الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الحلقة الثانية والعشرون الخميس‏: 26/1/1995‏

الحلقة الثانية والعشرون الخميس‏: 26/1/1995‏

نشرة”الإنسان والتطور”

6-5-2010

السنة الثالثة

العدد: 979

Photo_Mafouz

الحلقة الثانية والعشرون

الخميس‏: 26/1/1995‏

هذه‏ ‏ليلة‏ ‏الحرافيش‏ ‏الثالثة‏ ‏بالنسبة‏ ‏لى‏، ‏مازالت‏ ‏المسألة‏ ‏قاصرة‏ ‏على ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏وتوفيق‏ ‏صالح‏ ‏واحتمال‏ ‏جميل‏ ‏شفيق. ‏هل‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏آن الأوان أن أقول و”يحيى الرخاوى”، لست واثقا، لا أظن، أنا لا ‏ ‏أعتبر نفسى ‏حرفوشا بعد، ولن أكون غالبا!!، لست أدرى.

…. إلى ‏فورت‏ ‏جراند‏، ‏بعد‏ “‏بتاع‏ ‏السوداني‏”، ‏نعبر‏ ‏شارع‏ ‏الملك‏ ‏فيصل‏ ‏كله‏ ‏ونعود‏ ‏من‏ ‏شارع‏ ‏الهرم‏ ‏كله‏ ‏إلى ‏منزل‏ ‏توفيق‏ ‏بكل‏ ‏الحراسة‏ ‏وتوسيع‏ ‏الطريق‏ ‏استجابة لزمامير‏ ‏الإنذار‏ ‏والكشافات‏ ‏الزرقاء‏ ‏تضيء‏ ‏وتنطفيء‏ ‏أمامنا‏ ‏أو‏ ‏خلفنا، بدأت اعتاد على هذا الموكب السخيف، نفس الخطوات، نفس الواجهات، نفس الشوارع، لكنها ليست نفس الصحبة، هؤلاء الناس دائما غير ناس أمس، غير ناس الأسبوع الماضى، هذا هو، غالبا، نذهب إلى الفورت جراند كل هذه المسافة، نشرب‏ ‏فنجان‏ ‏قهوة‏ ‏سادة‏ ‏ونمكث‏ ‏فى ‏الفندق‏ ‏نصف‏ ‏ساعة أو أكثر بضع دقائق ثم نعود، هل يختلف طعم القهوة بعد هذه المسافة وسط هذا الزحام عنه لو شربناه قبل السهرة فى بيت توفيق؟ نعم‏، ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الأستاذ‏: ‏العادة‏ ‏المنتظمة‏ ‏أساس‏ ‏ضبط‏ ‏إيقاع‏ ‏الفعل‏ ‏اليومي‏، ‏وهى ‏التى ‏تفرخ‏ ‏فى ‏داخلها‏ ‏الإبداع “اللاعادة”.

‏ ‏فى ‏الفندق‏ ‏جاءت‏ ‏جلستى ‏بجوار‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏، ‏أحمد إذا لم يحضر معنا الجزء الأول من السهرة، لا يلحقنا عادة فى بيت توفيق، جميل شفيق يفعلها أحيانا، كان أحمد مظهر ‏ ‏حيويا‏ ‏وطيبا‏، ‏ما هذا يا أبو حميد! كيف تزداد نحافة هكذا كل ‏مرة‏، كدت أخشى لو استمر الحال هكذا أن تتلاشى، تذكرت المتنبى يخاطب سيف الدولة: “.. ‏لولا‏ ‏مخاطبتى ‏إياك‏ ‏لم‏ ‏ترني‏”، ‏تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏تغير‏ ‏فى ‏الفندق‏، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏كذا‏، ‏وكيت‏ ‏أيام‏ ‏أن‏ ‏كان‏ اسمه “‏هو‏ ‏ليداى ‏إن‏”، ‏قبل أحداث الأمن المركزى.

 فى ‏الطريق‏ ‏إلى ‏الفندق‏ ‏كان‏ ‏مظهر‏ ‏يحكى ‏كيف‏ ‏ذهب‏ ‏مرتين‏ ‏هذا‏ ‏الأسبوع‏ ‏إلى ‏استديو‏ ‏نحاس‏ (‏على ‏ما‏ ‏أذكر‏)، ‏ولم‏ ‏يصوِّر‏، ‏وفى ‏المرة‏ ‏التالية‏ ‏جاءه‏ ‏هاتف‏ ‏يقول‏ ‏إن‏ ‏زوجة‏ ‏عاطف‏ ‏صدقى ‏وبعض‏ ‏زوجات‏ ‏الوزراء‏ ‏سيحضرن‏ ‏للاستديو‏، ‏وأن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتواجد‏، ‏فتواجد‏، ‏ولم‏ ‏يحضرن،‏ ‏ولم‏ ‏يقابل‏ ‏الشخص الذى ‏‏هاتفه‏، وقال أنه يعتقد ‏أنهن‏ ‏كن قد قررن أن يجئن‏ ‏ليرون‏ ‏دلال‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏فى ‏الأغلب‏، ‏قلت‏ ‏مازحا‏: ‏بل‏ ‏ليروك‏ ‏أنت‏،‏لأن‏ ‏رئيس‏ ‏الوزراء‏ ‏والوزراء‏ ‏هم‏ ‏الذين‏ ‏يحضرون‏ ‏لدلال‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏أما‏ ‏زوجاتهم‏ ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏يحضروا‏ ‏لك‏ ‏أنت‏، ‏وضحك‏ ‏الاستاذ‏، وابتسم أحمد.‏

تطرق‏ ‏حديث‏ ‏مظهر‏ ‏إلى ‏نشاط‏ ‏كمال‏ ‏الشناوى ‏أثناء‏ ‏تصوير قديم ثمَّ‏ ‏‏ ‏بهذا‏ ‏الفندق‏، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يتصرف‏ ‏تصرفات‏ ‏غيرمتوقعة‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏تحتد‏ ‏عنده‏ ‏نوبة‏ ‏عاطفة‏ ‏مشبوبه‏، ‏فيندفع‏، ‏ويعزم‏ ‏ويصرف‏، ‏ويجمع‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏فى ‏جيوب‏ ‏الموجودين‏ ‏حتى ‏يحقق‏ ‏ما‏ ‏يريد‏، ‏وعقب مظهر‏ ‏على ‏صاحبة‏ ‏بذاتها‏، ‏بأنها‏ ‏ ‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏تستأهل‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏تلك‏ ‏اليله‏، ‏فى ‏حين‏ ‏كان‏ ‏معها‏ ‏سيدة‏ ‏أجنبيه‏ تكاد تلتهم ‏‏الشناوى، ‏لكنه ‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏وقع الناحية الأخرى ‏.‏

لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏الموضوع‏ ‏الذى ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏حدثت‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏عنه‏ من قبل وأنا أتساءل: ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏الممثلات‏ ‏يزددن‏ ‏حلاوة‏ ‏ومهارة‏ ‏فنية‏ ‏مع‏ ‏تقدم‏ ‏العمر‏، ‏التقط‏ ‏توفيق‏ ‏الحديث‏ ‏وقال‏ ‏إنه‏ ‏كان‏ ‏فى ‏بغداد‏ ‏يوما‏ ‏لمدة‏ ‏عشرة‏ ‏أيام‏ ‏فى ‏مهمة‏ ‏ما‏، ‏وكانت‏ ‏معه‏ ‏ليلى ‏طاهر‏، ‏وإذا‏ ‏بأحد‏ ‏الحاضرين‏ ‏النقاد‏ ‏العراقيين‏ ‏يقول‏ ‏لليلى ‏أنها‏ ‏كالسجادة‏ ‏فانزعجتْ‏ (‏وكأنها‏ ‏خافت‏ ‏من‏ ‏وقع‏ ‏الأقدام‏، ‏وأعقاب‏ ‏السجائر‏ ‏غير‏ ‏المطفأة‏)، ‏وحين‏ ‏استفسر‏ ‏الحاضرون‏ ‏عما‏ ‏يعنيه‏ ‏الناقد‏، ‏قال: ‏”‏إن‏ ‏السجادة‏ ‏الأصيلة‏ ‏تزداد‏ ‏قيمتها‏ ‏وجمالها‏ ‏كلما‏ ‏مـر‏ ‏عليها‏ ‏الزمن”‏، فحكيت لهم عن‏ ‏مخرج‏ ‏مسرحيه‏ “‏آه‏ ‏ياليل‏ ‏يا‏ ‏قمر‏” ‏حين‏ ‏لاحظ‏ ‏أن‏ ‏هدى ‏سلطان‏ ‏تجلس‏ ‏معنا نحن المشاهدين فى ‏الصف الأول، فنزل إليها ‏ ‏فى ‏الاستراحة‏ ‏بين‏ ‏فصلين‏ ، وأخذ بيدها، وصعد إلى المسرح يرحب بها، ويحيى حضورها‏، ‏واصفا‏ ‏إياها‏ ‏أنها‏ ‏مثل‏ ‏الخمر‏ ‏المعتقة‏، ‏كلما‏ ‏مـر‏ ‏عليها‏ ‏الزمن‏ ‏ارتفعت‏ ‏قيمتها‏ ‏وتحسنت‏ ‏جودتها‏.‏

وحين‏ ‏أشرت‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏طرأ‏ ‏على ‏ليلى ‏فوزي‏، ‏انزعج‏ ‏مظهر‏ ‏قائلا‏، ‏لا‏ .. ‏لا‏ .. ‏هذه‏ ‏شيء‏ ‏آخر‏، ‏فقلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏ثمة‏ ‏فرق‏ ‏بينها‏ ‏وبين‏ ‏هدى ‏سلطان‏ ‏وليلى ‏طاهر، وقلت رأيى أننى كنت أرها زمان وكأنها‏ ‏مثل‏ ‏لوح‏ ‏الثلج الأبيض اللامع، لكننى رأيتها مؤخرا فوجدتها قد ‏تحركت،‏ ‏وحضرت، ومثـلت‏، ونبضت حلاوتها الحقيقية تملأ حلاوتها الظاهرة وتذيب الثلج، وأرجعت ذلك إلى تقدمها فى العمر، كنت أميل على الأستاذ – كالعادة- وأوجه كلامى إليه‏، ‏فقال‏: “‏إن‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏كما تقول، فنعم” !!! ‏تحول الحديث ‏إلى فيفى عبده فى ‏مسرحية‏ ‏”حزمنى ‏يا‏ ‏بابا‏”، فقال أحمد مظهر رأيا طيبا فيها كممثله، وكإنسانة، ‏وأنه‏ ‏سمعها‏ ‏فى ‏حديث‏ ‏فى ‏التليفزيون‏، ‏فبكى ‏تأثرا‏ ‏من‏ ‏الصراحة‏ ‏والوضوح‏، ‏وقد أيده فى ذلك‏ ‏ ‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏أصدقائه‏، ‏ثم‏ ‏تجرأت وفتحت معه ‏ ‏الحديث‏ ‏من جديد عن ‏وزنه‏ ‏، ومن ثم عن ‏وحدته‏، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏لقد‏ ‏سمعتك‏ ‏الأسبوع‏ ‏الماضى ‏تقول‏ ‏إنك‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏تطيق‏ ‏الوحدة‏ ‏التى ‏تعيشها‏ ‏هذه‏ ‏الأيام،‏ ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏تقبل‏ ‏غيرها‏، ‏قال‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏أرضى ‏بغير‏ ‏ما‏ ‏أنا‏ ‏فيه‏، إن أم ‏الأولاد‏ ‏تأتى ‏أحيانا‏ ‏لترتيب‏ ‏المنزل‏ ‏أو‏ ‏أخذ‏ ‏الغسيل‏، ‏فإذا‏ ‏طال‏ ‏مكوثها أكثر مما أتوقع، ‏حتى ‏دون‏ ‏حوار،‏ ‏أجد‏ ‏نفسى ‏اشتقت إلى وحدتى وكانى – بينى وبين نفسى – ‏أتعجل‏ ‏انصرافها‏، قلت له: هذه بصيرة صعبة يا أبو حميد، لكن لك ما تختار.

‏ثم‏ ‏تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏مايكل‏ ‏جاكسون‏، ‏فقال‏ أحمد”…. ‏لقد‏ ‏كنت‏ ‏أحسب‏ ‏شهرته‏ ‏مرتبطة‏ ‏بفرقعاته‏ ‏مثل‏ ‏أنه‏ ‏ ‏ ‏غيّر‏ ‏لونه‏ وتبنى أطفالا كذا وكيت، ‏وكلام‏ ‏من‏ ‏هذا‏، ‏لكننى ‏سمعته‏ ‏وشاهدته أمس‏، دعونى ‏أعترف‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏عبقرية‏ ‏يستأهل‏ ‏عليها‏ ‏ما‏ ‏حصل‏ ‏عليه‏ ‏وأكثر”‏، ‏ثم لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏فريد‏ ‏شوقى ‏فقال‏ مظهر: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الرجل‏ ‏بدأ‏ ‏من‏ ‏الترسو‏ ‏ثم‏ ‏صعد‏ ‏إلى ‏البريمو‏، ‏وهو‏ ‏يعود‏ ‏إلى ‏الترسو‏، ‏وأنه‏ ‏- فريد- يحب‏ ‏التمثيل‏ ‏حبا‏ ‏لا‏ ‏حدود‏ ‏له‏، ‏ولا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يكف‏ ‏عنه‏، ‏وأنه‏ – ‏رغم‏ ‏سنه‏ – ‏يقف‏ ‏على ‏المسرح‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏حتى ‏الآن‏، ‏وعلى ‏ذكر‏ ‏السن‏، ‏سألته‏ ‏عن‏ ‏سنه‏، ‏فقال‏ ‏فى ‏عشرة‏ ‏أكتوبر‏ ‏القادم‏ ‏أتم‏ ‏الثامنة‏ ‏والسبعين‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏يعنى ‏لست‏ ‏”عقربا”‏، (‏مثلي‏) ‏قال‏: ‏بل‏ ‏أنا‏ ‏من‏ ‏برج‏ ‏الميزان‏، ‏فأعلنت أننى‏ لا ‏ ‏أحترم‏ ‏حديث‏ ‏هذه‏ ‏الأبراج‏، وقد تأكدت من عبث مثل هذا الكلام حين علمت أن اثنين من زملائى فى القسم (أساتذة طب نفسى) واحد أقدم، وواحد أحدث، هما أيضا من برج العقرب، والجميع يعرفون أننى أختلف عن كل منهما اختلافا شاسعا، بلا تفضيل، لكنه اختلاف لا جدال فيه، فكيف يجمعنا برج واحد. على ذكر السن، عدت أكتشف أننى وقد خرجت إلى المعاش الرسمى منذ عام وبعض عام: أصغر الموجودين، وابتسمت فرحا، مع أننى أبدا لم أكن فرحا وأنا أصغر إخوتى الذكور، رابع ذكر على التوالى (وبعدى بنتان)، أعتقد أننى جئت “زيادة عدد”، ولولا وفاة أخى “خالد” فى سن الثامنة، وكنت بعد فى الرابعة (لكننى أذكر وفاته) لما انتبه أحد إلى أننى جئت أصلا، ربما.

مَنْ هؤلاء الذين وجدت نفسى بينهم مؤخرا دون حساب، هل‏ ‏أنا‏ ‏أعيش‏ ‏الحاضر‏ ‏معهم‏ ‏أم‏ ‏التاريخ‏، ‏أم‏ ‏أنها‏ ‏فرصة‏ ‏لأثرى ‏ما‏ ‏تبقى ‏لى ‏من‏ ‏سنين‏ ‏بما‏ ‏ينبغي‏ مما فاتنى، أو مما لا أعرف، بدا لى أحمد مظهر أنه يقاوم النوم بشكل ما، لكنه أبداً لا يغفو، لا أظن أن الأستاذ قد لاحظ ذلك، أو ربما ألمحت أنا إلى هذا فجأة‏، ‏بعد‏ ‏فترة‏ ‏صمت‏ ‏ليست‏ ‏طويلة‏، ‏قال‏ ‏الأستاذ‏، ‏إنه تذكر طرفة لا يعتقد أنها حدثت، ذلك أن ‏ ‏شاعرا‏ ‏كان‏ ‏ينشد بين صحبة غلبها نعاس حين أفرطت فيما يمكن أن يُنعس، فأنشد الشاعر:‏

” ألا أيها‏ ‏النوام‏ ‏ويحكموا‏ ‏هُبُّو ‏ ‏أسائلكم هل يقتل الرجُلَ الحبُّ ‏‏”

. ‏فقام‏ ‏أحد الذين قد غلبه الشراب حتى كاد ينام، وصفعه محتجا أنه:

 “‏أتوقظنا‏ ‏ياغبى ‏لهذا‏ ‏السبب‏ ‏التافة؟‏”

 ‏وضحك‏ ‏الاستاذ‏ ‏ومال‏ ‏إلى ‏الخلف‏.

‏ فضحكنا جدا.

ربنا‏ ‏يخليه‏.‏

كانت‏ ‏ليلة‏ ‏مليئة‏ ‏بالتاريخ‏ ‏فعلا‏.‏

حين وصلنا‏ ‏إلى ‏بيت‏ ‏توفيق‏، ‏كنت‏ ‏أرجو‏ ‏أن‏ ‏أجد‏ ‏جميل‏ ‏شفيق‏ ‏فى ‏انتظارنا‏، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏موجودا‏، ‏ولا‏ ‏كان‏ ‏أولاد‏ ‏توفيق‏ ‏موجودين‏، ‏فجاءت‏ ‏زوجته‏ الكريمة ‏وجالستنا‏ ‏بعض‏ ‏الوقت‏ ‏بدعوة‏ ‏من‏ ‏توفيق‏، ‏هذه‏ ‏السيدة‏ ‏الفلسطينية‏ ‏الأصل‏ ‏سيدة‏ ‏رائعة‏، ‏سمحة‏، ‏نشطة‏، ‏شابة‏، ‏تحب‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏، ‏وتحب‏ توفيق، ‏وتحب‏ ‏الدنيا‏ ‏والحياة‏، ‏أو‏ ‏هكذا‏ ‏بدا‏ ‏لي‏، ‏ربنا‏ ‏يسعدها‏.‏

تمنيت فعلا أن يحضر‏ ‏جميل‏ ‏شفيق‏ ‏ولو متأخرا، كنت‏ ‏أنتظره‏ ‏جدا‏، ‏هو‏ ‏الحرفوش‏ ‏قبل‏ ‏الأخير‏، ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏عادل‏ ‏كامل‏ ‏أحد‏ ‏الحرافيش‏ ‏المؤسسين‏، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏حضرت‏ ‏مكالمة‏ ‏منه‏ ‏إلى الأستاذ من‏ ‏أمريكا‏ ‏أثناء‏ ‏تواجدى ‏مع‏ ‏الأستاذ‏ ‏فى ‏منزله‏، ‏بعد المكالمة، حدثنى الأستاذ ‏عنه‏ حديثا‏ ‏قصيرا‏، ‏وقد‏ ‏عرفت‏ ‏من‏ ‏الحديث‏ – ‏أنه‏ ‏أحد‏ ‏الحرافيش‏، ‏بل‏ ‏أنه‏ ‏عضو‏ ‏مؤسس‏ ‏جدا هو ومحمد عفيفى، أجمع المعلومات ببطء دون سؤال مباشر، ‏أى ‏عصر‏ ‏أعيشه‏ ‏أنا‏ ‏معهم‏ ‏الآن، هذا بالضبط ما يحول بينى وبين أن أقتنع أننى حرفوش أصلا، أشعر لو أننى لو ‏رضيت أن أنصف‏ ‏بهذه الصفة، كأننى‏ ‏قد‏ ‏سرقت‏ ‏تاريخا‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏حقي‏، ‏لكن‏ ‏الأستاذ‏ ‏يعاملنى ‏باعتبارى ‏أحدهم‏ جدا، ‏وكذلك‏ ‏توفيق‏ ‏ومظهر‏، ‏ليكن‏، ‏سأتعود‏، ربما أتعود.

 ‏حدثنى ‏توفيق‏ ‏ثم‏ ‏الاستاذ‏ ‏عن‏ ‏عادل‏ ‏كامل‏ ‏بظروفه‏ ‏بعد‏ ‏وفاة‏ ‏زوجته‏ ‏وزواج‏ ‏أولاده‏ ‏فى ‏أمريكا‏ ‏وإقامته‏ ‏معهم‏ ‏مختارا‏ ‏أو‏ ‏مضطرا‏، ‏استمعت ‏ ‏زوجة‏ ‏توفيق‏ لاسم عادل كامل أثناء دخولها الكريم بصحون العشاء الواحد تلو الآخر فقالت‏ ‏إنه‏ ‏سوف‏ ‏يحضر‏ ‏للزيارة‏ ‏أو‏ ‏أطول‏ ‏من‏ ‏الزيارة‏ ‏هذا‏ ‏العام‏، ‏ووافق‏ ‏توفيق‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏وهز‏ ‏الأستاذ‏ ‏رأسه راضيا، ‏لكن‏ ‏جوا‏ ‏من‏ ‏الأسى ‏كان‏ ‏يحل‏ ‏على ‏الثلاثة‏ ‏وعلى ‏زوجة‏ ‏توفيق‏ قبل أن تنصرف، لم افهم لماذا هذا الجو وهم يتذكرون صديقا بكل هذا الجمال‏، ‏ذكرنى توفيق صالح بما حكيته عن شعورى وأنا أكتب النقد الباكر عن رواية الشحاذ، وكيف أننى خشيت أن يكون الأستاذ نفسه قد مر بكل هذه الكآبة المُرّة، وإلا فكيف استطاع أن يغوص كل هذا الغوص فيما هو حزن بلغ حد المرض، كان ذلك فى سياق تصنيفى لأنواع الحزن مستشهدا بصلاح عبد الصبور فى قصيدته “أغنية إلى الله”، قال توفيق‏: ‏أعتقد ‏ ‏أن‏ ‏أزمة مرّ بها عادل‏ ‏كان‏ ‏فى ‏خلفية وعى ‏نجيب‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏وهو‏ ‏يكتب‏ ‏الشحاذ‏، ‏وارتفع‏ ‏حاجبا‏ ‏الأستاذ‏ ‏أكثر‏ ‏قليلا‏ (‏عما‏ ‏هما‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏)، ‏وهز‏ ‏رأسه‏ ‏هزة‏ ‏خفيفة‏، ‏وقد‏ ‏ذكرت‏ ‏مرارا‏، ‏وربما سوف‏ ‏أذكر‏ كثيرا، كيف أترجم زاوية إطراقات الأستاذ إلى ما أريد أن يصلنى، إطراقته هذه المرة لم تصلنى أنها موافقة، ربما كانت موافقة مشروطة، تعلمت جدا هذه اللغة ، ‏فليست‏ ‏كل‏ ‏هزة‏ ‏رأس‏ ‏موافقة‏، ‏وليس‏ ‏كل‏ ‏صمت‏ ‏رضا‏، ‏ولكن‏ ‏سماحته‏ ‏وتقبله‏ ‏للآخرين‏ ‏يجعلانه‏ ‏لا‏ ‏يعترض‏ ‏مواجها‏‏‏، ‏‏أصبحت‏ ‏أستطيع‏ – ‏بالتقريب‏ ‏طبعا‏ – ‏أن‏ ‏أقيس‏ ‏زاوية‏ ‏هز‏ ‏الرأس‏، ‏وارتفاع‏ ‏الحاجبين‏، ‏وعلو‏ ‏الضحكة‏ ‏وأستنتج‏ (‏صوابا‏ ‏أم‏ ‏خطأ‏)، ‏نوع‏ ‏ومدى ‏الموافقة‏، ‏وقد‏ ‏كانت‏ ‏الموافقة‏ ‏هذه‏ ‏المرة‏ – ‏كما‏ ‏رحجت‏ – ‏هى ‏موافقة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏أما‏ ‏تفاصيل‏ ‏ما‏ ‏أشار‏ ‏إليه‏ ‏توفيق‏ ‏فكانت‏ ‏أمرا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مراجعة‏، لكنه لم يعترض.

فتح‏ ‏توفيق‏ ‏موضوعا‏ ‏هاما‏ ‏وحساسا‏، ‏وهو‏ ‏معنى ‏ومدى ‏ومسئولية‏ ‏صحبتى ‏للأستاذ‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏، ‏وأن‏ ‏الأستاذ‏ ‏وهو‏ ‏يريان‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏حساب‏ ‏مصالحي‏، ‏وأنهما‏ ‏يرجحان‏ ‏أننى ‏أغلقت‏ ‏عيادتى ‏هذين‏ ‏الشهرين‏، ‏حيث‏ ‏ألازم‏ ‏الأستاذ‏ ‏يوميا‏، ‏وفى ‏مواعيد العيادات المألوفة، نفيت أى تأثير على نظام حياتى، ‏وأخذت‏ ‏أوضح‏ ‏أن‏ ‏صحبة الأستاذ هكذا هى ‏ ‏لى ‏وليست‏ ‏للأستاذ‏، ‏وأنه‏ ‏شرف‏ ‏أتاحه‏ ‏الله‏ ‏لشخصي‏، ‏ ‏أن‏ ‏أعيش‏ ‏مع‏ ‏”مصر” هذه‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏هكذا‏، ‏وأنه‏ ‏وأنه‏، ‏وأخذ‏ ‏توفيق‏ ‏يشرح‏ ‏بطيبة‏ ‏وحماس‏ ‏أنه‏ ‏يريدها‏ “‏صداقة‏” ‏لا‏ “‏تضحية‏”، ‏وكرر‏ ‏استعمال‏ ‏لفظ‏ “‏أصدقاء‏”، ‏نريد‏ ‏أن‏ ‏نظل‏ ‏أصدقاء‏، ‏فوصلتنى الكلمة أكبر من دورى، ‏هو‏ ‏صديق‏ ‏الأستاذ‏ ‏بلا‏ ‏أدنى ‏شك‏، ‏وصديق‏ ‏عزيز‏ ‏رائع‏ ‏رغم‏ ‏الهمز‏ ‏واللمز‏، ‏لكن‏ ‏أنا‏؟ بصراحة‏؟ ‏أنا مريده لا أكثر‏، ‏أرد‏ ‏بعض جميله‏ ‏على ‏مصر‏، ‏وراح‏ ‏توفيق‏ ‏يصر‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏كنت‏ ‏جالسا‏ ‏بجوار‏ ‏الأستاذ‏ ‏أثناء‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏، ‏فرفعت‏ ‏صوتى ‏وملت‏ ‏عليه‏ ‏مخاطبا‏ ‏توفيق،‏ ‏قلت‏ ‏له‏: ‏يا‏ عمْ ‏‏توفيق‏ ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أطمئنك‏ ‏وأطمن‏ ‏الأستاذ‏ ‏أننى ‏لا أبذل ثانية واحدة‏ ‏من‏ ‏وقتى ‏إلا‏ ‏عن‏ ‏طيب‏ ‏خاطر‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أعرفه‏ ‏عن‏ ‏نفسى ‏ظاهرا‏ ‏وباطنا‏، ‏ولا‏ ‏تنس‏ ‏أن‏ ‏مهنتى ‏علمتنى ‏أن‏ ‏أرى ‏باطنى ‏بدرجة‏ ‏تسمح‏ ‏لى ‏بهذا‏ ‏التأكيد‏، ‏التفت‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ‏توفيق‏ ‏قائلا‏: “‏خلاص‏ ‏يا‏ ‏توفيق‏ ‏كذا‏ كده‏ ‏إتحلت‏”، ‏ورأيت‏ ‏الطمأنينة‏ ‏على ‏وجهه‏، ‏وفرحت‏، ‏وفهمت‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ صدّقنى، واطمأن إلى قدرتى على رصد عمق قراراتى، ونادرا ما أجد من يصدقنى فى ذلك، ولا نفسى. هذا هو الأستاذ.

حديث‏ ‏الحرافيش‏ ‏الليلة‏ ‏هو‏ ‏حديث‏ ‏ذكريات‏ ‏قديمة‏ ‏قديمة‏، ‏طيبة‏ ‏وسلسلة‏، ‏غياب‏ ‏جميل‏ ‏شفيق‏ ‏أثر‏ ‏فى ‏حيوية‏ ‏الجلسة‏ ‏لكنه‏ ‏أيضا‏ ‏أتاح‏ ‏هذا‏ ‏الفيض‏ ‏الزاخر‏ ‏من‏ ‏الذكريات‏.‏

أظن‏ ‏أن‏ ‏الحديث‏ ‏قد‏ ‏بدأ‏ ‏عن‏ ‏التناسب‏ ‏العكسى ‏بين‏ ‏التلقائية‏ ‏وحبكة‏ ‏الصنعة‏، ‏قال‏ ‏توفيق‏ ‏إن‏ ‏إمكانيات‏ ‏المخرج‏ – ‏مثلا‏ – ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏تتيح‏ ‏له‏ ‏فرصا‏ ‏بلا‏ ‏حصر‏، ‏تكاد‏ ‏تبلغ‏ ‏عشرات‏ – ‏إن‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏مئات‏ – ‏الأضعاف‏ ‏عن‏ ‏ذى ‏قبل‏، ‏لكن‏ ‏الرؤية‏ ‏ضاقت‏ ‏أو‏ ‏اختنقت‏، (‏رؤية‏ ‏المخرج‏) ‏قلت‏ ‏له‏: ‏إن‏ ‏التحدى ‏الذى ‏يفرض‏ ‏نفسه‏ ‏على ‏المبدع‏ ‏والمنتج‏، ‏بل‏ ‏على ‏العالم‏ ‏والروائى ‏هذه‏ ‏الأيام‏: ‏هو‏ ‏التوفيق‏ ‏بين‏ ‏الإمكانيات‏ ‏والأصالة‏: ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تركب‏ ‏طائرة‏ ‏وترقص‏ ‏بها‏ ‏مثل‏ ‏رهـْونة‏ ‏الفارس؟‏

أكمل‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏ذاكرا‏ ‏”حلمى ‏رفله”‏، ‏قال‏ ‏هذا‏ ‏شخص‏ ‏حرفى ‏من‏ ‏الدرجة‏ ‏الأولى ‏أكثر‏ من ‏خمس‏ ‏وأربعين‏ ‏أو‏ ‏خمسين‏ ‏سنة‏، ‏وقد‏ ‏حذق‏ ‏التكنيك‏ ‏حذقا‏ ‏شديدا‏، ‏إلا‏ ‏أنك‏ ‏لا‏ ‏تجد‏ ‏له‏ ‏سوى ‏أربعة‏ ‏أو‏ ‏خمسة‏ ‏أفلام‏ ‏تستحق‏، ‏كان‏ ‏حلمى ‏رفلة‏ ‏يحذق‏ ‏التفاعل‏ ‏مع‏ ‏الجنس‏ ‏اللطيف‏ ‏والناس‏ ‏عموما‏ ‏منذ‏ ‏نشأته‏ ‏مزينا‏ (‏كوافيرا‏) “‏يزين‏ ‏الرؤوس‏ ‏والشعر‏”، ‏ثم‏ ‏تطوره‏ ‏مجمِّلا‏ ‏ومعدلا‏: ‏يشكل‏ ‏الوجوه‏ (‏ما‏ ‏كييرا‏)، ‏ثم‏ ‏مخرجا‏، ‏قال‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر ‏إنه‏ ‏يعرفه‏ ‏منذ‏ ‏كان‏ “‏ما‏ ‏كييرا‏”، ‏وأنه كان‏ ‏قد‏ ‏عمل‏ ‏له‏ ‏ماكياج ‏شخصيا‏ ‏ربما‏ ‏فى ‏أوائل‏ ‏الأربعينيات‏، ‏يقول‏ ‏مظهر‏: ‏كنت‏ ‏مازلت‏ كلمة واحدة ‏يوز‏باشى‏، ‏وكانت‏ ‏المسرحية‏ ‏اسمها‏ “‏الوطن‏” ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مبارزين‏ ‏بالسيف‏ ‏لمدة‏ ‏دقيقة‏ ‏أو‏ ‏اثنتين‏، ‏فرشـَّحنى ‏أحدهم‏ ‏أن‏ ‏أقوم‏ ‏بهذا‏ ‏الدور‏ ‏وكان‏ ‏المخرج‏ ‏هو‏ ‏فتوح‏ ‏نشاطى (‏على ‏ما‏ ‏أذكر‏) ‏وكانت‏ ‏المبارزة‏ ‏تستغرق‏ ‏دقيقتين‏ ‏ولا‏ ‏ينطق‏ ‏فيها‏ ‏المتبارزان‏ ‏سوى ‏جملتين‏ ‏اثنتين‏، ‏وكان‏ ‏أحدهما‏ ‏يموت‏ ‏فى ‏المبارزة‏، ‏وقد‏ ‏اختارنى ‏المخرج‏ ‏لأكون أنا الذى يموت، وأثنى على تمثيلى ‏قائلا‏: “‏إنت‏ ‏بتعرف‏ ‏تموت‏ ‏كويس/‏ ‏برافو‏”،!!! ‏وكان‏ ‏البطل‏ ‏هو‏ ‏يحيى ‏شاهين‏، ‏وكان‏ ‏أيامها‏ ‏فى ‏عز‏ ‏عكس‏ ‏ما‏ ‏انتهى ‏إليه‏ ‏من‏ ‏تدين أو‏ تصوف‏، ‏كان‏ ‏حاد‏ ‏اللسان‏، ‏مركزا‏ ‏على ‏ذاته‏ ‏يقف‏ ‏وراء‏ ‏الكواليس‏ ‏متعجلا‏ ‏الإنتهاء‏ ‏من‏ ‏المشهد‏ (‏رغم‏ ‏قصره‏) ‏صائحا‏ ‏فى ‏المتبارزين‏ (‏همسا‏)، “‏ياللا‏ ‏يا‏ ‏ولاد‏ ‏الكلب‏ ‏خلـصونا‏”، ‏وتطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏بدايات‏ ‏وتصرفات‏ ‏يحيى ‏شاهين‏ ‏حين‏ ‏كان‏ ‏متزوجا‏ ‏مجرية‏ ‏سافر‏ ‏معها‏ ‏وعمل‏ ‏ما‏ ‏عمل‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏حياته‏ ‏كان‏ ‏شخصا‏ ‏آخر‏ ‏وتزوج‏ ‏زواجه‏ ‏الأخير‏ ‏وترك‏ ‏طفلة‏ ‏وحيدة‏ ‏عندها‏ ‏ثمان‏ ‏سنوات‏، ‏هكذا‏ ‏أضافت‏ ‏زوجة‏ ‏توفيق الفاضلة بعد أن سمعت جزءا من الحديث أثناء دخولها ذات مرة‏.‏

انتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏زكى ‏طليمات‏، ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏ما‏ ‏قاله‏ ‏عن‏ ‏مسرحية‏، ‏أظن‏ ‏اسمها‏ “‏يوم‏ ‏القيامة‏،” ‏وأغنية‏ “‏يا‏ ‏دى ‏الهنا‏ ‏يا‏ ‏دى ‏الهنا‏‏”، ‏ثم‏ “‏يا‏ ‏حلاوة‏ ‏الدنيا‏ ‏يا‏ ‏حلاوة‏ ‏يا‏ ‏حلوْلوْ،‏ ‏يا‏ ‏حلااااوة‏” ‏لسيد‏ ‏درويش‏، ‏قالها‏ ‏الأستاذ‏ ‏مع‏ ‏توفيق‏ ‏بنغمتها‏، ‏فشاركنا‏ ‏زوجة‏ ‏توفيق‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏المقطع‏ ‏الأخير‏، ‏وقلت لهم إن أحد تلاميذى د.”‏سيد‏ ‏الرفاعى‏” (وهو ملحن هاو) ‏يغنيها‏ ‏ويعزفها بجمال فائق، ‏ووعدت الأستاذ ان يحضر د. سيد بعوده، ويغنيها لنا فى ‏بيتى فى اليوم التالى: يوم الجمعة‏.‏

توالت‏ ‏الذكريات‏ ‏بشكل‏ ‏هادىء‏ ‏منساب،‏ ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أتابع‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏قيل‏ ‏من‏ ‏اسماء‏ ‏وأغانى ‏ومخرجين‏.‏

قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏هذه‏ ‏هى ‏الفترة‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏فيها‏ ‏واقعين‏ ‏فى ‏أسر‏ ‏الشيخ‏ ‏زكريا‏ ‏أحمد‏، ‏نكثر‏ ‏من‏ ‏التردد‏ ‏عليه.

ومع‏ ‏ذكر‏ ‏التاريخ‏ ‏هكذا ونحن نتحدث ، قفز لى موقفى من الشك فى التاريخ المكتوب، ورحت ‏أتبين‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الحقيقة‏ ‏كما‏ ‏أسمعها‏ ‏الآن،‏ ‏وبين‏ ‏ما‏ قد ‏يكتب‏ ‏عن‏ ‏هؤلاء‏ ‏جميعا‏ ‏وكأنه‏ ‏تاريخ‏ ‏موثق‏، ‏وتأكدت ‏ ‏أن‏ ‏الحقيقة‏ ‏التاريخية‏ ‏لا‏ ‏تتواجد‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏التفاصيل‏ ‏الصغيرة‏، ‏فأعلنت ما كان يدور بذهنى، وتحفظى على أية معلومة تصلنى على أنه التاريخ، حتى أننى ‏أشرت‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏الدراسات‏ ‏التى ‏أنكرت‏ ‏ظهور‏ ‏المسيح‏ ‏أصلا‏ ‏وكأنه‏ ‏من‏ ‏نسج ‏خيال‏ ‏مجموعة‏ ‏الناس‏، ‏قال‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏‏: ما أعرفه هو أن‏ ‏الاختلاف‏ ‏هو على ‏موعد‏ ‏مولده‏ ‏وليس‏ ‏على ‏وجوده‏، ‏فبعض‏ ‏الطوائف‏ ‏الكاثولوكية‏ ‏مثلا‏ ‏تؤرخ‏ ‏ميلاده‏ ‏فى 25 ‏ديسمبر‏ ‏وأخرى 7 ‏يناير‏ ‏وثالثة‏ ‏أول‏ ‏يناير‏، ‏فقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏قافشا‏، ‏إنه‏ ‏يقال‏ إن ‏شيخ أحد الشيوخ الظرفاء علق على هذا الخلاف بدعوة لهم أنْ: “‏وحـدوه‏!!” ‏وضحكنا، ثم‏ ‏رجع‏ ‏الأستاذ‏ ‏جادا‏ ‏إلى ‏القضية‏ ‏المثارة‏، ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏إنكار‏ ‏ظهور‏ ‏المسيح‏ ‏نشأ‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏نشأ‏ ‏نتيجة‏ ‏عدم‏ ‏ورود‏ ‏أى ‏ذكر‏ ‏له‏ ‏فيما‏ ‏دوِّن‏ ‏من‏ ‏تاريخ‏ ‏الرومان‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحقبة‏، ‏وهذا‏ ‏طبيعي‏، ‏لأن‏ ‏المؤرخ‏ ‏الرومانى ‏قد‏ ‏يؤرخ‏ ‏لحرب‏ ‏لقيصر‏ ‏أو‏ ‏لحدث‏ ‏فى ‏بلاط‏ ‏الامبراطور‏، ‏لكن‏ ‏لا‏ ‏يعنيه‏ ‏أن‏ ‏يكتب‏ ‏عن‏ ‏طفل‏ ‏ولد‏ ‏وعاش‏ ‏فى ‏إحدى ‏حارات‏ ‏فلسطين‏، ‏وأثار‏ ‏حوله‏ ‏بعض‏ ‏القيل‏ ‏والقيل‏، ‏وأن‏ ‏مشاجرة‏ ‏جرت‏ ‏بين‏ ‏سكان‏ ‏حارة‏ ‏مجهولة‏، ‏ودمتم‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏انتهت‏ ‏المشاجرة‏ ‏إلى ‏محاكمة‏ ‏أو‏ ‏إعدام‏، ‏المؤرخ‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يستطيع‏ – ‏طبعا‏ – ‏أن‏ ‏يدرك‏ ‏آنذاك‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏ ‏أو‏ ‏الشاب‏ ‏أو‏ ‏المشاجرة‏ ‏ ‏تخص‏ ‏نبيا‏ ‏له‏ ‏رسالة‏، ‏تبقى ‏من‏ ‏بعده‏ ‏هكذا‏ ‏لهذه‏ ‏المئات‏ ‏من‏ ‏السنين‏، ‏ثم‏ ‏نفس‏ ‏الأمر‏ ‏بالنسبة‏ ‏لخروج‏ ‏بنى ‏اسرائيل‏ ‏من‏ ‏مصر‏، ‏وانشقاق‏ ‏البحر‏ ‏الذى ‏فسروه‏ ‏بالمد‏ ‏والجزر‏، ‏لم‏ ‏تذكره‏ ‏كتب‏ ‏التاريخ‏ ‏وإنما‏ ‏الذى ‏ذكرته‏ ‏هى ‏الكتب‏ ‏السماوية‏، ‏والأرجح أن ذلك قد حدث ‏ ‏لنفس‏ ‏السبب‏، ‏لأن‏ ‏من‏ ‏يكتب‏ ‏التاريخ‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يعلم‏ ‏ما‏ ‏سيترتب‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الخروج‏ “، التفتُّ إلى أحمد مظهر وأنا منبهر بتفسيرات الأستاذ، فوجدته يتثاءب ‏ من جديد‏ ‏متعبا‏ ‏أو‏ ‏محتجا‏ ‏نفسيا‏، ‏أو‏ ‏غير‏ ‏متابع‏، ‏فقلت فى نفسى: ‏ ‏أين‏ ‏أنت‏ ‏يا‏ ‏جميل‏ ‏شفيق‏ ‏توقظه‏ ‏بإحدى نكاتك، أو قفشاتك، ‏داعبت أحمد وهو يتثاءب منبها إياه أنه قد يعدينا، ‏وذكرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏بيت‏ ‏الشعر‏ ‏القائل‏:‏

تثاءب‏ ‏عمرو‏ ‏إذ‏ ‏تثاءب‏ ‏خالد‏ ‏بعدوى ‏فما‏ ‏أعدتنى ‏الثؤباء

قال‏ ‏توفيق‏ ‏إن‏ ‏عدوى ‏التثاؤب‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏حقيقة‏ ‏ملحوظة‏ ‏مثلها‏ ‏مثل‏ ‏الضحك‏، ‏وهنا‏ ‏يتدخل‏ ‏الأستاذ‏ ‏قائلا‏: “‏ليس‏ ‏تماما‏، ‏فقد‏ ‏تجد‏ ‏إنسانا‏ ‏يضحك‏، ‏بل‏ ‏يقهقه‏، ‏وأنت‏ ‏لا‏ ‏تعرف‏ ‏ماذا‏ ‏يضحكه‏ ‏هكذا‏، ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تشاركه‏ ‏تلزقة‏ ‏على ‏وجهه‏ أو قفاه ‏محتجا‏ قائلا: ‏ماذا‏ ‏يضحكك‏ ‏يا‏ ‏جدع‏ ‏إنت؟‏” ‏وشوح‏ ‏بيده‏ ‏اليسرى ‏يمينا‏ ‏ويسارا‏ ‏وكأنه‏ ‏يضرب‏ ‏الضاحك‏ ‏وحده‏‏، ‏بدلا من يقبل‏ ‏أن‏ ‏يعديه‏ ‏الضحك‏ (‏مقارنة‏ ‏بالتثاؤب‏).‏

‏الأستاذ‏ ‏لا‏ ‏يفـوته‏ ‏شيئا‏.‏

دخلت‏ ‏زوجة‏ ‏توفيق‏ ‏وقالت‏ ‏إن‏ ‏رجاء‏ ‏النقاش‏ ‏على ‏التليفون‏ ‏يريد‏ ‏توفيق‏، ‏ذهب‏ ‏توفيق‏ ‏وعاد‏ ‏يقول‏ ‏إن‏ ‏الطيب‏ ‏صالح‏ ‏الآن يجلس‏ ‏مع‏ ‏رجاء‏ ‏النقاش‏، ‏ويريد‏ ‏أن‏ ‏يكلم‏ ‏الأستاذ‏ ‏كلمتين‏، ‏واستجاب‏ ‏الأستاذ‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏الكلام‏ ‏فى ‏التليفون‏ ‏يتم من جانبه فقط‏، تتناول توفيق السماعة ليقوم بالترجمة ‏وسمعت‏ ‏الطيب‏ – ‏‏كما‏ ‏يبلغ ‏توفيق الأستاذ ‏- ‏يطمئن‏ ‏على ‏أستاذنا‏ ‏الجليل‏ “‏والأستاذ‏ ‏يجيب‏ “‏ربنا‏ ‏يخليك‏”.‏

تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏الطيب‏ ‏صالح‏ ‏وموسم‏ ‏الهجرة‏ ‏إلى ‏الشمال‏ ‏وأثار‏ ‏توفيق‏ ‏مسألة‏ ‏تكرار‏ ‏هذه‏ ‏القضية‏ “‏التيمة‏” ‏منذ‏ ‏محمد‏ ‏التابعي‏، ‏وعلى ‏محمود‏ ‏طه‏، ‏والصاوى ‏محمد‏، (‏لم يذكر ‏توفيق‏ ‏الحكيم‏)، ‏وهى‏ ‏الصورة‏ ‏التى ‏تكررت‏ ‏عن‏ ‏علاقة‏ ‏الرجل‏ ‏الشرقى ‏عامة‏ (‏والمصرى ‏خاصة‏) ‏بالمرأة‏ ‏الغربية‏، ‏وأن هذه‏ ‏الصورة‏ ‏ترسم‏عادة صورة‏ ‏الشاب‏ ‏الفحل‏ ‏الذى ‏يستهوى ‏النساء‏ ‏الشقراوات‏ ‏بفحولته‏ ‏حتى ‏تصبح‏ ‏هى ‏ما‏ ‏يميزه‏، ‏وأن‏ ‏الطيب‏ ‏صالح‏ ‏فى ‏موسم‏ ‏الهجرة‏ ‏إلى ‏الشمال‏ ‏تحرك‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الحدود‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏ربما يكون‏ ‏تفسير‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏حدث‏ ‏حوالى ‏الحرب‏ ‏العالمية‏ ‏الثانية‏، ‏وأننا‏ ‏كنا‏ ‏تابعين‏ ‏ضعفاء‏، ‏وليس‏ ‏عندنا‏ ‏ما‏ ‏نفخر‏ ‏به‏ ‏سوى ‏الفحولة‏ ‏الحقيقية‏ ‏أو‏ ‏المتخيلة‏، ‏وهم‏ ‏كانوا‏ ‏قد‏ ‏خرجوا‏ ‏من‏ ‏الحرب‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏منتصر‏ ‏منهك‏، ‏ومهزوم‏ ‏ضائع‏، وهكذا فقد كل من المنتصر والمنهزم ما يفخر به، المنتصر انتصر دون فروسية حقيقية، والمنهزم انهزم فجرحت كرامته، وهكذا تخلوا جميعا عن نسائهم بغير قصد، ‏فأخذنا‏ ‏نحن‏ ‏الشرقيين‏ ‏نتصور أننا قادرون أن نعوض‏ ‏نقصنا‏ ‏بدور‏ “‏الفحولة‏”، حقيقة أو ادعاء، وكأن ذلك هو ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يميزنا‏ ‏فى ‏تلك‏ ‏الآونة‏، ‏ولم‏ ‏أوافق‏ ‏ ‏على ‏هذا‏ ‏التفسير، لكننى لم أعلن رأيى، فقد كان موعد الانصراف قد اقترب.‏

سألت‏ ‏توفيق‏ ‏عن‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏حب‏ ‏الناس‏، ‏وحتى ‏الشباب‏ ‏منهم‏، ‏للأفلام‏ ‏القديمة‏ ‏مع‏ ‏بساطتها‏ ‏وسطحيتها‏ ‏أحيانا‏، ‏قال‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏إنها‏ ‏كانت‏ ‏تمثل‏ ‏تواصلا‏ ‏بين‏ ‏كل‏ العاملين‏ ‏مع بعضهم البعض، لم يكن الممثل آنذاك يهتم أن‏ ‏يظهر‏ ‏- ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ – ‏على ‏حساب‏ ‏زميله، وأحيانا حتى على حساب الكومبارس‏، كان ‏المخرج‏ ‏يبرز‏ ‏دور‏ ‏السيناريست‏، ‏والسينارست‏ ‏يحرص‏ ‏على ‏تعميق‏ ‏دور‏ ‏الممثل‏، أى ممثل وكل ممثل، وهو يحدد لكل دوره وكأنه الدور الأول، ‏وهكذا‏، ‏أما‏ ‏الآن‏ ‏فالمسألة‏ ‏تسير‏ ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏التكنولوجيا‏، ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏بقدر‏ ‏هائل‏ ‏من‏ ‏حركة‏ ‏القص‏ ‏واللصق‏، ‏فأصبح‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏يقوم‏ ‏بدوره‏ ‏منفصلا‏، ‏وكأنه‏ ‏ليس‏ ‏وِحدة ‏فى ‏كلٍّ‏ ‏متكامل‏، ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏يستغرق‏ ‏فى ‏جزئيته‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏، ‏أما‏ ‏جمع‏ ‏الأجزاء‏ ‏فهذه‏ ‏مهمة‏ ‏تتم‏ ‏فى ‏غياب‏ ‏الالتحام‏ ‏فى ‏الكل‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

قال‏ ‏توفيق‏: ‏خذ‏ ‏مثلا‏، ‏عندك‏ ‏يوسف‏ ‏شاهين‏، ‏هو‏ ‏يملك‏ “‏عين‏” ‏مخرج‏ ‏بحق‏، ‏مازال‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يرى ‏ما‏ ‏يفعل‏ ‏وأن‏ ‏يحقق‏ ‏ما‏ ‏يرى، ‏لكن‏ ‏ذاته‏ ‏راحت تتضخم‏، ‏وأدواته‏ ‏تطغى ‏حتى كاد ‏يختفى ‏بينها‏، ‏وبها‏. ‏قلت‏ ‏له‏: ‏إنه‏ ‏تطور‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لم أتوقعه، أنا لم أرحب به إلا ممثلا فى “‏باب‏ ‏الحديد‏”، “‏ثم بدأت أتحفظ عليه من أول‏ ‏”عودة‏ ‏الابن‏ ‏الضال‏”، ثم إننى‏ ‏أشعر‏ ‏أنه‏ ‏يقدم‏ ‏لنا‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏نحن‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏ووافقنى ‏مظهر‏، ‏وتردد‏ ‏توفيق‏، ‏لكن جاءتنى‏ ‏موافقته‏ ‏متلاحقة‏ ‏جزءا‏ ‏جزاء‏ حتى أقرَّ أخيرا أن يوسف ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يوسف‏ ‏شاهين‏ ‏فعلا‏. ‏كنت‏ ‏جالسا‏ ‏بجوار‏ ‏الأستاذ‏ ‏فملت‏ ‏عليه‏ ‏أسأله‏ ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏تأثر‏، ‏بعمله‏ ‏فى ‏السينما‏ ‏كسيناريست‏، وأيضا حين كان مسئولا‏ ‏عنها‏ ‏فى ‏المؤسسة‏، ‏ويبدو‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أحسن‏ ‏صياغة‏ ‏السؤال‏، ‏فقد‏ ‏أطرق‏ ‏ولم‏ ‏يجب‏، ‏فأضـحت‏ ‏السؤال‏ ‏عن‏ ‏مدى ‏الفائدة‏ ‏التى ‏تعود‏ ‏على ‏المبدع‏ ‏من‏ ‏تنوع‏ ‏أدواته‏ ‏وتعدد‏ ‏فرص‏ ‏ممارساته‏، ‏أطرق‏ ‏أكثر‏ ‏ولم‏ ‏يجب‏ أيضا ‏لتوه‏، ‏فتبرع‏ ‏توفيق‏ ‏يقول‏ “‏إن‏ ‏ثمة‏ ‏نقلة‏ ‏نوعية‏ ‏جاءت‏ ‏فى إنتاج نجيب بعد‏ ‏الثلاثية‏، ‏وبعد‏ ‏التوقف‏ ‏من‏ سنة 52 ‏لمدة‏ ‏أربع‏ ‏سنوات تقريبا ‏، وأن هذه الفترة هى التى بدأ فيها كتابة السيناريو، ثم ‏عاد‏ ‏بعدها‏ ‏يكتب‏ ‏بشكل‏ ‏مختلف‏: ‏أعمق‏ ‏رؤية‏، ‏وأدق‏ ‏تكثيفا‏، ‏وأحذق‏ ‏أداة‏، ‏أعدت‏ ‏كلام توفيق وتفسيره ‏ ‏على ‏الأستاذ‏ ‏فهز‏ ‏رأسه‏ ‏أنْ‏ “‏ربما‏”.‏

لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏أم‏ ‏كلثوم‏، ‏هل‏ ‏هو‏ ‏ذكر‏ ‏زكريا‏ ‏أحمد‏، ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏النقاش‏ ‏فى ‏التواريخ‏ ‏القديمة‏، ‏وما أن بدأ الحديث عن أم كلثوم حتى دبت الحيوية فى الجميع وأولنا الأستاذ، وكثر الحديث عن‏ ‏حيوية‏ ‏أم‏ ‏كلثوم‏، ‏وتعدد‏ ‏مزاجها‏ ‏وجوع‏ ‏عواطفها‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏نوع‏، ‏وعلى ‏كل‏ ‏لون‏، ‏ثم‏ ‏كلام‏ ‏عن‏ ‏شريف‏ ‏صبري‏، ‏ومحمود‏ ‏الشريف‏، ‏وزواج‏ ‏أحمد‏ ‏رامي‏، ‏وتفاصيل‏ ‏عن‏ ‏تجوالها مع الشريف‏ ‏بعد‏ ‏منتصف‏ ‏الليل‏، ‏وكيف أقنعا صاحب مطعم‏ ‏الأونيون‏ (أمام‏ ‏سينما‏ ‏ريفولي‏) بفتح المطعم بعد منتصف الليل، ‏الأستاذ‏ ‏يسمع‏، ‏وأنا أتابع ولا أريد أن أصدّق، ولا أستطيع أن أكذب، ويهز‏ ‏الأستاذ رأسه‏ ‏بما‏ ‏لم‏ ‏أعد‏ ‏أعتبره‏ ‏موافقة‏، ‏وأنا‏ ‏أعلم‏ مدى ‏حبه‏ ‏لها‏، ‏حتى تسميته‏ ‏ابنته‏ ‏باسمها‏، ‏فسألته‏ ‏مباشرة ما‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏كل‏ ‏هذا‏، ‏قال‏ ‏بطيبته‏ ‏التى ‏هى‏: ‏هذا‏ ‏كلام‏ ‏كثير‏ ‏سمعته‏ ‏كثيرا،‏ ‏وسكتْ‏.‏

‏ ‏ما‏ ‏أروع‏ ‏هذا‏ ‏فعلا‏ ‏يا‏ ‏ناس‏.‏

الحمد ‏ ‏لله‏ ‏أننى ‏عرفتك‏ ‏يا عمنا‏،‏

يارب‏ ‏أتعلم‏ ‏منك‏ ‏شيئا‏ ‏قد‏ ‏يفيدنى ‏فيما‏ ‏تبقى لى‏!!!.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *