نشرة “الإنسان والتطور“
17-3-2011
السنة الرابعة
العدد: 1294
الحلقة السابعة والستون
الثلاثاء 6/6/1995
اليوم التصوير، الفيلم التليفزيونى الفرنسى عن الأستاذ، العوامة فرح بوت، فور وصولى أبلغنى الأستاذ أن توفيق قد قابل محمد إبنى فى معرض الكمبيوتر، وأنه معتذر عن تصوير الحرافيش فى منزله، المخرجة مازالت ترجو، وتلح فى الرجاء أن تصور فى ”بيت” وليس فى ”محل عام”، مال علىّ جمال الغيطانى وقال ألا تستطيع أن تقنعه بالتصوير فى بيته، قلت له إن هذا الأمر قتل بحثا فى جلسة الحرافيش والرفض نهائى، خطر لى أن اقترح التصوير فى منزلى كبديل، لكن منزلى ليس له تاريخ فيه إلا مؤخرا، ولا هو المنزل الذى يلتقى فيه الحرافيش، أخذت على خاطرى من توفيق صالح ووعدت المخرجة أن أحاول مرة أخرى، وأن أخبرها بما نتفق عليه.
فى العيادة كلمت أحمد مظهر، وأخبرته باعتذار توفيق، وطلبت منه أن يتم تصوير الحرافيش فى منزله إذا عجزت عن إثناء توفيق عن موقفه، رحب وبدا سعيدا بهذه الضيافة الطيبة، كلمت بهجت عثمان، ولم أجد جميل شفيق، قال لى بهجت إن عنده ظرف مانع، وأن للأستاذ موقفا من مثل هذا، فقد سبق أن المرحوم محمد عفيفى قد رفض التصوير باعتبار أن جلسة الحرافيش هى جلسة خاصة بالضرورة ولا داعى لتصويرها أصلا، وأن الأستاذ بناء عن إلحاح حرافيش آخرين اضطر للمشاركة فى التصوير آنذاك، وهو لا يحب الكاميرات، إلا أنه تحايل حتى احتمل الإضاءة والطقوس، فظهر فى التسجيل حالة كونه متحايلا، قلت له ليكن، لكن المسألة الآن دخلت التاريخ، واللقطة سوف تكون ضمن تسجيل عالمى، وأنا حرفوش حديث لا أصلح جزءا من هذا التاريح ولا بيتى يصلح، ورجوته أن يدعى أنه قادم ويعتذر فى آخر لحظة حتى أستطيع أن أقنع توفيق.
الأربعاء 7/6/1995
كلمت توفيق فى بيته، مازال مصرا، لو سمحت، أرجوك وعشان خاطرى، وتعجبت أثناء المكالمة أن أرجو توفيق أن يكون الأمر عشان خاطرى، وهل يوجد خاطر أكبر من خاطر نجيب محفوظ، وعند من؟! عند توفيق صالح، ولكننى قدرت ما بداخله، وقررت أن الخاطر هو من أجل الأستاذ فى البداية والنهاية، وما هى إلا تداعيات عناد الموقف، قلت له إن الأستاذ يريد أن يتم التصوير مع من تيسر من الحرافيش، وقد سألته أمس بعد التأكد من أن جلسة التصوير هى واحدة وليست اثنتين سألت الأستاذ: هل تريد التصوير مع الحرافيش، قال بطيبة طفلية رائعة: ياريت، احترمته وخجلت، نقلت هذه الرسالة كاملة حارة لتوفيق فى الهاتف، وإذا به يقول: لماذ لم يصور فى بيته هو؟، مادام لم يصور فى بيته فالأوْلى ألا يصور فى بيتى، قلت له إن بيتك يا توفيق هو مكان لقاء الحرافيش، أما بيت الأستاذ فقد عبر عدة مرات عن خجله أنه ليس له حجرة مكتب، والصالون الصغير قد عزل المكتب خلفه فتوارى مترددا وفوقه بضعة كتب تئن من الهجر ولا تستطيع أن تزيح التراب عن أغلفتها، وأخيرا وافق توفيق، بعد أن نقلت له تعبير الأستاذ “ياريت” حتى يستشعر رغبة الأستاذ العميقة فى تسجيل ما هو “حرافيش”، مضى توفيق يقول: إنك لا تعرف نجيب، إن نجيب محفوظ ليس له صاحب (مالوش صاحب)، نعم نعم!!!؟ قلت لنفسى، فوّت هذه، إن المسألة أكبر حتى من خيالى، لعلها حرارة الموقف وطفولة الفنانين المبدعين.
وتأكيدا لموافقة توفيق واحتراما لحقه فى “الزرجنة”، صحبت زوجتى وزرته صباحا للشكر والتأكد من الموافقة، وفى نفسى شك أنه قد يتراجع فى أية لحظة، ومازحته، وطيبت خاطره، واحترمت طفولته الصادقة.
خرجت من عنده إلى الأستاذ مباشرة وبشرته بالموافقة فتهلل بشكل متوسط، وقال آسف سوف نبهدل له بيته، ناقشت زوجته الفاضلة فى احتمال أن يذهب لاحقا إلى الإسكندرية، فوافقت واقترحت أن يكون ذلك أثناء سفر البنات إلى الخارج، لكنه هو الذى تردد وقال فى رجاء متوتر: ما بلاش التصييف ده، وبسرعة قلت: لك ما ترى، فرضى وهدأ، ثم أشار إلى بعض اللين الذى تعانى منه أمعاؤه هذه الأيام، وعزاه لطريقة الحشر الجديدة التى تمارس عليه فى وجبة العشاء خارج المنزل، وقال إنه أكل أمس فى فرح بوت: بصارة وكبدة وأشياء أخرى. وهو يعزو اللين إلى ذلك
كلمتُ بهجت عثمان فرد مرحا: أهلا بالكونت برنادوت، لم أفهم فقلت له تريد أن تطيّررقبتى، قال أنت حمامة السلام بين توفيق ونجيب، وعدنى أنه سيحضر، وكان جميل شفيق عنده، وكان حريصا على أن يحضر جلسة تصوير الحرافيش من البداية، وأنا كذلك رغم أننى أخفيت رغبتى هذه، وكنت قد عزمت ألا أشارك فى التصوير إن رفض توفيق التصوير معنا، وكان قد أعلن عفوا عن هذا الاحتمال رغم أنه قبل التصوير فى بيته، قلت أتحجج به وأعتذر عن التصويرمعهم لأننى غير متأكد إن كنت حرفوشا حقيقيا أم لا، أى هل أنا تثبت بصفتى الشخصية أم هى الظروف؟، هذه المسألة لم تحسم عندى بعد، ويبدو أنها لن تحسم أبدا.
كلمت أحمد مظهر مخبرا إياه بالتطورات، وأننا قد لا نحتاج بيته، فصاح “إخص”، لقد أعددت كل شيء ولمّعت الأكواب ومسحت المناضد، ما علينا، يا الله! وأردف: ولكن أين سيكون التصوير عند توفيق؟ قلت له فى الصالون والشرفة، قال ياه!! تلك الحجرة النصف متر!!!
الخميس 8/6/1995
ذهبت للأستاذ واصطحبته إلى بيت توفيق أولا، فى الطريق سألته عن لقاء أمس فى المعادى، قال لى لقد حضر رئيس وزراء اليمن السابق ( لعله ”على سالم البيض” أو لست أدرى من، سوف أسأل فيما بعد) وقال إنه قادم من سوريا، وهو وجيه وأنيق، وهو يستحق أن يكون رئيسا للجمهورية فعلا، كأنه ولد لهذا المنصب، وفرحت أن ضيفا مثله يحضر جلسة الأربعاء بالمعادى بعد أن خفت من تناقص الأصدقاء بها، حين وصلنا إلى منزل توفيق استقبلنا بحب وترحاب شديدين، وكأن شيئا لم يكن، تأكدت من ترجيح ظنى، وأن قبوله هو من أجل خاطر الأستاذ طبعا جدا، قبّل الأستاذ عدة قبلات على كل خد، ترى هل يعتذر له أم أنه تذكرأن هذا هو الطبيعى، فرحت لمنظرهما على كل حال، وبدأ التصوير
الأسئلة تقليدية، معادة، أظن أننى قرأت بعض الإجابات على مثلها من قديم، ربما فى عدد الهلال منذ أكثر ربع قرن بمناسبة بلوغه الخمسين على ما أذكر، ومع ذلك فضلت أن أفرغها من التسجيل – غالبا– فكانت على الوجه التالي:
س: بالنسبة لطفولتك والحى الذى قضيت فيه إثنى عشر عاما، ما تأثيره عليك، على تكوينك وعلى إبداعك ؟
جـ: فى الواقع إنهم كانوا تسع سنوات وليس إثنى عشر، لكننى ظللت أتردد عليه بعد ذلك حتى قبل الحادث، وقد تأثرت به بكل معنى، وعلى جميع المستويات، وهو مازال يمثل كيانى بشكل أو بآخر
س: ما هو أول إحساس جسدى تذكره فى طفولتك، الإحساس بالجسد، ذكرت فى حكايت حارتنا مثل هذه الأحاسيس، فما هى؟ وهل لها علاقة بهذا الحى وملامحه الخاصة
جـ: إحساس جسدى، ما ذا تعنين
= الإحساس بالجسد، بالجنس
- أظن أن أول إحساس من هذا النوع كان مع أطفال الجيران، الأولاد والبنات، على السطوح، أنت تعرفين لعبة عريس وعروسة التى يلعبها الصبية والفتيات فى هذه الأحياء
[حضرنى هنا ما تذكرته من حكايت حارتنا، المرأة التى حملته على ظهرها طفلا، حين أحس بدفء ما، وكذلك مقتطفات من السيرة الذاتية]
= وبالنسبة لرائحة الحى، المشاعر الحسية، هل كانت لها أثر باق عندك
- الروائح، ماذا تعنيين؟
= رائحة البيوت الأطعمة الأدخنة، أى شيء من هذا القبيل
- آه طبعا، أنا كنت بجوار حى العطارين، وهو حى كله روائح، ثم عندك الأطعمة الشعبية بروائحها المميزة، الكشرى، والكسكسى، وكل هذه الأشياء تميز هذا الحى والأحياء المماثلة بوجه خاص.
= ما هى أول علاقتك بالقراءة، ما هو أول كتاب قرأته؟
- أول قراءة: أظن كنت فى إبتدائى ووجدت مع أحد التلاميذ كتبا، رواية بوليسية، جونسون وابن جونسون، حاجة كده، قرأتها، سررت منها، ومن يومها، وكان أيامها فى الأهرام تنشر قصص مسلسلة مترجمة عن كتاب مثل شارلز جارفز.
= ما هى أول قراءاتك للكتاب الأجانب مترجمين إلى اللغة العربية؟
- أول تراجم أظن المنفلوطى، آلام فرتر، وكان محمد السباعى أيضا، ترجمة تشيكوف، ودى موباسان، لم تكن ترجمة بالمعنى الحالى كان زى نقل المعنى، كنت تلاقى فى الترجمة أحاديث نبوية، كنت أقول ياه هم الكتبة الخواجات يعرفون هذه الأحاديث النبوية.
= ما هى أول قراءة لكتاب أجانب؟
- أظن برنارد شو، وأناتول فرانس:هنا حصل خدعة مع أناتول فرانس، كنت فى ثانوى أظن، ولقيته سهل جدا، فكرت أن كل الكتابة بالفرنسية هكذا، كان إعجاز السهولة واضح بشكل خطير، انخدعت، إدانى فكرة غلط عن اللغة الفرنسية حسبت أنها سهلة، بعد كدا حين انتقلت إلى مدام بوفارى لـ فلوبير وجدت المسألة شديدة الصعوبة، قلت ألله، هل الأمر كذلك، وقرأت أيضا نانا: لإميل زولا، هو مش STYLIST مش أسلوبى
= ومتى قرأت شكسبير
- بدأت قراءة شكسبير – يمكن فى الجامعة – ماكبث، أوتللو، وأيضا أعجبت بشكسبير من خلال إعجاب الرواد به، كان الرواد زى العقاد ثقافتهم سكسونية، فكانوا يحبون شكسبير، ومن هنا اتعرفت عليه من خلالهم، وأحببته جدا.
= هل يمكن أن تكلمنا عن العلاقة بالوالدة خاصة؟
- أنا كنت الصغير، حتى إخواتى كانوا كبروا وكنت تقريبا وحدى فى البيت، طبعا حصل شيء مثل بعض الدلع، لكن الوالد كان حازم فتوازنت المسألة.
= ما هو تأثيرالوالدة عليك من الناحية الثقافية ؟
- أنا زرت معها كل الأماكن والأضرحة الإسلامية والقبطية، والآثار، هى كانت تأخذنى معاها باستمرار إلى كل الأماكن التى أشرت إليها، زرت معاها المتحف المصرى - مثلا- عشرات المرات، كل مرة ندخل حجرة الموميات وأتعجب، إزاى جسم يفضل كده وصاحبه مات من كذا ألف سنة، مرة اختارت موميا وقالت لى: دى شبهى، شوف شعرها أبيض إزاى، الأم كانت مرشد آثار، بالنسبة لى، كنا نزور الأهرام كل شوية، نركب ترام 14 ونروح
= هل الوالد، بحزمه وحضوره كان سى السيد، السيد أحمد عبد الجواد،
- لم يكن والدى هو السيد أحمد عبد الجواد طبعا، كان حازما وصارما لكن السيد أحمد عبد الجواد شخصية روائية، لو كانت شخصية حقيقية يبقى الكاتب مؤرخ مش روائى، الروائى بياخد طوبة من هذه الشخصية ومن تلك الشخصية، ويمكن من شخصية واحدة ست وهو بيبنى معمار راجل، وبعدين تطلع شخصية الرواية
= يقال إنك كنت لاعب كرة ماهر، ما هذه الحكاية
- لعب الكورة بدأ بالإعجاب بحسين حجازى، وبعد ذلك لعبت فى فناء المنزل، وفناء المدرسة، وبعدين كونا فرقة خاصة فى الحى، زى نادى، وأصبحنا نلاعب فرق أخرى، فى الجامعة بطلت كورة ودخلت فى القراءة وكدا.
= إحترت بين الأدب والفلسفة، فكيف حسمت الأمر؟
- أنا كنت أدرس فلسفة، وكت أمارس الأدب من تحت لتحت”،بعد التخرج سجلت ماجستير فلسفة، إستخسرت وقتى فى الماجستير، قررت أن عملى الخاص هو الأدب، أما الثقافة فعامة، وبقت الفلسفة من أسس ثقافتى العامة.
= يقال إن الكاتب يعيش معاناة شديدة وهو يكتب، وأن القارئ يشاركه ذلك أحيانا فهل تذكر شيئآ من هذا، مثلا هل تذكر كيف عشت معاناة فلوبير أثناء قراءة مدام بوفارى، عند وصفه لوفاتها؟
- أظن عشت التجربة بكل أعماقها
= متى بدأت تقرأ بانتظام هادف والتزام؟
- كانت قراءتى فى البداية قراءة هاو، لكن بعد ذلك قرأت بانتظام، مثلا outline of the world…
= ومتى بدأت تكتب
- أنا كنت باكتب ما أقرأ، كل الكتب التى قرأتها وأنا صغيير كتبتها، كأنى أنا الذى ألّفتها، كان عندى كراسة مع كل كتاب، أكتبها من مخى أنا، شيء أشبه بالتقليد، بالتقمص، بعد ذلك بدأت المسألة تأخذ شكلا منتظما
= كيف ؟
- يمكن المسودة تاخد منى شهر، شهر ونصف، أقعد أبيض العمل فى سنة، ساعات أقعد أكتب (أبيّض) خمس ساعات ألاقى نفسى لم أنجز غير نصف صفحة، عمر الكتابة ما كانت يسيرة
= توقفت عن الكتابة بعد 52 لماذا؟
- يمكن على ما اتعرف على ماهية المجتمع الجديد الذى انتقلنا إليه، أظن أننى كنت أتساءل لمن سوف أكتب، ماذا أكتب لمن؟ الذى صفته ماذا؟ قالوا إن هذا التوقف كان نوعا من رد الفعل، أنا لا أظن، أنا أيامها حسيت أنى تركت الأدب إلى الأبد، سجلت نفسى سيناريست، أكتب سيناريو لغيرى،
= هل حاولت أن تكتب سيناريو لإحدى رواياتك ؟
- لا لم أحاول، ولم أحب ذلك، مثلى مثل الجراح الذى يرفض أن يعمل عملية لابنته
= هل حب كمال عبد الجواد لعايدة هو حبك الأول
- أيوه، وأنا حبيت أسجله بشكل أو بآخر، فظهر هكذا فى هذا العمل،
= ماذا عن موقفك من الحب، ومن الجنس؟
- الحب مهم جدا، والجنس كذلك، الجنس لا يقل أهمية عن الحب، فيه إشباع حسى من الطرفين، فيه شيء مقدس، أما عن موقع الحب من الجنس: فالحب يشمل الجنس وأكثر عنصر من عناصره الأساسية، الحب فيه التجاذب الروحى الخاص، شىء لا يمكن تصوره، أكبر شيء يصلنا لمعنى فى الحياة، جنس من غير حب سطحى جدا، ولا يمكن تصور حب من غير جنس
= نريد أن نسأل عن رأيك فى وضع المرأة، وفى مسألة الختان، وحقوق المرأة، والميراث، فى مصر ؟
- كلها مسائل لها علاقة بالدين، لكن بالاجتهاد العلماء المستنيرين أفتوا بما يجعل المرأة زى الرجل بالضبط فى كل شىء، المرأة فى مصر حصلت على مكاسبها، الخوف عليها من أن تضيع مكاسبها بسبب التطرف، لازم تحصل على كل شيء من غير ما تصطدم مع الدين، ليس من مصلحتها أن تصطدم مع الدين، أما عن ختان البنات فهى قضية تخلف وليست قضية دينية، لقد قال لى أحد علماء التاريخ والتراث، قال لى إن النبى لم يختن بناته، ماذا يريدون بعد ذلك، يريدون أن يكونوا أنبياء أكثر من النبى؟
= هناك أرامل مثلا، غير موظفات، عندهم أولاد، كيف يعشن وما موقف المجتمع منهن؟
دى مسألة ليست قاصرة على المرأة، هناك رجال لهم نفس الظروف أو ظروف مشابهة بل هناك شباب أيضا لا يجدون عملا أو قرشا، هذه مسألة تخلف وفقر، حالة اقتصادية، اجتماعية.
= ما ذا عن الحرية، وما هو موقفك منها ؟
- موقفى؟!! الحرية هى المفتاح الذى تهتدى به إلى الإنسانية الحقيقية
هى الأساس فى التفكير لمعرفة أى جديد أو أى حسن، لا يمكن يحصل أى تقدم فى العلم أو الفن أو العلاقات من غير حرية، مجرد وضع قيد عليك خلصت المسألة، هى جوهر الإنسان، الإنسان مخلوق ليحقق حريته
= هل هناك وضع خاص للكاتب بالنسبة للحرية؟
- بالنسبة للكاتب!!!؟ الحرية هى حياته
= إلى أى مدى يمكن أن يصل دفاعك عن الحرية
- مدى؟ (ضحك) إلى المدى الذى يجعل ما حدث يحدث (وأشار إلى رقبته)
= نريد أن نعرف شيئآ عن المدة التى قضيتها موظفا فى مكتبة قصرالغوري
- كانت من أسعد الصدف، كانوا قد نقلونى هناك مغضوبا عليه، كنت مركونا فيه، واحد سكرتير برلمانى للوزير، الوزارة تغيرت أرادوا أن يركنوه، ركنوه أحسن ركنة، هدية جاءت من السما، طول عمرى أحلم أكون موظف فى مكتبه، وقد جاءت الفرصة تحقق الحلم، وأين؟ فى الغورية، ماذا تريد أفضل من هذا؟ كانت فرصة (سنة 1950)، قرأت فيها “البحث عن الزمن المفقود”، مارسن روس ؟؟؟ أظن من غيرها لم يكن فى مقدورى أن أقرأ هذا العمل الضخم
= نريد أن تحدثنا عن الأصدقاء.
- الأصدقاء هم من أهم أسباب السعادة، بدأت صداقاتى مع ثلة الجيران، وبعدين الصداقة مع الحرافيش، وهذه هى الصداقة التى تجمعنا فيها وحدة الأدب والفن والثقافة، لكنها فى البداية والنهاية صداقة لا أكثر، أنا الآن فى شبه وحدة، وعجز، إنّ ما يجعلنى أستمر ويربطنى بالدنيا هم الأصدقاء من حولي
= كتبت ذات مرة أو صرحت أن شخصيات زقاق المدق كانوا ثقلا على صدرك، وحتى ترفعهم عن صدرك كتبت زقاق المدق،
- هذا صحيح، لكن هم ليسواتماما شخصيات زقاق المدق الحقيقيين، هم موجودون (بالمعنى الذى أشرت إليه من حيث أن الرواى ليس مؤرخا) أنا جئت بهم من هنا وهناك، ووضعتهم فى الزقاق، زقاق المدق هذا مكان خال تقريبا، عطفة صغيرة،فيها قهوة صغيرة وقديمة، أنا الذى جئت بهذا من هنا ومن هناك من حياتى ومن خيالى أيضا، وبعدين كتبت الرواية،وكتبتها باهتمام وحب شديدين
= هل ما زلت تزور هذه الأماكم والزقاق مثلا، وماذا عن قهوة الفيشاوي؟
- أيوه كنا نروح مع أصدقاء العباسية ونتلم من هنا ومن هنا، فى قهوة الفيشاوى، وأنا فى مكتبه قصر الغورى كنت أخطف رجلى وآخد واحد شيشة هناك
= ماذا عن ظروف كتابة الثلاثية؟
الجزء الأول أنا لم أعشه، كنت أدرسه دراسة تاريخية، لكن الجزئين الثانى والثالث أنا عشتهم، كان عمل واحد من ألف صفحة فولسكاب، لم يرض ناشر أن ينشره كم ستبلغ صفحاته، وكم سيكلف، وكم السعر المناسب الذى سيحدد له؟ بدأت أنشره مسلسل فى مجلة مسامرات الجيب، وبعدين الثورة قامت، جه يوسف السباعى وقال لى، لا تزعل، الثورة حا تعمل مجلة، وخَدُه عشان ينشره مسلسل، وبعدين شار على تبقى ثلاث أجزاء، وهذا ما كان.
****
إنتقل التصوير بعد ذلك إلى الحرافيش، صورة صامتة، قليل من الافتعال عند البعض، إلا الأستاذ، سأل جميل الأستاذ: قل لنا آخر نكتة، سكت الأستاذ قليلا ثم ضحك، أحيانا يعملها حين يسمع نكتة فيضحك ضحكة قصيرة من باب المجاملة، ثم بعد فترة تصل إلى بضع ثوان نجده مال إلى الخلف مقهقها وحده، فنعرف أنه التقط فيها بُعدا خاصا، أو أضاف إليها ملمحا طريفا، اعتذر بطيبة وكأن ضحكته هذه على مراحل هى النكتة التى طلبت منه، فوصلتنا، فضحكنا بدورنا، لم يرفض توفيق التصوير، وانتشى على الشوباشى، وعرفت أنه عقربىّ (5 نوفمبر/برج العقرب) مثلى، علما بأنى لا أهتم بمغزى هذه الأبراج أبدا.
انتهى التصوير، راحت الفرنسيات المساعدات يتحوطن الأستاذ والحرافيش، والمنضدة ليست مستديرة ولكن الدائرة استدارت حتى تذكرت أيام المرح فى باريس، وحكيت لهن بمناسبة استدارتنا جميعا حول مائدة الاستاذ، كيف كنا نغنى فى رحلات نهاية الأسبوع فى ضواحى باريس (1968) هذه الأغنية، أغنية: الفرسان حول المائدة المستديرة(1)، يتذوقون النبيذ: هل هو جيد أم لا؟، يتذوقون ليروْا: نعم نعم نعم،، يتذوقون ليروْا : لا، لا، لا، يتذوقون ليروْا إذا كان الشراب جيدا،
التقطت الفرنسيات الأغنية من البداية، ورحن يرددنها معى وعلى رأسهن المخرجة: نعم نعم نعم: لا لا لا، نعم نعم نعم، لا لا لا، كما كنا نعملها فى فرنسا،
والأستاذ يشاركنا بالضحك والمباركة.
انتهى اللقاء على خير وطلبت من توفيق: أنه ياليته يحتفظ بالأشرطة كاملة ولو الصوت فقط، لأن كل هذه الساعات قد تنتهى إلى نصف ساعة وياترى ماذا سينتقون منها، وأنا لا أذكر الآن إن كان نص الحوار الذى سجلته فى هذه الحلقة كان تفريغا من شريط استعرته منه أم لا، غالبا كان كذلك!
[1] – Cheval eux sur le table ronde …..