نشرة “الإنسان والتطور”
7-1-2010
السنة الثالثة
العدد: 860
الحلقة الخامسة
الجزء الأول
“مَعَهُ، وأنا معه”:
الاثنين 26/12/1994
قال الاستاذ، الآن نحن نخرج الجمعة والثلاثاء، ثم أضاف: وقد يمكن أن نعيد لقاء الحرافيش بعد المحاكمة كل خميس.
لماذا يشغل باله بالمحاكمة، ماله هو بها الآن، هم مجرمون مساكين، وسوف يأخذون جزاءهم لا أكثر ولا أقل، قال: ربما صدر حكم شديد، فيثير زملاءهم وأشياء من هذه، قلت له وما لهذا بخروجنا الخميس أو الثلاثاء، قال ربما كان الإقلال من الخروج أفضل حتى تهدأ الأمور،لم أوافق، خاصة وأننى لم أعتبر أبدا أن فى الخروج خطر ما، ولا أن البقاء بالمنزل هو الحماية، فالخطر فى عقولنا وليس فى الشارع. لم أشاهد عليه أى خوف وهو يحكى هذا الكلام، كان هو الرجل الذى يسمع كلام المختص الرسمى، فما دامت الحكومة ترى ، أو هو يتصور أنها ترى أن ثّم خطرا، فليكن، أوصلته له رأيى، أنه أكثر الله خير الحكومة، ولكن للمسألة حسبة أخرى، ووافق بسهولة على أن أقوم بتنظيم الخروج، جرعته وأماكنه بما فى ذلك دواعى الأمن، وضحك، قلت له : إلا هذا، قال : خلها على الله.
قال: ما زلت أدعوك للانضمام إلينا، إلى الحرافيش، قلت له وأنا أحاول أن أخفي رغبتي فى ذلك ، حتى عن نفسى، هذا تاريخ طويل وأحسب أنها دائرة مغلقة، ثم أين هم؟ من تبقى منهم؟ شكرته على دعوته، لكنه أكد لى أن الأمر ليس كذلك، أو أنه لم يعد كذلك، فلا أحد بقى منهم سوى توفيق، ثم أردف: هيا ابحث لنا عن يوم منتظم آخر نخرج فيه أيضا، فرحت بمبادآته المتلاحقة التى تدل على قراره بمواصلة الحياة بكل حب وشوق، اقترحت الفاضلة زوجته مكانا تعرفه وهو نادي المخابرات، وأخبرتنا أنه على طريق المعادي وأنه جميل وكذا وكيت، ابتسم الأستاذ وقال هذا ناد خاص لعلية القوم يحتاج إلي واسطة كبيرة، تدخلت مذكرا إياه أنه نجيب محفوظ، وأنه واسطتنا جميعا إلي أى مكان عند أى شخص، فمضى يكمل وكأنه لا يريد أن يضع هذا المتغير(أنه نجيب محفوظ) في حسابه، وحدثني عن زوجة ابن أخيه (سنية هانم) وأن لها قريب في المخابرات يمكن أن يكون واسطتنا – عدت أذكره بإصرار أننا لا نحتاج واسطة لنذهب إلى أى مكان، وأننى كنت أحسبه يمزح وهو ينسى قيمته التى لا تحتاج وسيط، هز رأسه بتواضع و ابتسم دون أن يرد مباشرة، ثم راح يشرح نفسه بأنه يعرف أن كل الأماكن الأخرى يمكن ترتيب وتذليل ارتيادها من خلال السلطات الأمنية المعينة لنا من قبل الدولة، أما المخابرات، وضحك، وعرفت برغم ضحكه أنه جاد، واحترمت إصراره على أن يشعر بمشاعر شخص عادى، يبحث عن زوجة ابن أخيه، ليتوسط لنا قريبها الذى فى المخابرات، لكى يسمح لنا بكذا أو كيت، من هذا الرجل؟ هذه الشخصية الفريدة تصر أن تكون مجرد إنسان مصري عادي جدا إلى هذه الدرجة، وتذكرت تنبيهه لى إلى تجاوز يوسف القعيد حين نسى المعنى الرسمى لمطالب مستشفى الشرطة، وكيف قال لى آنذاك “أنا كموظف…إلخ “(انظر نشرة 31-12-2009)،الناس فى بلدنا – وهو الأعلم بناس بلدنا، يعتبرون أن أى واحد له صلة بالحكومة هو قادر على كل شىء، كان جمال الغيطانى قد ذكر لي كيف أن بعض الخطابات أو الزوار (لست متأكدا) كان يطلب من الاستاذ بعد الحادثة أن يتوسط له في استلام شقة شعبية، حكيت له حكاية حلاق قريتنا، عم محمود المزين، وهو يطلب من أبي بصفته مدرس في المدارس الأميرية أن يوصى حضرة الناظر على إبنه في مدرسة شبين الكوم التجارية، مع أن بلدنا كانت مركز السنطة غربية حتى ذلك الحين، وكان أبي قد نقل حديثا إلي القاهرة، وحين سأل أبى عم “محمود” عن اسم ناظر المدرسة أو عنوانه أو أى شيء يشير إليه، ابتسم عم محمود المزين في ثقة وهو يتعجب، قائلا: “إهييه!!! ما هو وياكو في مصر” !! ويبدو أنه كان قد بلغه خبر نقل أبى إلى القاهرة، فاعتبر أن مجرد وجود والدى فى القاهرة، حيث يسكن ناظر مدرسة شبين الكوم فيها ويحضر إلى شبين يوميا، هو كاف لأن يتعرفا على بعضهما البعض، وبالتالى يمكن لأبى أن يتوسط عند الناظر لابنه ليأخذ باله منه فى المدرسة، حكيت للأستاذ هذه الحكاية وأنا اداعبه أنه ما دام فى مصر، ورئيس نادى المخابرات “وياه فى مصر”، فنحن لا نحتاج إلى وساطة قريب زوجة ابن أخيه !! ضحك الأستاذ وهو يلتقط ما أريد، وربت على كتفى ، وقال : مصر أصبحت كبيرة أكبر مما كان يحسب عمك محمود المزين، وأنا لم أعد موظف أميرى مثل المرحوم والدك.
من هذا الرجل؟ هل هو ينكر قيمته أم ينساها؟ هذا ليس تظاهرا بالتواضع، هذا هو ما هو، يا ترى هل تكون قيمته الحقيقية، أنه إنسان يسعى فى الأرض، هى أكبر من قيمته التى تصل إلى الناس وحوله كل تلك الهالات، أنا لست أمام عباس العقاد بذاته العملاقة التى تصل إليه قبل كل آخر، حتى حسبت يوما حين كنت مواطنا معه “ويانا فى مصر الجديدة” وكنا نتحدث عن صالونه بيت أستاذى محمود محمد شاكر، الذى كان يضعه حيث يريد فقط، أو ربما حيث هو، حسبت أيامها (14 سنة) أن فرط طول قامة العقاد، وكان قد جاء ذكرها، هو قرار منه شخصيا، ليثبت أنه أعلى من الآخرين، ولا هذا الرجل أمامى هو طه حسين، وقد حكى لى لاحقا عن زيارته له فى بيته، فى لقاء مشهور أعده أنيس منصور، وسجل تليفزيونيا وأظن أنه أعيد عرضه عدة مرات، وقد يأتى ذكره لاحقا فى هذه التداعيات، إنه فقط نجيب أفندي محفوظ، “عبد ربه”، : المصري الطيب القادر على الحفاظ على نفسه العادية جدا، باحثة تائهة ذلك التوه الإيجابى القادر بين دروب المعرفة، عبد ربه التايه (أنظر بعد) ، ربما هذا هو أجمل ما فى الرجل.
حين ورد ذكر ملحمة الحرافيش وكيف أنها لاقت نقدا جديرا بها فى لندن بعد ترجمتها (كان د.صبرى حافظ، قد ذكر لنا ذلك في لقاء الثلاثاء غدا)، اقترح أحد الجلوس أن يجمع الاستاذ كل ما يُكتب عنه ليكون مرجعا موثقا مهما للتاريخ ولنا وله، رد الأستاذ أنه مرت عليه فترة كان يجمع فيها ما يصله عنه أو عن كتاباته، أولا بأول، من مثل ذلك مما يكتب هنا وهناك، ثم أردف أنه كان يرجع إلى هذا الذى جمعه بين الحين والحين يقلب فيه، فيجده مكررا بشكل أو بآخر، وحين ضعف بصره، أصبح يمزق كل ما يأتيه أولا بأول خشية أن يمتليء البيت بالأوراق المعادة، ثم راح يمزق الباقى تدريجيا بعد أن عجز عن ترتيبه، وهنا اقترح أحد الحاضرين أن نتولي نحن عنه فرز ما عنده من أوراق وتصنيفها، فابتسم شاكرا وهو يؤكد أنه “ما يستاهلشى”، ما هو هذا الذى لا يستأهل يا سيدى؟ لماذا هكذا؟ لا أعتقد أن ما بهذه الأوراق مجرد مديح ساذج، بل إننى أتصور أن به لمحات نقدية قد تكون نادرة وهامة وبالغة الدلالة، حاولت أن أحتج على موقفه هذا، لكنه لوح بيده وهو يقول، أنا مَلـِكُ التمزيق، كلما تراكم عندى كوم من الأوراق لا أعرف ما بها هات “شرْمَطْ، شرْمَطْ ، شرْمَطْ “، وإلا فإننا لن نجد مكانا ننام فيه.
ابتسمت مرغما، وأحببته جدا.
ولما كانت الزوجة الفاضلة هي صاحبة اقتراح نادي المخابرات فقد تصورت أنها يمكن أن تصحبنا هى وكريمتيه، وألمحت لزوجته الفاضلة إلى استعدادى أن تصحبنا زوجتى، وقد واكبتْ خروجه من المستشفى كما ذكرت سابقا، وربما اصطحبتنا بنتاى إذا وافقت كريمتاه، كل هذا وأنا أتصور أن اقتراح الزوجة الفاضلة لهذا المكان (نادى المخابرات) كان وراءه هذا الاحتمال، وهو أن يخصص يوما من أيام خروجه ليكون مع أسرته الصغيرة الجميلة، أذكر أننى أوصلت له هذا الاقتراح من بعيد لبعيد، فلاحظت أنه تعجب للاقتراح جدا ولم يعقب، وحين أعدت النظر إلى وجه زوجته الكريمة فهمت منه أنها تنبهنى أننى لا أعرفه، وحين استمر عدم فهمى، أشارت لى ما معناه أن هذا يتوقف عليه، وحين تمادى فى صمته، اعتذرت برقة مهذبة: أن هذا قد لا يتناسب مع وقت البنات وعملهما، وفهمت أكثر طبعه الرجالى جدا، ولزمت حدودى جدا، ولم أعد لمثل هذه الاقتراحات العائلية ثانية أبدا .
سألته عن الدكتور ‘فتحي’ صاحب الفضل الأول – بعد الله- فى إنقاذه يوم الحادث، وكيف أنني لم أره بين أصدقائه وقد مضى شهران من صحبتى إياه، فذكره بخير كثير، ولكنني كنت أبحث عن عاطفة أخرى لمستها وهو يذكر زكي سالم أو توفيق صالح بوجه خاص، ما وصلنى منه عند ذكر د.فتحى هو مزيج من عاطفة قوية صادقة، وعرفان طيب جدا، لكنه مختلف، وقال الاستاذ بطيبة محّبة إنه (د. فتحي) يزوره عادة مساء الجمعة.
سألته أن يفصّل لى بعض ما ذكر يوم الجمعة السابق من حديثه عن الشيخ الخضري وحواره مع سعد باشا (زغلول) فأعاد كيف أن سعد باشا سأل الشيخ الخضري عن مصادره في كتابة بعض ما كان يناقشه فيه من إسلاميات (في التاريخ على ما أذكر) فأجاب الشيخ الخضري إجابة جعلت سعد باشا يتقصي أكثر، ثم يعقب للشيخ الخضرى: ’ إن ما رجعت إليه من مراجع هو نفسه يحتاج إلي مراجعة. ‘، وعقب الأستاذ أنه: من هنا كانوا يزرعون فينا الحرية الفكرية حقيقة وفعلا’
كذلك رحت أتأكد من اسم كان قد ذكره في نفس الجلسة (الجمعة) وهو اسم الشخص الذي كان يبالغ في الدعوة إلي أن نتبع الغرب حذوك النعل بالنعل (أو حذوك الكأس بالكأس – كما قيل قياسا) فقال إنه محمود عزمي، وحين ذكـّـرته بعبد العزيز باشا فهمي الداعي إلي كتابة العربية بالحروف اللاتينية، قال: إنهم كانوا لهم نفس التوجه.
وإلى حلقة قادمة
الجزء الثانى
من كراسات التدريب (1)
صفحة 3
نجيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
فاطمة نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
ألا أيها النوام ويحكموا هبوا
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
أراك عصى الدمع
نجيب محفوظ
أنت المنى والطلب
نجيب محفوظ
7-1-1995
نلاحظ
نفس البداية، ، خطر لى الآن أن كتابة اسمه فى كل بداية ليست دليلا على أى تركيز على ذاته، لكنها بمثابة “فتح كلام”، أو تليين الحركة، لأن اسمه الذى وقّع به آلاف المرات، هو الأقرب إلى البداية به “لفك الزيت”، فهو يتحايل على البداية، كما يجوز أنه دأب أن يلحق باسمه اسمىْ كريمتيه، وكأنه يكرر ما اعتاد عليه من كتابة اسمه، فضلا عن قربهما الشديد من قلبه، وحضورهما الدائم فى وعيه، وربما أيضا لأن بكل اسم منهما كلمتى “نجيب محفوظ” اللتان تسهلان البداية، ربما.
ثم نلاحظ أنه كرر اسمه هنا بعد الخط، فى منتصف الصفحة فى كل فقرة تالية، ربما لنفس السبب، للتأكيد على نسبة ما تحويه كل جملة لاحقة من انها تمثل رأيه جدا، مثل:
يا أيها النوّام ويحكموا هبوا
نجيب محفوظ أكثر من يعرف، أو من أكثر من يعرف ما صرنا إليه من كسل، أو نوم فى العسل أو فى الطين، وهو ينبهنا أنه آن الآوان أن نفيق. نجيب ليس خطابيا أبدا، لا فى إبداعه، ولا حتى فى زاويته فى الأهرام، فلم تصلنى هذه الصيحة الإيقاظية على أنها خطابة، خاصة وأن أصل البيت الذى قاله جميل بثينة هو فى الحب
ألا إيها النوّام ويحكمو هبوا / اسألكم هل يقتل الرجلَ الحبَ
لا أستطيع أن أجزم، وإن كنت أرجح المعنيين معا: الحب، ونفير الإفاقة والدعوة للصحوة
المعنى العاطفى فى شطر البيت يغلب ترجيحه إذا نظرنا إلى مزاج الكاتب لحظتها وهو يلحقه بـ أبى فراس الحمدانى ، وأم كلثوم معا
“أراك عصى الدمع”
أما أم كلثوم، فنحن نعرف من هى عنده، وأين هى فى قلبه ، ووجدانه، ووعيه، واسم كريمته، ومع ذلك فقد أطل علىّ من خلال إثباته هذا الشطر، كل البيتين الأولين من قصيدة أبى فراس الحمدانى،
أراكَ عصيَّ الدَّمْعِ شيمَتُكَ الصَّبْرُ
أما لِلْهَوى نَهْيٌ عليكَ و لا أمْرُ؟
بَلى، أنا مُشْتاقٌ وعنديَ لَوْعَةٌ
ولكنَّ مِثْلي لا يُذاعُ لهُ سِرُّ!
لم يغب عنى أبدا أن نجيب محفوظ هو المشتاق الدائم إلى كل ما هو جميل فى الحياة، بل إلى كل ما هو حياة، أما أن “مثله لا يذاع له سر”، فهذا ما لا يعرفه أحد عن هذا الرجل، عاصرته سنين عددا، وكنت أعلم دائما أن وراء كل ما عرفنا، هناك سر لا يذاع، وآمل أن يكون قد أذاعه إلى صاحبه حين التقاه سبحانه وتعالى، وهو لا يحتاج إلى أن يذاع له سر أيا من كان.
أما الجزء من الشطر الأخير الذى اختتم به محفوظ هذه الصفحة فهو: “أنت المنى والطلب”، وهو من القصيدة الجميلة للإمام الشبراوى، التى لحنها لأم كلثوم الشيخ أبو العلا محمد سنة 1926
وحقـك أنـت المنــى والطلـب
وأنـت الـمـــراد وأنـت الأرب
ولي فيـك يـا هاجـري صبـوة
تحيـر فـي وصفـهـا كلُّ صـب
وبعد
الأرجح عندى أن كل شطر، أو جزء من شطر، كان يرد فى هذا التدريب، كان يحمل معه تاريخ شجنه، وعلاقة محفوظ به، مرتبطا بحالته أو بعض حالته وقت كتابته: هذا المزيج من الصبر، وعصيان الدمع، والمنى، والأرب، والصبوة، والحيرة، هى ما عشته مع نجيب محفوظ فى هذه السن بعد هذه الإصابة، وبكل تلك الإعاقة ، شكرا يا سيدى على ما وصلنى ويصلنى منك.
صفحة 4
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
الله هو الحى القيوم
ألا ليت الشباب يعود يوما
صنت نفسى عما يدنس نفسى
نجيب محفوظ
أم كلثوم
فاطمة
نجيب محفوظ
29/1/1995
نلاحظ
لم أوصه بأن يجرب تدريب يده بالرسم، لكنه هكذا فعلها وحده تلقائيا فى بدايات التدريب، ما زلنا على بعد أقل من ثلاثة أشهر من الحادث، وقد بد خط شيخنا يتحسن جدا (وإن كان قد ساء بعد ذلك أحيانا، كما لاحظنا ف كتابته للأحلام، ولهذ تفسير قد أعود إليه).
خاب رأيى الذى ذكرته فى قراءتى الصفحة الماضية، فهو هذه المرة لم يبدأ بكتابة نجيب محفوظ ليفك الزيت، ولا كتب أسماء كريمتيه لمجرد أن أباهما اسمه نجيب محفوظ، كنت أستطيع أن أتراجع عن هذا التفسير بأن أشطبه الآن، لكننى فضلت أن أتركه حتى يشاركنى القارئ احتمالات خطإ التأويل أولا بأول.
بدأ هذه المرة بنجيب محفوظ ، لينتهى بنفسه وكريمتيه، مما قد لا يحتاج إلى الإشارة بعد ذلك.
أما المحتوى هذه المرة فهو شديد الإيجاز شديد الدلالة (مثل كل حرف خَطَّهُ)، “الله الحى القيوم”، هو القادر على أن يعيد الشباب، وأنا لم أره أبدا إلا شابا.
أما “صنت نفسى عما يدنس نفسى” فبرغم من أنه فعلا صان نفسه عما يدنس نفسه، وقليل ما هم، إلا أننى رجحت أن البيت الثانى هو الذى استدعى هذا البيت دون أن يظهر، وهو البيت الذى يقول فيه البحترى :
وَتَماسَكْتُ حَينُ زَعزَعني الدّهْـرُ التماساً منهُ لتَعسِي، وَنُكسي
هذا الرجل-محفوظ- تماسك حين زعزعه الدهر، تماسك تماسكا لا أعتقد ان له مثيل بالدرجة التى وصلتنى، فإن كان له مثيل فأنا أحب ذلك، لا أميل فى رؤيتى له أن أعتبره استثناء للقاعدة، هو لم يكن يعتبر نفسه استثناء، لم يكن يحب الاستثناء، وكان يفرح حين أقول له إن مصر قادرة على إفراز عشرات “نجيب محفوظ”، ويدعو لى،
رجعة إلى البيت الأول قبل وتماسكت… يقول:
صُنْتُ نَفْسِي عَمّا يُدَنّس نفسي، وَتَرَفّعتُ عن جَدا كلّ جِبْسِ
أما الجـَدَا، فهو العطيّة : منحه عطيَّةً؛ جداه مبلغاً من المال مكافأة على جهوده
وجدا عليه: أعطاه الجدوى.- وجداه: سأله عطيّة، أو سأله حاجة
ما تزال بلدان العالَم الثالث تجدو البلدان المصنَّعة.
وأما الجِبس فقد اخترت المعنى الذى ترفع عنه محفوظ وهو: الفاسِقُ والرَّدِيءُ والجَبانُ واللَّئيمُ
محفوظ لم يترفع عن نوبل، برغم الشبهات التى تدور حولها، فهو قد رفع من شأنها، واستعجلوا التمادى فى تلوثها، وهو لم يترفع لا عن جوائز الدولة، ولا عن أى تقرير طيب كريم، من أول جائزة قوت القلوب الدمرداشية، لكن ، دون أن يحكى لى: هو قد ترفع عن عطية كل لئيم، وكثير ما هم (بما فى ذلك بعض دور النشر).
وإلى حلقة قادمة.
تنوية:
(لا يحسبن أحد أن حضور الاستشهادات والاستطرادات هى دليل على موسوعية أو ما شابه، الفضل فى أى من ذلك هو لما اتحفنا به سيدنا جوجل – جزاه الله خيرا – من ذاكرة عامة، جعلت الأمّين أمثالى لا يحتاجون لذاكرة خاصة مثل تلك التى كانت عند المرحوم “حسن الكرمى” فى إذاعة لندن العربية لسنوات: برنامج قول على قول حتى الستينيات).