الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / فى شرف صحبة نجيب محفوظ (الحلقة الثالثة) …. تحت سفح الهرم [1]

فى شرف صحبة نجيب محفوظ (الحلقة الثالثة) …. تحت سفح الهرم [1]

“يومياً” الإنسان والتطور

11-10-2007

فى شرف صحبة نجيب محفوظ (الحلقة الثالثة)

…. تحت سفح الهرم [1]

ما زلنا قبل اليوميات:

رجعت‏ ‏الحياة‏ ‏راتبة‏ ‏بنظامها‏ ‏الجديد‏، ‏وراح‏ الأستاذ ‏يعيد‏ ‏تنظيم‏ ‏أوقاته‏ ‏على ‏مواعيد‏ ‏الممرضة،‏‏ و‏أخصائى ‏العلاج‏ ‏الطبيعى‏، ‏وحين‏ ‏تضطرب‏ ‏مواعيد‏ ‏الأولى‏ ‏أو‏ ‏يتغيب‏ ‏الثانى ‏كان‏ ‏يقلق‏ ‏حتى ‏الضجر‏، ‏دون‏ ‏احتجاج‏ صريح ‏أو‏ ‏لوم‏ ‏لأحد‏، ‏لكنه‏ ‏كان‏ ‏كمن‏ ‏ينبه بالتزام هادئ إلى‏ ‏حقه‏ ‏كمريض‏ ‏فى الرعاية فالنقاهة‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏كل‏ ‏المحيطين‏ ‏يدركون‏ ‏مدى ‏رقته‏ ‏ولا‏ ‏بالغ‏ ‏حرصه‏ ‏على ‏وقت‏ ‏الناس‏ ‏وضبط‏ ‏إيقاع‏ ‏يومه‏، ‏التقطتُ‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏بسرعة،‏ ‏وحاولت‏ ‏أن‏ ‏أثبِّت‏ ‏كل‏ ‏شىء‏، ‏وأن‏ ‏أضبط‏ ‏جرعة‏ ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏الاعتماد‏ ‏على‏ ‏الممرضة‏، ‏وأن‏ ‏أؤجل‏ ‏انقطاعها‏، ‏وأن‏ ‏أطمئنه‏ ‏على‏ ‏أن‏ ‏أتعاب‏ ‏المستشفى ‏تصلها‏ ‏وستصلها‏ ‏بلا‏ ‏تأخير‏، ‏وأنْ‏ ……. ‏وأن‏ْْ ….. ‏ولكنه‏ ‏كان‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يستوثق‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏من‏ ‏أمرين‏: ‏الأول‏: ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏ثقيلا‏ ‏على‏ ‏أحد‏ ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏يأخذ‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏ضباط‏ ‏الشرطة‏ ‏وعائلاتهم‏ ‏ما‏ ‏خصص‏ ‏لعلاجهم‏، ‏وأن‏ ‏التكاليف‏ ‏تأتى‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏آخر‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏يعتدى‏ ‏على‏ ‏حق‏ ‏أحد‏، ‏والثانى‏: ‏أنه‏ ‏يأخذ‏ ‏حقه‏ ‏الطبيعيى ‏البسيط‏ ‏ فى‏ ‏التأهيل‏ ‏والمتابعة‏ ‏الطبية‏ ‏والنقاهة‏.‏

أخذت أكتشف أوضح وأعمق من هو‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏فى ‏روعته‏ ‏العادية‏، ‏وصدق‏ ‏الإحساس‏ ‏بالآخرين‏، ‏حتى‏ ‏وهو‏ ‏أولى‏ ‏الناس‏ ‏بكل‏ ‏رعاية‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏كل‏ ‏الوقت،‏ “‏إلا‏ ‏أبدا”‏: ‏شخص‏ ‏عادى‏، ‏يؤكد‏ ‏واجبه‏ ‏أولا‏، ‏وينبه‏ ‏إلى‏ ‏حقه‏ ‏بحياء‏ ‏لا‏ ‏مثيل‏ ‏له‏، ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏ !!‏

‏ فى يوم آخر، أيضا: قبل اليوميات

كان‏ ‏منزعجا‏ ‏هذا‏ ‏الصباح‏، ‏قال‏ لى: “‏ماذا‏ ‏فعل‏ ‏يوسف‏ (‏الصديق‏ ‏محمد‏ ‏يوسف‏ ‏العقيد‏) ‏مع‏ ‏رجال‏ ‏المستشفي؟”‏، (انتظرت أن يكمل فأكمل(‏ “أخشى ‏أن‏ ‏يكون ‏‏قد‏ ‏آذى‏ ‏شعورهم‏”، ‏لقد‏ ‏أُبْلِغْتُ ‏ما‏ ‏شغلنى”‏ ‏وحين‏ ‏استفسرت‏ ‏عن‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏التفاصيل‏ ‏قال‏:” ‏إنه‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏مشادة‏ ‏قامت‏ ‏بين‏ ‏القعيد‏ ‏وبين‏ ‏إدارة‏ ‏المستشفى ‏حين‏ ‏طلبت‏ الإدارة ‏ ‏بعض التفاصيل عن‏ ‏المبلغ‏ ‏التقريبى ‏المقرر‏ ‏للعلاج‏، ‏فإذا‏ ‏بالقعيد‏ ‏أو‏ ‏رسوله‏  ‏يرفضون‏ ‏الإجابة‏ ‏محتجين على مجرد السؤال أو شئ من هذا القبيل، لم أفهم بوضوح الموقف حتى بعد أن ‏ أضاف‏ ‏الأستاذ‏!!، “‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الطلب‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يضايق‏ ‏أحدا‏، ‏أنا‏ “كموظف‏” ‏أفهم‏ ‏ذلك‏ ‏تماما‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يخاطب‏ ‏المدير‏ ‏مديرا‏ ‏مثله‏، ‏وأن‏ ‏يخاطب‏ ‏وكيل‏ ‏الإدارة‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏فى ‏مستواه‏ ‏من‏ ‏وكلاء‏ ‏الإدارات‏، ‏وهكذا‏”.‏ وابتسمت‏ ‏وأنا‏ ‏أسمع‏ ‏هذ‏ ‏التعبير‏ ‏الدال‏ ‏الذى ‏سمعته‏ ‏عنه‏ ‏دائما‏ “أنا كموظف!!!” ، ‏والذى ‏أعتقد‏ ‏أنه‏ ‏أسهم‏ ‏فى ‏إبداعاته‏ ‏الرائعة‏، ‏كما أعتقد أنه له الفضل ‏ ‏فى إدامة‏ ‏التصاقه‏ ‏بالناس‏، ‏عامة‏ ‏الناس،‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏وربما كان له الفضل أيضا فى إحساسه بإيقاع الفعل اليومى الذى بدا لى أنه يقدسه لذاته, ما زال ‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏شخصيا‏ ‏يقول‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏: “أنا‏ ‏كموظف‏”، ‏بعد‏ ‏نوبل‏، ‏وبعد‏ .. و‏بعد‏، وبعد..، ‏يصف‏ ‏نفسه‏ ‏بهذا‏ ‏الوصف‏ ‏البسيط‏ ‏المتواضع‏ “أنا‏ ‏كموظف‏” …. ‏أعذرهم‏ ‏وأفهم‏ ‏موقفهم‏ .. ‏إلخ‏.‏”

وعدته‏ ‏أن‏ ‏أذهب‏ ‏لشكرهم‏ ‏وللاعتذار‏، ‏وإزالة‏ ‏سوء‏ ‏الفهم‏ ‏إن‏ ‏وجدته‏ ‏أصلا‏، ‏وذكّرته‏ ‏أنهم‏ ‏حين‏ ‏طلبوا‏ ‏منه‏ ‏دعوة‏ ‏طيبة‏ ‏أثناء‏ ‏خروجنا‏، ‏أجابهم‏ ‏أنه‏ ‏يدعو‏ ‏الله‏ ‏أن‏ ‏يظلوا‏ ‏كما‏ ‏هم‏، (يفضلوا كده) ‏وأنهم وصلتهم هذه الدعوة غير المألوفة ، و‏اعتبروها شهادة‏ ‏تقدير‏ ‏رائعة‏ ‏تعنى ‏أنهم‏ ‏وصلوا‏ ‏إلى ‏قمة‏ ‏ما‏ ‏ينتظر‏ ‏منهم‏ ، وما يرجوه لهم، ليكونوا للناس ، سائر المرضى، كما كانوا له !.‏

فى ‏اليوم‏ ‏التالى ‏سألنى ‏عما‏ ‏فعلت‏ ‏معهم‏ ‏وطمأنته‏ ‏من‏ ‏جديد‏، وأن ما بلغه لم يصل إلى درجة سوء التفاهم،  ‏فعاد‏ ‏يؤكد‏ ‏شرح‏ ‏وجهة‏ ‏نظره‏ ‏قائلا‏: “هذا‏ ‏هو‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الموظف‏ ‏والحر‏”، ‏ثم‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏أدرك‏ ‏ما‏ ‏فى ‏المقابلة‏‏ من غموض، أو ربما خشى أن أتصور أن الموظف ليس حرا، ‏فاستدرك:‏ ‏أعنى الفرق بين‏ ‏الموظف‏ ‏وغير‏ ‏الموظف‏”..، ‏وفرحت‏ ‏بدقة‏ ‏وعيه‏ ‏واستمرار‏ ‏علاقته‏ ‏بانتقاء‏ ‏اللفظ‏ ‏المناسب‏ ‏واحترام‏ ‏المستمع‏، ‏والحرص‏ ‏على ‏توصيل‏ ‏ما‏ ‏يريد‏ ‏تحديدا‏.‏

وبدأت‏ ‏اليوميات‏:‏

‏11/12/1994

يوم‏ ‏مولده

كنت‏ ‏قد‏ ‏أخبرته‏ ‏أمس‏ ‏أننى ‏حضّرت‏ ‏له‏ ‏مفاجأة‏، ‏ودهش وسأل، وأجّلت الإجابة، ولمحت فرحةً مختلطة بدهشة ما تطلّ من بعيد خلف وجهه، ‏مع‏ ‏أننى تخايلت وراء فرحته ‏هذه ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏التوجس‏ ‏الطيب‏، ‏لكن‏ ‏الفرحة‏ ‏غلبت‏، ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏اتفقت‏ ‏مع‏ ‏يوسف‏ ‏العقيد‏ ‏وجمال‏ ‏الغيطانى ‏وزكى ‏سالم‏ ‏أن‏ ‏نخرج‏ ‏صباح‏ ‏هذا‏ ‏اليوم‏ ‏”الأحد‏” ‏إلى‏ ‏الشمس‏ ‏ليكون‏ ‏ذلك‏ ‏أول‏ ‏خروج‏ ‏له‏ ‏بعد‏ ‏الحادث‏، ‏ليستعيد‏ ‏بالتدريج‏ ‏إيقاع‏ ‏حياته‏ ‏العادية‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏ذلك‏.

لم يتردد فى الخروج برغم المفاجأة، وكنت أحسب أنه سيقاوم أكثر، لكننى لمحت وراء استجابته للمفاجأة التى ملأت وجهه فعلا بفرحة طفل يوم الإجازة، لمحت ظلا من توجس أمس، لكن ما إن احتوتنا السيارة حتى تنفس بعمق وكأنه لا يصدق أن هذا هو هواء الشارع من جديد.

 ‏ذهبنا‏ ‏إلى ‏الهرم‏، ‏وتذكر‏ ‏أيام‏ ‏رحلات‏ ‏التلمذة‏ ‏فى ‏المدرسة‏ ‏الابتدائية‏ (‏وربما‏ ‏مع‏ ‏الأسرة‏) ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ثمانين‏ ‏عاما‏، ها هى ‏ ‏الذكريات‏ تعود به  ‏إلى ‏سن‏ ‏السابعة‏ ‏أو‏ ‏التاسعة‏!!!كما ألمح إلى زيارته المتحف المصرى مع المرحومة والدته، لم يخطئ ظنى فى تحديد سن فرحته، ‏رائع‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏بالطفولة‏ ‏الدائمة‏ ‏هكذا‏، (‏تأكدت‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أعظم‏ ‏ما‏ ‏يميزه‏‏)، كان يلبس عباءة المرحوم حماى التى أحضرتها له معى ألفّه بها خشية البرد (نحن 11 ديسمبر) ولم يطل مكوثنا فى سفح الهرم، التقطنا صورا قليلة للذكرى، ثم توجهنا إلى‏ ‏ميناهاوس، وهو لا يكاد يصدق.

ما زلت برغم تصاعد دفء العلاقة وإزالة الحواجز، لا أعرف كيف يتحاور معه المريدون، فأنا – كما ذكرت- لم أحضر مجالسه معهم قبل ذلك أبدا، وكل لقاءاتنا منذ شرفنى بمتابعة أيامه كانت بالمنزل، كما كانت معظم أحاديثنا حول مواضيع النقاهة والرعاية مثل التى ذكرتها حالا. كنت أجلس بجواره فى الميناهاوس، أميل على أذنه كما تعودت، وقد سمح لى الأصدقاء أن أتولى ضبط جرعة الجلسة، ربما لظنهم أننى أعرف متى يُنهك، ومتى نتوقف ومتى نعود.إلخ. لم أجد ما أقوله فى هذا الموقف الذى لم أعتدْه، فرحت أحكى له (ولهم) كيف أننى ‏، ذات يوم ‏عُدْتُ‏ ‏مريضا‏ ‏مهما فى هذا الفندق، وأنه كان‏ ‏ينزل‏ ‏فى “‏جناح‏ ‏مونتجمرى” ‏والذى ‏سمى ‏بهذا الاسم لأن مونتجمرى‏ ‏نزل‏ ‏فيه‏ ‏أثناء‏ ‏الحرب‏ ‏العالمية‏ ‏الثانية‏، ‏وكيف‏ ‏أننى ‏حين‏ ‏ذهبت‏ ‏للحمام‏ ‏ووجدت‏ ‏أغلب‏ ‏أدواته ومحتوياته وحوائطه من خشب شديد الوقار والجمال، خيل لى أنها ‏ ‏حجرة‏ ‏نوم‏، ‏وأننى دخلت خطأ، فاتجهت للخروج ‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أقضى ‏حاجتي، لكننى شككت فى نفسى وتراجعت إلى ما يشبه (ولا مؤاخذة) المرحاض، وشددت “السيفون” فانْشَدّ!، فتأكدت أنه الحمام، ومع ذلك فقد أبت أجهزتى الفسيولوجية أن تصدق، وخرجت كما دخلت وأنا لم أخدش حياء كل هذا الخشب الأنيق،  ‏وضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏عاليا وجميلا، ولم‏ ‏أكن‏ ‏قد‏ ‏تعودت‏ ‏ضحكته‏  ‏المجلجلة‏ ‏هذه‏ ‏بهذا‏ ‏القرب‏ ‏بعد‏.

نظر إلى‏ّّ ‏الأستاذ‏ ‏وهو يأخذ شهيقا عميقا كأنه يتأكد أنه ما زال هو هو هواء الخارج (خارج البيت) مع أننا كنا داخل الفندق، نظر مترددا فعرفت أنه يريد أن ينتهزها فرصة ويتخطى الحواجز، وفعلا: سألنى مترددا، بمناسبة هواء الحرية، (هكذا قال) هل تضر سيجارة واحدة لا أكثر؟ وحين وافقت لمحت وجهه يشرق وكأننى أمام تلميذ يطلب إذنا من المشرف ‏لم يتوقع الاستجابة له، أسرع – ربما خوفا من أن أرجع فى كلامى-  وأخرج سيجارة من ‏علبة‏ ‏سجائر كان‏ ‏يحتفظ‏ ‏بها‏ ‏فى ‏جيبه‏  ‏فى ‏سرية‏ ‏تامة‏ ‏طول‏ ‏هذا‏ ‏الوقت‏، ‏وفوجئنا وتساءلنا فضحك وهو يخبرنا أنه لم يجد داع للإعلان عنها خشية ألا يؤذن له، أشعل له السيجارة أحد الأصدقاء (أعتقد أنه الإبن زكى سالم)، وهو لا يكاد يصدق، وراح يأخذ منها نفسا عميقا بطيئا، ثم يديرها بهدوء بين أصابعه،  وكأنه التقى بحبيبة بعد طول غياب فمضى يتأمل وجهها، ويملس على شعرها ليتأكد أنها هى، وأنها عادت، أحسست ساعتها أنه – بهذه السيجارة التى لم يدخنها منذ الحادث- قد تأكد ‏ ‏من‏ ‏عودته‏ ‏للحياة‏ ‏الطبيعية‏.‏

فوجئت‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏التالى ‏بذكر‏ ‏اسمى ‏فى ‏الصحف‏ ‏مقرونا‏ ‏بوصف‏ “طبيبه‏ ‏الخاص‏” ‏وتتالى‏ ‏ذلك‏ ‏بوصف آخر هو “الطبيب‏ ‏المرافق‏” ‏وغير‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏صفات‏ ‏طبية،‏ ‏كما‏ ‏ذكروا‏ ‏على ‏لسانى ‏أننى ‏صرحت‏ ‏بأنه‏ ‏يستطيع‏ ‏كذا‏، ‏ولا‏ ‏يستطيع‏ ‏كيت‏ ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏أساس‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏الصحة‏، ‏ليس‏ ‏هذا‏ ‏فقط‏، ‏بل‏ ‏إننى ‏شعرت‏ ‏أن‏ ‏به‏ ‏جَرْحُ‏ ‏ما‏ ‏لأستاذى ‏وشيخى ‏هذا‏، وأيضا حرج لى بشكل آخر، من حيث أنه يعطينى دورا أقل مما أتمناه فى صحبته، وأكبر مما أستطيع بخبرتى المحدودة،  ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏ليس‏ ‏عيبا‏، ‏وأننى ‏خفت‏ ‏مرات‏ ‏متفرقة‏ ‏على ‏أستاذى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏تَقَمَّصَ‏ ‏شخوصه‏ ‏حتى ‏عانى – مثلا – ما ‏أتاح له ‏ ‏وصف‏ حالة “عمر الحمزاوى” فى الشحاذ ‏بكل‏ ‏تلك‏ ‏الروعة‏ ‏والتفاصيل‏، وقد ذكرت مخاوفى هذه فى نقدى الأول (1970)  لروايته “الشحاذ [2] حيث قلت ” ما يلى:

وإنما اخترت “الشحاذ” لأنها من الناحية النفسية تمثل وضوحا وصراحة فى الأعراض لا مثيل لهما.. فهى تصف نوعا من المرض النفسى وصفا لا أكاد أصدق أن إنسانا يستطيع وصفه إلا إن مر به وعاناه.

ولابد أن أعترف أننى أشفقت على كاتبنا الكبير أن يكون قد عاش بعض هذه الآلام، وجزعت حين خطر ببالى هذا الخاطر برغم ما داخلنى من راحة حقيقية، إذ أن هذا الاحتمال نفحنا نحن  قراءه  هذا الوصف الذى لايقدر عليه إلا هو . . إلا أنى – حبا فيه ثانية- استبعدت ذلك جدا، وراجعت نفسى وقلت لعله صديق صادق، اندمج معه كاتبنا العظيم، حتى قاسمه مشاعره، ثم استطاع ببصيرته أن يترجم خلجاته إلى ما أقرأنا من فن صادق .

ولكن الذى استبعدته تماما هو أن تكون هذه القصة برمتها محض خيال

فعلا رفضت وصفى بأنى طبيبه الخاص خشية تصور أننى أقوم بدور التطبيب النفسى، ولعل هذا النفى، بل وتبادل الأدوار، هو الذى حضرنى فى شعرى لاحقا فى أحد أعياد ميلاده حين أثبت فيه أن شيخى هذا هو الذى كان يعالجنى- نفسيا – طول الوقت. “صالحتنى شيخى على نفسى” الأهرام 15-12-2003

قلت فى ‏عيد‏ ‏ميلاده‏ ‏الـ‏ “92” [3]

‏… ‏زعموا‏ ‏بأِّنَىَ ‏قادرُ‏  ‏أشِفى ‏النفوسَ‏  ‏بما‏ ‏تيسَّرَ‏ ‏من‏ ‏علومٍ‏ ‏أو‏ ‏كلامٍ‏ ‏أو‏ ‏صناعةْ

عفوا‏ً، ‏ومن‏ ‏ذا‏ ‏يُشفى ‏نَفْسِى ‏حين‏ ‏تختلطُ‏ ‏الرؤَى‏،

‏أو‏ ‏يحتوينى ‏ذلك‏ ‏الحزنُ‏ ‏الصديقُ‏ ‏فلا‏ ‏أطيقْ؟

حتى ‏لقيتــكَ‏ ‏سيِّدى‏،

‏فوضعتُ‏ ‏طفلى ‏فى ‏رحابكْ‏. ‏

طفلُ‏ ‏عنيدْ‏ْ.

‏مازالَ‏ ‏يدُهَشُ‏ ‏كلَّ‏ ‏يومٍ‏ٍ ‏من‏ ‏جديدْ‏.‏

……………

صالحتـَنِى ‏شيخى ‏على ‏نَفْسِىَ ‏حتى ‏صرتُ‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏أكونُ‏ ‏إليه‏ ‏فينـَا‏،‏

صالحْتَـِنى ‏شيخى ‏على ‏ناسىَ‏، ‏وكنُت‏ ‏أشكُّ‏ ‏فى ‏بــَلَهِ‏ ‏الجماعة‏ ‏يُخْدعُونَ‏ ‏لغير‏ ‏ما‏ ‏هُـْم‏.‏

‏ ‏صالحتـنى ‏شيخى ‏على ‏زخم الجموِع فَخِفْتُ‏ ‏أكثر‏ ‏أن‏ ‏أضيع‏ ‏بظلِّ‏ ‏غيرى.‏

صالحتنى ‏شيخى ‏على ‏أيامنا‏ ‏المَّرةِ‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏مِنْها‏. ‏

علَّمَتِنى ‏شيخى ‏بأنا‏ ‏قد‏ ‏خـُلقنا‏ ‏للحلاوةِ‏ ‏والمرارة‏ِ ‏نحملُ‏ ‏الوْعَى ‏الثقيلَ‏ ‏نكونُـه‏ ‏كَدْحاً ‏إليه‏.‏

. . . . . . . . .

. . . . . . . . .

من‏ ‏وحى ‏أحلام‏ ‏النقاهة‏- ‏سيدى‏- ‏نشطت‏ ‏خلايا داخلى‏:‏

‏” فحلـمـت‏  ‏أَنِّىَ ‏حامـلُ‏،

‏وسمعتُ‏ ‏دقَّــا‏ ‏حانِيا‏ًً ‏وكأنه‏ ‏وعد‏ ‏الجنين‏.

‏جاء‏ ‏المخاض‏ ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏أبدا‏ ‏عسيرا‏،

‏وفرحت‏ ‏أنى ‏صرت‏ ‏أمًّا‏ ‏طيبة‏ْْ،

‏لكننى ‏قد‏ ‏كنتُ‏ ‏أيضا‏ ‏ذلك‏ ‏الطفل‏ ‏الوليد‏، ‏

فلقفتُ‏ ‏ثَدْىَ ‏أمومتى‏،

‏وسمعت‏ ‏ضحكا‏ ‏خافتا‏.

‏لا‏،.. ‏ليس‏ ‏سخريةً‏  ‏ولكنْ‏.‏

‏…. ‏وسمعت‏ُ ‏صوتا‏ ‏واثقا‏ًً ‏فى ‏عمق‏ ‏أعماقى ‏يقول‏:

“المستحيل‏ ‏هو‏ ‏النبيل‏ ‏الممكن‏ ‏”الآن”‏ ‏بنـا‏”. ‏

لَمَستْ‏ ‏عباءتــك‏ ‏الرقيقةُ‏ ‏جانبا‏ًً ‏من‏ ‏بعض‏ ‏وعْيي‏،

‏فـعـلـمـت‏ ‏أنــَّـكَ‏ ‏كـُنْـتَـهُ‏”.‏

وصحوتُ‏ ‏أندم‏ ‏أننى ‏قد‏ ‏كنت‏ ‏أحلمْ‏.‏

. . . . . . . . .

حين قرأت له هذا الحلم شعرا لاحقا، وقال فيه كلاما طيبا، عرجت إلى رفضى لتفسير الأحلام الفرويدى، وتكرر فى لقاءاتنا اللاحقة لأكثر من عشر سنوات عرض نظريتى عن الأحلام حتى شعرت أنى أضجرته، لكن أبداً، كان دائما يستزيد بما يشجعنى حتى بدأت فى قراءة أحلام نقاهته نقداً ….، ولنا فى ذلك عودة فعودة.

‏* * *‏

على ‏ذكر‏ ‏عيد‏ ‏الميلاد‏، ‏سألته عن كيف اعتاد أن يحتفل بهذا اليوم؟ فقال ‏ ‏لى ‏إنه‏ ‏لا‏ ‏يحتفل‏ ‏عادة‏ ‏بعيد‏ ‏ميلاده‏، ‏وإنه لا‏ ‏يعرف‏ ‏معنى ‏لهذا‏ ‏الاحتفال‏، ‏حتى ‏مع‏ ‏الحرافيش‏، ‏اللهم‏ ‏إذا‏ ‏تصادف‏ ‏أن‏ ‏جاء‏ ‏هذا‏ ‏اليوم‏ ‏يوم‏ ‏خميس‏ بالصدفة، وهو ‏يوم‏ ‏لقائهم‏، ‏ثم‏ ‏لا‏ ‏شيء‏ ‏بعد ذلك، قلت له: حتى ‏ولا‏ “‏تورته”‏، ‏قال: حسب التساهيل، زمان لم يكن هناك طقوس كهذه، وذكرت‏ ‏له‏ ‏وجهة نظرى فى فكرة الاحتفال بعيد الميلاد: ذلك أننى ‏ ‏لا أرى لى ‏فضلا‏ ‏ ‏فى ‏أننى ‏ولدت‏ فى يوم كذا فيحتفلون بى ، وقلت له أننى سجلت رأيى هذا لعميد كلية ‏ ‏طب‏ ‏قصر‏ ‏العينى (المرحوم) أ. ‏د‏. ‏هاشم‏ ‏فؤاد‏، ‏حين‏ ‏آصر‏ ‏أن‏ ‏يرسل لى حتى عيادتى ‏باقة‏ ‏ورد‏ ‏بمناسبة عيد ميلادى‏، وكان يعدّ بذلك لانتخابات دورة ثانية للعمادة، ويرسل لكل الزميلات والزملاء مثل ذلك، ولكن سيادة العميدة لم يهنئنى ‏ ‏بحصولى ‏على ‏جائزة‏ ‏الدولة‏ التشجيعية فى ‏الأدب قبل عام أو أثنين (على ما أذكر)‏، فكتبت إليه، وعاتبته أنه اطّلع على تاريخ ميلادى من أرشيف الكلية دون إذنى، فى حين أننى ليس لى الحق فى الاطلاع على ملفه لأ ردّ له التحية فى عيد ميلاده، وأنه حين فعل ذلك مع زميلات لى قد تخطى كل الحدود، فلا أظن أن أيا مِنهُنّ تريده أن يعرف سنها، ثم إنه لم يهنئنى بإنجازى أنا فى نفس العام، وهنأنى بفضل‏ ‏والدىّ ‏فى ‏ليلة‏ ‏شتاء‏ ‏ينايرية‏ ‏من‏ ‏عام‏ ‏ما‏ (ولدت فى نوفمبر)، ‏وهو أمر ليس ‏ ‏لى ‏فضل‏ ‏فيه‏، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏ينويه‏ ‏والدىّ‏ ‏أصلا‏ ‏لأنى ‏رابع‏ ‏أخ‏ ‏إذْ‏ ‏سبقنى ‏ثلاثة‏ ‏إخوة‏ ‏ذكور‏، ‏قلت ذلك للأستاذ وكان يستمع باسما، لكننى لمحت فى وجهه قرب نهاية حديثى ما يشبه الاحتجاج المهذب، بل الرفض، وفعلا، أحسست أنه يريد أن يقرص أذنى لأننى ذكرت والدىّ بهذه الاستهانة حتى ولو كان على سبيل الفكاهة، وخجلت، وحين تراجعت بعد ذلك عن رفضى لفكرة أعياد الميلاد خاصة للصغار، وذكرت ذلك للأستاذ لاحقا، سألنى كيف عدّلت رأيك، وكان يفرح بمثل ذلك كأنه يطمئن لمرونتنا حوله، فقلت له إنه بدا لى أن هذا الاحتفال يؤدى رسالةً ما للأولاد والبنات أساساً، فهو يبلغهم أن والديهم غير نادمين على قدومهم ، برغم ما يفعله الصغار بهم، فضحك واسعاً، فعرفت أنه عفى عن خطئى الأول وتجاوزى حدودى تجاه والدىّ، فأضفُت أنه حضرنى الآن – أيضا – وأنا أشرح له رأيى الجديد، أن هذا الاحتفال ربما كان – أيضا-  اعتذارا لهم عن أننا أنجبناهم قسرا فى هذا العالم دون استئذان،

وترحمنا – الأستاذ وأنا – على عمر الخيام وأبى العلاء المعرى معا.

 

[1]– تصحيح وتوضيح: سبق أن حددت فترة هذه اليوميات من [11-12-1994 ‏حتى 17-8-1995[ وهذا صحيح، لكننى وجدت أننى قد  كتبت حوالى خمس عشرة صفحة بعنوان “قبل اليوميات”، ويبدو أن التاريخ الذى أثبته لليوميات، هو تاريخ بدء الكتابة، بمعنى أن الفترة السابقة لذلك لم أكن أكتب فيها شيئا، وحين بدأت الكتابة يوم 11 ديسمبر (يوم عيد ميلاده – كدت أضيف الآن “أطال الله عمره” أى والله !!!) الذى سوف يأتى ذكره حالا، قررت أن أكتب ما فاتنى من الذاكرة، وقد حدث خطأ فى الحلقة الأولى حين سجلت أن مكالمة أ.د. سامح همام كانت 11 ديسمبر، إذ يبدو أنها كانت 11 نوفمبر، لكل هذا لزم التنويه.

 

[2]نشرت القراءة الأولى فى مجلة الصحة النفسية (1970) ثم فى كتاب حياتنا والطب النفسى – القاهرة دار الغد (1972) ثم فى كتاب قراءات فى نجيب محفوظ. د. يحيى الرخاوى، الهيئة العامة للكتاب، 1992، ص 170 .

[3]نشرت فى الاهرام: 15/12/2003 [فى ‏عيد‏ ‏ميلاده‏ ‏الـ‏ “92” صالحتنى ‏شيخى ‏على ‏نفسى‏ ..]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *