الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الممارسة الإكلينيكية : بحثٌ علمى مستمر

الممارسة الإكلينيكية : بحثٌ علمى مستمر

“نشرة” الإنسان والتطور

8-1-2008

العدد: 130

الممارسة الإكلينيكية : بحثٌ علمى مستمر

أصل هذه المداخلة (1980) كان بعنوان “الباحث أداة البحث وعقله فى مجالى الطفولة والجنون”، إلا أننى قمت باختصارها وتحديثها، والتركيز على الممارسة الاكلينيكية بصفة عامة، حيث أننى اكتشفت أن أغلب ما أقدمه فى هذه اليومية بالذات وخاصة فى ما هو حالات وأحوال أو عينات من العلاج الجمعى لابد أن يتضح أبعاد منهجه وهو ما ورد فى هذه المداخلة كحد أدنى للاتفاق على اللغة التى أحاول أن أوصل بها خبرتى”، وقد استبعدت منها مايتعلق بالطفولة تفصيلا، اللهم إلا كمدخل لاستيعاب السيكوباثولوجى (الإمراضية).

إذا‏ ‏كانت‏ ‏الكلمة‏ ‏أمانة‏ – ‏وهى ‏لا شك‏ ‏كذلك‏ ‏- ‏فكلمة‏ ‏العالِم‏ ‏هى ‏أخطر‏ ‏الكلمات‏ ‏جميعا‏، ‏وأثقلها‏ ‏مسئولية‏ ‏وأبعدها‏ ‏أثرا‏، ‏وإذا‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏المسئولية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تخف‏ ‏نسبيا‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏العلم‏ ‏التى ‏تحكمها‏ ‏الأدوات‏ ‏المضبوطة‏ ‏والمقاييس‏ ‏المقننة‏، ‏فإنها‏ ‏ليست‏ ‏كذلك‏ ‏تماما‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏التى ‏يحكمها‏- ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يحكمها‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ – ‏موقف‏ ‏العالم‏ ‏ذاته‏ ‏ودرجة‏ ‏نضجه‏، ‏ومدى ‏وعيه‏، ‏وعمق‏ ‏بصيرته‏، ‏ومدى  ‏كفاءته‏  ‏شخصيا‏  ‏كأداة‏  ‏موضوعية‏  ‏أساسية‏  ‏فى  ‏انتقائه‏  ‏و‏ ‏ملاحظته‏ ‏واستنتاجاته‏ ‏وتفسيراته‏ ‏وتنظيره‏  ‏معا‏.‏

يزداد‏ ‏يوما‏ ‏بعد‏ ‏يوم‏، ‏مع‏ ‏زيادة‏ ‏أمانة‏ ‏العلماء‏ ‏وصدق‏ ‏مراجعتهم‏ ‏لنتائجهم‏ (‏الفاشلة‏ ‏خاصة‏) ‏وتتبع‏ ‏تعميماتهم‏، ‏يزداد‏ ‏اليقين‏ ‏بأن‏ ‏الموضوعية‏ ‏فى ‏شكلها‏ ‏المثالى ‏المطلق‏ ‏كانت‏ ‏حلما‏ ‏لم‏ ‏يتحقق‏ ‏أبدا‏، ‏ولعل‏ ‏الفضل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الاعتراف‏ ‏الأمين‏ ‏لايرجع‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ (‏ربـما‏ ‏للأسف‏) ‏لعلماء‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏كما‏ ‏كان‏ ‏منتظرا‏، ‏بل‏ ‏لعلماء‏ ‏الفيزياء‏ ‏مثل‏ ‏بلانك‏ ‏وبوهر‏ (‏كما‏ ‏يقول‏ ‏فان‏ ‏كام‏ – 1958)، ‏ربما‏ ‏بفضل‏ ‏نمو‏ ‏مفاهيم‏ ‏الفيزياء‏ ‏الكمية‏ ‏الحديثة‏،

‏على أن‏ ‏فريقا‏ ‏من‏ ‏علماء‏ ‏الإنسانيات‏ ‏ظلوا‏ – ‏رغم‏ ‏خوف‏ ‏زملائهم‏ ‏واختبائهم‏ ‏فى ‏الجزئيات‏ ‏والمنهجية‏ – ‏متمسكين‏ ‏بأولوية‏ ‏الإنسان‏ ‏كأداة‏ ‏أساسية‏ ‏وجوهرية‏ ‏فى ‏البحث‏ ‏العلمى ‏فى ‏مجالهم‏، ‏ذلك‏ ‏الفريق‏ ‏الذى ‏نجده‏ ‏يندرج‏ ‏الآن‏ ‏تحت‏ ‏ما يعرف‏ ‏بالباحثين‏ ‏الفنومنولوجيين‏ (‏حيث‏ ‏دراسة‏ ‏الخبرة‏ ‏الأولية‏ ‏سابقة‏ ‏وأساسية‏ ‏بشمولها‏ ‏ابتداء‏)، ‏وهى ليست إلا إعادة‏ ‏تركيز‏ ‏النظر‏ ‏على ‏أبعاد‏ ‏مختلفة‏ ‏لأقدم‏ ‏وأعمق‏ ‏وسيلة‏ ‏للمعرفة‏ ‏والقياس فى مجالنا‏ ‏وهى ‏الوسيلة‏ ‏الإكلينيكية‏،

قبل‏ ‏أن‏ ‏أدخل‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏صقل‏ ‏الباحث‏ ‏وإتاحة‏ ‏الفرصة‏ ‏الحقيقية‏ ‏لنموه‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏توضيح‏ ‏ضرورة‏ ‏هذه‏ ‏الوقفة‏ ‏ ‏فى ‏طريق‏ ‏الشائع‏ ‏عن‏ ‏ماهية‏ ‏العلم‏ ‏عامة‏، ‏والعلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏خاصة‏، ‏فقد‏ ‏أصبحت‏ ‏الإنسانية‏ ‏مهددة‏ ‏بانحرافات‏ ‏عقول‏ ‏بنيها‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏تهديدها‏ ‏من‏ ‏أعداء‏ ‏خارج‏ ‏الإنسان‏ ‏ذاته‏، ‏وقد‏ ‏أصبح‏ ‏البشر‏ ‏فى ‏خطر‏ ‏نتيجة‏ ‏فرط‏ ‏استعمال‏ ‏وسائل‏ ‏العلم‏ ‏والتكنولوجيا‏ ‏بقدر‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏استيعابها‏،.. ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الخطر‏ ‏الناتج‏ ‏عن‏ ‏انحرافات‏ ‏مزاج‏ ‏الطبيعة‏.‏

ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لما‏ ‏حل‏ ‏العلماء‏ ‏محل‏ ‏المفكرين‏، ‏وحلت‏ ‏المنهجية‏ ‏محل‏ ‏الحدس‏ ‏الميتافيزيقى، ‏وحلت‏ ‏قوانين‏ ‏حسابات‏ ‏الاحتمالات‏ ‏محل‏ ‏قانون‏ ‏التطور‏ ‏الطبيعي‏.. ‏أوقع‏ ‏الإنسان‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏مأزق‏ ‏تضاعفت‏ ‏فيه‏  ‏المسئولية‏ ‏إزاء‏ ‏أى ‏فعل‏ ‏أو‏ ‏تخطيط‏ ‏أو‏ ‏معلومة‏ ‏تصدر‏ ‏عن‏ ‏العقل‏ ‏البشرى، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالمستقبل‏، ‏وفى ‏مجالنا‏ ‏هذا‏ ‏نشعر‏ ‏أنه‏ ‏لايوجد‏ ‏أهم‏ ‏ولا‏ ‏أخطر‏ ‏من‏ ‏دراسة‏ ‏الإنسان‏: ‏تريبة‏ ‏وعلاجا،  ‏مما‏ ‏يجعلها‏ ‏حتما‏ ‏تلزم‏ ‏بضرورة‏  ‏أن‏ ‏تؤخذ‏ ‏باهتمام‏ ‏مضاعف‏; … ‏ليس‏ ‏للمهتمين‏ ‏بعلوم‏ ‏النفس‏ ‏فحسب‏ ‏بل‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏كل‏ ‏مهتم‏ ‏بمسيرة‏ ‏الحضارة‏ ‏ومستقبل‏ ‏الإنسان‏.‏

وسوف‏ ‏أختار‏ ‏للمناقشة‏ ‏كمثال‏ ‏يوضح‏ ‏ماذهبت‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏مراجعة‏ ‏نظريات‏ ‏النمو‏ ‏مجال‏ ‏نظريات‏ ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏فأقول‏:‏  ‏إن‏ ‏أغلب‏ ‏نظريات‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏المرضى (‏السيكوباثولوجيا‏) ‏مؤسسة‏ ‏على ‏تصورات‏ ‏أساسية‏ ‏تتعلق‏ ‏مباشرة‏ ‏بمراحل‏ ‏نمو‏ ‏الطفل‏، ‏وإن‏ ‏دراستها‏ ‏شديدة‏ ‏الصعوبة‏ ‏مالم‏ ‏نأخذ‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏موقف‏ ‏الباحث‏ ‏وصفاته‏.‏

من أين السيكوباثولوجى (الإمراضية)؟

‏ ‏بدأت‏ ‏هذه‏ ‏المراجعة‏ ‏أثناء‏ ‏قيامى ‏بتدريس‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏منهجى ‏علم‏ ‏نفس‏ ‏النمو‏، ‏وعلم‏ ‏السيكوباثولوجيا‏ ‏لطلبة‏ ‏الدراسات‏ ‏العليا‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الطب‏، ‏حين‏ ‏واجهنى ‏الطلبة‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏تركيب‏ ‏دراستهم‏ ‏العيانية‏ ‏التشريحية‏ ‏أساسا‏، ‏واجهونى ‏بسؤال‏ ‏حاد‏ ‏ومباشر‏ ‏عن‏ ‏مصدر‏ ‏هذه‏ ‏التصورات‏ ‏التى ‏عليهم‏ ‏أن‏ ‏يحفوظها‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏بمدارس‏ ‏السيكوباثولوجى، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بما‏ ‏يلقى ‏إليهم‏ ‏فيما‏ ‏يشبه‏ ‏اليقين‏ ‏عن‏ ‏انفعالات‏ ‏الرضيع‏ ‏الأولى ‏وعلاقته‏ ‏بجسده‏ ‏أو‏ ‏بأمه‏، ‏أو‏ ‏بوظائف‏ ‏إخراجه‏ ‏فى ‏أيام‏ ‏نموه‏ ‏الأولى،  ‏وبعد‏ ‏استعراض‏ ‏الوسائل المختلفة من ملاحظة واستبطان وقياس وتتبع …. لم تقنعنا الإجابات المتاحة لدرجة ‏ ‏تسمح‏ ‏بدراسة‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏بطريقة‏ ‏مطمئنة‏ ‏وأمينة‏ ‏حيث‏ ‏كانت‏ ‏تتحدث‏ ‏مثلا‏ ‏عن‏ ‏لغة‏ ‏الرضيع‏ ‏العاطفية‏ ‏فى ‏تسلسل‏ ‏وتناسق‏ ‏يكاد‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏تصورات‏ ‏محددة‏ ‏يوما‏ ‏بيوم‏ دون معرفة جذور مصادرها، وقد أتيحت لى فى نفس الوقت فرصة المشاركة والإشراف على بحث عن دور الممرضة فى تقييم سلوك الأطفال فى السنوات الأولى واتبعنا منهجا للملاحظة شديد التقنين، وخرجنا بنتائج زادت قلقى وحيرتى، ‏وعدت‏ ‏أتساءل‏ ‏عن‏ ‏أمانة‏ ‏الكلمة‏ ‏والمعلومة‏ ‏ومسئوليتنا‏ ‏إزاء‏ ‏نشرها‏ ‏وعرضها‏ ‏على ‏الآخرين‏، ‏لا من‏ ‏حيث‏ ‏دقة‏ ‏المنهج‏ ‏أو‏ ‏حسن‏ ‏التسجيل‏ ‏فقد‏ ‏راعينا‏ ‏ذلك‏ ‏تماما‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏قدرتها‏ ‏على ‏وصف‏ ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏لاحظنا‏. ‏وفى ‏غمرة‏ ‏هذه‏ ‏المسألة‏ ‏المتزايدة‏ ‏أتيحت‏ ‏لى ‏فرصة‏ ‏معاشرة‏ ‏طفلين‏ ‏حديثى ‏الولادة‏ ‏يعيشان‏ ‏فى ‏بيئة‏ ‏واحدة‏ ‏رغم‏ ‏اختلاف‏ ‏أسرتيهما‏، ‏وقمت‏ ‏بتسجيل‏ ‏هاديء‏ ‏لخطوات‏ ‏نموهما‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏وخرجت‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏أشد‏ ‏حيرة‏ ‏إزاء‏ ‏طبيعة‏  ‏النظريات‏ ‏النموية‏ ‏والسيكوباثولوجية‏ ‏المتاحة‏.‏

وكان‏ ‏لزاما‏ ‏على ‏أن‏ ‏أراجع‏ ‏الأسانيد‏ ‏التى ‏بنى ‏عليها‏ ‏أصحاب‏ ‏هذه‏ ‏النظريات‏ ‏المطروحة‏ نظرياتهم ‏حتى ‏أجرؤ‏ ‏أن‏ ‏أواصل‏ ‏تدريسها‏ ‏فى ‏العام‏ ‏التالى، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏تطبيقها‏ ‏فى ‏الممارسة‏ ‏اليومية‏، ‏ولم‏ ‏تقنعنى ‏الأسانيد‏ ‏المتاحة‏ ‏إلا‏ ‏أنى ‏ظللت‏ ‏مقتنعا‏ ‏بأن‏ ‏هذه‏ ‏النظريات‏- ‏بدرجات‏ ‏متفاوتة‏-‏تحمل‏ ‏لنا‏ ‏جزءا‏ ‏هاما‏ ‏لاغنى ‏عنه‏ ‏من‏ ‏الحقيقة‏ ‏الموضوعية‏ (‏بالمعنى ‏الأعمق‏ ‏للكلمة‏).‏ ‏ويقفز‏ ‏سؤال‏ ‏منطقى ‏من‏ ‏واقع‏ ‏هذا‏ ‏التسلسل‏ ‏يقول‏:‏ “هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏نظريات النمو، ومن ثم نظريات السيكوباثولوجى‏ ‏صادقة‏ ‏ومتماسكة‏ ‏ومفيدة‏ ‏وتطبيقية‏… ‏رغم‏ ‏ضعف‏ ‏الأسانيد‏ ‏التى ‏بنيت‏ ‏عليها؟؟ ثم‏ ‏سؤال‏ ‏تال‏:‏ وهل‏ ‏يصح‏ ‏القول‏ ‏التصالحى ‏بأن‏ “الحقيقة‏ ‏العلمية‏ ‏موضوعية‏ ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏النظرية‏ ‏ذاتية؟؟‏ ” ‏‏وكأن‏ ‏الحقيقة‏ ‏العلمية‏ ‏ليست‏ ‏جزءا‏ ‏لايتجزأ‏ ‏من‏ ‏النظرية؟‏ ‏وكأن‏ ‏الفصل‏ ‏التتبعى ‏بينهما‏ ‏هو‏ ‏فصل‏ ‏منهجى ليس إلا، أما فى واقع الممارسة فالتداخل عميق وكامل ومن البداية للنهاية بحيث يستحيل أن نهرب من المواجهة الحتمية لإعادة النظر ى التداخل بين الذاتية والموضوعية فى كل خطوات البحث من أول الانتقاء حتى التنظير مارين بكل خطوات الملاحظة المضبوطة.

ووسط‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏المتصاعد‏ ‏العنف‏ ‏يبدو‏ ‏لزاما‏ ‏لتحمل‏ ‏التناقض‏ ‏الظاهرى ‏سعيا‏ ‏للحقيقة‏ ‏ألا‏ ‏نستسهل‏ ‏رفض‏ ‏هذه‏ ‏النظريات‏ ‏رفض‏ ‏عابدى ‏أصنام‏ ‏الأرقام‏ ‏والمنهجية‏، ‏وألا‏ ‏نستسهل‏- ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏-‏الإيمان‏ ‏بها‏ ‏إيمان‏ ‏الخائف‏ ‏من‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فيها‏ ‏وفى ‏نفسه‏. ‏إذن‏…. ‏فإنه‏ ‏يبدو‏ لزاما ‏على ‏العالم‏‏ – ‏إذا‏ ‏ماصدق‏ ‏فى ‏المراجعة ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏زمنا‏ ‏مطروحا‏ ‏بين‏ ‏نظرية‏ ‏متماسكة‏ ‏بلاسند‏ ‏مقنع‏، ‏وبين‏ ‏ملاحظات‏ ‏ثابتة‏ ‏لارابط‏ ‏محورى ‏بينها‏، ‏فإذا‏ ‏التقط‏ ‏أنفاسه‏ ‏قليلا‏ ‏وسمح‏ ‏لنفسه‏ ‏أن‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏التاريخ‏ ‏فسيجد‏ ‏أن‏ ‏اختبار‏ ‏الزمن‏ ‏قد‏ ‏حافظ‏ ‏على ‏النظريات‏ ‏المتكاملة‏ (‏النابعة‏ ‏من‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏مثلا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏فرويد‏ ‏حتى ‏إريك‏ ‏بيرن‏، ‏مارين‏ ‏بميلانى ‏كلاين‏  ‏وإريك‏ ‏إريكسون‏) ‏فى ‏حين‏ ‏نحى ‏جانبا‏، ‏بدرجة‏ ‏ما‏، ‏الملاحظات‏ ‏العلمية‏ (‏هكذا‏ ‏تسمي‏) ‏الجزئية‏ ‏والطرفية‏ ‏والكمية‏ ‏والعيانية‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏تجمعت‏ ‏تعسفيا‏ ‏فى ‏نظرية‏ ‏ما‏  فهل‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏ماهو‏ ‏ذاتى (‏حسب‏ ‏التعريف‏ ‏الشائع‏) ‏أبقى ‏وأكثر‏ ‏نفعاً وتماسكاً؟؟  وأن ما هو موضوعى (بالقياس الشائع أيضا) أضعف وأكثر تنافرا فيما بين اجزائه؟؟، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الإجابة‏ ‏بالنفى، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النفى ‏سيجعلنا‏ ‏نعيد‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏تسمية‏ ‏ماهو‏ ‏ذاتى ‏على ‏أنه‏ ‏ذاتى، ‏وماهو‏ ‏موضوعى ‏على ‏أنه‏ ‏موضوعي‏. ‏والذى ‏أطرحه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏هو‏ ‏سلسلة‏ ‏من‏ ‏الافتراضات‏ ‏والتفسيرات‏ ‏تقول‏:‏

‏1-‏ إن‏ أهم ‏مصدر‏ ‏هذه‏ ‏النظريات‏ ‏المتماسكة‏ ‏هو‏ ‏ذات‏ ‏الباحث حالة كونها جزءًا لا يتجزأ من الظاهرة‏، ‏سواء‏ ‏اعترف‏ ‏الباحث‏ ‏بذلك‏ ‏أم‏ ‏أنكره‏، ‏سواء‏ ‏أقدم‏ ‏عليه‏ ‏بإرادته‏ ‏الواعية‏ ‏أم‏ ‏كان‏ ‏نتاجا‏ ‏طبيعيا‏ ‏لنوع‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏الممارسة‏ ‏البحثية‏.‏

‏2-‏ إن‏ ‏درجة‏ ‏صدق‏ ‏أى ‏نظرية‏ ‏هذا‏ ‏مصدرها‏ ‏تتناسب‏ ‏تناسبا‏ ‏طرديا‏ ‏مع‏ ‏درجة‏ ‏نضج‏ ‏الباحث‏ ‏ذاته‏ ‏التى ‏تتناسب‏ ‏بدورها‏ ‏مع‏ ‏درجة‏ ‏وجوده‏ ‏الموضوعى (‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏موضوعية‏ ‏حكمه‏ ‏ومنهجه‏)، ‏وهذا‏ ‏الوجود‏ ‏الموضوعى ‏مرتبط‏ ‏مباشرة‏ ‏بمدى ‏وعيه‏ ‏وقدرة‏ ‏ترابط‏‏ ‏مخه‏.‏

‏3- ‏إن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الباحث‏، ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏أداة‏ ‏البحث‏ ‏الموضوعية‏ ‏ذاتها‏،‏لا يقوم‏ ‏ببحثه‏ ‏من‏ ‏داخل‏ ‏ذاته‏، ‏وإنما‏ ‏يستعمل‏ ‏ذاتـه‏ ‏كحقل‏ ‏لاستيعاب‏ ‏الملاحظات‏ ‏وزرعها‏ ‏ونموها‏ ‏وإثمارها‏، ‏فلابد‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏ثرى ‏حافل‏ ‏بالملاحظات‏ ‏الضرورية‏، ‏ولابد‏ ‏لوجوده‏ ‏من‏ ‏تنمية‏ ‏تسمح‏ ‏بتدريب‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏التقاط‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظات‏ ‏وإعادة‏ ‏إفرازها‏ ‏فى ‏نظرية‏ ‏تبلغ‏ ‏صحتها‏ ‏مابلغته‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏هاتين‏ ‏الخطوتين‏ ‏المتداخلتين‏، ‏وهذا‏ ‏الاستيعاب‏ ‏وإعادة‏ ‏الافراز‏ ‏ليسا‏ ‏مرادفين‏ ‏للمعنى ‏الضيق‏ ‏للملاحظة‏ ‏أو‏ ‏الاستبطان‏، ‏لأن‏ ‏الباحث‏ ‏يستعمل‏ ‏ذاته‏ ‏بكلـيتها‏، ‏وليس‏ ‏بجوانبها‏ ‏الظاهرة‏ ‏وفكرها‏ ‏التأملى ‏المنشق‏ ‏فحسب‏.‏

وبإعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏نظريات‏ ‏السيكوباثولوجى ‏فإننا‏ ‏سنكتشف‏ ‏أن‏ ‏الخبرة‏ “الذاتية‏-‏الموضوعية‏” ‏معا ‏ ‏بما‏ ‏تشمل‏ ‏جزئيا‏ ‏من‏ ‏تقمص‏ ‏إسقاطى ‏تلعب‏ ‏دورا‏ ‏هاما‏ ‏وأساسيا‏ ‏فى ‏التنظير‏ ‏وترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏وتقسيم‏ ‏مراحل‏ ‏النمو‏، ‏فمن‏ ‏يراجع‏ ‏نظرية‏ ‏فرويد‏ ‏وماحوت‏ ‏من‏ ‏تفاصيل‏ ‏عن‏ ‏السنوات‏ ‏الأولى ‏من‏ ‏العمر‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏يراجع‏ ‏مادة‏ ‏ميلانى ‏كلاين‏ ‏عن‏ ‏العلاقة‏ ‏بالموضوع‏، ‏أو‏ ‏كتابات‏ ‏إريك‏ ‏إريكسون‏ ‏عن‏ ‏الطفل‏ ‏والمجتمع‏ ‏وعصور‏ ‏الإنسان‏ ‏الثمانية‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يثار‏ ‏ليعترف‏ ‏فى ‏شجاعة‏ ‏بهذا‏ ‏الاحتمال‏ ‏الأرجح‏ ‏القائل‏ “إن‏ ‏الاستنتاجات‏ ‏التصنيفية‏ ‏المحددة‏ ‏التى ‏صيغت‏ ‏فى ‏نظريات‏ ‏واضحة‏ ‏مسلسلة‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مجرد‏ ‏تجميع‏ ‏ملاحظات‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏خبرة‏ ‏ذاتية‏ ‏تقترب‏ ‏أو‏ ‏تبتعد‏ .. ‏عن‏ ‏الحقيقة‏ ‏الموضوعية‏ ‏بقدر‏ ‏موقف‏ “وجود‏” ‏صاحبها‏ ‏ذات‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏”، ‏على ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏القول‏ ‏لايعنى، ‏بداهة‏، ‏طرح‏ ‏الملاحظات‏ ‏جانبا‏ ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏دراسة‏ ‏دورها‏ ‏الحقيقى ‏فى ‏إثارة‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ “الذاتي‏-‏الموضوعي‏” ‏معا‏‏، ‏أى‏ ‏إن‏ ‏ما‏ ‏بالخارج‏ ‏يثير‏ ‏بالداخل‏ ‏ليسقط‏ ‏ثانية‏ ‏إلى ‏الخارج‏ ‏ثم‏ ‏ينظم‏ ‏المنظر‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏فيما‏ ‏يسجله‏ ‏فى‏ ‏شكل‏ ‏نظرية‏ ‏متماسكة‏ ‏للنمو‏ ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بعلم‏ ‏السيكوباثولوجي‏.‏

وقد‏ ‏أوضحت‏ ‏بعض‏ ‏الدراسات‏ ‏اللاحقة‏ ما يوجد ‏من‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏المنظرين‏ ‏ونظرياتهم‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بظروف‏ ‏نشأتهم‏ ‏ومراحل‏ ‏تطورهم‏ ‏الذاتية‏ (‏راجع‏ ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏دراسة‏ ‏إريك‏ ‏فروم‏ ‏لفرويد‏) ‏ومثل‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏كانت‏ ‏تفسر‏ ‏بعض‏ ‏الفلسفات‏ ‏ومدى ‏تأثر‏ ‏أصحابها‏ ‏أثناء‏ ‏تنظيرهم‏ ‏لها‏ ‏بنشأتهم‏ ‏وتطورهم‏ ‏الروحى (‏حسب‏ ‏التعبير‏ ‏الشائع‏ ‏عند‏ ‏مؤرخى‏ ‏الفلاسفة‏).‏

فى خبرتى الخاصة وأنا أكتب كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” امتزجت الذاتية بالممارسة الاكلينيكية بالإبداع الشعرى فخرج المتن ابتداءً شعراً صرْفا “ديوان سر اللعبة” الأمر الذى لايمكن معه استبعاد الجانب الشخصى الإبداعى، ثم حين رحت أكتب شرحا على المتن بعد التحدى الذى ألقاه فى وجهى المرحوم صلاح عبد الصبور أثناء مناقشة الديوان فى البرنامج الثانى، خرج هذا العمل الضخم مستندا إلى كل ما جاءته هذه المداخلة.

معالم الممارسة‏ ‏الإكلينيكية منهجاً للبحث العلمى‏:‏

أعنى‏ ‏بالممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏العمل‏ ‏التشخيصى‏ ‏والعلاجى‏ ‏والتتبعى‏ ‏فى‏ ‏مواجهة‏ ‏مسئولة‏، ‏ولا أعنى‏ ‏بها‏ ‏مجرد‏ ‏الفحص‏ ‏وتجميع‏ ‏المعلومات‏ ‏وتصنيفها‏ ‏ورسم‏ ‏نتاج‏ ‏للصورة‏ ‏الاكلينيكية‏ ‏من‏ ‏خلالها‏، ‏وتشمل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏التعرض‏ ‏الذاتى‏ ‏والمواجهة‏ ‏والمعايشة‏ ‏عبر‏ ‏كل‏ ‏وسائل‏ ‏التوصيل‏ ‏بين‏ ‏الممارس‏ ‏والممارس‏ ‏معه‏ ‏وبالعكس‏ (‏ولا أقول‏ ‏الفاحص‏ ‏والمفحوص‏)، ‏ولاتقتصر‏ ‏وسائل‏ ‏التوصيل‏ فى‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏الطويلة‏ ‏على‏ ‏البعد‏ ‏اللفظى‏ ‏الشائع‏ ( رغم أنه أرقى ما وصل إليه الإنسان تطوريا قبل أن يتشوه باللفظنة (verbalism‏‏، ‏ولكنه‏ ‏يتعداه‏ ‏إلى‏ ‏التواصل‏ ‏بلا‏ ‏ألفاظ‏ ‏وعبر‏ ‏الألفاظ‏ ‏كذلك‏، ‏وهذه‏ ‏الإضافة‏ ‏ضرورية‏ ‏فى‏ ‏مجال‏ ‏بحوث‏ ‏الأطفال‏ ‏والجنون‏ ‏خاصة‏، ‏حيث‏ ‏تفشل‏ ‏الألفاظ‏ ‏فى‏ ‏تحقيق‏ ‏الدرجة‏ ‏الكافية‏ ‏من‏ ‏التواصل‏، ‏كما‏ ‏تفشل‏ ‏أحيانا‏ ‏فى‏ ‏صياغة‏ ‏الملاحظات‏ ‏فى‏ ‏ألفاظ‏ ‏قادرة‏ ‏على‏ ‏الوفاء‏ ‏بالإلمام‏ ‏بأبعاد‏ ‏الظاهرة‏ ‏قيد‏ ‏البحث‏، ‏وتشمل‏ ‏الوسيلة‏ ‏غير‏ ‏اللفظية‏ ‏فى ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏التعبيرات‏ ‏الحركية‏ ‏ولغة‏ ‏الجسم‏ ‏كما‏ ‏تشمل‏ ‏الحدس‏ ‏الإكلينيكى ‏المباشر‏ ‏فى‏ ‏نفس‏ ‏الوقت‏. ‏وهذه‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏إنما‏ ‏تتم‏ ‏وتنموا‏ ‏بقدر‏ ‏المواجهة‏ ‏مع‏ ‏المرض‏، ‏ولكن‏ ‏درجات‏ ‏الوعى‏ ‏بها‏ ‏وبطبيعة‏ ‏أبعادها‏ ‏تختلف‏ ‏من‏ ‏ممارس‏ ‏إلى ‏آخر‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏نتاجها‏ ‏يختلف‏ ‏كذلك‏ ‏من‏ ‏النقيض‏ ‏إلى‏ ‏النقيض‏ ‏كما‏ ‏سيرد‏ ‏حالا‏.‏

وأحب‏ ‏أن‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏أن‏  ‏عمق‏ ‏هذه‏ ‏المواجهة‏ ‏تكون‏ ‏مع‏ ‏الذهانيين‏ (‏واسمحو‏ ‏إلى ‏أن‏  ‏استعمل‏ ‏أحيانا‏ ‏مرادفا‏ ‏آخر‏ ‏هو‏ “المجانين‏” ‏لأن‏ ‏لفظ‏ ‏المجنون‏ ‏رغم‏ ‏عمويته‏ ‏وقسوته‏ ‏مازال‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا‏ ‏من‏ ‏كلمة‏ ‏الذهانى ‏التى ‏لم‏ ‏يتفق‏ ‏على ‏حدودها‏ ‏بطريقة‏ ‏حاسمة‏ ‏حتى ‏الآن‏)، ‏وقد‏ ‏سمح‏ ‏التقدم‏ ‏الهائل‏ ‏فى ‏استعمال‏ ‏العقاقير‏ ‏المضادة‏ ‏للذهان‏ ‏أن‏ ‏يتجرأ‏ ‏الممارس‏ ‏ويجلس‏ ‏مددا‏ ‏أطول‏ ‏مع‏ ‏الجنون‏، ‏وكذلك‏ ‏أن‏ ‏يتجرأ‏ ‏فيتعمق‏ ‏معه‏ ‏فى ‏معنى ‏جنونه‏ ‏ولايكتفى ‏بتسجيل‏ ‏ظاهر‏ ‏أعراضه‏، ‏وفى ‏مرحلة‏ ‏أخرى‏ ‏وتحت‏ ‏مظلة‏ ‏العقاقير‏ ‏أيضا‏-‏وبقدر‏ ‏ماوهب‏ ‏الممارس‏ ‏من‏ ‏شجاعة‏ ‏ذاتية‏ ‏وموضوعية‏ ‏بحثية‏ ‏يخطو‏ ‏خطوة‏ ‏أعمق‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏تقمص‏ ‏الذهانى ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏خبرة‏ ‏النكوص‏ ‏البحثى ‏والمعالجى ‏معا‏ (‏كما‏ ‏سيرد‏ ‏ذكره‏)، ‏ويتم‏ ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏المقابلة‏ ‏الفردية‏ ‏وأثناء‏ ‏التتبع‏، ‏كما‏ ‏يكون‏ ‏أشمل‏ ‏وأطول‏ ‏فى ‏الوسط‏ ‏العلاجى، ‏ويكون‏ ‏أعمق‏ ‏وأكثر‏ ‏تركيزا‏ ‏وتحديدا‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى ‏المكثف‏ ‏المهاجم‏ ‏للدفاعات‏ ‏والهادف‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏التوافق‏ ‏وإحياء‏ ‏الديالكتيك‏ ‏النموى.

النكوص فى خدمة الذات

مادمنا‏ ‏قد‏ ‏توصلنا‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏التواصل‏ ‏بلا‏ ‏ألفاظ‏، ‏وعبر‏ ‏الألفاظ‏. ‏ومادمنا‏ ‏قد‏ ‏استعملنا‏ ‏تعبير‏ ‏النكوص‏ ‏البحثى ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏من‏ ‏النقاش‏، ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏الربط‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الوسيلة‏ ‏وبين ما يسمى النكوص فى خدمة الذات، Adaptive Regression in the Service of the Ego ARISE  وهى وظيفة عادية من وظائف الأنا الناضج المتكامل، وهى تستعمل فى مجالات التكيف الأعمق، ولكنها تستعمل بشكل نوعى فى مجالات خاصة فى الإبداع الفنى والعلمى حيث تعنى قدرة الفنان (المبدع) على النكوص إلى مرحلة سابقة من تطوره بحيث يعيد معايشة (وليس مجرد تذكر) خبرات قديمة بطريق مباشر فى شكل إعادة وليس استعادة، فى شكل تقمص إسقاطى على شخوص وأحداث حقيقية أو خيالية. هذا النكوص الإبداعى يخدم هدفين لازمين لعملية الإبداع : الأول هو بعث الطاقة الكامنة فى جزء مغمور من الذات، والثانى هو تهيئة فرصة أوسع لتجميعات وارتباطات جديدة من مخزون المادة المطبوعة فى المخ أساسا.

لاينبغى الخلط بين هذا النوع التكيفى والإبداعى من النكوص وبين النكوص المرضى فى مجال الذهان والفصام بوجه خاص، حيث تبدو مظاهر النكوص وما يترتب عليه كعلامة مميزة لهذا المرض إذ تجتمع المادة الطفلية مكثفة وملخصة مع بقايا النفس الناضجة بعد تناثرها وشللها، فالإعادة الطفلية هنا تختلط عشوائيا مع أشلاء النفس الناضجة ويكون نتاج هذا وذاك هو الصورة الاكلينيكية للفصام، ولكن هذا النكوص بالرغم من خطورته وفشله إلا أنه يحمل فى عمقه معنى وهدفا أيضا مما أسماه “أريتى”النكوص الغائى، كما أنه هو هو الذى يثير النشاط النكوصى فى المواجهة أثناء الممارسة الاكلينيكية أو البحث.

أما خبرة النكوص العلاجية والفاحصة فهى ما هدفتُ إلى إيضاحه منذ البداية، باعتبار أن هذه الخبرة هى التى تسمح للمارس أن يحصل على معلوماته فى الفحص وعلى نتائجه فى العلاج بقدر قدرته على خوض هذه الخبرة هو ذاته فى ظروف مضبوطة ومسئولة، تثيرها المادة البدائية المعروضة ( فى حالة الفصام خاصة)، أو المستعيدة لنشاطها قصدا ( فى حالة العلاج المكثف للعصاب واضطراب الشخصية) وهى خبرة موازية لما ذكر فى الإبداع تماما، وحتى أزيد الأمر وضوحا أنبه أنه فى خبرة مواجهة الفصامى حيث تبلغ مسئولية النكوص وعبء المواجهة أعمق أعماقها، وتحمل أكبر مسئولياتها، وتمر بأبلغ مخاطرها حين يقوم التقمص النكوصى من جانب الممارس بِلَمّ أبعاد التناثر الذى تمزق به الفصامى، وإذْ هو فى هذا المستوى الشجاع من التراجع المسئول يكون فى كامل وعيه شاحذا قدرته الترابطية النشطة لنفسه ومريضه معا حتى يمكنه من خلال ذلك:

(أ‌)  أن يحول دون أى نكوص عشوائى ذاتى يهدد تماسكه نفسه.

(ب‌) أن يتحمل أعباء نكوصه ونكوص المريض فى آن واحد.

(ت‌)  أن يستطيع العودة إلى تنظيمه الأعلى حاملا معه بعضا مما وعاه فى رحلته هذه التى زار فيها المريض فى بيته البدائى مستعملا هو ذاته أقدم ألواح وجوده.

 هذه الخبرة الفاحصة والمعالجة فيها من البحث والخلق ما يدرجها بشكل ما تحت النشاط الفنى وفى نفس الوقت، هى نمط جديد من البحث يختلف بطرق كثيرة عن البحث العلمى التقليدى، حيث لغته أقرب إلى لغة الشاعر لأن الباحث ينزع إلى أن يصبح أداة البحث باستعمال كل ذواته فى وعىٍ فائق .

التدريب المستمر بالممارسة الممتدة

تتم هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مقابلة‏ ‏إكلينيكية‏ ‏جادة‏ ‏ومسئولة‏، ‏ولكن‏ ‏الاختلاف‏ ‏بين‏ ‏الفاحصين‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏درجة‏ ‏الشجاعة‏ ‏فى ‏رؤيتها‏، ‏وأخيرا‏ ‏فى ‏مدى ‏قدرة الممارس‏ ‏على ‏صياغتها‏ ‏فى ‏ألفاظ‏، ‏فقد‏ ‏تتم‏ ‏هذه‏ ‏المواجهة‏ ‏آلاف‏ ‏المرات‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يصل إلى الوعى أية تفاصيل مما ذكرنا، ‏ولكن‏ ‏بتكرار‏ ‏هذه‏ ‏المواجهة‏-‏ حتى ‏فى ‏درجة‏ ‏متوسطة‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏بها‏- ‏ينمو‏ ‏الحدس‏ ‏الإكلينيكى ‏رويدا‏ ‏رويدا‏ ‏حتى ‏يصبح‏ ‏هو‏ ‏رأس‏ ‏مال‏ ‏الممارس‏ ‏للتشخيص‏ ‏والتصنيف‏، ‏والممارس‏ ‏للعلاج‏ ‏معا‏. ‏إذن‏ ‏فالحدس‏ ‏الإكلنييكى ‏ليس‏ ‏ضربا‏ ‏أعشى ‏يعتمد‏ ‏على ‏الفطنة‏ ‏والألمعية‏ ‏الشخصية‏، ‏ولكنه‏ ‏نتاج‏ ‏طبيعى ‏للممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏السليمة‏ ‏الطويلة‏ ‏والمسئولة‏

هنا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نقر ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏ممارسة‏ ‏إكلينيكية‏ ‏روتينية‏ ‏ونافعة‏ ‏ولكنها‏ ‏لاتنطبق‏ ‏عليها‏ ‏هذه المواصفات‏ ‏مهما‏ ‏طالت‏، ‏إذ‏ ‏لاينبغى ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏مرور‏ ‏السنين‏ ‏مع‏ ‏المرضى ‏الذهانيين‏ ‏خاصة‏ ‏قد‏ ‏يكسب‏ ‏الفاحص‏ ‏هذه‏ ‏القدرة‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏العكس‏ ‏تماما‏ ‏كثيرا‏ ‏مايحدث‏، ‏ومن‏ ‏خبرتى ‏الشخصية‏ ‏وخبرة‏ ‏إشرافى ‏على ‏من‏ ‏هم‏ ‏أصغر‏ ‏منى ‏طوال‏ ‏عشرين‏ ‏عاما‏ (حاليا خمس وأربعين) ‏نتعرض‏ ‏فيها‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏الواحد‏ ‏لعشرات‏ ‏المرضي‏..‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الممارس‏ ‏يمر‏ ‏بأطوار‏ ‏مختلفة‏، ‏وقد‏ ‏ننقسم‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏إلى ‏فريقين‏: ‏فريق‏ ‏يحمى ‏نفسه‏ ‏أكثر‏ ‏وأكثر‏ ‏بمرور‏ ‏الزمن‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏هذا‏ ‏التنافر‏ ‏والتناثر‏-‏فى ‏نفسه‏ ‏وخارجها‏ ‏يوميا‏ ‏باستعمال‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏الدفاعات‏ (‏الميكانزمات‏)، ‏ومزيد‏ ‏من‏ ‏الاتجاه‏ ‏إلى ‏التنظير‏ ‏والتفسير‏ ‏العضوى ‏الآلى ‏الميكانيكى ‏الجزئى ‏البحت‏، ‏وفريق‏ ‏يغامر‏ ‏تدريجيا‏ ‏باستيعاب‏ ‏مايرى ‏بما‏ ‏يتضمن‏ ‏ذلك من آلام ومخاطر، وليس من حقى أن أفضل أحد الفريقين على الآخر فكل يقوم بدوره، وإنما قد قدمت هذا‏ ‏الاستدراك‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏التعميم‏ ‏السطحى، ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏الطبيعى ‏أن‏ ‏يستعمل‏ ‏أى ‏فاحص‏ ‏أو‏ ‏معالج‏ ‏ماشاء‏ ‏من‏ ‏ميكانزمات‏ ‏ليستطيع‏ ‏أن‏ ‏يواصل‏ ‏عمله‏ ‏بكفاءة‏ ‏معقولة‏، ‏ولكنى ‏أؤكد‏ ‏أن‏ ‏الفريق‏ ‏الأول‏ (‏المدافع‏ ‏ميكانيكى ‏التفكير‏)، ‏قد‏ ‏يصلح‏ ‏معالجا مسكنا‏ ‏ممتازا‏،  ‏ولكنه‏ ‏لايصلح‏ ‏باحثا‏ ‏منظرا‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏أقدمه‏، ‏وهنا‏ ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏المعدة‏ ‏لهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الباحثين‏ ‏المنظرين‏ ‏المعالجين‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لها‏ ‏شروطها‏ ‏الخاصة‏ ‏وإشرافها‏ ‏الخاص‏ ‏وتتبعاتها‏ ‏الخاصة‏ ‏وقياساتها‏ ‏المميزة‏ ‏مما‏ ‏سأرجع‏ ‏إلى ‏بعضه‏ ‏بعد‏ ‏قليل‏.

إن هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏الاكلينيكية‏ ‏التى ‏أعنيها‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏هى ‏حساب‏ ‏الاحتمالات‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تجميع‏ ‏مظاهر‏ ‏الأعراض‏ ‏فى ‏زملة‏ ‏بذاتها‏، ‏وان‏ ‏كانت‏ ‏لاتستغنى ‏عن‏ ‏تفاصيل‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظات‏ ‏والمعلومات‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏البناء‏ ‏والتصنيف‏ ‏والتقويم‏ ‏الحالى ‏والمستقبلى‏.‏

وهى ‏لاتشمل‏ كذلك ‏التأمل‏ ‏الذاتى ‏بالمعنى ‏العقلى‏ ‏الانشقاقى‏ ‏القديم‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏تشمل‏ ‏الحضانة‏ ‏الذاتية‏ ‏للملاحظات‏ ‏ثم‏ ‏التأليف‏ ‏الذاتى ‏بين‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏ ‏كما‏ ‏فى الإبداع الحقيقى‏.‏

وهكذا‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نؤكد‏ ‏على ‏أهمية‏ ‏الدور‏ ‏الذاتى ‏إذ‏ ‏نقترب‏ ‏من‏ ‏الذات‏ ‏الموضوعية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏الملاحظة‏ ‏وإعادة‏ ‏التركيب‏، ‏كما‏ ‏نؤكد‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏على ‏خطورة‏ ‏الدور‏ ‏الذاتى ‏إذا‏ ‏مازادت‏ ‏الدفاعات‏ (‏الميكانزمات‏) ‏فزادت‏ ‏الشخصنة‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏المواجهة‏ ‏الأعمق‏.‏

مواصفات –وشروط- الممارس الإكلينيكى (الباحث)

إذا كان لا مفر من الاعتراف بأن‏ ‏الباحث‏ ‏هو‏ ‏أداة‏ ‏البحث‏ ‏فى الممارسة الاكلينيكية‏، ‏فجدير‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نشترط‏ ‏فيه‏ ‏مواصفات‏ ‏معينة‏ مثلما نفعل مع أية أداة بحث، ‏وأن‏ ‏نتيح‏ ‏له‏ ‏فرصة‏ ‏تنمية‏ ‏ماينبغى ‏أن‏ ‏ينمو‏، ‏فهو‏ ‏خليق‏ ‏أن‏ ‏نعامله‏ ‏بانتقاء‏ ‏وصيانة‏ ‏بدرجة‏ ‏لاتقل‏ ‏عن‏ ‏جهاز‏ ‏أشعة‏ ‏جيد‏، ‏أو‏ ‏مقياس‏ ‏نفسى ‏مقنن‏، ‏وفى ‏الخبرة‏ ‏والممارسة‏ ‏الاكلينيكية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعدد‏ ‏بعض‏ ‏المواصفات‏ ‏اللازمة‏،ولكن يخشى أن تستقبل هذه المواصفات بمنطق قيمى أو أخلاقى ‏، وكأنها قائمة‏ ‏‏ ‏مدائح‏ ‏يسارع‏ ‏أى ‏إنسان‏ ‏لتصور‏ ‏التحلى ‏بها‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏التأكيد‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏مواصفات‏ ‏بذاتها‏ ‏تبدو‏ ‏لازمة‏ ‏لمجال‏ ‏بحث‏ ‏بذاته‏ ‏أو‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏الممارسة‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏ضرورة‏ ‏ولا‏ ‏شرطا‏ ‏مسبقا‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏أخرى، ‏والنظرة‏ ‏العلمية‏ ‏هى ‏التى ‏تحترم‏ ‏الفروق‏ ‏بين‏ ‏الأفراد‏ ‏واختلاف‏ ‏مراحل‏ ‏نموهم‏، ‏وتحسن‏ ‏الانتقاء‏ ‏المرحلى ‏مع‏ ‏فتح‏ ‏الباب‏ ‏للتنمية‏ ‏أمام‏ ‏من‏ ‏يشاء‏ ‏أن‏ ‏يتعرض‏ ‏لمجالات‏ ‏أصعب‏ ‏وأصعب‏ ‏من‏ ‏البحث‏ ‏والممارسة‏.‏

وأورد‏ ‏الآن‏ ‏تحديدا ‏بعض‏ ‏المواصفات‏ ‏الواجب توافرها (أو المأمول توافرها) ‏ ‏فى ‏الممارس‏ ‏الإكلينيكى ‏إذا‏ ‏ماأردنا‏ ‏الاعتماد‏ ‏على ‏حكمه‏ ‏التلقائى ‏كأداة‏ ‏تسجيل‏ ‏ذات‏ ‏كفاءة‏ ‏مقبولة‏.

‏1-‏ أن‏ ‏يكون‏ .. ‏لامـا‏ ‏بالأسس‏ ‏العامة‏ ‏لفرع‏ ‏تخصصه‏ ‏من‏ ‏مصادرها‏ ‏المتاحة‏، ‏وبصفة‏ ‏متجددة‏، ‏على ‏أن‏ ‏يكون يقف‏ ‏من‏ ‏اطلاعه‏ ‏موقف‏ ‏القارىء‏ ‏الخلاق‏، ‏لا المتلقى ‏فى ‏استسلام‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏ماحاول‏ ‏باستمرار‏ ‏أن‏ ‏يختبر‏ ‏إمكانية‏ ‏تطبيق‏ ‏ما قرأ‏ ‏أو‏ ‏تعلم‏ ‏كان‏ ‏أمامه‏ ‏سبيل‏ ‏للمراجعة‏، ‏وهكذا‏ ‏يمكن‏ ‏باستمرار‏ ‏التقريب‏ ‏بين‏ ‏ماهو‏ ‏نظرى ‏وماهو‏ ‏عملى، ‏وكذلك‏ ‏بين‏ ‏ماهو‏ ‏مثالى ‏وماهو‏ ‏ممكن‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الذى ‏يشمل‏ ‏التهديد‏ ‏المستمر‏ ‏بالإحباط‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الألم‏ ‏الشخصى، فهو ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يضع‏ ‏فى ‏اعتباره‏ ‏احتمال‏ ‏تغيير‏ ‏ذاتى ‏مستمر‏.. ‏وقد‏ ‏يَعْنُفُ‏ ‏أحيانا‏.‏

‏2- ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏على ‏إطلاع‏ ‏متوسط‏ ‏بنبذة‏ ‏من‏ ‏العلوم‏ ‏الأساسية‏ ‏التى ‏تكون‏ ‏الأرضية‏ ‏الثقافية‏ ‏لعصره‏ ‏من‏ ‏تاريخ‏ ‏وفلسفة‏ ‏واجتماع‏ ‏وغيرها‏ ‏مما‏ ‏يمثل‏ ‏الأصول‏ ‏النظرية‏ ‏لماهية‏ ‏الإنسان‏ ‏وطبيعة‏ ‏وجوده‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأرضية‏ ‏تؤثر‏ ‏بطريق‏ ‏مباشر‏ ‏على ‏المريض‏، ‏وعلى ‏الطبيب‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏على ‏العلاقة‏ ‏بينهما‏.‏

‏3-‏ أن‏ ‏يكون‏ ‏مسايرا‏ ‏للأحداث‏ ‏اليومية‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ملما‏ ‏بما‏ ‏يجرى ‏فى ‏الحياة‏ ‏الاجتماعية‏ ‏والسياسية‏ ‏والاقتصادية‏ ‏من‏ ‏حوله‏ ‏ومايصاحبها‏ ‏من‏ ‏تغيرات‏ ‏فى ‏الأفراد‏ ‏والجماعات‏، ‏بادئا‏ ‏بالبلد‏ ‏الذى ‏يعيش‏ ‏فيه‏ ‏مع‏ ‏مريضه‏، ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏تأثير‏ ‏وتأثر‏ ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الوعى ‏تحت‏ ‏الضوء‏ ‏ما أمكن‏، ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المتابعة‏ ‏اليومية‏ وفى ‏ظل‏ ‏سرعة‏ ‏الاتصالات‏ ‏العالمية‏ ‏لابد‏  ‏وأن‏ ‏تتعدى ‏حدود‏ ‏وطنه‏ ‏ليساير‏ ‏من‏ ‏موقفه‏ ‏الواعى ‏كل‏ ‏التحركات‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏التى ‏تؤثر‏ ‏ضمنا‏ ‏على ‏نوعية‏ ‏وجوده‏ ‏ووجود‏ ‏مريضه‏، ‏ولعل‏ ‏هيجل‏ ‏كان‏ ‏يعنى ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏حين‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏قراءة‏ ‏الصحف‏ ‏اليومية‏ ‏هى ‏الصلاة‏ ‏اليومية‏ ‏لانسان‏ ‏العصر‏.‏

‏4-‏ أن‏ ‏تكون‏ ‏حياته‏ ‏الشخصية‏ ‏على ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الاستقرار‏، ‏لابمعنى ‏الثبات‏ ‏والجمود‏، ‏ولكن‏ ‏بمعنى ‏الوعى ‏ووضوح‏ ‏المسيرة‏ ‏فى ‏حركة‏ ‏هادئة‏ ‏ما أمكن‏ ‏نحو‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏الإيجابية‏ ‏والمسئولية‏، ‏فاتحا‏ ‏باب‏ ‏المراجعة‏ ‏المستمرة‏ ‏والقدرة‏ ‏على ‏تغيير‏ ‏مفاهيمه‏.‏

‏5-‏ أن‏ ‏يكون‏ ‏متابعا‏ ‏لمسيرة‏ ‏الاتجاهات‏ ‏المختلفة‏ ‏فى ‏فرعه‏.‏

‏6- ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏واعيا‏ ‏للتغييرات‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تطرأ‏ ‏على ‏فكرة‏ ‏وعواطفه‏ ‏بمرور‏ ‏الزمن‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ممارسته‏ ‏لمهنته‏ ‏وحياته‏، ‏ليجعلها‏ ‏تتم‏ ‏قدر‏ ‏الامكان‏ باختيار‏ ‏وإدراك‏ ‏ومسئولية‏.‏

‏7-‏ أن‏ ‏تكون‏ ‏له‏ ‏رؤية‏ ‏للحياة‏، ‏ورأى ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏مسيرتها‏ ‏ليتخذ‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏موقفا‏ ‏فى ‏الوجود‏… ‏يترجمه‏ ‏إلى ‏فعل‏ ‏يومى، ‏بسيط‏ ‏ما أمكن‏.‏

‏8-‏ أن‏ ‏يكون‏ ‏مستعدا‏ ‏للتغيير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الاحتكاك‏ ‏المستمر‏، ‏وخاصة‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏مرضاه‏ ‏وتفحصهم‏، ‏حتى ‏تصبح‏ ‏ممارسته‏ ‏هى ‏ثروته‏ ‏الحقيقية‏، ‏ودافعه‏ ‏لمزيد‏ ‏من‏ ‏التغيير‏ ‏نحو‏ ‏الموضوعية‏.‏

‏9- ‏ألا‏ ‏يكتفى ‏باتساع‏ ‏دائرة‏ ‏وعيه‏ ‏بمعنى ‏شحذ‏ ‏بصيرته‏، ‏ولكن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يختبر‏ ‏حقيقة بصيرته‏ ‏تلك‏ ‏بمراجعة‏ ‏آرائه‏ ‏إزاء‏ ‏فعله‏ ‏اليومى، ‏وفى ‏مجتمعه‏ ‏الصغير‏، ‏وفى ‏ممارسته‏ ‏المهنية‏.‏

‏10-‏ أن‏ ‏يدرك‏ ‏ضرورة‏ ‏معايشته‏ وحدته‏” ‏الخاصة‏ ‏فى ‏شجاعة‏، ‏مع‏ ‏إدراك‏  ‏حاجته‏ ‏للآخرين‏ ‏وطريقته‏ ‏فى ‏إشباع‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏ ‏ذهابا‏ ‏وإيابا‏ ‏بوعى ‏إرادة‏ ‏من‏ ‏نفسه‏ ‏إليهم‏ ‏وبالعكس‏.‏

وعلينا أن ننتبه تماما، طول الوقت، إلى أن‏ ‏مجرد‏ ‏ذكر‏ مثل هذه ‏المواصفات‏ ‏لايعنى ‏إلا‏ ‏نقطة‏ ‏البداية‏،

أما‏ ‏الأهم‏ ‏والأخطر‏ ‏فهو‏ ‏إعداد‏ ‏المجال‏ ‏لنمو‏ ‏هذه‏ ‏المواصفات‏.‏

خاتمة‏:‏

لا أعتقد أن‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏والمناهج‏ ‏قابلة‏ ‏للتطبيق‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏الحالية‏ ‏من‏ ‏نمو‏ ‏شعوبنا‏ ‏فى ‏ظروفه‏ ‏المرهقة‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الحقيقة‏ ‏تظل‏ ‏حقيقة‏ ‏دون‏ ‏النظر‏ ‏إلى ‏توقيت‏ ‏تطبيقها‏،

 ‏إن‏ ‏الذين‏ ‏تتاح‏ ‏لهم‏ ‏فرصة‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏الطويلة‏ ‏والعنيفة‏ ‏ليسوا‏ ‏بحاثا‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏بل‏ ‏معالجين‏ ‏مهنين‏ ‏أساسا‏، ‏ونادراً ما تتاح لهم الفرصة، أو يجدون الوقت والوسيلة لتسجيل خبراتهم وتوصيلها، وعلى الجانب الآخر نجد أن‏ ‏الباحثين‏ ‏المتخصصين‏ ‏والمتفرغين‏ ‏لهذا‏ ‏الغرض‏ ‏ليست‏ ‏أمامهم‏ ‏الفرصة‏ ‏الحقيقية‏ ‏للإحتكاك‏ ‏الإكلينيكى ‏المثمر‏ ‏بالصورة‏ ‏التى ‏عرضناها هنا‏.‏

وأخيرا فإنه ‏ينبغى ‏لمن‏ ‏يتصدى ‏لمثل‏ ‏هذا‏ ‏أن‏ ‏يحترم‏ ‏مرحلة‏ ‏النمو‏ ‏العامة‏ ‏والخاصة‏، ‏وأن‏ ‏يواصل‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏المتاح‏ ‏ولكن‏ ‏لايحق‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يتنازل‏ ‏عن‏ ‏يقينه‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏خبرته‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏مقاومة‏ ‏شخصية‏ ‏أو‏ ‏عجز‏ ‏مرحلى‏.‏

ملحوظة:

هذه المقتطفات من المداخلة الأصل كتبت سنة 1980،

فهل حالنا الآن (2008) أحسن أم العكس؟

هو أحسن بإذن الله!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *