نشرة “الإنسان والتطور”
5-5-2010
السنة الثالثة
العدد: 978
الحالة: (64)
المعلــِّـم….. (3)
مقدمة:
مازلنا فى مغامرة قراءة هذا النص الأقرب إلى السيرة الذاتية، وأعتقد أن التقدم فيه بهذا البطء يرجع – ولو جزئيا- إلى المقاومة التى أعانى منها وأنا أتناوله، لكن ما يصبّرنى هو أملى أن يكون فيه ما يفيد فى العلاج النفسى، غير تلميحات السيرة الذاتية.
يا هلترى عمال باشوف الناس عشان أهرب
ما شوفشى مين أنا؟
ولا باشوفنى الناس؟ ؟
نفسى أشوفْنِى من بعيد
من تحت جلدي.
من وسط قضبان الحديد.
من غير كلام ولا سلام.
أحيانا تكون رؤية الطبيب النفسى – والفنان – للآخرين، ثم تصنيفهم وحتى علاجهم ونقدهم، وتصويرهم . . هى مهرب من رؤية ذاته، ليس بمعنى الاستبطان كما أشرنا، وإنما بمعنى البصيرة كما تمنينا، وإذا لم يمارس الطبيب رحلة الداخل والخارج من الناس إلى نفسه، وبالعكس، فانه خليق أن يعانى من إعاقه نموه هو شخصيا، ثم إنه حين يرى نفسه فى الناس دون نفسه فإنه لا يرى نفسه، أو كما قال لى أحد الأصدقاء (المرضى) مرة: “أنا لست امتدادك الجغرافى”.. فأيقظنى على يقظتى، (علما بأن هذا الصديق قال هذا التعليق بعد أن كنت قد كتبت هذه الفقرة بسنوات..) وفى محاولة الرؤية الصادقة.. لابد أن يقف الإنسان من نفسه موقفا تجاوزيا (من بعيد) . . حتى يمكنه أن يحكم، على ماهية وجوده . . ومن ثمَّ يعدل من مسيرته باستمرار.
نِفْسى أشوفنى من بعيد
الرؤية ليست مجرد تقييم للسلوك، ولكنها – حتى تنفع – لابد أن تكون رؤية لحقيقة الوجود، أو بعض ذلك على الأقل، وهى تحتاج أن نبتعد ونقترب مما نريد أن نراه، فما بالك برؤية الذات، الرؤية هنا استلزمت هذه النقلة إلى مدى يسمح أن يكتمل المنظر.
نفسى أشوفنى من بعيد: من تحت جلدى
لامفر من مغامرة الغوص إلى ما تحت السطح بصدق ومعاناة.، ومرة أخرى أؤكد أن هذه ليست محاولة استبطان (Introspection)، وأيضا يحتاج الأمر إلى التخلص من سجن المهنة والأحكام المسبقة:
من وسط قضبان الحديد.
قيود الطبيب النفسى الظاهرة كثيرة وصعبة، مثل تواصل اتصاله بالمجتمع، وحكم المجتمع عليه بما هو ليس هو، وانتظار المجتمع منه ما ليس عنده، وممارسته اليومية، فى مجاله وخارج مجاله…الخ، أما قيوده الداخلية فهى أشد وأصلب فهى آلياته (ميكانزماته) التى تحميه من جرعة رؤية لا يقدر عليها، ومن مفاجآت معرفة تفوق مسيرته أو تغير مجراها، دون إذنه، ودون ضمانات المآل.
ولكن كيف نضمن أن الرؤية ليست استبطانا معقلنا؟
أعتقد أن ذلك يتحقق حين نفاجأ بنتائج البصيرة النافذة أكثر مما يتم من خلال جهد تفكيرىّ قصدى، نعم: لا يوجد قرار يسمح بهذا الكشف البصيرى، وإنما يوجد قرار للتعرض لاحتمال ذلك ، ربما هذا هو ما أشار إليه النص، وهو يستبعد أن تكون الرؤية كلمات مرصوصة أو تحتاج إلى تمهيد معين.
من غير كلام ولا سلام.
* * * *
ثم يبدأ المتن فى سرد محاولات شحذ البصيرة خطوة بعد خطوة بشكل مباشر، أو بانعكاس محتمل
أقلب عيونى ولا ابص فى المرايه؟
نبدأ بالخطوة الأولى وهى: النظر لصورة الذات فى مرآة البصيرة
تعلمنا من قديم ما يسمى “وهل المرآة” Mirror Illusions وهو يشير إلى أن الشخص حين ينظر فى المرآة يرى نفسه على مسافة كأنه واقف خلف المرآة، وحقيقة الأمر أن الصورة ليست إلا منعكسا ضوئيا(؟!)
أنا لو أبص فى المرايه حاشوف “خيال”.
يبدو أن هذا النص فى المتن يدعم التأكيد على أن المسألة ليست مجرد النظر إلى الداخل، فقد ينتج عن ذلك أن نرى أنفسنا كما نتصورها وليس كما هى، الشخص وهو يحاول ذلك إنما ينقسم إلى “مُشاهٍد راصْد” بالعقل عادة، و”مشاهَدْ تحت الفحص”، وهكذا يجرى ما يمكن أن يسمى “تشيىء الذات”، وهو أمر يقلل أو حتى ينفى أنها رؤية الذات أصلا.
واجى أقرب للمراية التقى برد الجماد.
هكذا: تظهر الصورة باعتبارها صورة، وليست “أنا” الحقيقى بتكثيف طبقاته المتداخلة، وهكذا تتجلى صورة الذات وهى ليست إلا خيال، هو فى حقيقته “عكس” أو “مقلوب” ما هو “أنا”
إيده اليمين إيدى الشمال.
واقف بعيد ورا الإزاز.
* * * *
وشى يبطط، والنفس بيغطـى تقاسيمه كما جبل السحاب
قدام قمر مظلم حزين.
هذه الصورة استعرتها من بيتىْ شعر حكاهما لى والدى، وهو معجب بالصورة التى استطاع الشاعر أن يرسمها لتصوير، منظر الشمس فى يوم غائم، (نصف نصف) حين تظهر الشمس من بين سحب متقطعة، ثم تختفى، ثم تظهر إلا قليلا وهكذا، صوّر الشاعر هذا المنظر، وكأن الشمس هى وجه فتاة جميله تنظر فى المرآة وتتحسر على جمالها الذى لم يقدره أحد كما يستحق، فلم يتقدم لها أحد حتى تاريخه، تشاهد الجميلة وجهها فى المرآة، فتبهر بجمالها، وفى نفس الوقت تتحسر على أنها لم تتزوج حتى الآن، فتتنهد أسفا، فينطلق من تنهيدتها بخار ماء نَفَسِها، فيغطى سطح المرآة بشكل متقطع، هكذا بدت الشمس للشاعر وهى تظهر وتختفى من وراء السحاب الخفيف المتحرك، وهو ما يقابل بخار ماء تنفس الجميله أمام المرآة وهو يتكثف ويخف ويتفرق بغير انتظام، فتبدو ملامح وجهها الجميل جزئيا أو كليا ويتواصل التنهيد…!!!
ربما كانت هذه الصورة فى خلفية وعيى وأنا أحاول أن أنظر فى مرآة نفسى، فى مقابل تبلج الشمس وتفرجها جمالا، يتكشف لى حزن معتم حتى أخفانى عنى.
علاقتى بالحزن شديدة القوة، أنا لا أرحب به ولا أرفضه، أعيش زخمه وأنطلق منه، الحزن الذى بدا فى هذه الصورة ليس هو الحزن الذى أدافع عن حقى فيه، لكنه حزن مرّ مظلم يعلن قتامة صخور القمر دون ضوئه الفضى الساحر، أو شاعريته الساحرة.
* * * *
وامّا قلبت عيونى جوه عميت.
وحاولت ابص.
حاولت اقرا فى الضلام
مالقيت كلام
إذا كان لابد للطبيب النفسى أن يرى نفسه فعليه أن يغامر بتنشيط عينه الداخلية، وهنا نعود للتأكيد على الفرق بين “الادراك” و”التفكير”.
فرض العين الداخلية internal eye طرحته مؤخرا فى سياق احترام “واقع الداخل” internal reality وذلك لتفسير الهلاوس الحقيقية (نشرة 2-6-2009 “بعض معالم المناقشة”)، وأيضا تفسير نوم حركة العين السريعة(نشرة 28-4-2009 “مستويات وتشكيلات “الحقيقة”، والعين الداخلية”) المتن هنا لا يشير إلى هذه العين الداخلية وإنما ينبه إلى أننا إذا حاولنا رؤيه الداخل بنفس العين التى ترى الخارج، وبنفس قواعدها، فلن نرى شيئا أصلا.
أشير هنا إلى أنه أحيانا يشترط فى ممارسة التحليل لنفسى أن يمر المعالج ذاته بخبرة التحليل النفسى، وهذه نصيحة طيبة تهدف إلى نفس الهدف الذى أعرضه هنا، إلا أنى أختلف فى بعض التفاصيل نتيجة تصورى أن التحليل النفسى بطريقته التقليدية لا يسمح بتعميق الرؤية دون تفسير نظرى ملاحق
أعود فأشير هنا إلى أن طائفة من أطباء النفس والمعالجين يتقنون الاستبصار Introspection لذواتهم حتى تفسير أحلامهم، ولكنها ظاهرة عادة تبدأ بالكلام والملاحظات وتنتهى بالكلام والملاحظات (الكلام المسموع .. أو المكتوب أو الصامت) وهنا تصبح الألفاظ معطلة للرؤية الحقيقية الموضوعيه والدافعة للتغيير، ويتوقف الطبيب (المعالج) حيث يظن أنه يتقدم ويعرف، فى حين أنه متوقف داخل سجن ألفاظه.
أكرر التحذير من الاستبصار بلا تردد، الاستبصار قد يورى ما هو مجرد انعكاس للحقيقة وليست الحقيقة ذاتها، قد يورى صورة فكرية عن الذات، وليست الذات نفسها، وفى هذا ما فيه من خدعة وتقريب قد يصل غالبا إلى درجة التشويه إذْ قد يُظهر لنا صورة باردة أو محرفة، وليست الحقيقة الحية الثائرة الخائفة المتحفزة المتحدية معا.
الاقتراب من حقيقة الذات قد يشوهها (وشى ببطط) إذا كان اقترابا يستعمل أداة لا تصلح لها ثم إن مزيدا من الاقتراب قد يخفى معالمها..
وحاولت أقرا فى الظلام مالقيت كلام
إذا كانت الالفاظ عاجزة عن وصف ما بالداخل أو شرحه، وإذا كانت صورة النفس فى مرآة الفكر ما هى إلا خيال معقلن قد يقترب من الحقيقة ولكنه ليس الحقيقة، بل ربما يكون عكس الحقيقة، أو مسخ الحقيقة، فهل يمكن مواجهة الداخل دون رموز الفكر، ودون تصوير النفس، مواجهة حسية إدراكية مباشرة؟ ..، ربما
هذا ما يحاول أن يشير إليه المتن هنا دون أى ضمان لنجاح المحاولة.
وبعد
رأيت أنه من الأفضل أن نجمع الجزء الذى تناولناه بالقراءه من المتن معا بعد كل حلقة، لنعود إلى الشعر نستمع إلى احتجاجه على ما لحقه من تشويه بكل هذه الوصاية التى تورطنا فيها.
وها هو:
يا هلترى عمال باشوف الناس عشان أهرب
ما شوفشى مين أنا؟
ولا باشوفنى الناس؟ ؟
نفسى أشوفنى من بعيد
من تحت جلدي.
من وسط قضبان الحديد.
من غير كلام ولا سلام.
أقلب عيونى ولا ابص فى المرايه؟
أنا لو أبص فى المرايه حاشوف “خيال”.
إيده اليمين إيدى الشمال.
واقف بعيد ورا الإزاز.
واجى أقرب للمرايهْ التقى برد الجماد.
وشى يبطط، والنَّفَسْ بيغطـى تقاسيمُهْ كما جبل السحاب
قُدَّام قمر مظلم حزين.
وامّا قلبت عيونى جوه عميت،
وحاولت ابص،
حاولت اقرا فى الضلام
مالقيت كلام
وإلى الحلقة القادمة