نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 23-9-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5866
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3)[1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الثالث:
“قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)
اللوحة الرابعة عشر:
دراكيولا
هذا التشكيل مستوحى من تصور مبالغ فيه عن نوع من العلاقات بين البشر، هو أقرب إلى التهلكة المتبادلة، وإن كانت تسمى فى بعض مراحلها بنفس الاسم: “الحب”، هو تشكيل من أبشع ما تصورت (وبينى وبينكم، ما عايشت) مما أسميه أيضا “الصفقات القاتلة لطرفيها“، برغم أنه شائع تحت نفس الاسم (مرة أخرى:) “الحب”.
هذه علاقة تتجاوز كثيرا صفقة الاحتياج المتبادل، والتأمين الثنائى([2])، وهى أيضا تعرى مستوى أخطر وأخبث لا يقارن بمستوى ما سبق أن نقدناه من الغمر بالحنان حتى الإغراق بلا علاقة حقيقية، مثلما ورد فى (اللوحة العاشرة: “الحب بالراحة”).
ترددت كثيرا فى محاولة مواجهة هذه الخدعة، وتشريح أبعادها، ولكنى لم أملك إزاء حقيقة ما وصلنى من مخاطرها وخداعها إلا أن أعريها وهى بكل هذه البشاعة، والإيلام معاً.
التناول هنا يعرى تلك الطبقة الأعمق من النفس البشرية التى لا تحقق أمانها إلا من خلال الالتهام المسعور، بكل عواقبه السلبية حتى: الهلاك والإهلاك.
الموت الذى يتكرر ذكره هنا هو نوع آخر من المفاهيم التى استعملت فيها نفس اللفظ “الموت”، هذا النوع من الموت المذكور هنا يمكن أن يطلق عليه “حركية العدم“، وهو غير “الموت السكون ضد الحركية” أصلا، وهو أيضا غير “الموت الهيام التلاشى” فى بعضنا (باموت فيه ويموت فيّا)، كل هذه تنويعات لبعض أشكال الموت بمعناه السلبى الساكن العدمى، أما الموت الذى سبق أن تناولته باعتباره “نقلة الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى“، وأيضا باعتباره “أزمة نمو”، فهو عكس كل هذا الإهلاك والعدم والإعدام على طول الخط.
الموت هنا فى هذا التشكيل هو خليط من أنواع المجموعة السلبية الأولى، وهو أقرب إلى غريزة الموت التى قال بها سيجموند فرويد ولم يتعهدها بالقدر الكافى، وهى الغريزة المسئولة عن التدمير، والتهلكة، والانسحاب فالعدم، ضد الحب والقرب والإبداع وإعادة الولادة، والتعرية شديدة الصعوبة حيث الخلط وارد، والإنكار جاهز، والأسماء التى يسمى بها هذا الموت قد تكون العكس تماما،(تصور أنه يـُسـَمـّى أيضا!!: “الحب”!).
(1)
……….
أنا مــش عندى إلا الموت.
باشترى بيه الناس وباسمّيه “حب”.
والناس عايزه تحب تحب تموت،
أيوه تموت،
جوا بطن الحوت
هذا التشكيل هو أخطر أنواع ما يسمى الحب الثنائى حصريا (إن صح التعبير)
نقد الحب الثنائى المتفرد وارد منذ أفلاطون الذى نقده ووصف حبا أرحب وأرقى، فاتهموه ظلما بأنه دعى إلى ما تصوروه أنه ”الحب العذرى”، حتى أصبحت كلمة الحب الأفلاطونى دالة على الخيال واللاواقعية وهى غير ذلك، حقيقة أن الإنسان برغم مرور آلاف السنين لم يرتق بعد إلى ممارسة القدرة على الحب انطلاقا من هذا الحب الثنائى، الحب الثنائى طبيعة حيوية بشرية، وتنظيم اجتماعى، وتطور طبيعى، لكن ليس على حساب القدرة على الحب، أو على حساب الانطلاق منه إلى مزيد من الحب، التوفيق بين هذا الحب الثنائى والحفاظ على القدرة على الحب إنما يتم بأن يكون الشريك هو ممثلا للجنس الآخر، أو للجنس البشرى عامة، بما عبرت عنه هكذا: “أحبك بالأصالة عن نفسك، والنيابة عن سائر النوع، أو سائر البشر”، وهو ما تبينت صعوبته حتى الرفض.
أن تكون العلاقة الثنائية مجرد تنظيم اجتماعى ودينى يحتوى حب اثنين فأكثر، هو أمر طبيعى ومهم ووارد باعتباره اختبارا للتطور والتكامل معا، بما يتيح أيضا أفضل مجال صحى لتربية الأطفال، لكن الانطلاق منه إلى حب أكبر فأكبر، ليس على حسابه، (ليس على حساب الحب الثنائى) هو أمر صعب كما بينّا أكثر من مرة، كما أن العجز عن تحقيق ذلك الحب الممتد الأكبر لا ينبغى أن يقلل من ضرورة السعى لتحقيقه، فهو الحب الأرقى والأبقى حتى لو أجلت ممارسته على أرض الواقع مهما أجلت، إن الصعوبة لا ينبغى أن تنتقص من لزومه أو تخدش من صلابته، (دع جانبا الآن العوامل التى تسمح بذلك سواء فى الفرد أو فى المجتمع أو فى التربية أو فى العلاقة بالكون… إلخ).
فى نفس الوقت علينا أن نحترم النقد المتواصل لأنواع الحب الأخرى، لأنها ليست كلها سطحية أو بلا لازمة، ولكن لأنها تعلن عن مرحلة نقص رائعة، ربما ضرورية، على طريق مسيرة الإنسان الحالية. إن فشل المؤسسة الزواجية الذى تُعلَنُ زيادته باستمرار، هو بمثابة دعوة إلى الانتقال منها وبها إلى ما يعد به التقارب بين البشر من تطور وتكافل لصالح النوع كافة.
أود لو أعتذر ابتداء عن البشاعة التى قد رسمتُ بها هذه الصورة (كما سترد: هكذا)، إلا أنى لا أملك أمام التزامى بمحاولة الصدق فى تقديم ما رأيت – فحرّك شعرى إلى تشكيل هذه اللوحة– إلا أن أقدمها كما وصلتنى فشكــَّلتها بما رأيت، وقد ترتب على ذلك أننى لم أعلق على بعض أصول المتن، مع إثباتها فى النهاية مع ذكر المتن مجتمعا، وقد يغفر لى ما انفتح فى آخرها من باب أمل واعد برغم كل ما تقدم من قبح وموت والتهام وعدم، فلقد أطلَّ واثقا فى النهاية وصاحبة اللوحة تعلن عزمها وثقتها فى الانتصار على كل هذه السلبيات المتوحشة:
لو ما لاقيش الموت حوالىّ حاموّت موتى
…….
لحظة كل شواهد القبر تطلعّ خـُضـْرة
…….
لحظة طفلة صـْغـُيـًّرةْ ثايرة تـِقـْدر تـِقـْتـِل
تقتل وحش يمص الدم
ولكن دعونا نبدأ من البداية:
تبدأ الصورة، بتعرية تعلن أن المتحدثة البادئة هى العيون الأخرى (عيون جوه عيون بتقول = مستوى منظومى أعمق من الوعى)، وهى عيون تبدو محذِّرة (حاسب عندك)، لكنه ليس تحذيرا بالمعنى العادى، لكنه نوع من التحدى المنذر بالتمادى إن لم نتبه إلى جدية النذير.
وعيون جوا عيون بتقول:
حاسب عندك:
إوعى كـَـمـِنـَّك عطشان تـِعـْمـَى وتشرب منى،
أنا مــش عندى إلا الموت.
باشترى بيه الناس وباسمّيه “حب”.
والناس عايزه تحب تحب تموت،
أيوه تموت،
جوا بطن الحوت
والبوسـَهْ بـِتـْشلـِبْ دَم،
والـُحضن مـَغــَاره مـَلَانه البنج السـِّحـْر السـُّمْ.
يبدأ الطفل حديث الولادة فردا يتحسس طريقه خائفا من العالم الخارجى، وهو يبنى علاقاته الأولى مع هذا العالم بقوانين عدم الأمن (وهو الطور البارنوى أساسا) الذى اسميته لاحقا “الطور الكرّفرى” فيروح يمارس علاقته بالآخر من خلال الكر والفر، الذى هو اعتراف ضمنى بالآخر، برغم ظاهر الحذر واحتمال سلبية المآل، ومع ذلك فهى علاقة موضوعية لا تسمى حبا طبعا، لكن بها من التواصل ما يتفق مع قوانين هذا الطور، وقد يتعمق هذا الطور الكرفـّرى البارانوى بمزيد من عدم الأمان المتضاعف يتزايد حتى يبرر الانسحاب إلى حيث “لاموضوع” (الموقف الشيزيدى = الطور اللاموضوع)، وقد سبق أيضا الإشارة إليه فى نفس اللوحة.
“قاعد ساكت تحت سرير الست،
حاخطف حتة نظرة من ستى أو فتفُوتِه حُب، واجرى آكلها لوحدى،
تحت الكرسى المِشْ بَايِنْ”،
وقد يحل الطور البارنوى بحل أكثر عدمية، وذلك باقتحام التهامى يختفى معه الموضوع من العالم الخارجى فى داخل المهاجم الملتهم الخائف فى نفس الوقت، هذا ما أشرنا إليه سابقا فى نفس قصيدة القط أيضا:
“باكـُلْ الأطفال والنسوان المِلك”
دراكيولا هنا لا تلتهم الموضوع لتستمتع بذلك، بقدر ما أنها تلتهمه لتلغيه، هذه الصورة هنا تجسد الجانب الالتهامى أكثر، وفى نفس الوقت هى تعلن أن الضحية تشارك فى التسليم لهذا الالتهام، وأنها (الضحية) تتغافل – فى مستوى أعمق من الوعى- عن خطوره الجارى، حتى تسميه بنفس الاسم “الحب”، (والناس عايزة تحب تحب تموت)، لكن “دراكيولا” هنا تبدو أكثر أمانة وأقل مناورة، فهى تعلن أن هذا الذى تسميه الضحية حبا، ليس إلا الموت، وأن هذا النوع من الموت هو هو ما تستسلم له الضحية، وهو ما تنخدع فيه تحت اسم الحب، مع أنه – من نص أقوال الملـْتـَهـِم – ليس إلا الاحتواء الماحى داخل “بطن الحوت”، مع أن آثار الجريمة ماثلة للعيان، والدم يلطخ الشفاه
أنا مــش عندى إلا الموت.
باشترى بيه الناس وباسميه “حب”.
والناس عايزه تحب تحب تموت،
أيوه تموت،
جوا بطن الحوت
والبوسة بتشلب دم،
يبدو أن هذا النص فى المتن، يريد أن يؤكد أنه مهما تواتر هذا النوع من العلاقات، ومهما كان هو المتاح، إلا أن تعريته ربما تكون أول خطوة لتجاوزه.
أحيانا يكون الدافع لقبول هذا النوع من التسليم لمثل هذه العلاقة، وبرغم ما تحمل طبيعتها من إرهاصات الإلغاء والمحو بالالتهام وغيره، وأيضا برغم ما يعلن من أنه جريمة ملطخة بالدم، أحيانا يكون مطلوبا كنوع من التخدير، هربا من وحدة بشعة لا تطاق.
يقول المتن إن هذا النوع من الحب ما هو إلا الموت نفسه فى أخفى صوره، التخدير هنا ليس فقط تغييبا للوعى، لكنه تخدير بسم زعاف مدسوس داخل كهف العدم الذى يمثله هنا: “بطن الحوت”، ربما كرمز للعودة إلى الرحم القبر، (وليس الرحم لإعادة الولادة([3])= كما خرج يونس من بطن الحوت.
إن “العلاقة الثنائية” وجها لوجه، دون رابط جامع يجمعهما، ويتصاعد بهما إلى الآخرين فالمطلق، هى التى أنشأت كل هذه الصعوبات الحالية، وقد سبق أن أشرت بحذر شديد، إلى معنى “اجتمعا عليه”، و”افترقا عليه”، فى الحديث الشريف وأيضا “تحابا فيه”، وبالتالى فلابد من أن ثمَّ برنامجا آخر يلزم للحفاظ على التواصل والاستمرارية بين اثنين، التفرقة هنا بين العودة إلى بطن الحوت بلا رجعة، وبين العودة إلى الرحم (فى النوم، أو فى الحلم، أو فى النكوص، فى خدمة الذات([4])، هذه التفرقة يعززها الفرض الذى أقدم من خلاله فقه العلاقات البشرية هنا، هكذا:
إذا لم يتواجد وعى جمعى يجمع بين وعى الأفراد بعضهم لبعض، فإن الصعوبة تزداد أضعافا مضاعفة بالنسبة للعلاقات الثنائية حصريا،
ويضيف الفرض الذى أطرحه:
إن الوعى الجمعى نفسه يمتد فى وعى النوع إلى وعى الكون لتتواصل دورات التناسق بين هارمونية الذات وهارمونية الكون (إلى وجه الحق تعالى). فإذا أنكرت هذه الوصلة (تحت أى اسم) تتعرى هذه الصفقات المهلكة بمثل هذا التقارب القاتل لطرفيه، كما يعلمنا المتن.
والحضن مغاره ملانه البنج السحر السم.
وبــدال ما الزهره الطفله تنبت جوه الورده القلب،
بنبيع بعضينا لبعـــض، والقبض عـَـدَمْ.
ولا فيش معجزه حا تطـلع يونس زى زمان،
ولا فيش برهان،
نكــروا الرحمان.
تشريح واستئصال “سرطان” عدم الأمان
برغم أن عنوان الشرح بدأ بكلمة “فشل” ما هو: علاقة الموت المتبادل عدما“، مع أنه يسمى حتى لو حبا، إلا أنه لابد أن ما نشر من هذا التشكيل حتى الآن أثار نفورا واشمئزازا واستبعادا بشكل أدهشنى، علما بأن بعض هذه المشاعر كانت لدىّ شخصيا حتى أعلنت حرجى من تعرية هذا النوع من العلاقات كل هذه التعرية.
رجعتُ إلى المتن الشعرى قبل أن أكتب بقية الشرح، فوجدت أن القصيدة إنما تعلن فشل هذا النوع من التواصل العدمى مهما سمى “حبا” أو “عشقا” أو “غراما” أو “هياما”، بل إن التحذير من مضاعفات هذا الحب جاء بلسان “بصيرة” غائرة وحادة داخل “دراكيولا” نفسها طول الوقت تقريبا.
رحت أجمع من القصيدة (المتن) ما وصف هذا الحب الالتهامى (الجريمة المشتركة) الذى أسميته بصريح العبارة “التهلكة المتبادلة“، فوجدت أننى لم أورد على لسان دراكيولا، ولا الطفلة بداخلها التى انتصرت فى النهاية أية إشارة إلى أن هذا الجانب السلبى البشع يمكن أن ترجح كفته مهما بلغ عنفوانه وتغطرست قوته وتمادى تحديه.
مسحتُ بمقياس الأورام الذرى مساحة هذا الجزء الذى يمثل هذا الجانب السرطانى مصاص الدم، وفى نفس الوقت يعلن ألاعيبه ومناوراته، ثم قمت بتشريحه جراحيا حتى أتممت فصله عن الجزء السليم (الأصل) الذى يقاومه ويتحداه، وهو “خلقة ربنا” داخلنا، فاكتشفتُ أننى طوال الحدس الشعرى الذى أفرز القصيدة، كنت منتبها إلى قوة الفطرة فى الداخل التى تجسدت فى طفلة جميلة طيبة قادرة عملاقة وهى التى انتصرت فى النهاية.
شعرتُ وأنا أفعل ذلك أننى إنما أقوم بعملية جراحية صعبة، لاشك أنها قد تشوه المتن شعرا، لكننى أحسست أنه لا مفر من إجرائها لانقاذ الفطرة وإظهارها، فصلتُ الجزء السرطانى عن الفطرة القوية المتحدية، المنتصرة فى النهاية، فوجدت أن المسألة ليست بها أى لبس، وأن عملية استئصال السرطان قد نجحت وانتصر الحب الحياة، القدرة، الخلق، البناء، الإيمان على العشق الالتهامى، مصاص الدم، “الموت العدمى معا”.
قررت أن أغامر بعرض خطوات العملية ونتيجتها، بعد تشريح المتن واسئصال الورم، فأعرض الجزء السرطانى وحده أولا مستقلا، ثم أعرض ما تبقى من حياة ونبض بعد نجاح العملية سعيا إلى وجه الحق تعالى.
لست متأكدا إن كان هذا سوف يزيد الأمر وضوحا، أم أنه لن يقدم إلا مزيدا من التشويه للمتن الشعرى.
التشكيل التركيبى:
الفكرة التى قد تساعد على قبول إجراء هذه العملية أن فى هذا التشكيل المتداخل عدة كيانات معاً:
* كيان ظاهر غير آمن، مرعوب ملتهم جائع، يندفع إلى احتواء “الموضوع” الآخر، حتى الموت العدمى، وهو (هى: دراكيولا) تتصور أن هذه هى الطريقة الوحيدة للحصول على الأمان وكأنه الحب:
هذا الكيان يعرف ماذا يفعل، وهو يحدد فريسته بشكل صريح، ولفرط ثقته بأنه قادر على التهامها، يحذر فريسته طول الوقت من أنها مسئولة ليس فقط عن مآلها العدمى، وإنما أيضا عن ضياعه هو، فهو يعرف فى قرارة نفسه أنه لن يحصل على الأمان مهما تمادى فى الالتهام ومص الدم “ولا يروينى إلا الدم، ولا يروينى الدم”
* يوجد داخل هذا الكيان، كيان آخر،
“وعيون جوه عيون بتقول: حاسب عندك”،
هذا الكيان الناقد المتداخل يعلن كلاما فيه محاولة إيقاف التمادى فى طريق خاسر، لكنها بصيرة عاجزة تساعده فى النهاية على التمادى فى جريمة الإعدام الانتحارى.
“بكره حا تحتاج موتى يا موت، ونموت جمَعاً”.
بصراحة هذا المستوى البصيرى الناقد محيـِّر فعلا، ذلك لأنه يبدو أنه يريد من يوقفه شخصيا عن التمادى فى هذا السعار الهلاكى حتى أنه يستنقذ بفريسته ألا تقبل التسليم له، ربما يكون فى ذلك إنقاذ لهما معا، لكنه فى نفس الوقت يشلُّ حركتها، الاستنقاذ يظهر جليا فى قولها:
“لو بتحب الدنيا صحيح: إوعى تسيبنى لنفسى”،
وأيضا هى تتهم فريستها أنها ترفض أن تتراجع عن التمادى فى التسليم بالالتهام، فالموت:
“بس الموت جواك بيقولـّى: “إوعِكْ تصحى”.
بلغت حدة بصيرة دراكيولا مصاصة الدم أنها أعلنت موقفا مـُرَاجِعا يتساءل:
ما الذى أتى بها إلى وسط هؤلاء الناس (الناس الذين يحاولون مع بعضهم أن يكسروا احتكار الحب الثنائى حصريا لتنطلق منهم القدرة على الحب)؟ ما الذى أتى بها إليهم بعد أن كانت قد ألغتهم من حسابها أصلا؟ هل كانت تناور؟ أم تخدع؟ أم توهم نفسها بأنها تريد أن تتراجع أو تتوب عن جرائمها المسعورة؟ حتى إذا عجزت عن ذلك، تمادت فى مص الدم والالتهام، فالإعدام المشترك.
” أيوه صحيح !!! أنا جيتكم ليه؟
أخفى جريمتى؟
جيت أتعلم لما أمصّ الدم ما بانـْشـِى؟ ما يـْطـَرْطـَشـِّى؟
جيتكو أموت وسطيكم يعنى، واسـْمـِى بـَاحـَاوِل، ولا ابيّنشى ؟”
برغم كل هذه البصيرة الناقدة المتسائلة، إلا أن هذا الكيان غير الآمن “دراكيولا” يتمادى فى جريمته وهو لا يفيق أبدا بمحض إرادته، إلى أن يأتيه الفشل/الإفشال من انتصار داخله الفطرى الأقوى “الطفلة الفطرة العملاق الطيب”.
حضور الفريسة فى القصيدة كان متوترا، لكنها لم تتكلم بلسانها مباشرة أبدا، ولم تدافع عن نفسها، مع أنها متهمة من جانب دراكيولا المفترسة مصاصة الدم، بأنها مشتركة فى عملية الإعدام المشترك، وذلك بالتمادى فى العمى إنكارا للعدم، مع أنها لا تحقق إلا العدم نفسه بهذا الاستسلام، ودراكيولا تتحدى فريستها (شريكها) أن تستغنى عنها:
“لو ما تخافشى الموت حاتشوفنى إنى الموت، وبامص الدم”
وهكذا لا يتحقق الوجود العدمى لكليهما إلا من خلال هذه المؤامرة العدمية الانتحارية معا:
“بكره حاتحتاج موتى يا موت، ونموت جمعا”
وكل هذا نجد له بعض معالمه فى علم الضحيةVictimology الذى يفترض أن الضحية مشتركة فى فعل الجريمة.
وبعد
أقوم فيما يلى بإعادة تقديم أغلب المتن، بعد تشريحه بالعملية الجراحية، وفصل هذا عن ذاك، فأقدمه من جديد بالترتيب التالى:
أولا: السرطان (العدم المشترك) الذى تم استئصاله.
“الحب التهلكة معا”:
(1)
…..
أنا مــش عندى إلا الموت.
باشترى بيه الناس وباسميه “حب”.
والناس عايزه تحب تحب تموت،
أيوه تموت،
جوا بطن الحوت
والبوسة بتشلب دم،
والحضن مغاره ملانه البنج السحر السمْ.
وبــدال ما الزهره الطفله تنبت جوه الورده القلب،
بنبيع بعضينا لبعـــض، والقبض عدمْ.
ولا فيش معجزه حا تطـلع يونس زى زمان،
ولا فيش برهان،
نـَـكـَـرُوا الرحمان.
(2)
لكن الدم المالح ينزل يهــرى ف جوفى،
ويخلــينى أعطش أكتر.
ولا يروينى إلا الدم.
ولا يروينى الدم.
ولا يروينى إلا أشوفك ميت زيي.
وارمى مُصاصتك،
وأرجع أشكى وأبكى وأحكى،
”نفس القصـــة”.
(3)
بكره حا تحتاج موتى يا موتْ، ونموت جمعا.
بكره حاتحتاج تخفى جريمـتـك، جوا جريمتى،
بكره بتاع الناس بينور.
بكره بتاعى وحش يعوّر،
(10)
إوعى تلومني.
إنتَ عايـزنى كده.
تقتل روحك وبتتمسكن، وتقول حاسْبي؟
هوا انا ممكن أقتل إلا اللى اختار قتلـه؟
تبقى جريمة عاملها اتنين.
كل جريمة عاملها اتنين.
يبقى المقتول هوّه القاتل، أصله استسلم.
ثانيا: “الطفل الفطرة“ (داخل كل هذه البشاعة)
(5)([5])
ولا كنت اعرفْ.…
ولا كنت اعرف إن الناس الحلوهْ كـْـتَارْ.
ولا كنت اعرف إن صْباع الرجل الحى،
أقوى كتير من مليون ميت.
….
وانا فرحانه،
وخايفه،
وعايزه،
ورافضه،
نوركم جامد يعمى عـنيه.
زى فراشه تحب النور،
تجرى عليه، وتحوم حواليه
وتموت فيه،
ترقص قبل ما تطلع روحها،
”آه يا حلاوه النور موِّتني”
لأ ماحصلشِى!!
….
هوا النور بيموّت برضه إلا الضلمه؟
بعدها نور الفجر بيشرق من جوايا.ٍ
(7)
بس انا خايفة
أصلى ضعيفةْ، وطفلة لـوحدى، وباحْبى فْ حجر الناس واتلخبط.
لأ، حاستني..، لأ مش طالـعـة.
خايفه لـدكـْهـَهْ تمثل دورى:
تختفى تحت الجلد، أو ورا ضحكة،
أو تتصرف زى الناصحة،
تعرض فكرهْ !!،
يمكن تنسُـوا.
وانت تعوزها تانى فى السر.
(8)
………..
ترجع برضه الطفلة تعافر، وبتستنجد:
شمس الحق اللى فى عـْـنِيكم تقتل ليلها اللى اسمه بكره،
ليل اللعبة الضلمة التانية،
ليل السرقة الوسخه العامية.
ليل الوغد يموّت روحى، وروحك فيـّه.
وغد الطمع الخوف الهرب الكـَلـْبشـَهَ فينا،
حاكم الخوف عايز يسحبنا بـعـيد وحدينا.
(9)
لكن الطفله الأصل الصَّحْ عفية وصاحية،
تضرب تقلب، وبتتنطط وبتتحدّى:
– أنا صاحيالـِك،
إنتى تموتى تروحى فْ داهيه، أنا ماباموتشي.
أنا باستنى اللحظة بتاعتى، علشان أطلع.
أنا جايباكى هنا برجليكى. . علشان أشبع.
من ورا ضهرك.
بعد شويه أجرى وابرطع.
غصبن عنـِّـك.
غصبن عنـُّه.
أنا طول عمرى واقفه استـنى اللحظه دهيه:
لحظة كل شواهد القبر تنبِّت خـُـضره.
لحظة كل الناس الحـلـوه تموّت موتي.
لحظة طفله صغيره ثايره، تقدر تقتلْ.
تقتل وحش يمص الدم.
لحظة لما الله سبحانه يرضى عليّأ
أحلف يحصلْ
أصله وعدنى
وانا صدَّقـتُهْ
ملاحظات مضافة:
وجدت هنا فرصة للكشف عن مزيد من معالم ما أسميناه سابقا “الارتباط التحطيمى التهلكى”، وهو ما أسميناه “الارتباط التهلكى المتبادل”، وأيضا: “الحب التهلكة معا”.
ينبغى أن نؤكد مرة أخرى على ما أشرت إليه من أن كل أنواع العلاقات يمكن أن تعتبر مرحلة، بما فى ذلك هذا الارتباط التهلكى، إذ أنه من البديهى – إلا فى الحالات المرضية فعلا، ولو لم تـُسـَمَّ كذلك – أنه بمجرد أن يشعر أحد الطرفين، أو كلاهما، أنها تهلكة، فسوف يجد نفسه مضطرا إلى فصم هذا الارتباط، أو استبداله بما هو أقل خطرا منه، وهكذا
ثم إننى لاحظت: أن النوع التكافلى (رقم “1” الذى هو الأفضل) قد ركز على توصيف إيجابيات هذه العلاقة بين “اثنين” بما فيها من حركة وتنوع، ومسافة، وفائدة لكلا الطرفين، دون إشارة ولو ضمنية إلى امتداد هذه العلاقة الخلاقة – بطبيعتها – إلى الآخرين بما أسميناه فى “القدرة على الحب”، وهو ما ورد فى هذه اللوحة مثل التأكيد على
“أن الناس الحلوة كتار”
وأن “صباع الرجل الحى أقوى كتير من مليون ميت!!”
وهو ما ركزنا عليه كعلامة على نوع الحب الإيجابى الذى يبدأ باثنين ولا ينتهى بهما، أى الذى يكون فيه حب الاثنين لبعضهما هو المدخل إلى حب الآخرين، فالتناغم مع الطبيعة، فالمطلق، وهذا ما وصفناه بالتوجه نحو القاسم المشترك الأعظم، إلى وجه الحق تعالى. هذا الامتداد التلقائى تناغما وتناسقا وصلاة وإيمانا (بكل التشكيلات الإبداعية الممكنة)، هو نوع الحب الذى لا يحل محل الحب الثنائى ولا يستغنى عنه، لكنه ينطلق منه.
العلاج النفسى فيه كل هذه الاحتمالات:
أما علاقة فقه العلاقات البشرية، بالعلاج النفسى، وبهذا الفرض فهى علاقة وثيقة ومباشرة، من حيث إن العلاج النفسى هو مساعدة المريض لاستعادة خطى نموه وتوازنه إنسانا يعيش مع آخرين، ليتميز إنسانا أكثر فأكثر، وذلك من خلال علاقة بشرية بإنسان آخر (المعالج) له خبرة فى تنظيم هذه المسائل، وفى نفس الوقت يسير هذا المعالج فى نفس الاتجاه وهو يواصل مسيرته، سواء فى مهنته أو فى مسيرة حياته شخصيا (المفروض يعنى) بنفس الصعوبات التى يعايشها مع مريضه.
تتجسد العلاقة الثنائية وتتطور فيما يسمى “العلاج الفردى”، ثم تختبر وتتاح الفرصة إلى الانتقال منها/بها – دون إلغائها – إلى العلاقة الجماعية فى كل من “العلاج الجمعى” و”علاج الوسط”، هذه هى الحكاية.
وطبعا ثمــَّة احتمالات أخرى حين نواجه أثناء العلاج أنواعا أخرى من العلاقات، وهى تعتبر من “مضاعفات” العلاج النفسى بجرعة تزيد أو تنقص نتعامل معها أثناء الإشراف.
وبعد
فإن إعادة عرض اللوحة الشعرية كاملة كما ظهرت مباشرة من الحدس الشعرى قد يحمل رسائل لم يستطع الشرح أن يلم بها وها هى ذى القصيدة من المتن هنا وليس من الديوان بعيدا عن العملية الجراحية التشريحية:
(1)
وعيون جوا عيون بتقول:
”حاسبْ عندكْ”! .
إوعى كـمنك عطشان تعمى وتاخد منى،
أنا مــش عندى إلا الموت.
باشترى بيه الناس وباسَمِّيه “حب”.
والناس عايزه تحب تحب تموت،
أيوه تموت،
جوا بطن الحوت
والبوسهْ بتشلبْ دم،
والحضن مغارَه ملانَهْ البنج السحر السم.
وبــدال ما الزهرهْ الطفلهْ تنبت جوه الورده القلب،
بنبيع بعضينا لبعـــض، والقبض عدم .
ولا فيش معجزه حا تطـلع يونس زى زمان،
ولا فيش برهان،
نَكَــرُوا الرحمان.
(2)
لسه عيونها بتقول:
إوعـــك منى ..!
… لو بتحب صحيح ما تصحصح.
لو تتأمل حبه حا تعرف،
لو ماتخافش الموت حاتشوفنى إنى الموت،… وبامصّ الدم .
لكن الدم المالح ينزل يهــرى ف جوفى،
ويخلــينى أعطش أكتر.
ولا يِرْوينى إلا الدَّمْ.
ولا يروينى الدَّمْ.
ولا يروينى إلا أشوفك مَيِّت زيِّي.
وارمى مصاصتك ،
وارجع أشكى وأبكى وأحكى،
”نفس القصـــة”.
(3)
لو ماتخافشى الموت: مُوِّتنى،
موِّت موتى،
لو بتحب الدنيا صحيح، إوعى تسيبنى لنفسي.
(4)
بس الموت جواكْ بيقولىِّ: إوعِكْ تصحى .
(5)
أيوه صحيح أنا جيتكو لوحدى !
جيتكم ليه ؟
أخفى جريمتى ؟
جيت أتعلم: لما أمصّ الدم ما بانـشى ؟
ما يطرطــشى ؟
جيتكو أموت وسطيكـم يعني؟
واسمْىِ باحاَوِلْ ؟
ولا بَيِّـنْـشى ؟
(6)
إنما باظت منى اللعبه،
ولا كنت اعرف.
ولا كنت اعرف إن الناس الحلوه كتار.
ولا كنت اعرف إن صباع الرجل الحى،
أقوى كتير من مليون ميت.
آه ياخساره فقستوا اللعبه.
وانا فرحانه،
وخايفه،
وعايزه،
ورافضه،
نوركم جامد يعمى عْـنَيَّه.
زى فراشه تحب النور،
تجرى عليه، وتحوم حواليه
وتموت فيه،
ترقص قبل ما تطلع روحها،
”آه يا حلاوه النور مُوِّتنْي”
هوا النور بيموت برضه إلا الضلمه ؟
بعدها نور الفجر بيشرق من جوايا.
(7)
بس انا خايفة
أصلى ضعيفة، وطفلة لـْوَحدى،
وباحْبِى فْ حجْر الناس واتلخبط.
لأ، حاستني..، لأ مش طالـعـهْ.
خايفه لـِدكْـهَـهْ تْمَثِّل دورى:
تختفى تحت الجلد، أو ورا ضحكة،
أو تتصرف زى الناصحة ، تعرض فكره،
يمكن تِنْسُوا.
وانت تعوزها تانى فى السر.
(8)
دكــهه التانية الوغدة تقول:
بكره حا تحتاج موتى يا موت، ونموت جَمَعاً.
بكره حاتحتاج تخفى جريمـتـك، جوا جريمتى،
بكره بتاع الناس بينور.
بكره بتاعى وحش يْعَوَّرْ،
آه فين بكره، آه من بكره.
(9)
ترجع برضه الطفلة تعافر، وبتستنجد:
شمس الحق اللى فى عنيكم تقتل ليلى اللى اسمه بكره،
ليل اللعبة الضلمة التانية،
ليل السرقة الوسخه العامية.
ليل الوغد يْمَوِّت روحى، وروحَك فَيَّا.
وغد الطَّمِع الخوفِ الهربِ الكَلْبشة فينا،
حاكم الخوف عايز يسحبنا بـعـيد وَحِدْينا.
(10)
بس التانية الناصحة كهينهْ وعارفه طريقها:
واقـفه تعايـره:
إوعى تلومنى، إنت عايـزنى كده.
تقتل روحك وبتتمسكن، وتقول حاسْبي؟
هوا انا ممكن أقتل إلا اللى اختار قتله ؟
تبقى جريمة عاملها اتنين.
كل جريمة عاملها اتنين.
ذنب المقتول زى القاتل، أصله استسلم.
وانا حذرته وقلتله حاسب.
إوعك تعمي.
إوعى لاموتك يحـليلى موتي.
أنا نبـهتك .. إوعك تنسي.
لو مالاقيش الموت حوالَيَّا، حَامَوِّتْ موتي.
………………
لكن الطفله عفية وصاحيه، تضرب تقلب، وبتتنطط:
- أنا صاحيالك،
إنتى تموتى تروحى ف داهيه، أنا ماباموتشي.
أنا باسْتَنَّى اللحظة بتاعتى، علشان أطلع.
أنا جايباكى هنا برجليكى .. علشان أشبع.
من ورا ضهرك .
بعد شويه أجرى وابرطع.
غصبن عنك .
غصبن عنه.
أنا طول عمرى واقفه استـنى اللحظه دهيَّا:
لحظة كل شواهد القبر تْزَرَّع خُضْره.
لحظة كل الناس الحـلـوه تْمَوِّت موتي.
لحظة طفله صغيره ثايره، تقدر تقتل.
تقتل وحش يمص الدم.
لحظة لما الله سبحانه يرضى عليَّا:
”أحلفْ، …. يِحْصَـلْ.
أصلــه وعـدنـى ،
وانا صدَّقـْـتــُــه.
……………….
……………….
ونواصل السبت القادم لقراءة اللوحة الخامسة عشرة: “يا ترى”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – أنظر الكتاب الثانى “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ اللوحة السابعة: “حمام الزاجل”
[3] – خروج يونس من بطن الحوت استجابة لتواصل وعيه مع الوعى الكونى المطلق، نتيجة وعيه بانحرافة مساره سابقا: لا إله إلا أنت سبحانك، إنى كنت من الظالمين)، الانسحاب هنا بالالتهام الدراكيولى إلى جوف الحوت هو انسحاب بلا رجعة.
يعرف كل من يتابع ما أنشره عزوفى عن، بل رفضى لأية، محاولة مما يسمى “التفسير العلمى لأى نص مقدس”، لهذا أنبه أن هذا ليس تفسيرا علميا لأى نص، بقدر ما هو تذكرة بفرض أساسى يكاد يكون فكرة محورية استلهمتها من مصادر هذا العمل، فكرة تلتف حولها فروض هذا العمل “فقه العلاقات البشرية”، ها هى:
[4] – Adaptive Regression in the Service of the Ego: ARISE التى وصفها بللاك Bellack كأحد أهم وظائف الذات
[5] – يراعى عدم تسلسل الفقرات كما سيجىء فى المتن، وهذا نتيجة للتشريح الانتقائى الذى أشرت له فى المقدمة.