نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 30-9-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5873
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3) [1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الثالث:
“قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)
اللوحة الخامسة عشرة:
يا ترى [2]
أما قبل
هذه هى آخر لوحة تشكيلية مستلهمة منهم، وهى تقع فى موقع متوسط بين ما أشرتُ إليه مما نبهت أنه أقرب إلى السيرة الذاتية، وبين ما استلهمته من أقرب من سمحوا لى بالاقتراب، وهى كما ننوه دائما مع كل لوحة، لا تصف شخصا بذاته إلخ…
تقديم
الرؤية الموضوعية هى مشكلة الوجود، ولا يدّعيها أحد إلا إن كان لا يعرف حقيقة ما تعنى، إنها أقرب إلى بعض صفات ما يسميه ماسلو “الوجود شبه الإلهى”، وقد تصورت أيضا أن تصاعد درجات الوعى عند هيجل إنما يرسم سهاما نحو الطريق إلى احتمال مثل هذه الرؤية الموضوعية المطلقة، كما أعتقد أن معظم التطورات فى مناهج البحث والمعرفة حاليا، إنما تعلن أمرين معا: عجز الإنسان فى مرحلته الحالية عن الرؤية الموضوعية، وحاجته الشديدة إليها فى نفس الوقت.
الذى يجعل الرؤية ذاتية (ضد موضوعية) هو “حالة احتياج” الإنسان أساسا، بما يستتبع ذلك من تحيز وهوى وخوف وتفكير آمـِل… إلخ.
صاحبة هذه الصورة، أعنى من استلهمتُ من حضورها هذا التشكيل، أقرب الناس إلىّ، وحاجتى إليها لا سبيل إلى إنكارها أو التخفيف من قدرها، ولذلك جاءت رؤيتى لها محفوفة بالحذر والتردد والمراجعة، وإذا كان لنا أن نعترف أن ”الرؤية الموضوعية” المطلقة هى هدف بعيد المنال، فأول الطريق إليه هو أن نقرّ أن رؤيتنا جميعا هى “ذاتية” ابتداء، ثم نأمل من هذه البداية أن نعترف بنسبيتها وقصورها، لعل ذلك يحد من غرورنا وغلوائنا فى تصور إمكانية موضوعيتنا قبل الأوان.
صاحبة هذه الصورة ليست بالغموض التى توحى به القصيدة، لكن أحيانا يكون فرط سلاسة الوجود هو مدعاة للدهشة حتى الرفض، بما يشمل افتراض صعوبات وتعقيدات غير موجودة، لمجرد بساطتها، ومباشرتها. هذه السيدة كانت تتميز بقدرة حدسية خاصة أرمز لها هنا “بقراءة الفنجان” (وفى الواقع كانت تمارس ذلك فى لقاءات ودّية طيبة أحيانا) وكنت أحتار فى تقييم هذه القدرة هل هى حدس معرفى مخترق يمكن الاعتماد عليه، أو يسمح باستلهامه، أم أنه نكوص استسهالى غير مسئول؟
إذا كان الطبيب النفسى له رؤية أعمق بطبيعة عمله – أو المفروض أن يكون كذلك – فى مجال ممارسته مع الذين يحضرون إليه يسألونه النصح، فلا يصح أن نتصور أنه يملك نفس حدة الرؤية بعيدا عن مجال عمله، وبالذات: فى محيطه الخاص، بل إنه قد يعوّض ما يتحمله من أعباء الرؤية الموضوعية أثناء ممارسته مهنته بأن يتجاوز عنها ربما أكثر من الشخص العادى – دون أن يدرى عادة – وذلك خارج نطاق هذه الممارسة، فيرى أموره الخاصة، وصـُوَرَ ناسه الأقرب، كما يحب، أو كما يخاف، وليست كما “هى“، ربما نعطيه بعض العذر احتراما لضعفه واعترافا بمحدودية قدراته الإنسانية، هذا الاحترام والسماح، وخاصة من جانبه لنفسه، قد يساعدانه على استمرار تحمل مسئولية مهنته، إلا أن هذا العمى الانتقائى – فى عمق العدل – يترتب عليه ظلم يقع على الأقرب فالأقرب ممن يحتاجهم هذا الإنسان المرهق، فهو قد يمارس – من خلال نظرته غير الموضوعية أكثر فأكثر – تحويل أقرب من حوله إلى ما يرى ويظن، وليس إلى ما هم، وهو بذلك يفقد من يحتاجه بحق، لأنه لا يعود “آخر” أصلا، بل يصيِّره كيانا من صنع إسقاطاته، يستعمله لسد احتياجاته، ويا ترى هل يستطيع أن يخرج من هذا المأزق أم لا؟
هذا يتوقف على مسار نضجه، ومدى قدرته على مواصلة نموه.
بيجماليون
هذا التشكيل، يمكن فهمه أكثر إذا تذكرنا الخطوط العامة لأسطورة بيجماليون، وهى ليست صورة مطابقة للقصيدة، لكنها على الأقل موازية، مع اختلافات كثيرة خاصة فى النهاية. أسطورة بيجماليون تبين لنا كيف أننا حين نسقط احتياجاتنا على من حولنا، فنحن نصيغهم كما نريد، وكأننا ننحتهم بأنفسنا أصناما وتماثيل مادية “بالمقاس” لتغذى فينا احتياجاتنا فقط، لكننا إذْ نكتشف أنها ليست إلا أصناما جميلة، لا بشرا “آخرين”، نصلى للآلهة (داخلنا غالبا) أن تبعث فيهم الحياة ليصيروا بشرا فعلا نمارس معهم ومن خلالهم بشريتنا بحق، لكن ثمَّ خطر وارد حين يكتسب هذا الآخر إرادته المستقلة، وهو أنه يمكن أن يتركنا، بفعل الآلهة أيضا (ربما فى داخله كذلك)!! لأنه يستحيل أن يظل مجرد أداة فى يد من صنعه صنما بعد أن تحول إلى كائن بشرى حى، فنكتشف الفرق بين ما هو آخر: (كيان مختلف) ينبض لحسابه (ومعنا ومع غيرنا، لا مانع!)، وبين الآخر (الوهمى): تمثال مصنوع لا إرادة له، بما يشمل احتمال أن يختار هذا الكائن الحى ذا الإرادة، أن يختار أن يخرج عن نطاق هذه الثنائية المغلقة، إذ يفضل صحبة ثالث دوننا، يختاره بإرادته، فيحدث لنا هلع عدم الأمان والضياع، ومن ثم أمنية التراجع عن الأمنية الأولى التى حققتها الآلهة، حتى لو أدى هذا التراجع إلى إعدام هذا الآخر الحى، بإعادته جمادا بعد أن دبت فيه الحياة بشرا، ولا يهدئ من هذا الهلع وعدم الأمان أن يكون هذا الآخر – بإرادته الحرة أيضا – قد عاد راضيا مرضيا يختارنا من جديد، فإن عدم الأمان يجعلنا نفضل أن نعاشر تمثالا من صنعنا نحن، على أن نعاشر “اخر” من لحم ودم، آخر يختار ويعيد اختياره، حتى لو اختارنا نحن فى النهاية.
هذه الأسطورة تنبه بوضوح إلى الفرق بين ما نسميه “الموضوع الذاتى”Self Object والموضوع الحقيقى Real Object ، وبرغم اختلاف النهاية، وأيضا تركيز المتن فى القصيدة، لا الأسطورة، على رؤية الصانع، وحيرته، ورغبته فى أن يرى الموضوع الحقيقى، وليس الموضوع الذاتى، ولو من خلال رؤية الآخرين.
“الشوفان” المتبادل فى العلاج النفسى
نرجع الآن إلى قراءة المتن مع التركيز على ما يتعلق بالعلاج النفسى ما أمكن ذلك.
(1)
أنا مانسيتكــيشْ.
أنا خليتــِكْ للآخرْ.
(2)
أصل عيونها صعب.
أصلها يا خوانـّا ساعات وساعات.
ساعه تعرف سر الدنيا فْ كنكة قهوهْ.
وساعات أظبطها بتعرف سِرّى عـَلـَى سـَهـْوَه
وساعــِـة ما تخاف، تعْمَى وتموت.
والعدسة بتاعتى اللى بتكبـَّر،
تيجى لحديها وتصغـَّر،
وتـْدغوش.
إشمعنى ؟
إكمنى باشوفها لنفسى، مش ليها،
مش بس بشوفها زى ما عايز
دي ساعات تبقى كما العـَوَزَان !
إضافة إلى ما ذكرنا نؤكد أن رؤية الطبيب (المعالج) النفسى تكون أقل موضوعية إذا ما استعمل نفس العينين اللتين يمارس بهما مهنته، فى حياته الخاصة ثم نضيف أن المعالج هو إنسان عادى يحتاج أيضا أن يُرى “كله”، بمعنى أنه لا يكفى أن تُرى كفاءته، أو مهارته، أو نتائج عمله، بل إنه – مثل أى واحد – فى حاجة إلى أن يُرى إنسانا ضعيفا عاديا محتاجا هو أيضا أن يكشف نفسه وداخله لآخر، ولعل هذا ما كان يقوم به التحليل النفسى التدريبى فى المدرسة الفرويدية الكلاسية، حين يشترط على المحلل أن يقبل أن يحلله محلل أكبر حتى يُسمح له بممارسة التحليل النفسى، لكن ذلك كان شرطا صعبا، وأحيانا معجزا، وأيضا إجراءً مصنوعا فى أحيان أخرى، المفروض أن نجد سبيلا يحقق هذا الهدف من الفرص المتاحة من “الممارسة تحت إشراف”، مباشر أو غير مباشر عبر كل مستويات الإشراف التى سبق ذكرها([3]) بما فى ذلك أقرب الأقربين إليه.
فى هذا التشكيل نلحظ كيف أن صاحبة هذه العيون الصعبة المختـَرقـَة ذات الحدس الجيد، قد تـَبـَيـَّنَ من المتن أنها قد تكتشف داخل صاحبنا (أنا) مصادفة، رغما عنه، أو رغما عنها “وساعات أظبطها بتكشف سرّى على سهوة”، وهنا لا يوجد ما يوحى أن صاحب الشأن يرفض ذلك على طول الخط، لكنه سرعان ما يرفض أن يستسلم له أيضا على طول الخط، فيسارع بالتقليل من شأن قدرتها، فتصغر فى عيونه “والعدسة بتاعتى اللى بتكبر، تيجى لحديها. …. وتصغر”!!
فى العلاج النفسى “يرى” المريض معالجه كما “يرى” المعالج مريضه، وأحيانا قد تصدق رؤية المريض أكثر فإذا استبعد المعالج هذا الاحتمال (أن يراه المريض مثلما يرى هو المريض) فإنه يفقد الكثير من فرص نموه الشخصى، وفرص التعلم من المريض، بل وفرص الاستفادة من إشرافه. مثل هذا المعالج إنما يأخذ موقفا “حُكميا” متعاليا، يدعمه بتأويلاته المستمدة عادة من تنظيره أو أيديولوجيته، ومن ثم تقل فرص العلاج الأعمق، وأيضا فرص الإشراف الذاتى العملى الإيجابى المستمر من واقع الممارسة.
(3)
وفْ لحظة صدق أظبـُـطــْـنِى
فيه حاجة خطيرة تلخبطَـْـنى:
دانا كل ما اقرَّبْ حبّهْ كمانْ
ألاقينى ماشـُـوفـْـشـِـى غير الشوفان
فى ثقافتنا بوجه خاص سرعان ما يتنازل الشخص عن رؤيته لصالح رؤية قائد الجماعة باستعمال، كل من ميكانزم “التقديس” و“الإنكار” معا، وكأن رؤية القائد وتفسيراته هى الأصل، وهى المرجـِـع، وبالتالى ينقلب هذا الشخص ليكون أقرب إلى ما يراه القائد، بما فى ذلك الصورة التى رآه عليها، أى أن الشخص يشترك فى هذا التزييف للإدراك الذى يصبح نتاج فعل الاثنين معا، فيختفى كيانه “كآخر”، وتتراجع فرص الحوار الموضوعى والاستفادة المتبادلة، وقد يمتد هذا النوع من العلاقة إلى حياته الخاصة بعيدا عن مهنته.
(4)
لو شايف خوفها: أتلخبط،
وساعات أنكرهُ، يعنى استعبط!
مش يمكن نـِفـْسـِى أخاف على حـِـسّ أمانها.
قومْ دغرى تخبّـى خــوفانها،
وتخاف مالــخوف.
هذه الفقرة لا تصلح بشكل مباشر أن يقاس عليها فى العلاج النفسى، ذلك لأن خوف المريض النفسى هو متعدد التجليات والأنواع، ونادرا ما يعتمد المعالج على ما يبدو على المريض من الطمأنينة ولو كانت طمأنينة ظاهرة، لأنها تكون أقرب إلى الإنكار واللامبالاة، فلا يصلح قياس المتن هنا على ممارسة العلاج النفسى “إكمنى نفسى أخاف على حس أمانها”، فالطبيب الحاذق لا ينبغى أن يستمد طمأنينته من أمان المريض، هذا من حيث المبدأ، لكن علينا ألا ننسى ما يتعرض له الطبيب النفسى من تقليب يجعل رؤيته أقرب إلى الكشف الذى يمر به المريض الذهانى خاصة، وفى هذه الحالة قد يشارك مريضه بعض أفكاره مع اختلاف مآلها، وحمل مسئوليتها، فإذا ما تمادى خوف المريض حتى من رؤيته الكاشفة هذه، فقد يتراجع الطبيب عن مشاركته، فينطبق عليه نسبيا، ولو بدرجة قليلة جدا ما جاء فى هذه الفقرة، وهذا قياس أستعمله دون تطابق طبعا فصاحبة هذه اللوحة (مثل أغلب لوحات العمل) ليست مريضه أصلا، لكن قواعد فقه العلاقات واحدة تقريبا.
ثم إن الذى يشجع الطبيب أن يتعلم من مريضه فيغامر برؤية ما يتجاوز المسموح به: هو مشاركة المريض له هذا الخوف من كشف المخبوء، والذى قد يتمادى عند المريض سلبيا إن لم يحتوِهِ العلاج لإعادة توجيهه، فى حين أن فرصة الطبيب – أن يستوعبه إيجابيا إلى إبداع ونمو محتملين هى أكبر لو كان يسير على مسار النضج المهنى والشخصى..
المريض الذى يخفى خوفه، لأنه لم يجد من يشاركه، أو لأن معالجه – كما المحيطون به – خاف منه، قد يفعل ذلك نتيجة خوفهم من خوفه ومن ثم خوفه هو من خوفه نفسه:
“قوم دغرى تخبى خوفها، وتخاف مالخوف”،
وهذا يعتبر إعاقة للمسار النمائى الذى يسعى إلى استيعاب الخوف واحتوائه، لا إلى إنكاره على طول الخط.
(5)
واذا شفت عيونها عدّت خط الصــدّ،
تبدأ حسابات الجمْع، الطرْح، الضرب، الشكّ، الرفْض، الـعـَدّ:
ودى مين؟ حاتشوفنى بإيه ؟!!
دا انا مِتـْمنـَظر، دَانـَا بيـِهْ !!
دى عنيها أنا اللى عاملها
دى قصيدة انا اللى قايلها
على طول أرفض شوفانها.
(ماهو لازم مـنْ عَـوَزَانِها)
يبدو أننى استوحيت هذه الفكرة أكثر من موقف العلاج النفسى: حين تتجاوز رؤية المريض ما يسمح به الطبيب (أو ما يقدر أن يسمح به حفاظا على تماسكه هو)، وربما هذا هو ما يعنيه المتن بـ “خط الصد”، حين تتجاوز رؤية المريض هذا الحاجز المصنوع من المنطق، والفوقية، والحسابات التأويلية، والأيديولوجيات الجاهزة، وتعاليم السطلة الدينية([4])، أقول حين تتجاوز رؤية المريض هذا الحاجز، يبادر الطبيب – عادة – بالتأويل، ولصق لافتات الأعراض والتشخيص، ثم يـُلحق الطبيب هذا وذاك بمذكرة “حيثيات الحكم” حسب النظرية التى ينتمى إليها، وهنا تكمن خطورة المسارعة بالتصنيف والتوصيف ظاهرا، وبالتأويل والتفسير على مستوى أعمق. الدفاع الذى يلجأ إليه الطبيب فى هذه الحال عادة يكون بأن يصعد فوق مستوى المريض (المستوى الذى يفترضه) درجتين أعلى منه،
دا انا مِتـْمنـَظر، دَانـَا بيـِهْ !!
ثم يصدر أحكاما أكثر حبكة من بينها: أن ما وصل إلى الآخر من رؤية لا يمكن إلا أن تكون صدى لرؤية الطبيب اقتناعا برأيه،
“دى عنيها أنا اللى عاملها، دى قصيدة انا اللى قايلها”،
وهو عادة ما يفسر رؤية الآخر بأن كُلَّ ما خالف رؤيته هو ليس إلا نتيجة لاحتياج المريض لا أكثر
“ما هو لازم من عوزانها”.
(6)
أنا قلت أشوفها ف عين الناس.
وأتارى الناس بتشوفها بعيونى،
ما هو أصل الناس دول يعنى: من صنعى شوية
ما هى خيبة قوية !!
ثَمَّ نوع من المصداقية يسمى “المصداقية بالاتفاق”Consensual Validity نعتمد عليها كثيرا بحق، وأحيانا بغير وجه حق، وهى أن تتفق مجموعة من المشاهدين على رؤية (أو رأى)، وبالتالى تصبح هذه الرؤية صادقة، اعتمادا على هذا النوع من المصداقية، وهو منهج له عيوبه وضعفه، لكنه من أهم أنواع مناهج المصداقية العملية التى حافظت على مسيرة التطور حتى لو كانت مصداقية ضعيفة بمقاييس البحث العلمى الأحدث. فالأحياء عامة تتفق، دون رموز أو حسابات، على ما يصلح لبقائها، وتتعاون فى تطبيقه، وتتكافل مع بعضها من خلال ذلك أيضا، فتبقى، وكذلك هذه المصداقية هى أقرب إلى بعض أشكال الديمقراطية التى تزعم أن اتفاق الأغلبية على رأى (أو على شخص) هو دليل على أنه الأقرب للصحة أو الأقدر على القيام بالمهمة، إلا أن ذلك ليس صحيحا على طول الخط، فالأنواع التى انقرضت اتفقت على أسلوب فى الحياة أهلكها، والديمقراطيات الزائفة، والمزيفة، تتفق على شخص قد يكون هو الأكثر خبثا، وليس الأقدر فعلا.
فى العلاج الجمعى، نستعمل “المصداقية بالاتفاق” دون تسليم، ولكن كمشروع (فرض) قابل للاختبار، وكلما كان المعالج من النوع المقتحم القادر المؤثر، أصبحت المصداقية بالاتفاق أقل موضوعية، فقد يميل أغلب أفراد المجموعة، أو كلهم، إلى مشاركته الرأى، أو ترديد إحساسات أقرب إلى إحساسه، وهذا أمر لا يمكن تجنبه إلا بمواصلة اختباره بأكثر من اقتراب وأكثر من طريقة.
المتن هنا ينبهنا إلى احتمال اختبار هذه الرؤية من خلال الاستعانة برأى المجموع
“أنا قلت أشوفها فْ عين الناس”
“وأتارى الناس بتشوفها بعيونى،
ما هو أصل الناس دول يعنى: من صنعى شويّة،
ما هى خيبة قويّة!!”.
لكنه فى نفس الوقت يحذرنا من احتمال الخداع للأسباب السالفة الذكر، وهكذا تتواصل المراجعة والنقد دون تسليم تلقائى حتى لإجماع الرؤية.
(7)
وابص كويس فى عـْـنيها
ألاقينى فيها !!
يا ترى دى مرايتى،
ولاّ أْزازْها..؟
يا ترى عايزانى؟
ولاّ انا بس اللى عايزها !!
هذا المقطع يعيدنا ثانية إلى التنبيه إلى الفرق بين “الرؤية الذاتية” و“الرؤية الموضوعية”، وضرورة التساؤل عن ما إذا كانت الصورة التى تصلنا من رؤية الناس لنا (بما فى ذلك رؤية المريض للمعالج) هى صورة منعكسة من رؤية المعالج (مرايتى) أم صورة واصلة من خلال شفافية رؤية الآخر (ولا إزازها).
(8)
يا ترى دا الخير اللى يطمّـن؟
يا ترى دا الخوف اللى يجنن؟
يا ترى ده الحب اللى يونْـوِن؟
وهكذا يمكن أن يتصور لنا (بما فى ذلك المعالج أحيانا) أن الآخر هو الأكثر احتياجا لنا، فى حين أن الحقيقة قد تكون العكس “يا ترى عايزانى؟ ولاّ أنا بس اللى عايزها”.
وهكذا أيضا يظل الباب مفتوحا للنقد، ونقد النقد، ويصبح التساؤل الممتد هو صمام الأمن ضد التسليم الساكن سواء فى العلاج النفسى أو فى حركية النمو.
(9)
كان نِفـْسى أشوفها إنها هيّا
يبقى الشوفان ليها وليّا
ربنا أرحَمْ بيها وبيَّا
نختم هذه القراءة من جديد بالتذكرة بأن العلاج عموما، والعلاج النفسى خاصة، إنما يؤتى ثماره للمريض شفاءً، وللطبيب (المعالج) نماءً وخبرة، كلما زادت جرعة النقد الذاتى، وكلما رأينا “الأمور كما هى”، وبالتالى نرى الآخر على مسافة موضوعية: لا هو مرآة نرى فيها أنفسنا كما نحب أن نراها، ولا هو صدى لما يدور داخلنا مهما كانت صحته، هنا تصبح المسألة أنه كلما زادت الرؤية موضوعية، حققت العلاقة الإنسانية وظيفتها: أن نكون بشرا معا، وهذا هو غاية العلاج فى نهاية النهاية! وربما غاية الحياة.
وبعد
للأمانة، قد يكون مناسبا أن أعلن رحيل صاحبة هذه اللوحة مؤخرا، وأن أعتذر لها، واستسمحها أن تغفر لى ما لحق بها منى، وأعاهدها أن أرد لها جميلها لكل من تحب، والحمد لله أنها كانت تحب كل الناس، فأنا أحاول أن أحذو حذوها لعلها ترضى، فيرضى!
ثم إلى المتن مجتمعا:
(1)
أنا مانسيتكــيشْ.
أنا خليتــِكْ للآخرْ.
(2)
أصل عيونها صعب.
أصلها يا خوانـّا ساعات وساعات.
ساعه تعرف سر الدنيا فْ كنكة قهوهْ.
وساعات أظبطها بتعرف سِرّى عـَلـَى سـَهـْوَه
وساعــِـة ما تخاف، تعْمَى وتموت.
والعدسة بتاعتى اللى بتكبـَّر،
تيجى لحديها وتصغـَّر،
وتـْدغوش.
إشمعنى؟
إكمنى باشوفها لنفسى، مش ليها،
مش بس بشوفها زى ما عايز
دى ساعات تبقى كما العـًوزَان!
(3)
وفْ لحظة صدق أظبٌطْنى
فيه حاجة خطيرة تلخبطَنى:
دانا كل ما اقرب حبّه كمان
ألاقينى ماشـُـوفـْـشـِـى غير الشوفان
(4)
لو شايف خوفها: أتلخبط،
وساعات أنكرو يعنى استعبط!
مش يمكن نـِفـْسـِى أخاف على حسّ أمانها.
قومْ دغرى تخبّـى خــوفانها،
وتخاف مالــخوف.
(5)
واذا شفت عيونها عدّت خط الصــدّ،
تبدأ حسابات الجمْع، الطرْح،
الضرب، الشكّ، الرفْض، الـعـَدّ:
ودى مين؟ حاتشوفنى بإيه ؟!!
دا انا مِتـْمنـَظر، دَانـَا بيـِهْ !!
دى عنيها أنا اللى عاملها
دى قصيدة انا اللى قايلها
على طول أرفض شوفانها.
(ماهو لازم مـنْ عَـوَزَانِها)
(6)
أنا قلت أشوفها ف عين الناس.
وأتارى الناس بتشوفها بعيونى،
ما هو أصل الناس دول يعنى: من صنعى شوية
ما هى خيبة قوية !!
(7)
وابص كويس فى عـْـنيها
ألاقينى فيها !!
يا ترى دى مرايتى،
ولاّ أْزازْها..؟
يا ترى عايزانى؟
ولاّ انا بس اللى عايزها !!
(8)
يا ترى دا الخير اللى يطمّـن؟
يا ترى دا الخوف اللى يجنن؟
يا ترى ده الحب اللى يونْـوِن؟
(9)
أنا نِفـْسى أشوفها إنها هيّا
يبقى الشوفان ليها وليّا
ربنا أرحَمْ بيها وبيَّا
*****
انتهى الكتاب الثالث من سلسلة “فقه العلاقات البشرية”.
ونواصل السبت القادم بتقديم الكتاب الرابع من السلسلة بعنوان: “قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – ملحوظة: لظروف استمرار فرصتى فى استلهام صاحبة هذه الحالة عشرات السنين بعد الكتابة الأولى (1974)، جرى تحديث فى القصيدة، وخاصة فى الجزء الأخير، فأضفتُ الآن (2018) السطور الأخيرة إلى القصيدة.
[3] – “مستويات وأنواع الإشراف على العلاج النفسى” نشرة الإنسان والتطور 1-2-2009 وأيضا نشرة 8-2-2009. www.rakhawy.net
[4] – وهى ليست حركية الإيمان.
أعتقد أن الرؤية الموضوعية الخالصة من شوائب الذاتية مستحيلة لأن هذه الموضوعية الخالصة_ و التي أعتقد أنها من الأمانة_ التي وافق الإنسان على حملها دون أن يدري أنه ظلوما جهولا، و وعي الإنسان أن سعيه مخلصا لحمل الأمانة بحقها يتطلب منه سعيا إلى الحق ليتطهر من الظلم ، و سعيا إلى المعرفة تطهرا من الجهل يقربه من الموضوعية
و يبقى الفلاح فى الاقتراب و ليس الوصول لأن الوصول إلى مطلق العدل و المعرفة و من ثم إلى الموضوعية لا يتسني للإنسان بدليل قوله سبحانه و هو مطلق الحق و العلم عن الإنسان ” أنه كان ظلوما جهولا ”
رحلة الاقتراب هذه هى رحلة نضج و تزكية سعيا معا إليه …..
و يبقى مدد من فتوح الله دوما فى إرث علمك يا مولانا الحكيم نور على الطريق
العلاقات الانسانية –اللي المفروض انها تبقي موضوعية — ودة في شبه استحالة زي ما عمنا قال لنا وفكرنا . شديدة التعقيد . وشديدة الحتمية .
عبر سنين طويلة من تجارب مختلفة شديدة العمق وشديدة التحدي وصلت فعلا انه التحدي الاساسي هو فرق النضوج والوعي ومحاولة الصدق وليس الصدق نفسه طول الوقت .
ومش بس كدة ودة الاخطر انه كلما رقت اغشية الدفاعات وشف الداخل واعلن احتياجه دون اعلان يبدأ التحدي .
في كثير من الاحيان او قل في اغلب الاحيان يتوقف احد الطرفين عند مرحلة معينة من التطور او من النضوج اما لعدم القدرة علي التعرية المستمرة او اما — وهو الغالب — ان الاستمرار بهذا الوجود الذي احب ان اسميه الوجود النمائي المتطور الذي لا يهمد شديد الندرة .
ومن يتوقف او تتوقف لا تتحمل الرؤية اساسا ولا الصحبة المواجهة .
ولكن يحضرني هنا نوع من الوجود صادفته — وما زلت — هو هذا الوجود الذي يفرض حضوره الحيوي ولا يعرف هو شخصيا ابجدياته . ولا يستطيع ان يتحمل ان ينطفئ او حتي يموت .
هو وجود شديد الندرة ولكنه موجود . وفي كثير من الاحيان يدغدغني بمدي قداسة وروع هذا الكائن الحي -الانسان-
. في الغالب حسب ابجديات الطب النفسي التطوري هذا الوجود مريض بالمعني الكلاسيكي ولكن كم من مريض يعلن بوجوده ،،، الوجود الآخر الحتمي الحيوي لكيف يحاول الانسان ان يتلمس كل المعني لوجوده او لحضوره طول الوقت.