“يوميا” الإنسان والتطور
27-9-2007
فى شرف صحبة نجيب محفوظ (1)
استهلال:
اليوم الخميس، هذا هو يوم نجيب محفوظ، وهو نفس يوم لقاء الحرافيش الأصليين والاحتياطيين لأكثر من نصف قرن، وهو هو يوم زاويته فى الأهرام، وقد تصورت فى البداية أنه سوف يكون المنشور فيه نقدا خالصا، ربما لحرصى على بداية تحريك دورية نقده المتجدد، تحقيقا لما رجوته وطالبت به مرارا من مواصلة الحوار النقدى حول إنتاجه بلا توقف، لكننى فى نفس الوقت، وأنا أخصص يوم الخميس لشيخنا فى موقعنا هذا وعدت أن أنشر بعض يومياتى معه، وبعض قراءتى لما كتبه فى كراسات “الواجب” أثناء التدريب لاستعادة مهارة يده (اليمنى) المصابة.
بدأت الخميس الماضى بقراءة أول حلم (رقم 1) على أمل أن أتبع نفس النهج الذى اتبعته فى قراءة الأصداء، لكننى حين بدأت فى قراءة الحلم الثانى (رقم 2) ، وجدت صعوبة كادت تلجئنى إلى بعض التعسف، فوضعته جانبا، ثم رحت أقرا كل أحلامه حتى ما نشر بعد رحيله، وقد فاقت المائتين، فإذا بى أكتشف أن المنهج الذى اتبعته فى الأصداء قد يحتاج إلى تعديل لم تتضح لى أبعاده بعد، فضلت التأجيل، وقلت ألتقط أنفاسى، وأبدأ، ولو بالتناوب فى نشر بعض ما وصلنى منه خلال ثمانية أشهر (عقب الحادث مباشرة)، مع أن عشرتى امتدت معه إثنى عشر عاما. (من 1994 حتى 2006)، صحيح أن هذه الأشهر الثمان الأولى كنت أتعرف عليه شخصاً بعد أن علمنى وهدانى مبدعا، كما أننى كنت ألازمه يوميا تقريبا، مقارنة بما بعد ذلك حين انتهى الأمر فى الثلاث سنوات الأخيرة ألا أراه إلا يوم الخميس، وهو لقاء الحرافيش الحقيقيين، ثم الحرافيش الاحتياطيين – الذى أنا أحدهم – بعد ذلك، وهو لقاء مغلق علينا، حتى يوم الجمعة الذى كان اللقاء يتم فى منزلى، لم أكن أحضره مؤخرا شخصيا، وكنت فرحا بذلك حيث كان معناه ان شيخى هو صاحب البيت والمضيف بلا أى حرج أو تكلف،
ياه !!! يا للشرف، ويا لطيبته مضيفا وشيخا ومعلما ومبدعا.
المهم، حين قلبت فى هذه الأوراق التى كتبت من 11 ديسمبر 1994 حتى 17 أغسطس 1995، وجدت بها من الثراء ما جعلنى أتساءل:
لماذا توقفت ما دامت هى هكذا؟ هل هو الوقت؟
هل هو الخوف أن تكون لقاءاتى به أقل تلقائية حين أضبط نفسى وأنا أركز على رصْد ما يجرى أكثر من أن أترك نفسى له ولهم (الحرافيش خاصة)؟
هل اكتفيت فقنعت؟
ليست عندى إجابة،
ولولا أننى عودت نفسى ألا أندم على شىء فات، لندمت على أننى لم أكمل .
يوميات: فى شرف صحبة “نجيب محفوظ”
[11 / 12/ 1994 – الجمعة : 17 / 8 /1995]
الفصل الأول: قبل اليوميات
مقدمة:
هذه الكتابة – مثل أغلب ما أكتب- هى نتاج تحريك لوعى ذاتى، أثارته مصادفة لم تكن فى حسابى أبداً، فى وقت متأخر نسبيا من حياتى، وهى ليست عن حقبة من تاريخ شخص رائع، ولا هى تسجيل لسيرة شخص لاتنقصه الدراسات ولا الأحكام، ولا تسجيل “ما هو”، بالحق أو بالباطل، هى تسجيل لما تحرك فى وعيى الشخصى نتيجة لهذا القرب الجميل من شخص بالغ النبوغ والرقة والإنسانية، بالغ القوة والإبداع والحضور، بالغ الإيمان والسماح واليقظة شخص أثر فىّ حتى أيقظَ فىّ الشعر بعد أن كان قد تراجع حتى نسيت أننى هو، أيقظه مرة فى حياته، ومرة أخرى عند رحيله، شخص كان يمارس معنا ما أسميته “إبداع حى=حى” (قياسا على صواريخ أرض= أرض) فى الأهرام “يا شيخنا الجليل عش لنا عاما آخر، وأعواما كثيرة، يا ربنا استجب..” حيث كان يمارس نوعا من الإبداع بإعادة تشكيل وعى كل من يقترب منه، ولو صامتا. شىء أشبه بما يفعله الشيخ الحقيقى بمريديه، ربما لهذا كان أقرب صفة أفضل أن أصف بها علاقتى به هى صفة “شيخى الجليل”.
هذه الكتابة هى نوع من التداعى الطليق، تحاول أن ترصد بإيجاز شديد ما تبقى فىّ بعد كل لقاء، فى فترة قصيرة (حوالى ثمانية أشهر) وقد أحسست أنها ليست عن شخص محدد بقدر ما هى عن “زمن”، “زمان”، “عن مكان”، عن “مصر”،عن “عصر” عن “أمل”، عن “سهل ممتنع”، عن “نفسى”.
هى تداع طليق وليست تسجيلا وثائقيا، لم أقصد فيه أى مقصد محدد، مجرد تسجيل لما خطر لى، أو مر بى، أو تبقى فىّ، وأنا معه. لم أكن أدرى ماذا يمكن أن أخرج به من كتابة هذا الكلام، هل هو إضافة؟ هل توجد ثمة فائدة منه؟ كنت أكتب هكذا فقط، أكتب وخلاص.
فلماذا توقفت؟
ليست عندى إجابة،
وقد تكون الإجابة غير مطلوبة أصلا.
كتبت، ربما لأننى أحسست أن هذا بعض دين علىّ لشيخى هذا، أى لمصر، أى للناس، بمعنى أننى لو فوّتُ الفرصة، فقد أساءَل من ربى عما وصلنى، ولماذا لم أبلغه لأصحابه: أهل مصر أولا، ثم فى كل مكان، ربما، (لا يا شيخ؟!!) مرة أخرى: إذن لماذا توقفت؟!! ومع ذلك فهذا ما كان، وقد حانت الفرصة لأقدم للناس من خلال هذه النافذة الخاصة ما سجلته فى تلك الفترة المحدودة مما “وصلنى منه” و”معهً، وهو ليس بالضرورة ”ما جرى فعلا”.
أحذر القاريء- ابتداءً- أن يتلقى هذه الكتابة باعتبارها تاريخا أو تأريخا أو حقيقة أو وثيقة، وأستغفر الله لما أكون قد عجزت عن الوفاء به. كما أعتذر لشيخى – شيخنا – لما أكون قد سمحت لنفسى به، فما دفعنى إلى هذه المخاطرة سوى حبى له، وللأرض التى أنجبته، وللناس الذين أحبهم، وإلا حرصى على أجيال تأتى من بعدنا، أرى لزاما علينا أن نوصل لها أفضل ما هو نحن، وهل هناك أفضل مما هو نجيب محفوظ/مصر، وبما هو هذا الانسان الطيب … المؤمن العارف!!؟
تحفظات منهجية
1 – هذا العمل ليس نتاج تسجيل لا بالصوت ولا بغيره، فى أى مرحلة من مراحله، فقد كنت أتحرج من ذلك تماما، وأرفضه فى كثير من الأحيان، رغم أن شيخنا كان يسمح به أحيانا، ويتغافل أحيانا أخرى فلا يمنعه دون سماح صريح، إلا أننى كنت دائما قلقا من هذا أو ذاك،برغم ثقتى الهائلة بأمانة محبيه ومسئوليتهم المطلقة. المسألة ليست سهلة، حتى أن التسجيلات التى أخذت منه قبل ذلك بسنوات فى بيته بقصد النشر (رجاء النقاش) تم فيها انتقاء غير دقيق، أو قل غير موفق، ولا أقول غير أمين، الانتقاء المتحيز أو المتخبط، بغير قصد، يكون أحيانا ألعن من الكذب أو التلفيق، وقد كتبت فى هذا محتجا، مع أنه شخصيا لم يحتج على ما نشر بعد ما نشر بفضل حيائه وحبه للنقاش، وربما احتراما لسماحه السابق له وثقته فيه، أقول لى ولكم مرة أخرى بالنسبة لما أكتبه الآن: لم يكن هناك تسجيل إلا فى وعيى، حتى أننى لا أستطيع أن أعتبره تسجيلا فى ذاكرتى.
أثارت هذ المسألة وهذه المحاولة المحدودة عندى ما أثارته حول حقيقة ما يُسَجَّل عن أنه تاريخ حوارى شفهى محكىّ باللفظ بعد سنوات، وأحيانا عشرات السنين، وأحيانا بعد مئات وليس بعد ساعات، طول عمرى أشك فى مصداقية ما يحكى لنا من تاريخ، طول عمرى أعرف أن التاريخ – على أحسن الفروض-، هو “وجهة نظر” (المؤرخ غالبا)، التاريخ عامة ، فما بالك بالتاريخ الذى يزعم نقلا لفظيا بحروفه، ما علينا، ليست هذه قضيتى الآن، فقط أقر وأعترف أنه حتى ما جاء هنا بصيغة “قال” و “قلت” ليس بالضرورة أن يكون حرفيا.
2 – كنت أعود أحيانا فى جلسة تالية لاستيضاح ما غمض علىّ فى لقاء سابق ، كما كان أغلب ما أفضل تسجيله هو ما يتم فى جلسات الحرافيش المغلقة، حيث كانت الفرصة تتاح لى أقرب فأقرب، فالعدد محدود، كثيرا ما يقتصر على ثلاثة: أنا وهو والحرفوش الأقدم “توفيق صالح”، فى بيت الأخير فى تلك المدة التى سجلت فيها هذه الانطباعات، إما فى شرفته صيفا فى الدور العاشر على النيل وهى تطل على كوبرى الجلاء، وإما داخل الحجرة الملحقة بالشرفة!! (فقد كنت اعتبر الشرفة هى الأصل) شتاء، وكانت هذه الاستعادة تفيدنى ايضا فى التحقق مما تبقى فى وعيى، مرات بالإثبات ومرات بالنفى.
3- وجدت نفسى أكتب كثيرا من الحوارات باللغة العربية الفصحى، وكنت قلقا من ذلك، فأنا أعجز عن الكتابة بالعامية إلا فى الشعر العامى، حتى الحوار فى رواياتى هو بالفصحى، وقد أفادنى هذا العجز الذى ألجأنى غالبا للترجمة إلى الفصحى فى أن أنفى عن نفسى أن هذا ما دار حرفيا ، إذ من غير المعقول أن نلتقى لنتحاور بالعامية، طبعا لم تكن هذه هى القاعدة، لأن هناك ما لا يمكن ترجمته إلى الفصحى، خذ عندك مثلا ضحكته المجلجلة، فهى بالعامية!! فكيف أنقلها إلى الفصحى بالله عليكم.
4 – كان الاهتمام أساسا بأحاديث الأستاذ معى ومعهم، على حساب آراء وأقوال سائر الحضور، فمن ناحية لم يكن كل ما يدور هو فى بؤرة تركيزى، كما أنه لم يكن من الممكن أن أستوعب كل ما دار مهما كان الزمن قصيرا.
اليوميات
11 / 12/ 1994
لم أكن قد قابلته شخصيا قبل ذلك إلا مرة واحدة فى أوائل السبعينات، فى مؤسسة الأهرام بناء عن طلب لقاء سهله لنا أحد الزملاء، وكنت أتعجب كيف لدى هذا العملاق وقتا لمقابلة أمثالى، ولم أكن أعرف أنه – شخصيا- فى متناول كل الناس هكذا، هذه المقابلة أشرت إليها فى مواضع أخرى، كانت قصيرة ومفيدة وتركت أثرا فى نفسى لم أتبينه إلا بعد عشرين عاما وأنا أزوره هذه المرة بعد الحادث بفترة ليست قصيرة. كنت قد عشت الحادث البشع مثل أى مواطن مصرى، عشته بكل تفاصيله فى خيالى، وكتبتُ فيه ما كتبت ونشر فى الأهرام، مما يعتبر تمهيدا لهذا اللقاء، وأستسمح القارئ أن أعيد نشره هنا ولا أكتفى بالإشارة إليه “بالرابط” كالعادة وذلك لبيان روح علاقتى به من بعيد قبل أن ألقاه اصلا، كتبت بعد الحادث مباشرة ما يلى:
الأهرام: 18/10/1994
“يا شيخنا: أبى الله إلا أن يحفظك، ليشرق نوره علينا من خلالك”
مثلى مثل كل المصريين, مثل كل المؤمنين, مثل كل الناس, لم أصدق, حتى على مستوى التخيل.
كيف تجرأ هذا الفتى على شيخنا هكذا…؟ كيف طاوعه قلبه؟ ألم يكن له قلب…؟!! ليكن, كيف طاوعه بصره؟ حسه؟ ألم ينظر فى وجهك شيخى وسيدى, ألم ير انحناءة ظهرك؟ ألم تشرق عليه طيبتك؟ ألم يغمره إيمانك؟ ألم يدرك وهن بصرك؟ ألم ينتبه لضعف سمعك؟ ألم تطل عليه من خلال سماحتك ويقظتك شخوص إبداعك: إشراقة وجه الشيخ رضوان, طيبة أحمد عاكف, حيوية السيد أحمد عبد الجواد, وطنية إبنه فهمى وحياء كمال, دعوات الست أمينه أمهما, ألم يغمره نور الجبلاوى من خلالك؟ ألم تحضره حكمة وفتوة وشهامة ونبض عاشور الناجى (الكبير ثم الصغير)؟
كيف أصدق, وكيف تجرَّأ
حاولت- بحكم المهنة- أن أتقمص الجانى, لم أستطع أصلا,
لو أنه كلب مسعور هائم محموم يعوى ويجرى على غير هدى, ثم طالعْته بشاشتك لارتَدّ على عقبيه دون أن يلمسك. لهذا وغيره فشلتُ فى تقمص الجانى.
فرحْتُ اتقمصك شيخى فى محنتك هذه, فحل بى غيظ مرير, ورفض حانق, وغضب حاد, واقتربتْ منى حسرة مهيضة, وخوف متسحب, فانزعجت من كل هذا وخفت عليك , فدعوت الله أن تكون الإغماءة اللاحقة قد رحمتك من بعض ذلك, وأن يكون التخدير اللازم قبل العملية قد هدأ روعك حتى لا تشعر بكل ذلك أو بمثل ذلك.
لكننى حين رحت أتابع أخبارك, بما هو أنت، لا بما تقمصتُ وتصورتُ, اكتشفت أنى أخطأت فى محاولتي, بل أخطأت فى حقك, اكتشفت أن موقفك كان – فعلا- أكبر من كل هذا, لم تحقد, ولم تغضب, ولم تخف, ولم تنكسر, يا خبر !! ربنا يخليك تعلمنا أكثر فأكثر, تصف الانقضاض الأعمى عليك تقول””..شعرت كأن وحشا نشب أظافره فى عنقى”, إلا أنك سرعان ما تصف هذا الشاب المسكين لما تبينت بعض ملامحه وهو يجري, تصفه أنه كان “…شابا يافعا فى ريعان العمر…كان يمكن أن يكون رياضيا أوعالما أو واعظا “, ثم رحت تدعو له ولأمثاله بالهداية , وأنت تقدر جهد الدولة فى مواجهته “..ربنا معكم, وربنا يهديهم ” !!!!.
استمرت محاولاتى التقمص – بحكم المهنة- أيضا , فتصورت أننى شاب من هؤلاء المخدوعين أتابع ما جرى لك, وأعايش موقفك, وأفهم أقوالك, فأفاجأ بك تدعو لى أنا القاتل أو المتربص للقتل, تدعو لى بالهداية, هل أستطيع بالله عليك إلا أن أقول ”آمين”, وحين أهتدى بفضل دعواتك شيخنا سوف أعرف الله الذى أردتَ أن تعرفنى به طول عمرك على مسار إبداعك, سوف أكتشف أنك لست نيتشه الذى توقف عند ” لا إله “.. ولم يكمل “..إلا الله” وومع ذلك اعتبره محمد إقبال مشروع مؤمنٍ رغم أنفه, ورحت أنت يا شيخنا تكمل ما توقف عنده نيتشه, رحت تفتح الآفاق لإيمان أرحب, رحت تدعو من تجرأ فادّعى أن الله غير موجود (تحت وهم علم سطحي), أن يمتد بوعيه حتى تتسع معارفه ليكتشف الله من جديد , ألم يكن هذا ماقصدته وأنت تسخر بقية عمر “عرفه” كى يعيد الحياة إلى الجبلاوى؟
يا خبر !! كيف لم أتبين تقمُصاً – أنا الإرهابى المخدوع – كل هذا أو بعض هذا من قبل أفعل ما فعلت؟
لماذا لم أنتبه لعمق إيمانك الذى وصلنى الآن فقط وأنت ترحب بلقاء خالقنا وخالقك؟
هل يمكن أن تقول – شيخنا – ما قلته لمحمد سلماوى إلا أن تكون من الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه , ألست أنت الذى قلت لسلماوى “…أمّا إذا كان (ربنا) يريد الأخرى , فنحن أيضا نحب أن نلقاه, ما أحلى “أيضا” هذه, يا شيخنا: أستحلفك - بأن أدعو ربى – ألا تموت الآن.
مازال هؤلاء الشباب الذين طعنوك فى حاجة إليك, لن يشفيهم إلا مثل إيمانك, لن يعلمهم إلا درس مثل هذا الدرس: حين أرادوا إطفاء نورك-وهو يعكس نور الله علينا إبداعا وإيمانا- أبى الله إلا أن يحفظك ليتم بك نوره عليهم وعلينا.
يا شيخنا مازلنا فى حاجة إلى بقائك بيننا حتى يتعرف شبابنا المرتبك ماهية مصر من خلالك, ومعنى التكامل الإيمانى الحر بفضل وعيك, وشرف العطاء غير المشروط من وحى ما تمثل، إن الله سبحانه لم يغمرنا بفضله من خلالك فقط, بل من خلال ما حدث من إعجاز الطب المصرى, والجراحة المصرية, حين يتخذ الأستاذ الدكتور سامح همام (وزملاؤه من حوله) القرار الصائب دون تردد, حين ينزعون بعض الفقرة دون تلكؤ, فيحقق الله المعجزة على أيديهم ليحفظك, فيحفظ لنا الأمل, ويثبت أقدامنا بالعمل, نحن فى أمس الحاجة أن نظل نسمع ضحكتك المجلجلة وأنت تحور القول الشعبى المصرى “المدية صابتنى ورب العرش نجانى”.
يا شيخنا الحبيب
لا تمت الآن- ربنا يخليك لنا ولهم
وإن تمت- بإذن ربنا,لا بمديتهم- فنعاهدك ألا تموت بما تركت فينا ولنا.
****
عودة إلى اليوميات 16 نوفمبر 1994
كلمنى أ.د. سامح همام بشأن هذا المقال، وشكر لى بعض ما ذكرت عنه، وما اعترفت به من فضله وما أقررت من مهارته وسألنى: هل زرت الأستاذ، فقلت له لا، لماذا، أنا أحب أن أحافظ على حبى له عن بعد، وقد لا أحتمل أن أراه إلا كما رسمه خيالي، وأنا أسمع عن حالته الآن كل خير بفضلك، فليتمم الله عليه/علينا نعمته، ويقوم بالسلامة، قال أ.د. سامح أفضّـل أن تزوره فقد أصبح أكثر إسهاما وأطول صمتا بالمقارنة بالأيام الأولى بعد الحادث.
ومع ذلك تغافلت، وحسبت أن أ.د. سامح قد لمح عواطفى فى مقالتى فأراد أن يكرمنى بإتاحة زيارته، وفى نفس الوقت لم أتصور أن أزوره إلا تلميذا أو مريدا أو محبا أو تابعا، أما أن أزوره طبيبا، و”طبيبا نفسيا” فهذا أكبر من طاقتي، “طنّشت”.
فى اليوم التالى : كلمنى العميد د. محمد الحسينى من مستشفى الشرطة لم يجدني، وقلت لنفسى: ربك يستر، ترك رقم هاتفه فتباطأت فى الرد، ثم كلمته بعد إلحاح رسائله، ما باليد حيله، يارب حافظ على الرجل أكثر وأطيب: إن أجريت فَضْلَك – ربى- على أيدينا فشكرونا، فالحمد لك من قبل ومن بعد.
ذهبت بعد أوامر الشرطة، يعنى، ذهبت طفلا يخاف أن يواجه أباه رغم يقينه بعفوه وحبه وطيبته، طفلا عليه أن يعود أباه ويكون تحت أمره ويطلب رضاه، لا أكثر، أليست هذه هى الصورة التى رسمتها له قبل ثمان سنوات فى مقدمة قراءتى النقدية لبعض أعماله (كتاب قراءات فى نجيب محفوظ: “المقدمة”)؟ لا لكن ما الذى منعنى قبل الحادث أن أسعى إليه لأغترف من فضله مثلما يفعل الآخرون يا ترى؟ أجابنى داخلى كالعادة بمثل الذى قلته للدكتور سامح: ربما خفتُ على صورته التى رسمتها له فى خيالى، ثم إنى لست من رواد المقاهى الثقافية، ولا أحذق فن الحوارات التى تدور فيها، وأخاف من نفسى أن أحكم مضطرا على روادها الأفاضل. إذن أنا الذى منعت طفلى أن يرى والده طول هذا العمر؟ لكن حين آن الأوان كان ما كان، وبأمر الحكومة (العميد الحسينى شخصيا).
ما باليد حيلة، أذهب بالرغم مني، فأنا أرفض أن أكون طبيبه وهو الذى عالجنى دون أن يرانى كل هذا العمر، ثم استمر علاجه لى حتى فصّلت ذلك شعرا فى أحد أعياد ميلاده “صالحتنى شيخى على نفسى” (الأهرام) ” فلأذهب من أجل خاطر عيون ذلك الطفل الذى بداخلى، وأيضا لعلنى أكون عونا لشيخى وطبيبى مثلما كان دائما عونا لى طول عمرى دون أن يدرى.
****
دخلت حجرته فى المستشفى، وكانت خالية منه ، كان فى الحمام، انتهزتها فرصة لأسأل الممرضة عن أحواله – عموما – فقالت: أحسن، خرج من الحمام فوقفت لاستقباله، هو لم يرنى من قبل (اللهم إلا بضع دقائق سنة 1971 فى الأهرام كما ذكرت) عرفته بنفسى فهز رأسه ثم أردف بحشرجة خشنة “أهلا وسهلا”، وأمسكتْ قبضةّ مجهولة بكل قلبي، أمسكت به حتى عصرته، أزحت وجهى بعيدا وأنا أعرف أنه لن يرى ما ترقرق فى عينى ومنعته أن ينساب، جلست بجوار أذنه التى علق بها سماعة ما وأخذت أطمئنه، بل أطمئن نفسي، من خلال حضوره، بدا لى أنه أكثر طمأنينة مني، رحت – أستلهم من هدوئه ما يبرد قلبى، وتمنيت أن ينتهى هذ الموقف العصيب بسرعة.
سألته – كطبيب رغم أنفه – عن النوم، وعن السكر، وعن العلاج الطبيعى، وعن الضغط، وقالوا لى وأطلعونى على كل ما لزم، الأرقام كلها فى حدود الطبيعي، ولا شيء يبدو غير ذلك.
حضرت الزوجة الفاضلة، وعرفنى بها مشيرا إلىّ “… دكتور فلان” بلهجة الذى يعرفنى من قبل، حتى شعرت أنه يعرفنى بحدْسه أكثر وأقدم، لم أمكث طويلا حرصا على راحته، انحنيت على يده أقبلها رغما عنه، ثم أقبل رأسه مستأذنا.
انصرفتُ وما انصرفت،
فقد ظل معى طويلا طويلا
وفى الأغلب سيظل كذلك حتى نلقاه على خير بقدر اجتهادنا إليه.
وإلى اليومية التالية، فى شرف صحبته (2): لست أدرى أى خميس قادم!!