نشرة “الإنسان والتطور”
20-1-2011
السنة الرابعة
العدد: 1238
الحلقة التاسعة والخمسون
الثلاثاء: 16/5/1995
أوحشنى هذا الرجل، قلت أمر عليه فى فرح بوت، لم يحضروا بعد، وجدته جالسا بجوار التسجيل يستمع إلى المصحف، سألته هل يستطيع أن يتابع؟ لم يرد، وأنا أعرف قوة سمعه، وجهه ملئ بالبشر، أنا أتصور أن هذا الرجل يصله القرآن الكريم “هكذا” دون أن يلتقط نصّ الكلمات
بعد التعبير عن الوحشة المتبادلة، تابعت سؤاله عن الواجب المنزلى للتدريب على الكتابة، وطمأننى إلى أن كل الأمور تسير “تمام التمام”. كان قد حكى لى عن ألمه من ”التلييف” أثناء الاستحمام، ثم سألنى: هل أتحمل أكثر؟ أنا مستعد أن أزيد الجرعة لو كان ذلك مفيدا، ضحكت وقلت له هذا يتناسب مع كم القذارة المراد إزالتها، وضحك جدا، فتجرأت وحكيت له نكتة قديمة أيام أزمة الصابون تقول – بعد التحوير – أنه كان مطلوبا لشراء صابونه أن يثبت طالب ذلك أنه “يستحق ذلك” بشهادة شاهدين شموا رائحته…الخ.
وعقب الأستاذ قائلا: لا بد وأنهم كانوا يستعبطون سعيا إلى زيادة رواتبهم نظير أن يشحذوا قدراتهم حتى تستطيع تمييز كم القذارة التى تستأهل السماح بقطعة صابون دون حاجة لشهادة الشهود وإرباك حركة الجمعية،
وضحكنا.
سألنى عن غيابى فى الأيام الفائته، قلت له إن ما منعنى هو مقابلة متكررة مع واحدة خوجاية إسمها صوفى تعمل مع د. صبرى حافظ، كانت تناقشنى فى إنهاء الترجمة إلى الإنجليزية التى أقوم بها لنقدى لملحمة الحرافيش، بعد أن تحفظتُ على ترجمتها، واقترحت عليها وعلى أ.د. صبرى أن أقوم أنا بالترجمة على أن تقوم هى بإعادة التحرير، وأننى قابلتها واعترفت لها أننى لم أستطع أن أترجم النقد كما أحب، وكما وعدت د.صبرى، وأن كل ما استطعت أن أعمله هو أن أعدل بعض العبارات التى قامت هى بترجمتها، وأن أصحح البعض الآخر، ثم أنتهز فرصة طلب د.حافظ اختصارها فأحذف المختلف حوله، والذى لم يخدم الفكرة المحورية لنقد النص، ولم ننته إلى شىء يمكن أن يفيد إتمام الترجمة. ثم إننى أضفت شرح نتاج خبرتى هذه للأستاذ قائلا: إننى استفدت فوائد شتى: فمن ناحية أدركت روعة وصعوبة الترجمة، ومن ناحية أخرى زاد يقينى بتفرد وقوة وعمق وإحاطة اللغة العربية، ومن ناحية ثالثة أعجبت بمقالتى (بحثى/أطروحتى) هذه (دون غرور والله!، أو ربما بغرور)، ذلك أننى نادرا ما أضطر لقراءة عمل سبق أن كتبته، وامتد الإعجاب أكثر وأعمق إلى العمل الأصلى غير المسبوق الذى أتاح فرصة هذا النقد، وسألت الأستاذ إن كان قد قرأ بعض أعماله بعد إتمامها فقال : “نادرا”، ثم صمت قليلا ثم أردف “أبدا”، قلت له إنك لو قرأت الحرافيش لروائى اسمه نجيب محفوظ، فسوف تسر منه سرورا شديدا، وسوف تدعو له بالتوفيق
فضحك
أضفت، سوف تقول: ” يارب خلّينى”،
فضحك أعلى
واستأذنت منصرفا
الخميس (الحرافيش): 18/5/1995
… أحمد مظهر معنا اليوم، هذا طيب، ولو نصف الوقت، مررت عليه أولا، مظهر يحافظ على طفولته بشكل واضح برغم المصاعب الصحية، مازال طفلا جميلا، تكلمنا فى السيارة عن الساعة التى تقيس ضغط الدم ونصحته ألا يستعلمها فهى تخلق وسواسا بشعا ألعن من الضغط نفسه، وتكلمنا عن استعمال الأدوية عموما، ومضادات الألم خصوصا، واستغربت أنه وافقنى جزئيا على فكرة فائدة الألم للجسد والنفس وقاية، ثم سألنى عن رأيى فى البرامج الطبية التى تذيعها وسائل الإعلام، وتحفظت عليها، وقلت إن كثيرا منها هو تحصيل حاصل، والبعض دعاية، والبعض ترويج لـ، أو خدعة بـ بعض الأدوية التى تسوّقها شركات الأدوية لاستغلال أوهام الناس، وقلت إن الطب القديم كان يقف بجوار المريض، وبجوار الطبيعة معا، وكانت وظيفته الأساسية هى أن يعطى فرصة للجسم أن يستعيد توازنه، ومقاومته، وأن الطب الحديث على روعة فوائده، ينبغى أن يضاف إلى ذلك لا أن يحل محله، فسألنى مظهر عن أدوية تنقيص الكوليسترول، فقلت إن هذه هى إحدى ألاعيب الشركات، فحتى تجنب أكل الكوليسترول لا يفيد كثيرا كما هو شائع لأن التمثيل الغذائى يضبط إيقاعه بطريقة تحتاج إلى ميكانزمات حيوية معقدة، وأننا نحتاج إلى فهم أحسن لطبيعة الإنسان، وأضفت أن الأستاذ منع نفسه عن ”الكرواسوون” إلا واحدة فى الشهر، وحين استشرنا أ.د. علاء الزيات ابن صديقه سمح له بواحدة مرة كل يوم، وهو الآن (كما ذكر لى لاحقا) يأخذ واحدة كل أسبوع برغم هذا السماح، وقال مظهر “لماذا؟ مع إن الكرواسون لذيذ وعملى”، قلت له: “لذيذ نعم”، ولكن ماذا تقصد بكلمة عملى؟ قال: ”يعنى كرواسوناية وكوب قهوة باللبن وهُبْ هُبْ خلاص فِطرت”، وكدت أصدقه لأنه قالها وهو يحسم الأمر بحركات يديه وذراعيه وكأنه يلعب الشيش برشاقة تنهى الجوْلة بلمسة حاسمة، لكننى اكتشفت فجأة أنه لو أدى نفس الحركات وهو يصف أى شىء لوصلتنى صفة “العملية” بنفس الحسم، وقلت له: يا أخى خدعتنى، ماذا لو قلت نفس الجملة واستبدلت بكلمة “كرواسوناية”: ”قرقوشاية”، أو ”بقسماطاية”، وكوب شاى باللبن -كامل الدسم، وهُبْ هُبْ خلاص، ألا تصل إلى نفس النتيجة”؟
وسعمنا الأستاذ، وضحكنا، وضحك معنا
يُصر أحمد مظهر – مثلنا – أن يدخل معى ومع توفيق حتى باب شقة الأستاذ لنصحبه، لكنه يعتذر عادة عن إكمال سهرة الحرافيش عند توفيق، وحين حاولت أن أناقشه فى ذلك كان يحتج بسلالم توفيق، وأقول له “إنها فى مدخل العمارة ولا تزيد عن خمسة ستة، وهى تحتاج جهدا أقل من دخوله إلى باب شقة الأستاذ، فلماذا يصر أن يدخل للأستاذ”، ولكنه يعتذر عادة – ثم دائما- عن إكمال الليلة معنا بحجة السلالم عند توفيق؟ وكنا قد تحادثنا فى هذا أيضا فى السيارة، وعلمت أن توفيق كان يسكن الدور الأرضى وراء السلم فى نفس العمارة أيام العزوبية، وذات مرة كنت أحاول أن أقنع مظهر أن يكمل اللية معنا، فاعتذر قائلا: “لا…، الليلة عندى حجة أقوى، إن العربة لم تدُرْ إلا بعد محاولات واستشارات لبعض المارين، وعمال الجراج، وهذا يجعلنى مضطرا لترككم بعد “فورت جراند”، وأخذ يشرح علاقته بعربته، وكيف أنها دارت مع غيره ولم تستجب له، وكيف أن العربات مثل البنات، ينبغى المحافظة على شعورهن، وتجنب تعويدهن عادات تفسدهن، فمتى عرفت العربة طريق الميكانيكى -مثلا- خذ عندك: عايزة أروح للميكانيكى، نفسى أشوف الميكانيكي، الميكانيكى وحشنى، وكل يوم والثانى تجد نفسك عند الميكانيكى، ولا تعرف متى ولا كيف تنتهى هذه العلاقة، مثملا تذهب البنت عند الكوافير، مرة ثم من ذا يستطيع أن يمنعها…!!؟
أخذ توفيق ومظهر يتذكران عادل كامل والقطيعة التى تمت بينه وبين أحد الحرافيش (لم أستطع أن ألتقط اسمه، أو هكذا أدعى الآن) وكيف أن ذلك كان لأسباب مادية، بسبب خلاف حول شقة ما..إلخ، كان الحديث بصوت عادى، وإذا بالأستاذ ينتبه ويعلق عليه، وكأنه كان يتابعه تماما، ترى يا رب هل تحسن سمعه إلى هذه الدرجة؟ يا رب يحصل. عاد الحديث إلى عربة مظهر وقدراته الميكانيكية، وكيف أنه أخذ أول مخالفة قيادة وهو فى سن التاسعة، وكيف أنه طلع الأول وأخذ امتيازا فى ميكانيكا السيارت فى الكلية الحربية وكانت المادة تدرس بالإنجليزية، ومع ذلك خانته العربة تلك الليلة، وأخجلته أمام من يسوى ومن لا يسوى.
وصلنا إلى الفندق، جالسٌ أنا بعيدا أستمع، وكان أحمد مظهر منطلقا فى الحكى وهو يستعمل تشبيهات غير مألوفة لى، قلت للأستاذ إن التشبيه أحيانا ما يكون المشبه به أبعد عن التصور من المشبه، وأننى حين كنت طبيب امتياز، عملت فى التخدير كأول قسم للتدريب، وكان النائب (الطبيب المقيم) يحاول أن يعلمنى الحرفة، وأن يحببنى فيها، وأن يشرحها لى، وفعلا كان عملا فنيا علميا جميلا أن تتحكم فى وعى إنسان وأنت تعمق درجة غطسانه، ثم تخففها، ثم ترخى عضلاته، كل ذلك بعد أن إدخال أنبوبة الهواء فى قصبته الهوائية، دون منظار أحيانا، مستعملا مهارة الأصابع ودقة الحركة بإحساس حرفى ماهر..إلخ، قال لى معلمى الطبيب المقيم إنك حين تخدر مريضا هكذا بهذه المهارة والتصعيد والتخفيف والتعميق كما ترى، فإنك تكون كما تقود طائرة، (أقود ماذا ؟ طائرة يا رجل؟، وأنا أيامها – سنة 1957- لم أكن أعرف الطائرات إلى من صور الصحف؟!!)
وانتقل الحديث إلى يوسف شاهين، وأنه يرى نفسه فى أفلامه، وحتى فيلم المهاجر الذى ثارت حوله ضجة أخيرة ومنع ثم أفرج عنه بحكم القانون، فإن الأرجح أن يوسف شاهين يرى نفسه سيدنا يوسف، وحكى توفيق كيف أن يوسف نشأ فى كامب شيزار، فى الإسكنرية، وأن زوجته صديقة زوجة وزير الثقافة الفرنسى السابق (…أنها يهودية من أصل مصرى) نشأت أيضا فى كامب شيزار، ثم إنها (زوجة الوزير) تقود حركة صهيونية من أقوى الحركات فى فرنسا، ثم ألمح – بعد ذلك، أو قبل ذلك- إلى ما ورد فى فيلم المهاجر من بعض الإشارات لعلاقة أخناتون بالإسرائيلى الذى علمه الحضارة، وربما التوحيد، (أو هذا ما وصلنى وأنا بعيد مستغرق صامت أفكر فى أمور أخرى غير واضحة المعالم) وكذا وكيت، ويعترض الأستاذ: إيش جاب أخناتون لفرعون يوسف، فيرد توفيق أن هذا هو التاريخ “الخصوصى” الذى يؤلفه يوسف شاهين باسم الإبداع، وهو تاريخ متحيز لتاريخ اليهود بشكل أو بآخر.
سألت توفيق، رغم علمى بصداقته ليوسف شاهين.. هل ثمَّ احتمال أن يكون قبول يوسف هكذا فى الغرب هو من هذا المدخل الإسرائيلي؟ ذلك أن عندنا أمثلة فى الطب، وفى المنح وفى التعاون الدولى والمؤتمرات تشترط إن ظاهرا أو باطنا مثل هذا النوع من التعاون والتحيز والتطبيع والسماح، ابتسم توفيق وعزف عن أية إضافة وقال: أنا قلت ما عندى.
ثم تكلمنا كيف أن يوسف شاهين على وشك عمل فيلم عن إبن رشد، وهو لا يعرف إبن رشد، ولم يلم بتاريخه ولا بآرائه، وقد يكون الذى نبهه إلى إبن رشد هو أحد من اليهود الذين يعرفون أن كثيرا من أعمال بن رشد قد ترجم إلى العبرية، ويبدو أنه يريد أن يركز على موضوع محاكمته، أو مصادرة بعض كتبه، أو نفيه أو ماشابه، أما إبن رشد المؤرخ والفيلسوف فهو – يوسف شاهين- أبعد الناس عن الإلمام بمن هو حتى يعمل عنه فيلما، وأقول لتوفيق إن إبن رشد قد أخذ أكثر من حقه بسبب تحيز الغرب لانتقائه ممثلا للعرب دون غيره لما له من علاقة بأرسطو والثقافة الإغريقية، ذلك أننى، على قلة ما قرأت، وأنى أعتقد أن أثر إبن رشد السىء على الثقافة والحضارة الإسلامية والإنسانية مثل أثر أرسطو السيء على الحضارة الغربية فالإنسانية خلال عشرين قرنا، وأنه فى الوقت الذى بدأت الحضارة الغربية تفيق من منطق أرسطوا الخطّى، بدأنا نحن نتمسك ونحيى ذكرى إبن رشد ونقدس آراءه لندخل سجن هذا التفكير أحادى البعد بأرجلنا، وأضفت إن منطق فون دوماروس (1) الذى لا يزيد عمره عن قرن واحد، هو شديد العلاقة بالطبيعة الكموية(2) والرياضة الحديثة وحقيقة وطبيعة الإبداع، وهو الأوْلى بالاهتمام، لأنه مدخل إلى ما يمكن أن نضيف، أما موجة التنوير السائدة حاليا فهى ترفع شعارات أقرأها أنا على أنها دعوة ملحة شديدة الحماس أن نكون أقرب إلى أوربا فى أوائل هذا القرن، مع أن أوربا تتجاوز هذه المرحلة حاليا بنشاط بالغ.
فى طريقنا إلى منزل توفيق، أحاول – من جديد- إغراء مظهر بمواصلة الليلة معنا، وأننى لن أدعه يحتاج إلى عربته أصلا، وأننى سوف أقوم بتوصيله، لكن كان من الواضح أنه – كالعادة- مصر على التزويغ، وقد كان.
ها نحن فى الشرفة المطلة على النيل مرة أخرى، شرفة جميلة بحق، توفيق ليس متأكدا من أن جميل وبهجت سوف يحضران، لست أدرى ماذا بى الليلة، ليس عندى ما أقوله، تمنيت أن يحضرا رغم أننى رجحت غير ذلك، لاحظتْ السيدة الفاضلة زوجة توفيق – بأمومة طيبة – أننى ساكت الليلة، وفعلا سألتنى عن ذلك، قلت لها: “لا يغرنك كلامى مع توفيق والأستاذ، فأنا فى الأغلب أكون كذلك لو أتيحت لى الفرصة، خفت أن أقصر فى حق الأستاذ، فتكلمت أى كلام وجرى الحديث خفيفا عاديا”.
بدأ توفيق الحديث مع الأستاذ عن المخرجة الفرنسية التى تعمل فيلما تسجيليا عنه، وأنه يصارحه بأن تدخلات زكى سالم (وغيره: يعنى الغيطانى والقعيد) فى هذا الأمر جعلته ينسحب من التعاون، وأنه بعد أن رفض التسجيل معها لتدخلات لم يرض عنها، لف ”على الشوباشى” وحاول معه عدة محاولات بلا فائدة، وهنا لاحظت كيف أن الأستاذ أحس بالحرج، وأخذ يبرئ زكى سالم من تهمة أى تأثير عليه يجعله يرفض التسجيل بالمنزل، والغريب أنه تحمس لدرجة القَسَم، مع أنه نادرا ما يفعل، قال بالحرف (على ما أذكر): ..لا يا توفيق، وحياة أولادى، ودينى وأيمانى زكى ما قال حاجة”، وتعجبت كيف يشعر الأستاذ بكل هذا الاضطرار الطفلى الجميل إلى القسم، لكن توفيق مضى فى شكوكه، فأضاف الأستاذ مشيرا لى: ألا تجلس معنا أنت فى العوامة؟ هل تسمح الجلسة أن أسمع إلا من يجلس ملاصقا لي؟ فكيف يؤثر علىّ زكى سالم سرا، قل لتوفيق من فضلكَ، ثم -متجها إلى توفيق- “إنه كان هناك مترجم طول الوقت، ثم إنها تتكلم بالفرنسية أساسا فكيف سمعتْ زكى؟” قال توفيق” ربما تكلم زكى ساعتها بالإنجليزية التى تعرفها، (ولم ينتبه الأستاذ إلى هذه الملاحظة)، وراح الأستاذ يشرح الموقف أكثر قائلا: إن المسألة أنهم فى البيت لا يريدون، وأنا طول عمرى لا أحب حكاية البيت هذه، ثم إنهم يريدون تصوير البيت لأنهم يتصورون أن لى حجرة مكتب، يعنى، (ثم نظر إلىّ) أنتَ رأيت بيتى، هل فيه شىء يصلح للتصوير؟ إنهم حين يحضرون لن يجدوا مكتبا ولا يحزنون، كام كرسى ومكتب متواضع متوارى خلفهم، وأنا أخجل كثيرا من هذا الموقف، وأنا ليس عندى حجرة مكتب كما يتصورون، ويقسم ثانية وكأنه يبرئ نفسه من جديد أنه لم يكن ينوى أن يسجل أصلا، وأننى أنا (يحيى بك) الذى أقنعتـُه بذلك، فأقول لتوفيق أننى مسئول فعلا عن الحكاية، ذلك لأن على الشوباشى ذكر للأستاذ من حوالى أربعة أشهر أن مستقبل هذه المخرجة متوقف على هذا الفيلم، وأنهم سوف يفصلونها إذا لم تنجزه، وأننى قلت له ننتظر حتى يونيو، وهو الميعاد الذى أتوقع أن يتحسن فيه صوته، فإذا تحسن فليكن التسجيل زكاة التحسن، وحمدا لله، وإنقاذا للبنية، ويثور توفيق من جديد ويشكك فى القصة، وأن التأثير – بعد رفضه- جاء من الغيطانى ومن على الشوباشى الذى هو شريك إلخ.
وكان بهجت عثمان، وجميل شفيق قد حضرا فى هذه الأثناء، فخفت اللهجة، وخفت الصياح، واستمر توفيق يطلب من الأستاذ: أولا أن يستجيب لطلب المخرجة بشروط، فيجلس معها نصف ساعة قبل التسجيل على أن يكون وحده، وألا يصور أحداً من جلساء العوامة معه، ويغضب الأستاذ من جديد، ويقول ”إنه ليس عنده ما يضيفه لما اتفق معها عليه، وأنها إن لم تكن مقتنعة بما تم فلتذهب مع السلامة، وأنه من غير اللائق أن يطرد ناسا من بيتهم (العوامة) الذى يستضيفونه فيه تحت أى حجة أو من أجل خاطر أى أحد، وأرجع أؤكد لتوفيق أنها تستطيع أن تصور الأستاذ وحده حتى فى حضور كل الناس، وأن المونتاج يسمح لها أن تصور من تشاء ثم تحذف ما تريد.. أو تضيف ما ترى إلخ، وأحاول تخفيف الموقف فأقول للأستاذ مداعبا إنها فرصة تنفرد بك (تستفرد بك)، ولعلك تحظى بفائدة، فيلتقطها الأستاذ ويضحك عاليا.
وتهدأ العاصفة
أقول للأستاذ إننى لاحظت أن سمعه قد تحسن فى السيارة (كما ذكرت حالا) ويقول إنه لا يعتقد ذلك ولكن خيرا، وبعد قليل يسألنى هل توجد أصوات ناس يتحدثون فى الشارع فأقول له لا إنها السيارات والضجيج العام، فيضحك قائلا إننى حاولت أن أصدق ملاحظتك بشأن تحسن سمعى، وهات يا سمع، حتى وصلتنى الضوضاء أصواتا، وأفرح بتعليقه، وأقول له أنت تفسر لى بذلك ظاهرة علمية مهمة، ويلتقطها، ولا يسأل عنها،
وضحكنا
بعد فترة صمت، يشير توفيق إلى أضواء عمارة قريبة، ويقول الأستاذ إنه يراها، فيقول له توفيق إنها العمارة المشهورة التى يصل فيها ثمن الشقة إلى كذا مليونا، ويدور حديث معاد حول هذا الموضوع، فأميل على جميل شفيق، وأقول له إن المسألة ليست فى ثمنها وإنما فى حالة قاطنيها، فماذا لو وجد صاحبها نفسه وهو داخلها عنـّينا ولا مؤاخذة، ماذا ينفعه ثمنها وكيف سيغطى الفضيحة أمام زائرته، أو غيرها، وأعيد الكلام على الأستاذ حسب طلبه، فيقول: يانهار أسود، تبقى واقعة سودة
ويدور حديث حول عادل كامل من جديد، وآلام وحدته فى أمريكا، والحريق الذى جرى فى شقته، وأن أحدا من الحرافيش لم يرسل له يسأل عنه ويطمئنه ويطيب خاطره مع أنه انقطع عن المكالمات الهاتفية منذ هذا الحريق وكان دائم السؤال عن الأستاذ وعن الحرافيش قبل ذلك. ويكلف توفيق بهجت أن يرسل نيابة عن الحرافيش بطاقة يطمئن فيها عليه.
وأعرج إلى الحديث عن أطروحتى فى نقد الحرافيش، وأسأل توفيق سؤالا مباشرا: ألم تفكر أن تخرج الحرافيش، ويقول إن هذا عمل مستحيل، قلت له هذا ما يبدو لأول وهله، لكننى حين عشتها بالسرعة البطيئة (وأنا أترجم، وأعيد الكتابة والتحرير للمقال بالإنجليزية) وجدت أن هذا العمل هو العمل الذى يلخص ويتوّج ما هو نجيب محفوظ أو ما هو ”مصر” أو ما هو الإنسان، وكان الأستاذ قد سمع السؤال أو الطلب الذى طلبته من توفيق كما سمع إجابته فقال: إن محسن زايد (غالبا) قد اشتراه منه وقرر لتنفيذه مهلة معينة، وأنه قال إنه سيخرجه فى مائة وعشرين حلقة، وأن هذا هو حلّ التعامل مع هذا العمل، وحين انتهت مدة العقد جاء وجددها دون أن يعمل شيئا، فقط خوفا من أن يأخذه غيره، كذلك ذكر الأستاذ أنه حين صدرت أول وربما ثانى حلقة من الحرافيش مسلسلة فى مجلة أكتوبر طلب منه يوسف شاهين وهو جالس بجواره فى قهوة ريش أن يشترى منه هذا العمل دون أن يعرف عنه إلا ما نشر من حلقة أو اثنين، وقد أجابه الأستاذ أن هذا لا يصح، وأن هذا العمل يستحيل أن يخرج فى فيلم سينمائى مهما كان الجهد أو حذق الحرفة، لكن يوسف شاهين أصر، وطبعا لم يعمل شيئا، وبالرغم من كل هذا فقد عدت أقول إننى تصورت أنه من الممكن تنفيذه، بأسلوب جديد تماما يناسب عبقرية العمل حتى يصبح فيلما فريد، ولكن توفيق عاد يعترض وقال: لنفرض أن الفيلم سوف يستغرق ثلاث ساعات، أى مائة وثمانين دقيقة، خذ عندك عدد الشخصيات على امتداد عشرة أجيال، كم دقيقة ستكون من نصيب كل شخصية”؟، أحسست بغضب خاص مع اعترافى بجهلى وقلت: “إن هذا هو المنطق الأرسطى الذى كنت أحذركم منه منذ ساعة، وهو نفس منطق إبن رشد (فى الأغلب)، وهو المنطق الذى تخطاه الفن الجديد تماما، ويتخطاه العلم الآن، وإننى أتصور أن هذا العمل هو تشكيل جديد بلغة سينمائية، فاللوحة الأصيلة لا تقاس بالدقائق ولا بالمساحة، وأن المبدع الحق يمكن أن يرسل إلينا سنتيمترا واحدا، أو طرف ظل رسالة فتحتل قرونا من وعينا الجمعى، والمطلوب فى إخراج عمل مثل الحرافيش ألا يختصر بمعنى حذف بعض الشخصيات وتلخيص الحوارات، ولكن أن يكثف، وأن تعاد صياغته بنفس ما تم به من أصل مصدر وحيه، ولكن مع اختلاف الأداة، وهذا ممكن بالإخراج والسيناريو اللذان يرتفعان إلى مستواه، لا أعرف كيف قلت كل ذلك وأنا ليس لى فى الطور ولا فى الطحين، قال توفيق إنه عمل يبدأ مع بدء الخليقة، خذ مثلا الفصل الأول كيف الخلاء وكيف الممر، قلت له: ليكن، هذه نفسها بداية “ابنة ريان” والمظلة تسقط من أعلى الجبل إلى سفح البحر، قال إن ابنة ريان مليئة بالأحداث الآنية، ولم أعلق لأننى كنت أشير إلى وجه الشبه بين البدايات لا أكثر.
الذى التقط ما قلت – ربما أكثر منى – كان جميل شفيق، فوافقنى على رأيى، وعلى إمكانية إخراج هذا العمل كفيلم ولكن بغير ما يتصوره كل من يقدم عليه بأسلوب “الحكواتى”، إن المطلوب والممكن هو احترام التكثيف والكشف عنه من زوايا محدودة ومتنوعة تظهر أعماقه فى تكامل يليق بالأداة السينمائية.
ذكر الأستاذ أن كاتبة ألمانية قد زارته فى فرح بوت أمس الأول (أو الأسبوع الذى قبله) وأنها أصلا من ألمانيا الشرقية، وأنها هى التى ترجمت أغلب أعماله إلى الألمانية، وأنها صاحبت هذه الأعمال بدرجة تسمح باعتبارها متخصصة فيها، والعجيب أنها قالت إن أكثر أعماله رواجا فى ألمانيا هى حكايات حارتنا وليست أولاد حارتنا أو غيرها، ولم يدهش أحد منا، وعقبنا جميعا أن هذا صحيح، وأن معنى ذلك أن الترجمة مناسبة وأن الحس الألمانى قادر على الانتقاء والتمييز، وتذكرت أننى فى دراستى للسيرة الذاتية كنت قد قررت أن أرجع إلى عملين تحديدا وهما حكايات حارتنا والمرايا، وفرحت أننى لم أخطئ التصور وأن ثمة مشاركين لى فى بعض ما يعن لي.
ويسكت الأستاذ، فأذكر له ان صورة قد نشرت اليوم فى المصور تظهر ضحكة الأستاذ الرائقة وهو بجوارى وأنا أقهقه فاتحا فمى بشكل لا يمكن وصفه، وبرغم قبح اللقطة بالنسبة لما أظهرتنى به وفمى مفتوح على الآخر، إلا أننى فرحت بها لما بها من دلالة خاصة لا أستطيع أن أتحدث عنها، لكن هذا ما كان، ويكمل الأستاذ: إن العجيب أن هذه الكاتبة (وهى أصلا من ألمانيا الشرقية) تشاركنا الرأى فى حكاية أن أيام زمان أفضل، وأن الأمور تسير إلى أسوأ، وأقول للأستاذ إن هذه المقولة رغم أننا نكررها كثيرا إلا أنها مقولة خطرة لأنها تعلن كهولتنا بشكل أو بآخر، ولو أننى خُيِّرت أن أرجع طفلا بكل ميزات أيام زمان لما رضيت طبعا، وأنه مهما كان واقع “الآن” مرا فإن المستقبل كامن فيه، وبالتالى يمكننا أن نجمع مرارته إلى ما يحتضن من إمكانات فيصبح هو الأفضل، فيوافقنى الأستاذ ولكنه يشير إلى أن اجترار هذه الذكريات هو من باب التخفيف من مرارة الواقع، وهو ليس مقارنة تفضيلية بمعنى الاختيار المحتمل، ويضيف أنه من الجميل أن يتذكر الواحد عواطف ومشاعر وعلاقات وأحداث شديدة الإشراق حانية الدفء فى طفولته، لكن من الجنون أن يتصور أنه يفضل أن يعود فيعيش يوما واحدا من أيام الضرب على القفا والقهر، وكتم الأنفاس، كما كان الحال فى الكتّاب مثلا، فأقول له إننا إذن نحكى عن ما نختار ليتبقى من ذكريات أيام زمان، وليس عن أيام زمان، فيوافق.
وعلى ذكر ألمانيا الشرقية، يأتى ذكر الصين وتفجيرها النووى عقب تمديد معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بأربعة أيام، وأقول لجميل شفيق إنه رغم انهيار الاتحاد السوفيتى فما زال نصف ربع العالم يحاول أن ينجح بطريقة أخرى فى الحياة والعلاقات، ويفرح بهجت عثمان، وأكتشف أن ما يسمى اليسار، أو الفكر اليسارى ( بالمعنى التقليدى الذى ساد فى الخمسينات والستيانات) هو فكر سائد عند أغلب الحرافيش بشكل أو بآخر (إلاّ الأستاذ كما بلغنى أنه قادر أن يحتوى كل الأفكار).
أثناء عودتى معه بالسيارة أقول له إن المهم، رغم مرارة الواقع، أن نستطيع أن نحافظ على الحلم، على حقنا أن نحلم، ذلك أن خطورة انهيار الاتحاد السوفيتى ليست فى فشل نظام أو اكتشاف عجز فى التطبيق، وإنما فى حرمان الناس من تصور البديل أو البحث عنه حتى على مستوى الحلم، ويوافقنى لست أدرى حقيقة أم لأننا كنا قد وصلنا إلى المنزل،
وتصبح على خير
وانت من أهله.
[1] – Von Domarus
2- Quantum physics