نشرة “الإنسان والتطور”
7-4-2011
السنة الرابعة
العدد: 1315
الحلقة السبعون
الخميس: 17/8/1995
قرأت هذا الصباح وجهة نظر التى يكتبها محمد سلماوى، ووجدت أن الكلام الذى كتبه سلماوى اليوم على لسان الأستاذ كان الأستاذ قد قاله لى نصا تقريبا، وأظن أنه بعض ما صرح به للمذيعة التى سجلت الفيلم الفرنسى ففرحت أولا لأمانة ما يَكتب سلماوى فى هذا الركن فى معظم الأحيان، وثانيا لأننى كنت أحتاج إلى تحديد إسم أو اثنين ممن ذكرهم لى الأستاذ عابرا
كتب سلماوى على لسان الأستاذ يقول “…لم تكن هناك كتب للأطفال فى ذلك الوقت، كان عمرى آنذاك إثنى عشر عاما، فكنت أقرأ كتبا (فارغة) مليئة بالقصص البوليسية وبالحرامية مثل كتب أرسين لوبين وجونسون وغيرهما، ثم أصبحت أقرأ القصص العاطفية لكنها لم تكن تزيد فى قيمتها عن القصص البوليسية”
ويستطرد الأستاذ: لقد كانت تلك كلها كتبا مترجمة، وكنا نتصور فى ذلك الوقت أنها تمثل شيئآ فى الأدب العالمى، إلى أن كبرنا واكتشفنا أن تلك الأسماء التى كنا نقرأ لها لم لكن لها أية قيمة فى أدب بلادها
وأسأل: هل تذكر بعض هذه الأسماء؟
فيقول: أذكرمثلا شارلز جارفز، الذى لم أجد له ذكرا فى الأدب الإنجليزى بعد ذلك، ولقد كانت رواياته التى قرأتها تدور حول قصة حب إبن أحد اللوردات الذى يقع فى غرام إبنة فلاح وأشياء من هذا القبيل، كذلك كانت هناك قصص إبن جونسون فأسأل من هو إبن جونسون هذا؟ فيقول: كان جونسون لصا شهيرا ترجم سلسلة كتبه حافظ نجيب، وحين انتهت السلسة وحققت نجاحا كبير استخسر المترجم ذلك فأوجد له إبنا من عندياته وبدأ سلسلة جديدة من الروايات عن إبن جونسون، والغريب أنه كان يوقعها كمترجم رغم أنه كان مؤلفها، لأن الكتب المترجمة فى ذلك الوقت كانت تجد إقبالا من الجماهير، وكان الكثير ممن يؤلفون القصص يكتبون عليها مترجمة عن الفرنسية، وكان المرحوم السباعى ممن كانوا يقومون بالترجمة عن الفرنسية.
اليوم هو يوم حرافيشى
أحمد مظهر اعتذر لارتباطه بإلقاء الكلمة التى أشرت إليها الخميس الماضى فى الليلة المحمدية، كلم توفيق صالح الذى كان قد عاد منذ ثلاثة أيام إلى القاهرة بعد رحلته البيزينسية إلى أمريكا، قال توفيق أن مظهر ترك لنا ثلاثة تذاكر لنحضر التسجيل، ضحكت ورفضت وعتبت على الأستاذ أن يقبل مثل هذا، فنبهنى توفيق إلى أنه ليس من حق الأستاذ أن يقبل أو يرفض رؤية الناس له، فحكيت له عما أزعجنى من تسطيح وخطابة اعتبرتها إهانة للأستاذ وتعجبت كيف قبل أن يلقيها أحمد مظهر هكذا بهذه السلهولة، فقال هكذا أعمال يسرى الجندى فى الأغلب، وأضاف إن الذى كان يمكنه أن يرفض هو مظهر، لأنه من الحرافيش، ولأن قبوله يتضمن موافقة نجيب محفوظ، فى حين لو قال هذا الكلام ممثل آخر ليس له علاقة بنجيب محفوظ، فإن الأمر كان سيبتعد حتما عن مظنة موافقة نجيب على النص.
رحب الأستاذ بتوفيق ترحيبا حارا، ثم اكتشف أننى معه، وقال بفرحة : أنت هنا؟ فهو أنت؟ ثم أردف:، قال ألم تستأذن فى السفر أيام الخميس فى الصيف فلم أتعبت نفسك، هذا الأب الطيب لا ينسى ما يهم أبناءه ومحبيه، كنت قد ألمحت إليه أننى فى الصيف قد لا أتمكن من الحرفشة بانتظام، ولم أكن قد أخبرته أننى غيرت نظام سفرى وعيادتى حتى أتواجد يوم الخميس معهم باستمرار، فرحت بفرحته ودعوت له بالصحة وطول العمر
قال بلهفة المشتاق إلى توفيق: أسمعنا يا توفيق ما ذا فعلت فى أمريكا، حب استطلاعه لا ينتهى، وأبوته غامرة بلا توقف، ثم أردف ونحن فى السيارة، لا أجّل الحكى إلى أن نصل إلى الفندق فالحديث شيق والإنصات مهم، ووعده توفيق وقال كمن يعد طفلا بقطعة شيكولاته، أو بحكاية حدوتة جديدة : عندى لك كلاما كثيرا سوف يهمك، ويقول الأستاذ طبعا، أبلغ توفيق الأستاذ دعوة مظهر لحضور الليلة المحمدية فاكتفى الأستاذ بهزة الرأس إياها
هذا الفندق أجمل وأرق من فورت جراند(1)، قلت للأستاذ آمل أن تعتاد عليه، فأنت عشرى يصعب تغيير جلستك متى تعودتها، لكن وجهه كان يقول إن هذا مكان جميل، وفعلا حين جاء وقت الخروج التفت وهو على الباب وقال، ما أروع هذه المساحات وأمهر المهندس الذى قسمها، فرحت بقوة نظره التى أتاحت له هذه الرؤية.
بدأ توفيق يحكى عن الكمبيوتر وإنجازاته فى السينما، لكن الأستاذ أمهله حتى نذهب إلى المنزل، ويأخذ راحته، فاكتفى توفيق بالحكى عن الرحلة وعدم النوم، والفندق المكسيكى الذى نزله به أولا، ومنظر الفتيات وكأنهن بائعات هوى، أو هن كذلك، واستوضحت الأستاذ ما عدلت به معلوماتى السابقة عن الشيخ صبح والشيخ على محمود، واقترح توفيق، لست أدرى لماذا، أن يكون حديث الاستاذ فى الأهرام معى بدلا من سلماوى، وقبل أن أعلن رفضى أو اعتذارى أو استحالة ذلك، نظرت إلى الأستاذ، وقرأت سكوته، وعرفت موقفه، ورحت بصدق أدافع عن أمانة سلماوى وعن حديث اليوم بوجه خاص، وسألت توفيق عن وقع هرب صهرىْ صدام حسين إلى الأردن، وموقف الإعلام الأمريكى من ذلك، فقال إن أهم ما كان فى الخبر هو وصف كمية الذهب والدولارات التى أخذاها معهما، ثم أردف إن صدام كامل الأخ الأصغر الهارب هو الذى قام بتمثيل فيلم صدام حسين الذى أخرجه توفيق صالح فى العراق، وحكى لنا كيف التقطه من الشارع تقريبا لشدة الشبه بينه وبين صدام، وكيف أنه حين دخل بيته أول مرة كان يلبس حلة من حلل العمال وفى قدميه صندلا (زنوبة) قديما، ثم كيف بعد الفيلم أصبح حارسا خاصا، ثم تولى أخوه المنصب تلو الآخر حتى صار أمين السر وكاتم الأسرار، وقال إن صدام هذا بعد أن ركب المحمل لم يكف عن زيارته، وأنه كان كلما اقتنى سيارة جديدة جاء يريهم إياها، وأن هذا الهروب ليس له مغزى سياسيا بقدر ما هو صراع على السلطة بين عدى وأزواج إخوته لا أكثر، وهو صراع على الأموال والتهريب والاحتكارات فى نفس الوقت. وطلبت من توفيق فيلمه عن صدام ووعدنى، (ولم يف بوعده أبدا، ولست متأكدا هل هو فخور به أم لا، فهو لم يدافع عنه أبدا، ولم يأسف عليه أيضا).
الأستاذ أصبح لى أقرب إلى صديق قديم، فرحت أننى صرت بعد هذه الفترة أجلس معه وأنسى أنه نجيب محفوظ، وربما ينسى هو ذلك، وهو الذى له الفضل ذلك فقد شجعنى أن أنسى أنا أيضا أنه هو هذا الشخص الذى أحببته كل هذا الحب، ما زلت أحبه مثل الفترة الأولى التى كنت أتعرف عليه كل يوم جديدا، بل وأكثر، كلما عرفته أكثر أحببته أكثر، وأيضا كلما عرفت عيوبه ونقائصه أكثر، أحببته أكثر فأكثر، هذا هو، وقد لمت نفسى أننى لم أتكلم عن ذلك الجانب فى خواطرى هذه، لكننى احترمت احترامى لتواضع تلقى الناس، صحيح أنا لست وصيا عليهم، لكننى لا أسجل تاريخا، وإنما موقفا شخصيا من شخص أحبه، فمن حقى أن أحبه بما هو بطريقتى، وهل أنا أملك غير ذلك؟ أهم ما همنى هو محاولة اكتشاف كيف يمكن أن يكون الإنسان بكل هذه العادية، وفى نفس الوقت يكون بكل هذه العبقرية،
المهم قال الأستاذ تعقيبا خفيفا على وصف توفيق (المبدئى) لبهر التكنولوجيا فى أمريكا، وكيف أنها سبقت الإنسان سبقا خطيرا: إننا لا ينبغى أن ننزعج كل هذا الإنزعاج، إذ لا بد أن تنشأ قيم جديدة تناسب هذه القفزة الإنسانية، وأن أحفادى وأحفادك سينتمون إلى هذه القيم الجديدة، قلت له أنا مؤمن بذلك، وذكرته بما سبق أن تداولناه فى هذا الصدد، وما اقترحته تحديدا، فذكر بعضه، وطلب منى الأستاذ أن أكمل، فعجزت، أو خجلت من التكرار، ووعدت أن أرجع إلى أوراقى القديمة وأن أجمع ما كتبته حول هذا الموضوع هنا تمهيدا لنقاش نفتحه غدا، أو فى أى وقت لاحق.
ذهبنا إلى منزل توفيق، علاقة الأستاذ بتوفيق، وتوفيق بالأستاذ بدأت تتضح لى أكثر بعد كل هذه الشهور، حكى لنا توفيق عن أم صدام حسين، حين زارها وهو يعد فيلم صدام، ودخل منزلا ريفيا ووجد عجوزا تفرز حبات الطماطم بجوار باب الدخول وقد افترشت الأرض، وإذا به يفاجأ فى الزيارة التالية أن هذه العجوز ليست إلا أم صدام، وكانت تلبس فى إصبعها خاتما فيه قطعة من الماس هى أكبر قطعة شاهدها طوال حياته، وهى لا تعلم قيمتها فى الأغلب. وحكى وحكى وحكى، حتى حكى يوم أن كان فى خرجة ترويحية إلى الخلاء (ما يقال عنه “البر”) وقد عرفت طقوس مثل ذلك أثناء زيارة خاطفة إلى الرياض، حيث تخرج العائلة أو الأصدقاء إلى البر ويخيمون حتى لو بلغت درجة الحرارة ما بلغت، ويمضون مع الطبيعة بكل ظروفها يوما أو بضعة أيام، يكمل توفيق: وكان صدام يتريض هو وحرسه، ووجد توفيق أنه من اللائق أن يحييه أو يصافحه، وحال دونه الحرس لكن حسين كامل (شقيق صدام كامل الذى مثل الدور) أشار بيده فسمح له بالتقدم، كان هذا الهارب حسين هو المسئول عن أمن صدام وعن معلوماته..إلخ،
ثم يعقب توفيق: هذا هوالعالم الثالث :حكم العائلات والسلام، إبن الأسد، ثم إبنه الثانى، ثم عدى صدام، وقصى صدام، ثم أزواج بناته، إن ملكية الأردن أهون من جمهوريات الإشتراكيين هؤلاء،
رجع توفيق إلى الحكى عن التكنولوجيا من جديد، وكيف يستطيع الـ سكانر scanner أن يرسم ويغير حتى فى تعبير الوجه والعينين فى مشهد من المشاهد بدلا من أن يعيد تمثيله، وقلت لتوفيق إن هذا قد يكون حسنا لكنه يحتاج إلى نوع من الفن والمهارة لا يمكن توفرهما بسهولة، ثم إن هذا قد يفرض وصاية على التلقائية البشرية لأننا قد نتصور أن الـ سكانر أو غيره قادر على أن يسمح لنا برسم صورة الإنسان كما نتصورها وليس كما نطلقها من عقالها، وأضفت: إن الفن هو إطلاق قبل أن يكون تخليقا أو تحديدا، وأن الإطلاق الجيد هو الذى يسمح بالتلقى التلقائى الذى هو إبداع تالٍ ويهز الأستاذ رأسه بالموافقة المستزيدة والمشروطة بقبول احتمالات بديلة أو معاكسة، فأتدارك وأنبه أن المسألة ستصبح بهذه التقنيات الأحدث أقرب إلى الفنون التشكيلية منها إلى الفنون التعبيرية (وأنا لا أعرف الفرق بين هذا وذاك تعريفا منهجيا) وأنه مع تواجد قدرات بشرية جديدة قادرة على التخاطب والتعبير والتواصل بهذه الأدوات قد ننتقل إلى إمكانيات أكبر مع التخلص من الحذر من تحديدات مسبقة جامدة مثل التى افترضها.
ويسأل الأستاذ ولكن هل تفيد هذه الآلات فى كتابة السيناريو، فيرد توفيق بالنفى، فأتدخل بدورى وأسأله (أسأل توفيق) عن الطريقة الأمريكية فى كتابة السيناريو والتى أرانا إياها ذلك اليوم، وأنه فى حدود تذكرى لما سبق أن قاله لنا عن وضع الهامش، أتصور أنه يمكن أن يخصص جانبا من الشاشة على الكمبيوتر لرسم المشهد بدلا من وصفه كتابة ثم تحريك المشهد (مثل إعداد الصور المتحركة)، ومع كل نقلة فى السيناريو وهكذا، وليكن الحوار فى عامود مواز يستلهم تخطيط المشهد وهكذا، وأحاول أن أستشهد بما أفعله مؤخرا مع برنامج الـباور بوينت Power Point ويعتذر توفيق لأنه ليست له خبرة بالكمبيوتر عموما، وبالتالى بهذا البرنامج الذى أتحدث عنه وإمكانياته، وينبهر الاستاذ بالحديث فاسأله هل لو كانت أتيحت الفرصة له أن يعايش هذه النقلة التعبيرية، فهل كان سسيصبر على تعلمها بما تتيحه من فرص إبداعية مختلفة عن مجرد الكتابة، فيجيب بتواضع “لا أعرف”، فأرد بأننى متأكد أنه كان سيحذقها حتى يبدع فيها برامج جديدة، فيضحك ضحكته الجميلة الرائقة، ويقول لتوفيق “شوف لنا هذه الحكاية يا توفيق” أن المستقبل هو لمن يحذق هذه الأدوات، ويضيف الأستاذ مزيدا من موافقته وإعجابه بالتقدم وأمله فى الغد وفينا، ولم لا ؟
ويذكر توفيق للأستاذ قبل أن ننصرف خبرا ورد مؤخرا يقول: إن الصرب يقذفون دوبروفنيك، ولا أفهم لماذا هذا الخبر بالذات، وما مناسبته، لكن إجابة الأستاذ تشرح الموقف، فهذا هو البلد الوحيد الذى زاره فى الخارج، وهو يذكر جماله وآثاره، ويتألم للدمار والتحطيم الذى لحق به وكأنهم يدمرون بيته، وأسأل نفسى: ماذا لو أن الأستاذ سافر كثيرا، ورأى الطبيعة كما يحبها، ورأى الناس الآخرين، وقبل أن أتحسر على أنه لم تتح له هذه الفرصة أحمد الله لأن حساسية الأستاذ – فى رأيى – كانت ستزدحم بزخم من المعلومات (بالمعنى البيولوجى) والرؤى بما قد لا يعطينا الفرصة للتمتع بزخم هذا الفيض الداخلى كما حدث نتيجة لارتباط الأستاذ بمصدر واحد (أو أساسى) من مصادر البيئة القاهرية القديمة، التى أفاضت عليه، ثم علينا، كل ما هو “نجيب محفوظ”،
هكذا.
[1] – الذى أصبح فندق ميريديان الهرم بعد ذلك.