نشرة “الإنسان والتطور”
17-6-2010
السنة الثالثة
الحلقة الثامنة والعشرون
الأحد: 5/2/1995
الآن أكتملت الأيام الستة، اليوم الأحد- أول “أحد” لخروج الأستاذ، يعيش الأستاذ كل يوم وهو ينتظر موعد الخروج فى اليوم التالي، نادرا ما كنت أدخل عليه فأجده جالسا ينتظر، كان عادة ينتظر وهو يمشى رائحا غاديا فى الصالة، عودُه مُشهر – إلا قليلا - كالسيف فى الردهة، ينتظر ساعة الخروج بالثانية، لينطلق على الفور، ذهبت اليوم لاصطحابه إلى بيتى بصفة استثنائية برغم أننى كنت اتفقت مع توفيق صالح أن يحضرا معاً، لم يكن الرأى قد استقر بعد على أن يخصص يوم الجمعة فقط لبيتى، وجدته مع توفيق وهما ينتظرانى، سألنى توفيق “لم أتعبت نفسك لقد كنا قادمين”، قلت له “إننى خشيت أن تكون قد شُغلت لأنك لم تكلمنى فى التليفون لتؤكد علىّ أنك ستصحب الأستاذ”، قال ”إنك حرفوش حديث، نحن الحرافيش لا نتكلم إلا إذا تغير ما اتفقنا عليه”، أما ما اتفقنا عليه فهو سارٍ بالثانية الواحدة، وفرحت – رغم ما سبق ذكره – من حكاية حرفوش جديد هذه، كنت أخشى ألا نجد فى بيتى، واليوم الأحد، صحبة كافية، محمد معتذر – وحافظ معتذر، ولم أجد د.سيد رفاعى الذى كان قل وعد أن يغنى لنا الليلة أيضا لــ سيد درويش، وزكى: الله أعلم، ثم إن اليوم هو الأحد، وأنا عندى عيادة، طلبت من مصطفى إبنى أن ينتظرنى فى الدور الأسفل ليكون فى استقبال الأستاذ لو حضر وحده مع توفيق أثناء ذهابى إليه، أتعجب من مصطفى إبنى هذا، كيف لا يحرص على كل ثانية تتاح له حتى ينهل من حضور الأستاذ ووجوده ووعيه مثلما يفعل أخوه، ومثلما أفعل أنا، ومثلما يتمنى كل الناس بلا استثناء، غريب هذا الفتي، عنيد ومتفرد، ويريد بعد هذه السنوات العشر طبيبا، أن يترك مهنة الطب!! هو حر، أنا مالي.
وصلنا: الأستاذ وتوفيق وأنا ووجدنا فى إنتظارنا يوسف عزب ود. سعاد موسي، (دون موعد سابق)، عرفت الأستاذ أن د. سعاد موسي، هى إبنة أخت أ.د. سامح همام الذى أجرى له العملية، وسألها توفيق صالح هل أنت متخصصة نفسية أيضا؟ فأجابت أنها متخصصة فيما تعلمته من د. يحيي” فضحك الأستاذ توفيق بما فهمت معه كيف وصلته دلالة إجابتها، فأنا علّمت سعاد أكثر مما يسمى طب نفسى قطعا، بصراحة، فرحت بإجابتها لأطمئن أنى أعلم أبنائى وبناتى ما هو أكثر من التخصص.
كالعادة بدأ الحديث عن الموجة الإسلامية الزاحفة، إن مجرد عودة هذا الموضوع هكذا تلقائيا فى كل مرة فى هذا المجتمع الخاص، الذى هو ليس سياسيا بالضرورة، هى ذات دلالة هامة تشير إلى أية فترة نعيشها، وأى مواجهة ينبغى أن نتصدى لها، قلت للأستاذ لقد خطر ببالى تفسير إضافى لمسألة تنامى هذه الموجة الإسلامية، وذلك بالإضافة إلى الفراغ السياسي، والحاجة إلى مرجعية واضحة، وكلام من هذا، قلت له لقد خطر ببالى أن الشعب بعد أن أنقسم إلى شعبين (وليس فقط طبقتين، وهذا التعبير “شعبين” استعمله الأستاذ فى إحدى لقطاته فى أهرام الخميس ذات وجهة نظر) قلت: بعد أن أصبحنا شعبين، وانفصلنا: الأعلى أعلى سلطة أو ثراء، والأدنى أدنى فقرا وتهميشا، كان لزاما أن يجد الشعب الثانى وسيلة يرد بها على هذا التميز الفوقى الذى يميز الشعب الأول، وقد لاحظت أنه بمجرد إنتماء الواحد (أو الواحدة) إلى الإسلامية: تجده على الفور قد شعر أنه واحد من الأغلبية، وأنه أكثر احتراما وأعمق صوابا وأوثق هدى، فهو يجد نفسه فى موقع التميز بشكل ما، يجد نفسه فوق، ومن أظهر مظاهر التفوق هو أن يدعو لك بالهداية وهو يخاطبك مشفقا، وحين يقول لى أحدهم “ربنا يهديك”، تصلنى قاسية فوقيه برغم أنها دعوات طيبة فأشعر أنه قد صعّد نفسه أعلى منى لمجرد اختلافى عنه، أشعر أنه يدمغنى بها أو ينفنى أو يستهين بى.
اعترض زكى سالم كان قد حضر متأخرا قليلا على مسألة التمايز هذه، وقال إن كل صاحب دين يشعر بهذا التمايز، وقالت د. سعاد إن موضوع التمايز هذا لا ينبغى أن ينسينا حاجة الناس والشباب خاصة للإنتماء، ووافقت أن أى دين ينمى الفطرة كما وصفتها لابد وأن يكون مميزا لمن ينتمى إليه خاصة فى التفاصيل، لكنه فى النهاية لابد أن يلتقى بأى دين آخر فى غاية موحدة ما دام يسير فى نفس الإتجاه برغم تميزه الذاتى، وأضفت أن ذلك يصح حتى بالنسبة للأديان غير السماوية، وأضفت أن الإسلام عندى يتلخص فى (1) الحرية (ان لا اله إلا الله)، (2) والمباشرة “العلاقة المباشرة بين العبد وربه دون كهنوت أو وصاية، (3) والعمل قل آمنت “بالله ثم استقم” “وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى” – كان الأستاذ يتابع كل هذا، فتدخل مضيفاً:” إن الدعائم الأساسية التى تصله من الإسلام هى الحرية فعلا، (لا إله إلا الله)، والعدل: حيث لا يفرق الاسلام بين أى أحد وأى أحد، لا النسب، ولا اللون ولا الدين أو الجنس أو أى شىء، ثم يضيف الأستاذ: أيضا أنه يتميز عنده بالتنظيم الاجتماعى، لأنه يركز على التأكيد على العلاقات الإنسانية المادية مثل الزكاة وفى نفس الوقت على العلاقات الإنسانية مثل التراحمًَ، قال يوسف عزب معقبا: “عندى إضافة إلى فكرة التمايز، إنهم لا يتميزون فقط بالتفضل بمنح عطايا الدعوات بالهدى استعلاءً، وإنما باحتكار الجنة مكافأة للفكر الميتافيزيقى الأسطورى الذى يحتكرونه بمجرد شعورهم بالإنتماء إلى هذه المنظومة الدينية، وتساءل أكثر من واحد كيف يرادف يوسف بين الوعود الدينية التى لا يمكن الجزم بنفيها، وبين الأسطورة؟ شرح يوسف وجهة نظره بأنه يعنى بالأسطورة أنها مقولة غيبية لا يمكن إثباتها الآن، وهنا تدخلت أنا لأوكد ضرورة التفريق بين الغيب والأسطورة، فالغيب علم كامن يقينا، وهو علم له قوانينه وتشكيلاته وتركيبه، حتى قبل أن نعرفها أو دون أن نعرفها، لكن الوعى العادى فى فترة بذاتها قد لا يصل إليه، على النقيض من ذلك فإن الخرافة هى حشو عشوائى يملأ فجوات الوعى بطريقة فجة، بحيث يتم التواصل بالقص واللصق فى جـو من الظلام والتخبيط، أما الأسطورة، فهى نتاج تعامل الوعى الجمعى الغامض مع شطحات الخرافة عن طريق إعمال الخيال الضام لأجزاء متباعدة، قلت هذا الكلام ومثله وأنا خجلان من عجزى عن شرح ما أريد، وحين اكتشفت ذلك أسرعت بالإيجاز والتلخيص قائلا: الغيب علم يقينى لم يُعرف بعد، والخرافة جهل بما يشبه اليقين لفرط زيفه، أما الأسطورة فهى تاريخ وعى جماعى سجّله الخيال الجمعى بحبكة نسبية، ولست أدرى إن كنت قد شرحت ما سبق بهذا الإيجاز أم أنى زدت الأمر غموضا.
سألت الأستاذ هل وصله شىء مما قلت، قال بتواضع -مجامل غالبا- “شوية”، ورضيت بهذه “الشوية” ولم أزدْ.
يسألنى زكى سالم عن رأيى الذى ذكرته بالنسبة لرفض الاعتقاد السائد أن الأمراض النفسية هى نتيجة تغييرات كيميائية محددة، وما معنى قولى أن هذا الإعتقاد سوف يثبت أنه أقرب إلى الخرافة فى المستقبل القريب، وأجيب أن هذا ليس رأيى فقط ولكنه رأى صاحب كتاب مرجعى عن تاريخ الطب النفسي، وهو خواجة لا أذكر اسمه الآن، ويتطرق الشرح إلى أنى أعتبر أن “الجان” هم ذواتنا الداخلية، وهم المقابل لتعدد الذوات الذى قال به كارل يونج وإريك بيرن وأخرون، وأننا نلاحظ تعدد الذوات هذا عند المبدعين، وقد تناولت ذلك فى أبحاثى النقدية لأعمال الأستاذ، وخاصة فى “رأيت فيما يرى النائم”، وليالى ألف ليله”، وأن الأستاذ حين يتكلم فى رواياته عن أنه “حل وجود ثقيل” أو “ولد فيه مارد آخر” إنما يستشعر بحدسه الإبداعى هذا التعدد الذى أشير إليه، كنت أقول كل هذا بسرعة وإيجاز خشية أن أدخل فى تفاصيل تخصصية غير مناسبة، فيعاودنى الحرج السابق، نظرت فى الوجوه من حولى فوجدت توفيق صالح متململا من هذا الحديث، وكأنه رافض للفكرة، وفعلا تسأل سؤالا أكد لى أنه لم يلتقط ما أتحدث عنه، قال: ولكن قل لى عن ذلك الجندى الذى يعانى من صدمة فى الحرب، حين يصاب بصمت أو اكتئاب أو رعب إلى حد المرض، أين تعدد الذوات من هذا؟ كيف يفسر تعدد الذوات الذى تتحدث عنه هذا الذى له سبب واضح هكذا؟ فأرد وأنا أشعر أننى أستدرج إلى ما لا أريد، وأن توفيق يسأل بعيدا عن القضية التى أتحدث فيها غالبا لأنه لم يفهمها، وأقول إن فكرة تعدد الذوات هذه، ثم تفككها لا تفسر كل الأمراض، وفى نفس الوقت هى ليست بعيدة عن الأسوياء، وهى تفسر أمراض الإنشقاق وبعض الأمراض العقلية الخطيرة، لكن ثمة أمراض أخرى تحدث ليس نتيجة لتفكك الذوات، بل ربما تحدث نتيجة لتكدس الذوات أو تجمدها أو قمعها معا، حتى لا يتبقى مسيطرا إلا ذات ظاهرة واحدة، وهذا المثل الذى ضربه توفيق لمسألة التفاعل للحرب هو ما وصف فى الحرب العالمية الأولى وكان يسمى “صدمة الخندق” حيث كان الجنود يصابون بالبكم والذهول والتجمد إثر القصف المرعب المهلك بجوارهم، فإذا ما انتهت الغارة وظلوا على هذه الحال من الجمود صاح بهم الضابط أن “اصرخوا، تألموا” ”لماذا لا تصرخون”، وكانت هذه أول إشارة (من ضابط غير طبيب) تعلن فائدة ما سمى فيما بعد التفريغ، وأتوقف برغم أننى أشعر أن الأستاذ يتابع باهتمام، لكنه لم يطلب لا التوقف ولا مواصلة الكلام المتخصص هكذا. هز توفيق رأسه دون اقتناع على ما يبدو وهنا مال الأستاذ إلى ناحيتى، فاكتشفت أنه كان يتابع كل هذا رغم الصعوبة، وقال فجأة ضد توقعى: نعم قد تكون نظرية تعدد الذوات وتفككها، سليمة أو معقولة فى الصحة والمرض والإبداع، وأنا أشهد أن هذا وارد تماما، لكن هذا لا يمنع أن يحدث التفكك نتيجة لاضطراب كيمياء.
ما أروع هذا الرجل، كيف يلتقط – برغم كل الصعوبات – ما رفضه توفيق بهذ الشكل، سارعت بالتأكيد على أننى لا ألغى إطلاقا دور التغيرات الكيميائية فى المرض ولا دور التعديلات الكيميائية فى العلاج، كل ما أرجوه وأفعله هو أن يكون ضبط الكيمياء هو عملية تهدف إلى توازن الطاقة والفاعلية لكل من مستويات المخ المتعددة وبانتقاءات محددة، فى إطار عملية علاجية متكاملة، وهادفة لإعادة تمحور الذوات حول محور غائى فى لحظة بذاتها، وهذه هى الصحة.
أنتبه من جديد إلى أننى وصلت إلى تفاصيل يمكن أن تعتبر تزيدا سخيفا فى مثل هذه الجلسة، لغير المتخصص، فأعلن للأستاذ مباشرة أنى اضطررت للدخول فى كل هذا الاسهاب نتيجة لإلحاح أسئلة زكى وتدخل توفيق، فيقول جادا، ولكن كلامك فيه فائدة شخصية، ويصمت قليلا ليدعنى أبحث عن الفائدة التى قدرت لها على المستوى العقلى تصورات عديدة، فيكمل ضاحكا، ”وهو أنك شغلتهم عن تناول مكسرات وحلويات رمضان التى وضعت على المائدة، لأن الجميع شُدَّ إلى ما تقول ونسوا الأكل”، ويقهقه، ويكون هذا إيذان طيب وسماح ضاحك بأن ننتقل إلى موضوع أبسط وأظرف، ولكن لا يبدو اننا لم ننجح، فسرعان ما أعادنا، جرنا زكى بالقوة الجبرية لنجد أنفسنا ندور من جديد حول المسألة الاسلامية.
يعود زكى سالم إلى رأيه أن كل ما هو دين حق، له هذه الميزات التى ذكرتها أنا أو الأستاذ للاسلام، ولا أعترض، وأكرر استشهادى بالآية “إن الدين عند الله الإسلام”، وحتى الأديان غير السماوية والتى لا تعترف بالآخرة تكاد تشمل نفس الخطوط العريضة، فينبهنى الأستاذ أن البوذية فيها توحد بالمطلق وهذه هى الآخرة عندهم، ويدور نقاش حول جنة المسيحية والملكوت، وأذهب لبعض شئونى الخاصة وحين أعود لا أسمع إلا بقية حديث من الأستاذ رجحت أن يكون ردا على تساؤل عن مدى صحة أن الاستاذ أقرب إلى الإنطوائية، أو شىء من هذا القبيل، وأعرف أن السائل هو يوسف، ووجدت أن الأستاذ يجيب: “… لا طبعا، أنا بتاع قهاوى، ثم إننا كنا ثلة كبيرة، ولم يكن هناك بيت من بيوتنا يسعنا جميعا، وكنا نلتقى فى القهوة، وأنا أحب جلوس القهوة حتى وحدى، فهناك الناس الآخرون الذين لا أعرفهم وهم جالسون معى بشكل أو بآخر، كما أننا كنا لا نسأل بعضنا البعض حتى عن عناوين منازلنا، حتى أن أدهم رجب (أ. د. أدهم رجب استاذ الطفيليات قصر العينى وصديق الاستاذ عبر سبعين سنة) كان فى زيارتى قريبا وجاء ذكر صديقنا “عبد المنعم الشوفي”، فسألته عن أحواله فقال: “لست أدرى”، وسألت: “ألا تزوره”، فقال: “أنا لا أعرف عنوان بيته”، واكتشفت أننى أيضا لا أعرف بيته حيث كنا نلتقى فى الخارج دائما، فما حاجتنا إلى العناوين.
أستأذنت على عينى، لأذهب للعيادة، فاليوم هو الأحد لا الخميس.