهما، وحتى صور التليفزيون، ليست كافية لنقل نبض الجسد الحى، ومع ذلك فما يصلنى يسمح لى أن أتساءل عن هؤلاء الرؤساء العظام، الذين يقبّلون بعضهم البعض، ويبتسمون للمصورين، بينما دماء الأطفال الأبرياء، والكهول وكل الناس تسيل أنهارا، وبينما أجساد المظلومين تتناثر أشلاء، وبينما كرامة البشر تداس بأقذر الأحذية، أتابع ابتساماتهم على اختلاف مساحة انفراج الشفاه، ولمعة الأعين، وأتعجب وأنا أدعو لهم بالصبر والتوفيق، ولا أخفى – على نفسى – إعجابى الخاص بهم، وربما حقدى على قدرتهم على السيطرة على مشاعرهم الحقيقية (إنْ وجدت) ولبس هذه الابتسامات الدبلوماسية الرائقة.
الأصعب عندى فى الفهم والتقبل تلك “الأحضان الحوارية” التى يتعانق فيها أهل الأديان المختلفة ورؤساؤها وهم يعلنون بصدق أنهم يحبون بعضهم البعض جدا جدا، لدرجة أن أيا منهم لابد يتمنى للمحبوب أن يهديه عقله القاصر إلى أنه على باطل 100 % وبالتالى، يتمنى المتعانق منهم – إخلاصا لدينه – ومن فرط حبه لحَضِينه (الذى يحضنه) أن يُدْخله دينه، لأن هذا هو الطريق الوحيد الذى يمكن أن ينقذه من العمى الذى هو فيه، لأنه لو استعمل “عقله السليم” إذن لاهتدى إلى الدين السليم، (دين الخاضِنْ) وبالعكس! وهم يعلنون “حوار الأديان” و“قبول الآخر”، بالمرّةَْ!!.
أكرر كيف أن البابا شنودة نبهنا مرارا أنه لا “حوار بين الأديان” وأن الحوار الممكن هو بين المتدينين، وقد عاد الابن إبراهيم عيسى ينبه إلى مثل ذلك فى كلمته الافتتاحية فى أحد أعداد الدستور اليومية منذ أسابيع، وهذا وذاك من أصح الصحيح،
إن حوار المتدينين إنما يدور – على أحسن الفروض – حول كيف نتفق على المساحة المسموح فيها بالحوار، وأن نتجنب المساحات المحرجة الأخرى، التى لايتم فيها الحوار إلا بين أفراد نفس الدين، بل نفس المذهب، أو نفس الملّة، هذا إذا كانوا – ولا مؤاخذة – يعرفون ماذا يعنى الحوار أصلاً .
أما حوار الأديان الحقيقى فأنا مع البابا شنودة – كل سنة وهو وهم ونحن طيبون – ومع أبى يحيى (إبراهيم عيسى) وأستأذنهما فى شرح السبب”:
إن حوار الأديان إن صدق فعلا وكان جدلا حيًّا ومسئولا ومتطورا، لابد وأن يخرج منه “دين جديد”، توليف يجمع الاختلاف فى كلٍّ جديد، وقد وقع فى هذا المأزق مجتهدون وانتهى بهم الأمر إلى كوارث بلا حدود، حيث ظهرت أديان توفيقية أو تلفيقية مثل البهائية، والكنيسة الذهبية، وكنيسة جيم جونس …… إلخ.
ما العمل إذن؟
هل تتوقف الأديان عن الحوار نهائيا؟ وكيف؟
هل نكتفى بحوار المتدينين وهم وشطارتهم؟
هل نضع رؤوسنا فى الرمال ويخفى كل منا دينه – وخصوصا فى البطاقة الشخصية والعائلية وجواز السفر!!– ثم نتحاور ونحن ناقصون معلومات عن بعضنا البعض وكأن دين كل منا “عيب” لا يجوز أن يطلع عليه غريب!!.
ليست عندى إجابات قابلة للتعميم فى مرحلتنا الراهنة .
فقط ليكن كل منا أمينا مع دينه الذى ولد به، ومع وجوده مع آخرين مختلفين، هم أيضا ولدُوا فوجدوا أنفسهم الناحية الأخرى، وأن يَتَّقٍ الله ربَّه، وأن يقرأ كتابه، وكفى بنفسه عليه حسيبا، وأن يفهم تفسير “محمد إقبال” فكرة ختم النبوة بمحمد عليه الصلاة والسلام، بأنه تنبيه بأن البشرية قد نَمَتْ، وآن الآوان أن يحمل كل إنسان مسئولية وجوده بنفسه دون انتظار وحى جديد يحل له مشاكله.