نشرت فى الدستور
14-5-2008
تعتعة
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا
لا توجد جريمة مثل جريمة، ولا شخص مثل شخص، ولا مريض مثل مريض، لكن المشاعر الإنسانية النبيلة واحدة، والمسئولية الإنسانية عامة، لا توجد مشاعر إنسانية طبيعية يمكن أن تتعاطف مع دهس كلب فى الطريق، أو سلخ فروة ثعلب بعد صيده لاستعمالها للزينة، أو غرق قطة فى بئر، وفى نفس الوقت لا تهتم بسحق شعب بأكمله أو إبادة جنس برمته، أو تجويع الملايين حتى الموت للاستحواذ على الرفاهية الخصوصية واحتكار التلذذ والسيطرة.
ناتاشا كامبوش نمساوية أيضا اختطفها فولفجانج بريكوبيل وكان عمره 38 سنة وعمرها 12 سنة، وظلت حبيسة حتى هربت سنة 2006 فى سن الثامنة عشر، ولم تصرح حتى الآن بأن ثمة اعتداء أو علاقة جنسية قد تمت بينهما، وحسب الـBBC (السبت 9 سبتمبر 2006) حكت عن خاطفها بلهجة هادئة خالية من الغضب أو الانتقام وكشفت أنها احتفلت معه بعيد ميلادها وبعيد الميلاد، وصرحت بأنها تعتقد “أن ضميره كان يؤنبه، وهى لم تجب عن الاسئلة الحساسة والحميمة، وكل ما أشاعته وسائل الإعلام هو أن ثم احتمال لحدوث احتكاك جنسى بينهما، أما هى فقد رفضت التعقيب على ذلك فى حين استبعدت الشرطة والأطباء تعرض الشابة إلى استغلال جنسى، ثم إنها حين غافلته وهربت، انتحر الرجل فوراً، ولم تذهب للمشاركة فى جنازته، وإن كانت قد زارته فى المشرحة وأوقدت له شمعة، فأى رابط بالله عليكم بين الجريمتين؟
لماذا ربطت صحيفة الحياة اللندنية وغيرها بينهما؟ هل تكفى الجنسية النمساوية، والمشاركة فى كهف للحجز، أو أن الطبيب النفسى الذى عالج آثار الاختطاف عند كامبوش هو هو الذى يعالج الآن الآثار النفسية لأطفال الابنة اليزابيث من أبيها، وهو يبحث فى مشاكل تأثر عيونهم وبشرتهم من نقص الضوء، هل يكفى أيا من هذا للربط بين الجريمتين؟ إن مجرد الإسراع بهذا الربط لهذه الأسباب السطحية يؤكد لى مرة أخرى ضرورة التحذير الشديد من التسطيح والتسرع كما ذكرت الأسبوع الماضى، وقد وصلتنى ردود فعل كثيرة نبهتنى إلى ضرورة فتح الملف من جديد لإعادة التأكيد على ما يلى:
أولا: أننا لا ينبغى أن نسارع بمثل هذا الربط العشوائى هكذا.
ثانيا: إنه مهما اتفق الظاهر والمعلن فإن التفاصيل ضرورية قبل أى حكم أو محاولة تفسير.
ثالثا: إن أغلب الإعلام ليس مصدرا موضوعيا للبناء عليه حكما علميا.
رابعا: علينا أن نتجنب التعميم بكل أشكاله، فندمغ حضارة بأكلمها أو بلدا بذاته بصفات عامة، لمجرد أن نتلقط حادثا شاذا هنا أو جريمة بشعة هناك ولو تشابهت فى الظاهر، ثم هات يا “هم” و”نحن”..الخ، هذا موقف تعصبى غبى بل إنه قد يلهينا عن النظر فى أنفسنا لنكتشف جرائم مشابهة أو موازية أو ألعن هى أولى بالتصحيح.
خامسا: إن مشاعرنا الرقيقة العذبة إذْ تستفزها مثل هذه الجرائم، ولا تستثار لما هو أكثر قسوة، وأخطر أثرا على آلاف وملايين الأبرياء من الأطفال والشيوخ والعذارى والأمهات والمرضى والمعاقين، هى مشاعر ينبغى ألا نطمئن كثيرا إلى رقتها وعذوبتها، فهى مشاعر غير ناضجة، أو لعلها مشاعر مشوهة مُبَرْمَجَة مُوَجَّهة لغير صالحنا وصالح البشر، ليس معنى ذلك ألا نهتم بالأحداث الفردية لنعرف أبعادها، ولكن ليس على حساب العمى عن الجارى جماعيا. قياساً على شعر أديب أسحق
قتل امرئ في غابة جريمة لاتغتفر
وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
يمكننا أن نقول
سفكُ ابنةٍ فى مخبإ جريمة لا تغتفر
وسحق شعب ثائرٍ مسألة فيها نظر
وأخيرا: فإنى لم أقصد الأسبوع الماضى التهوين من دور الزميل النمساوى د.”ماكس فريدريك” الذى وقف بجانب الضحية الأولى ناتاشا كامبوش يمنع عنها إيذاء الإعلام وهى تعاود حياتها فى عناد شريف رائع، ثم ها هو يقف مع الثلاثة أولاد لبحث تأثير الحرمان من الضوء عليهم! أقول إنى لم أقصد الاستهانة بفنه أو طبه بقدر ما حاولت أن أنبه نفسى وإياه ألا تلهينا الفروع عن الأصول، وألا تبعدنا الأحداث الفردية عن المسئولية الجماعية، فمازلت أذكر تهليل عامة الإعلام بما فى ذلك الإعلام المتحيز ضدنا بعد مقتل الطفل محمد الدرة وكأنه يشاركنا آلامنا وأحزاننا فى حين أنه يلهينا عن آلاف محمد الدرة الذين يقتلون كل يوم وكل لحظة، وحتى الآن فى كل مكان.
من هنا نفهم معنى أن أى أيذاء لفرد بغير جريرة فهو إيذاء للناس جميعا، اقتداءً بالآية الكريمة “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”