الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / فى ملف الحب والكراهية: مقدمة عن الحب والجنس ثم: تجليات الحنان

فى ملف الحب والكراهية: مقدمة عن الحب والجنس ثم: تجليات الحنان

“يوميا” الإنسان والتطور

19-8-2008

العدد: 354

فى ملف الحب والكراهية:

 (سوف نكرر فى كل مرة:  أن  اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى التدريبى، وكذلك فإننا لا نرد أو نحاور أو نشرف إلا على الجزئية المعروضة فى تساؤل المتدرب، وأية معلومات أخرى تبدو ناقصة لا تقع مناقشتها فى اختصاص هذا الباب).

مقدمة عن الحب والجنس ثم: تجليات الحنان

صحيح أن الكتاب قديم نسبيا، ثلاثون عاما مضت منذ نشره (1969)، لكن الصحيح أيضا هو أن قضية تسْمية العواطف وتصنيفها لم تحسم، وقد لا تحسم أبدا، وفى رأيى أن الإضافات التى تمت خلال الثلاثين عاما الماضية ليست ذات بال، وربما جرت فى مجالىْ اللغة والفلسفة أكثر منها فى الطب النفسى وعلم النفس، لأن المسألة لم تعد بعد فى بؤرة اهتمام الممارسين الإكلينيكيين، وقد غلب عليهم الاختزال الكيميائى من ناحية، وأحاجى التحليل النفسى من ناحية الأخرى.

المؤلف هو رولوماى، ولد سنة 1909 فى أوهايو (الولايات المتحدة) وزار فينّا (النمسا) وحضر لقاءات (سيمينار) ألفرد أدلر، كما اتخذ موقفا ناقدا، وليس بالضرورة رافضا، من التحليل الفرويدى لتركيزه على الفرد دون المجتمع.

وقد ثار جدل ليس قليلا على تصنيف رولوماى ما بين رواد علم النفس الوجودى، وعلم النفس الإنسانى، إلى أنه كان أقرب إلى الأول وإن لم يكن سجين أبجديته.

فى سنة 1942 أصيب بالسل، ودخل طواعية إلى “مصحة لمدة ثمانية عشر شهرا”، وقيل له أنه قد لا يبرأ، ويبدو أن هذه الخبرة أفادته من جانبين، الأول: الوعى بمواجهة النهاية الفردية (الموت) والثانى: ما عايشه من آلام البشر حالة كونهم مرضى (جسديا) معاً.

كتابه الذى بين يدىّ الآن “الحب والإرادة” Love &Will تناول علاقة الحب بالجنس بشكل جديد. التحدى الذى ألقاه رولوماى فى وجه السائد (كما فعل وهو يتناول “معنى القلق Meaning of Anxiety”، “والإنسان فى بحثه عن ذاته “Man’s Search for Himself”) كان صادما ومفيدا فى آن، ذلك أنه عرض لتناقض حقيقى بينهما، وأيضا بين ما شاع عن كل منهما، بل عرض صراعاً أيضا بين الظاهرتين، فعنوان الفصل الثانى هو “التناقض بين الجنس والحب” Paradox of Sex & Love أما عنوان الفصل الثالث فهل “الحب فى صراع مع الجنس” Eros in Conflict with Sex، (لاحظ استعمال كلمة Eros مرة، وLove مرة أخرى، كمترادفين) وقد تناول هذه العلاقة بشجاعة وأصاله سوف نعود إليهما مع تطور نمو “الملف”، والاقتراب من التربيطات الضرورية بين كل من الحب والكره، مع الغرائز (الجنس والعدوان) وأيضا مع الموت والبعث.

حين هممت أن أترجم بداية الفصل الثانى لفت نظرى أنه صنّف الحب إلى أربعة أنواع حسب الثقافة الغربية هى:

(1) Sex وهو ما يطلقون عليه أحيانا Libido  أو Lust

(2) Eros وهو الدفع إلى إبداع وإنتاج مستويات أرقى من التواصل البشرى

(3) Philia وهو النوع الأقرب إلى الصداقة ثم:

(4) Agape أو Caritas وهو النوع الذى يكرس الحب لما يفيد الآخر، وهو أيضا – حسب كلامه- الخلفية وراء حب الله للبشر،

ثم أشار المؤلف إلى أن أى إنسان يعايش حقيقة ما يسمى حبا، إنما يمارس تشكيلات بدرجات مختلفة من هذه الأنواع الأربعة.

حاولت أن أبحث فى كل من القاموس العصرى والمورد عن ترجمة لهذه الكلمات الأربعة: Sex (مع مرادفيه Libido & Lust) ثم Eros وكذلك Philia وأخيرا Agape، فلم أجد ما يقابل ما أراده رولوماى تماما، أخذت كل كلمة عثرت عليها فى قواميس الترجمة، (مثل: وجْد، هيام، حب، جنس، ولع، شغف، إحساس، مشاعر، شبق) ورحت أبحث ماذا تعنى فى المعاجم العربية! “الوسيط” و”المحيط” و”أساس البلاغة”، “لسان العرب”، “تاج العروس”،….إلخ فلم أجد المقابل المناسب الذى أستطيع باستعماله أن أوصل المعنى الذى أراده رولوماى، ولا أنا وجدته بدقة مناسبة فى لغتنا العامية، هذا لا يعنى أن لغتنا أو لهجتنا غير قادرة على احتواء معانى ثقافة أخرى، لكنه عودة بنا إلى بؤرة الإشكالية، لا أكثر!

قبل ذلك، وفى يومية 17-11-2007 “عن ماهية الوجدان وتطوره (2) كيف لا نحبس الظاهرة فى لفظها” تكلمت عن حبس الظاهرة فى اسمها أو لفظها، وحين تعرضت فى يومية أخرى لكتاب Eroticism وخطر لى أن أترجم اللفظ إلى الجنسوية “يومية 13-6-2008 حوار/بريد الجمعة”، تراجعت عن ذلك، لأننى وجدت أن الكلمة وصلت للمتلقى وقد ارتبطت بالجنس القح كما شاع عند الغالبية، وتصورت أن الأفضل أن أرضى بالتعريب إلى“الإروتيكية”، لأبتعد بها قليلا أو كثيرا عن لفظ الجنس كما نستعمله فى اللغة العربية، ومازلت لست مرتاحا لهذا الحل حتى الآن.

ثم إنى فوجئت برولوماى الآن وهو يستعمل لفظ Eros لنوع من الحب الإنسانى الذى يصّاعد بالجنس إلى ما يليق بالنوع البشرى، ووجدت أنه يتكلم عنه فى طول الفصل بلفظ “الحب” love باعتبار أنه هو هو.

قلت فى نفسى: حتى إذا وجدنا الحل فى تعريب Eros إلى إروس، وErotisisms إلى الإروتيكية، فهل نعرب أيضا كل من philia إلى “الفيلوية” وagape إلى الأجابية وcaritas إلى الكاريتاسية؟

الأرجح أننا بذلك سوف نبتعد عن مشاعرنا ونبض وجداننا أكثر فأكثر، أكثر كثيرا من مجرد حبس كل وجدان فى لفظه العربى، ولو أن التعريب له مبرره من حيث أن معظم هذه الألفاظ هى لاتينية فى الأصل، وأننا نحتاج إلى اختراقٍ ماَ للسجن الذى سجنا فيه عواطفنا فى ألفاظ انتهى عمرها الافتراضى.

ما العمل؟

تذكرت ما كتبته للأطفال عن تشكيلات الوجدان مثل الحنان، والدفء البشرى، وقد واجهت نفس المشكلة دون تنظير متقعر مثلما أفعل الآن.

قلت نواصل الممارسة حتى يحلها حلاّل، لست أدرى كيف:

قررت أن أبدأ اليوم بعرض كيف تتجلى ظاهرة “الحنان”

ثم أعرض غداً “دفء التواصل البشرى”،

 لعلنا بذلك نقترب أكثر من مشروعية الدعوة للممارسة الصحيحة قبل وبعد الألفاظ

 ثم نرجع أو لا نرجع إلى التعريفات والتنظير.

ما سبق نشره بعد تحديث بسيط:

أولا: عن الحنان

“أما قبل”:

كثير هو الكلام عن الحنان، وعن العطف، وعن الرحمة، وعن الشفقة، كلام كله داخل فى بعضه. لن يزيد وضوحا إذا نحن عرّفناه من شروح المعاجم، أو الموسوعات الأكاديمية، فما بالك ونحن نتناوله بما هو شائع عنه من خلال فتاوى ونصائح المرشدين والموجهين والأطباء والإعلاميين للأمهات والآباء:  بأن يحبوا أولادهم جدا، بحنان بالغ جدا جدا،!! وخلاص!!!!

رجعت إلى الأغانى التى كتبتها للأطفال فوجدت أغنيتين فى الموضوع. قرأتهما كثيرا، رجّحت أن الأولاد والبنات وهم يغنونها، سوف تصل إليهم دون شرح. فماذاعن الكبار؟ 

يبدو أن المسألة ليست فى “أن تعلن حالة كونك تحب”، أو “أن تحنو”، أو “أن ترحم”، أو “أن ترعى”، المسألة هى فى أن تفعل كل ذلك، دون أن تسميه كذلك. وحتى دون أن تدرك أنه ذلك. مَنْ علّم  الحمامة أن تحن على الكتكوت البازغ من بيضتها؟  بل حتى قبل أن يبزغ من بيضتها؟ من علّم  الزرافة أو البقرة  أن تطمئن رضيعها وهى تلعق جسده بلسانها الحنون؟ ثم من علّم رضيعها أن يطمئن إلى ذلك؟ من علّم القطة أن تقفز فوق الأسطح وابنها بين فكيها لا تخزه أسنانها أصلا؟ وقد استغنْوا جميعا عن تسمية ما يفعلون

 تعالوا نستمع مع الأطفال إلى أغنيتهم، أغنيتنا أو نغنيها معهم،

 ثم نرى:

أغنية الحنّية

الحِـنّيـِّـّنْ، يعنى شايفْ

                 يعنى عارفْ:      

                      “إنى عايز منّه إيه،

                                فين وليه”.

مش ضرورى أقولّـه عنّه

هوّا انا يعنى عرفت إنّـه إنـّـهْ …؟

حتى لو إنى أنا ما عرفتهوش،

هوه عارف إللى انا ما قلتهوش.

 

مش ضرورى يدّهولى،

ولا حتى يوعد انه يعملولى،

بس أعرف إنه عارفْ:  أبقى متونس بِـشُوفْ:

إن خوفى مش بعيد عن شكل خوفه

إنه مِشْ ناسى، وحاسس باللى فيّـه

حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيـّة

لما اعوزك، بابـْقى مِشْ ملهوفْ عليكْ،

تكفى إيدى فى إيديكَ

هِيّـا لمسهْ واللِّى خَلَقَك

فيها إنى:  أيوه قابْـلَـكْْ

فيها كل اللى أنا مش عارف اقوله

فيها كل جميع ما ربّى مـِـدِّيـهولُهْ

فيها: “شُفْتَكْ”

 فيها:   تـِبعدْ،   لمْ يهمَّكْ،

فيها:  قرّبْ : آنـا جنبكْ

بس ما تقربش أكتر،

                كدههْ،

                         تِحـْلَوّ،              

                        تِــكـــْبرَ.

القراءة

نقرأ الأغنية بهدوء، فقرة فقرة، فالأمر متداخل:

اولا: علاقة الحنان بالشوفان!! 

 “الحنيّنْ، يعنى شايفْ، يعنى عارفْ:  “إنى عايز منه إيه، فين وليه”. مش ضرورى أقولّـه عنّه، هوّا انا يعنى عرفت إنّه إنهْ ..؟، حتى لو إنى أنا ما عرفتهوش، هوه عارف إللى انا ما قلتهوش”.

إن أول شرط لتكون هذه العاطفة المسماة “الحنان” حقيقية، هو أن “نرى” من ندعى أننا نحنّ عليه (أو يرانا من يدعى أنه يحن علينا)، أن نراه منفصلا عنا ككيان قائم بذاته، وهو يرانا كذلك (:يعنى شايف). هذا الشوفان لا يكون كذلك إلا إذا صاحبته “درجة مناسبة من المعرفة الموضوعية، ليست واعية أو تفصيلية بالضرورة، معرفة تعلن أن وعيا بشريا قد اتصل بوعى بشرى آخر، بدرجة تكفى للطمأنينة. معرفة ليست لإصدار الحكم، أو مصمصمة الشفاه، الحنان غير الشفقة، والشوفان غير الفرجة. تؤكد الأغنية على الشوفان لكنها لا تشترط إعلانه ولا تهتم بتفاصيله، وكأنّ يقينا صامتا يمكن أن نتبادله فيما بيننا لدرجة لا نعود نحتاج معه إلى ما هو “فين” و”ليه”؟ وكأنه بديهى. الحنان “تعاطف تزامنىّ معا” synchronous،  يجعلك تتعايش مع “كل” الآخر سلوكا وإيقاعا، دون اختزال، تتعايش بيقين مطمئن (راجع نقد: “يقين العطش” لإدوار الخراط). هذا التعايش المتزامن هو الذى يحدد ما هو “فين وليه”، دون تعيين بذاته.

ثانيا: الحنان لا يشترط عطاء جاهزا

” مش ضرورى يدّهولى، ولا حتى يوعد انه يعملولى، بس أعرف إنه عارفْ:   أبقى متونس بِـِشُوفُهْ،  إن خوفى مش غريب عن شكل خوفه، إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّـه،

حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيـّهْ”

الحنان يمكن أن يوجد ويُحدث أثره الطيب حتى لو لم يلحقه فعل يعلنه.  لنفترض أن أما فقيرة ليس عندها عشاء أولادها وهم يتضورون جوعا، ألا يزيدها ذلك حنانا عليهم؟ صحيح أن الأولاد لن يتعشوا حنانا، وأن الأصغر منهم على الأقل سوف يواصل البكاء مهما بلغ حنان أمه عليه، ومع ذلك فالحنان موجود حتى لو لم يترتب عليه أى فعل لظروف خارجية أو داخلية.

المثل العامى يقول: “زى الوز حنّية بلا بز”، وهو مثل جيد، حين ينبه إلى أهمية ترجمة الحنان إلى رعاية وعطاء، لكنه – من عمق آخر- ينسى أشكالا أخرى لوجود الحنان من حيث المبدأ، أليس الوز، الذى هو بلا بز، والطير عامة، يدفئ بيضه حنانا حتى يفقس؟ ألا يغذى صغاره منقارا لمنقار؟

الشوفان والحنان لا ينفصلان، الشوفان من فوق قد يرسل رسالة عكسية قاسية حين يصبح حكما أو فرجة كما أشرنا، يكون الشوفان طيبا ومطمئِنا حين يكون مشاركة ومعايشة، بمعنى أن أرى فى نفسى الجزءالمقابل الذى بدا لى فى الآخر، خاصة إذا كان صغيرا.

 يتصور أغلبنا أن علينا أن نزيل خوف الأطفال بأسرع ما يمكن، ويا حبذا إنكاره ابتداء.  إن برامج الأطفال ومجلاتهم قد نحت نفس المنحى إذ تحاول تجنيب الأطفال الخوف بإنكاره ورفضه من الأساس، وكأن الخوف ليس مزروعا فينا من أيام أن كان سلاحاً للإنذار، وتهيئة للاستعداد للقتال فى الغابة. إن اعتراف الكبير لنفسه وحتى لطفله بخوفه الطبيعى، هو الذى يطمئن الصغير إلى مشروعية خوفه، ثم يأتى بعد ذلك التعامل معه. إن وجه الشبه بين خوف الكبير وخوف الصغير هو الذى، يطمئن أكثر وأكثر (إن خوفى مش غريب عن شكل خوفه).

ثالثا: العلاقة مستمرة فى عمق الذاكرة/الوعى

“إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّـه، حتى لو ما عملشى حاجة ماللى هيـّة”

نحن لا نحتاج أن نرى بعضنا البعض جهارا نهارا وجها لوجه، طول الوقت حتى نتواجد “معا”. ثم إن الذاكرة بالمعنى الذى ورد فى هذه الفقرة ليست مجرد استعادة لذكرى مضت بقدر ما هى “وعى جاهز” حاضر، له محتواه المتكامل بعواطفه وأحداثه وشخوصه وترابطات علاقاته، حين نحمل الآخر فى داخلنا، فى ذاكرتنا، فى وعى الذاكرة وليس فقط فى جهاز تسجيلها لنستعيد اسمه عند الطلب ، نتواصل بدون حضور مباشر. وعى الذاكرة هو ليس مجرد تذكر وحكى ذكريات مضت، هو الذى يضمن لنا الائتناس ببعضنا البعض أثناء غياب أحدنا عن الآخر. حين تقول الأغنية: “إنه مش ناسى، وحاسس باللى فيّه”، دون أن تحدد “مش ناسى” ماذا، ولا مَن، فقط تشترط الإحساس بالحضور “الآن”، تصبح هذه “الذاكرة هى الوعى الفعال وليست شريط التسجيل. الذاكرة الوعى تحضر لتحيط، لا تسمّع قطعة محفوظات، حتى لو لم يترتب على حضورها فعل بذاته، (حتى لو ما عملشى حاجة ماللّى هيه).

رابعا: الحنان واللهفة والقبول

’لما اعوزك، بابقى مِشْ ملهوفْ عليكْ، تكفى إيدى فى إيديكَ، هيّ لمسة واللِّى خَلَقَك

فيها إنى:  أيوه قابْـلَـكْْ، فيها كل اللى أنا مش عارف اقوله

هناك زعم شائع، خاصة فى أغانى الحب، أن شدة اللوعة وحدّة اللهفة هى دليل على حرارة الحب، وهذا ليس صحيحا، خاصة مع الأصغر. إذا كان الحنان الحاضر الواصل للطفل (أو للمحبوب عموما) هو حقيقى وراسخ، فإن اللهفة تصبح أمرا ثانويا أو حتى عكسيا. الشوق الواثق الحميم يعلن الافتقاد الهادئ بديلا عن “جوع اللهفة”. إن الطفل (الطفل الطفل أو الطفل فينا) يريد أن يصله أن الآخر (الكبير) موجود “هناك فى الواقع:”، بقدر ما هو “هنا فى الوعى“. حتى لوعجز عن التعبير عن حاجته هذه بالألفاظ.

خامسا: الحنان والفطرة

 فيها كل جميع ما ربّى مـِـدِّيـهولُهْ”

سوف يظل مفهوم الفطرة غامضا، ليس لأنه يتناول شأنا غير حقيقى، لكن لأن الفطرة كما خلقها الله هى  شديدة الوضوح، هى القانون الطبيعى لحركية الوجود، هى أصل الحضور لدرجة أنها لا تحتاج إلى تمييز أو توصيف، فكأنها، لفرط بداهة حضورها، غير قابلة للوصف أو محتاجة إليه.

العلاقة بين البشر تكون فى أحسن أحوالها حين تكون الوصلة بيننا من خلال فطرة كل منا كما خلقها الله، قبل أن نشوهها فينا وفيهم. حين اقتصرت التعليمات الدينية على الترهيب والترغيب حتى للأطفال، دون القدوة والسلوك والتواصل المعاملة ونبض الكتب المقدسة قبل التفسير، اختفت معالم الفطرة وراء الإرعاب والرشاوى.  حين يقول النص هنا أن النظرة الحانية فيها: “كل جميع ما ربّى مديهوله”، فهو  يتكلم على لسان وعى الطفل حالة كونه أقرب إلى الفطرة كما خلقت. من يريد أن يتواصل مع فطرة الأطفال بأقل قدر من التشوية، عليه أن يعود لفطرته هو – ما أمكن ذلك – بأقل قدر من الوصاية المعقلنة، أو المبرمجة بالثواب والعقاب كجدول ضرب تفصيلى.

سادسا الحنان و”برنامج الدخول والخروج”

 “فيها شُفْتَكْ”. فيها: ” تبعدْ،  لمْ يهَّمك”، فيها:  “قرّبْ ، آنـا جنبكْ”، بس ما تقربش أكتر، كدهُـه ْ: تِحـْلَوّ،  تِــكـــْبرَ”

إضافة إلى بُعْد الشوفان الذى جاء فى البداية، نؤكد هنا على بعد “الحركة والمسافة”. الحنان ليس كمّا ثابتا نغترف منه القليل أو الكثير، وإنما هو حضور متحرك يسمح بالبعد والقرب، باستمرار، هذا ما يسمى فى مدرسة نفسية (مدرسة العلاقة بالموضوع) “برنامج الدخول والخروج“:(فيها تبعد لم يهمك، فيها قرّب، آنا جنبك).

إذا شُلّت هذه الحركية ، أصبحت العواطف كمّية قابلة للتجمد، أو النقصان حتى التلاشى.

 إن الطمأنينة التى يوفرها الحنان الحقيقى الذى يسمح بهذه الحركة المرنة هى التى تسمح ألا يكون الدخول فى وعى الآخر تهديدا بالامحاء، وأيضا ألا يكون البعد تهديدا بالاختفاء.

المسافة بين الذات والموضوع ضرورية لتكون هذه الحركة ممكنة (هذا هو ما يسمى: برنامج الدخول والخروجin-and-out program )، هذه المسافة هى التى تعطى معالم محددة متميزة للطرفين، وهى لا تقاس بالأمتار بل هى تتحدد بمدى استقلال كل منا  بمعالم ذاته فى مواجهة ذات الآخر المتميزة بدورها بمعالمها.

وغداً نتكلم عن الجزء الثانى

“عن الدفء البشرى معاً”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *