نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 10-9-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5853
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(3)[1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الثالث:
“قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)
اللوحة الثانية عشرة:
“البيت المسحور” (2 من 2)
وراء الباب الثالث: موناليزا [2]
مازالت نظرة “موناليزا” وبسمتها تحير النقاد، وبالذات نظرتها الخاصة جدا، الغامضة، الواعدة، الحاوية، ولقد حاولوا تفسير هذه النظرة من أول أنها تمثل ما تبقى عند ليوناردو دافنشى من نظرة أمه، إلى أنها تمثل جوعا أو كبتا جنسيا عند الفنان نفسه.
ما أردت توضيحه هنا باستعارة صورة الجيوكندا هكذا هو تكملة، دون تطابق، للوحة السابقة بعنوان “الترعة سابت فى الغيطان([3])”، فى هذه الحالة حين وصلتُ إلى ما بعد طبقة الوعى السابقة، التى حذرت فيها من الاستسلام إلى اعتبارها إيجابية على طول الخط، فوجئت بمستوى أكثر تحييرا من مجرد شكل الحكمة، أو شؤم البومة وتحذيرها، وهو المستوى من الوجود الأقرب إلى دعوة للكشف من خلاله منه إلى إبلاغ بالواقع، فما يميز لوحة الجيوكانده، هو أنها تسمح بالإسقاط بشكل متنوع متعدد، بحيث يبلغ الناظر إليها، أو الذى يتلقى نظرتها المتابعة له حيث ذهب، أن يسقط عليها مايريد، إلى أن يجد نفسه فى رحابة الإبداع يأخذ منها ما شاء لما شاء.
وصلني أن هذه النظرة هى تعبير عن مستوى من الوعى فج راق فى نفس الوقت، يكمن داخل كل منا، وهو يحمل ما يحمل من نداء الغموض، وتداخل المشاعر، بحيث لا يمكن تسميته أو تجريده رمزا، فالتعبير عن المشاعر البشرية فى لفظ واحد أمر شديد الصعوبة، برغم ظاهر سهولته، وهو يؤدى عادة إلى اختزال المشاعر المكثفة والمتداخلة إلى ما لا يمكن أن يحتمله هذا اللفظ، وغالبا ما يترتب على ذلك أن تختنق المشاعر داخل الألفاظ بما قد يعيق التواصل الأشمل والأرحب.
قبل أن نعرض للفرض، دعونا نقرأ معا ما جاء فى المتن:
(4)
هوّا انْـتِى!!!
بالبسمة الهاديهْ الناديةْ،
بالعين اللى بْتجرِى وراكْ بِحنانْهاَ،
وْبتـنِـْدهـَلـَكْ ماطْرحْ ماتْـرُوحْ.
هوّا انتِ؟ موناليزا الطاهرة الفاجرة؟
الواحد عايز إِيه غير بسمة حُبْ، وِحنَانْ،
والصدق الدافىِ وْكُلَّ الطيبَهْ يـْـلِـفــُّـونى،
وكإن الشر عمرُه ما كان.
وكإن الدنيا أمان فى أمانْ،
وكإِن البسمهْ الصادقة تْدَوِّبْ أيها حقد، وأيـُّـهَا خوف.
هذه الطبقة من النفس قد تكون أقرب إلى الفطرة وهى تلامس فى نفس الوقت ما يسمى الغريزة (الطاهرة الفاجرة)، وبديهى أنه يصعب على الشخص العادى أن يتصور اجتماع هذين النقيضين (ظاهرا)، إلا أن اجتماعهما – على عمق بذاته – هو أكثر تواترا من كل تصور، بل إن البديل عن قبول تواكبهما هو: إما الاختزال، وإما الإنكار والتجنيب.
فى هذا المستوى من الوعى، أطل علىّ تحدى هذه اللوحة، إذ وجدت وراء باب الحكمة (هذا المستوى الغامض الواعد الساحر المغرى، فوصفته كما سبق، لكننى أسرعت بنقد ما وصلنى من حيث إنه لو استقبلنا ظاهره وحده كما يبدو، استقبلناه استسلاما لغواية غموضه ووعوده، قد يكون خدعة لا تخدم فهم عمق العلاقات البشرية، إذ قد نلتقط مما يصلنا الجانب السهل الظاهر من التشكيل، وبالذات من النظرة.
هيا نقرأ كيف تشكل الاحتجاج والنقد “فى المتن” لهذا الاحتمال:
جرى إيه؟
الواحد كان حايصدق، وكإن الصورهْ حقيقـَهْ؟
يا أخينا:
مين المسئول عن بعضيـنَا ؟
عن أكل العيشْ؟
عن قتل الغدر؟
عن طفل عايزْ يِتَربَّى وِسْط المْكَنِ، القِرْشْ الدَّوْشَه الدَّمْ؟
عن جوع الناسْ؟
عن بيع الشرف الأَمل اْلبُكْرَه: امبارحْ؟
وأبصّ لْهَــا تانى واقول:
بالذمه بتضحكى على إيهْ؟
دى البسمةْ الحلوةْ الرايقةْ المليانـَهْ حنانْ، وخلاصْ!
يمكن تبقى مصيبه الأيام دِى!
حا تخلِّى الواحد يتهيأ لـُه إٍن الدنيا بخير، وينْامْ،
يحلم بالجنهْ…،
وِخلاصْ!
فى العلاج النفسى، وخاصة العلاج الجمعى، نتواصل مع بعضنا بالألفاظ بداهة، إلا أن ثم تواصلا آخر يجرى طول الوقت من خلال قنوات أخرى، لا نعرف أغلبها، ولا نعرف أنها نجحت أم فشلت إلا من خلال نتائجها كما ذكرنا مرارا من قبل.
هذا المستوى الذى ظهر لى هكذا فى هذه اللوحة يعلن بوضوح أن التواصل البشرى لا يتم، وبالتالى يصعب أن يكون بناء وحقيقيا وخليقا بما هو إنسان، إلا على مستويات متعددة، ومنها، أو لعله أهمها هذا المستوى الغامض الواعد هكذا. علينا إذن أن نحترم الألفاظ التى نتبادلها فى العلاج وغير العلاج، لكن علينا أيضا ألا نتوقف عندها، ولا نقدس مضمونها الشائع فى نفس الوقت، خذ مثلا الألفاظ التى تعبر عن الحب على ناحية، وتلك التى تعبر عن الحقد (مثلا) الناحية الأخرى، إن قبول التناقض، وتحمل الغموض Tolerance of ambiguity هو أساس حركية الإبداع سواء على مسيرة النمو، أو على مستوى الإنشاء التشكيلى، أو على مستوى النقد، فى أطروحتى عن العلوم النفسية والنقد الأدبى، والتى ظهرت أيضا فى كتابى “تبادل الأقنعة”([4])، أخذت على عباس العقاد الذى يعد ناقدا رائدا، عجزه عن استيعاب تناقض العواطف خاصة فى نقده الرائع لابن الرومى، ذلك التناقض الذى تتشكل منه المسيرة الولافية التى لا يمكن استيعابها إلا باحتمال رؤية – وممارسة – ومواجهة الضدين للتفاعل الخلاق والتوليد التصاعدى، لكن يبدو أن العقاد لا يحتمل ذلك أصلا، فاهتمام (العقاد) المفرط بتأكيد نمط محدد للشخصية إنما يشير إلى موقفه الساكن، ومن ثم تسكينه لما يرى، وبالتالى: الميل إلى الاستقطاب أو الاختزال. العقاد يميل غالبا إلى افتراض رجحان أحد الضدين، وهو يلتمس التأويلات لظهور الضد المقابل، على سبيل المثال نراه يفسر شهادة ابن الرومى على نفسه بالحقد بأنه ادعاء للحقد وليس حقدا، أو بأنه لتخويف الناس من قدرته على الحقد، أو بأنه كان يتعاطى صناعة البرهان فأحب أن يمتحن قوته فى المنطق والفلسفة ويستشهد على ذلك – ضمن شواهد أخرى – بأن ابن الرومى قد ذم الحقد كما مدحه. وكل هذه الاستنتاجات والدفاعات تشير إلى أحادية زاوية الرؤية نتيجة للعجز عن استيعاب الحركة الجدلية، وعن عدم تحمل مواكبة “قفزات النمو الكيفية”. وقد يرجع ذلك إلى شخصية العقاد الصارمة – برغم موسوعيته – كما قد يرجع إلى منهجه الفكرى الذى يميل فى أحيان كثيرة إلى الإفراط فى “الالتقاط – فالتعميم”.
ولكن من أين لابن الرومى أن يقول:
وما الحقد إلا توأم الشكر فى الفتى …. وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
(ابن الرومى) قد أبلغنا رؤية متداخلة لا فكاك من الاعتراف بأنها إنما تعلن لحظة حدس عميق، اكتشف فيها الشاعر المبدع كيف ينتسب الحقد إلى الشكر والعكس بالعكس. وهذا الانتساب لا يقتصر على وحدة الأصل بل على ولاف المسار. (وقد) ذهب العقاد ينفى بالحجة تلو الحجة حقد ابن الرومى أصلا، ويذهب إلى أن اعترافه به أدل على عدم وجوده. والناقد هنا تجاوز حدْس الشاعر وسطـّح إبداعه [5] …الخ
هذه اللوحة، على هذا المستوى من الشعور تعلن بوضوح أهمية استيعاب الكائن البشرى لمستويات من التواصل، ليس لها اسم من ناحية، كما أنها كثيرا ما تكون مزيجا مما لا نقبله عادة إلا استقطابا.
يختتم المتن تشكيل هذه اللوحة بالتحذير من الاستسلام إلى تأثير ظاهر السهولة التى تصلنا من عيون الجيوكانده، وذلك بتعرية مبالغ فيها لما وراء هذه الابتسامة الواعدة.
وعشان أبـْعدِ تأثيرها:
قهقهت كما بْـتُـوع الحـتِّــهْ،
فى المُــولـِدْ.
بصِّيتْ لـلصـُّورَهْ،
طَلَّعتِ لـْسـَانـِى:
تكشيرهْ امّال،!. . كـدَهـُهْ!
تبويزه امّال،!. . كـدَهـُه!”
وتغيظنى ولا تـبـوزش.
وأنا أعمل عقلى بعـقلـيـها من كـتر الغـيظ،
“بـلا نيلة بتضحكى على إيه؟”
نلاحظ فى هذا التشكيل المتعدد الطبقات أن الانتقال من مستوى إلى آخر، يتم بعد تعرية المستوى الذى بدا وكأنه غاية المراد، كما نلاحظ أن التعرية تبلغ عادة من القسوة ما يكاد ينسينا دور هذا المستوى من الوعى فى تشكيل العلاقات البشرية، وهذا خطأ بحت، فليس معنى أننا نعرى مستوى فنكشف حدود دوره دون أن نرفضه، أن ننكر موقعه ودوره، كل المطلوب هو ألا نتوقف عنده أو نخدع بظاهره، إن تعريته ليست سوى تنبيه لما بعد ذلك، لنقبل التعدد لنؤلف بين المستويات أبدا على طريق النمو.
وهكذا يلوح لنا من جديد فى نهاية هذا السرداب أيضا، وقد كنا نحسبه نهاية المطاف، باب جديد، يغرى بتواصل حركتنا إلى مستوى وعىٍ أعمق هكذا:
وأحاول اشوّه ضحكتها، وأغطيها،
يا خرابى !!
الصوره دى رخره بتتحرك،
وبيفتح باب
وراء: الباب الرابع: صورة دوريان جراى
تذكرة : لابد ونحن نقترب من فتح آخر باب أن نتذكر أننا نصف صعوبة تكثيف وجود أحد أفراد المجموعة، وفى نفس الوقت نقرأ احتمال تداخل طبقات تاريخ البشرية معاً
هانحن نواصل فتح آخر الأبواب، الذى فتح لنا حين حاولنا – ساخرين – أن ندفع بخدىّ “الموناليزا” إلى أعلى حتى نمحو ابتسامتها الغاوية الغامضة الواعدة، وإذا باللوحة تتحرك، ونكتشف أنها هى هى الباب الأخير، الذى يظهر من ورائه سرداب يؤدى إلى هذه الصورة هكذا:
والساحر قاعد متّـاخِـر،
والآخِـرْ، ما بايلنـْلوش آخِـر.
وعيونه بتوعدْ،
من غير وعد.
يا ترى حانـلاقى قلب نضيفْ وصغيـّر وبرىء ،
كما قلب العصفور فى الجنة؟
ولا حانـلاقى نقايـة مـشمـش، مافيهاش ريحـة الـروح.
واذا حـتـى اتكسرتْ، مرارِتْهَـا صـعْـبْ؟
ويأتى الجواب بظهور ما وراء هذا الباب الأخير وهو تشكيل يعلن التحذير من المراوغة وإخفاء البشاعة وراء وجه أملس، بالغ البراءة، أو حتى هو يورى كأنه الجمال الخادع، كل هذا تجسد لى فى أسطورة “دوريان جراى”.
(5)
الشاب وسيم وحليوه، واقف مـنـطور،
والوش بريء ربـانـي، مافيهوش ريحة التعبير،
لكنْ باينْ، وكإنه جميلْ،
واسمه “دوريان”
هوا انتِ؟ إلصوره اياها؟
ودا صاحبك إللى اتمنى ف يوم يخدعنا
ما تبانـشـى عليه بصمات السن،
ولا خـتم الشـر، ولا صـوت لـضمـير.
وان كان لازم تتسجل كل عمايـلـه:
راح عامل صورة يبان فيها التغيير.
وكأنها صـورة الحــق الجـوانـى الـبـِــشِع العـريـان”.
قصة صورة “دوريان جراي” لأوسكار وايلد” أشهر من أن تحكى، فكرت أن أكتب موجزا لها، إلا أنى اكتفيت بما ورد فى المتن هنا، أما ورود هذه الصورة على هذا العمق الرابع فى هذا التشكيل، فكان تعبيرا عن أن هذه البراءة والهدوء والتلميح بالخلود فى المستوى السابق (موناليزا)، لا يدل على عجز فقط عن مواجهة الواقع، بل إنه قد يخفى وراءه نقيضه تماما.
هذه القضية تواجهنى بشكل مؤلم يحذرنى كثيرا من تصديق ظاهر رقة الناس وبراءتهم فى مجتمع قاهر قاس كما هو حالنا الآن، وقد تكرر إعلان شكى فى أكثر من نقطة وصورة فى هذا العمل.([6])
الحذر من هذه الصورة البريئة والبسمة الفطرية الساحرة، هو حذر الانخداع بها وهى تخفى وراءها الوجه الآخر لبشاعة الوجود إذا استسلمنا لها ولم نعتبرها مجرد بداية لرحلة النمو والجدل، فى مواجهة بشاعة تشويه التركيب البشرى حين تنفصل طبقاته عن بعضها، فتصبح عرضة لنهش أى ظالم مفترس.
بعد كل هذه الرحلة الطويلة والافتراضات المتلاحقة، تركنى صاحب هذه العيون فى حيرة من أمره، لا أدرك ماذا يقبع فى سراديب أغواره فى نهاية النهاية، بصراحة، عزوتُ هذا الغموض بسبب تكثيف كل هذه الطبقات هكذا، إلى أنه قد أسقط كل ضعفه وشره وقسوته ونوازعه على شريكه هذا وهو (هى) أقرب الناس إليه، وبذلك بدا هو رائقا رقيقا ملغزا، فى حين بدا هذا القريب الحميم مشوها عاجزا، وهذا أشبه بما يعرف فى الطب النفسى بالجنون المُقحم Folie imposé الذى قابلته متواترا فى خبرتى فى ثقافتنا بالذات حين رحت أشاهده فى بعض حالات الإدمان التى أسميتها “الإدمان بالنيابة”، حين يدمن الابن نيابة عن والده، أو بعض حالات الانفلات الجنسى بالنيابة حين تنحرف البنت “نيابة” عن أمها… إلخ.
إنما دى الصورة هنا مايعه ؟.
ما يكونشى جواها البـِشــعه؟
أقلـبـها:
يظهر لى الباب الأخراني.
دا مفيش ورا آخر باب، ولا أوده ولا بواب!!
(6)
والاقيلك بحر التيه، من تحت البحر الميت،
والطفلة الغلبانة بتبكى، ولا حد شايـفــها.
والميه مية نار، والجلد صدف ومحار،
لا هى قادره تصرّخ، ولا راضية تموت.
يا ترى يا جماعه الطفله دهه “صورة، صورة” دوريان؟
ولا انا غلطان ؟
أنا نفسى أطلع غلطان،
أحسن ما أشوف:
طفل بيتشوهْ،
من كتر الخوفْ،
وسط العميانْ.
خاتمة:
اكتشفتُ مصادفةً أثناء بحثى فى حاسوبى أننى قمت بتحديث نهاية هذه القصيدة بإضافة ستة أسطر، وقد أرجعت سبب هذه الإضافة إلى أننى فزعت من نهاية هذه اللوحة (التى تمثلت فى العثور على طفل فى آخر سرداب وهو يبكى إذْ يتقلب فى “ماء النار”، وقد تجمد جلده (صدف ومحار) وهو لا يستطيع أن يصرخ، ولا حتى أن يموت، ومن هول هذه النهاية رجّحت أن تكون رؤيتى هذه هى مبالغة شديدة، نتيجة الخوف من أن يكون هذا هو حقيقة داخل داخلنا إذا مضى الأمر هكذا، وقد تمنيت أن أكتشف خطئى: “أنا نفسى أطلع غلطان” حتى لا أرى كل هذه التشوية الذى يمكن أن يلحق بفطرتنا لأننا لا نراها أصلا، من فرط رعبنا أن نرى الحقيقة (طفل بيتشوه، من كثر الخوف وسط العميان).
هل يا ترى نجحت هذه الفقرة المضافة أن تخفف من هذه الرؤية المتألمة المرتعبة؟ هل يمكن أن ينجح هذا الاستدراك فى أن يفتح باب الأمل، إذا نحن غامرنا بالتعرف على بعضنا البعض بما هو نحن “خلقة ربنا”، وبالتالى استطعنا أن نحمل أمانة “أن نكون معاً”، بأقل قدر من إلغاء أحدنا للآخر، وبأكبر من قدر من التحمل للاستمرار، وبالتالى نستحق أن نكون بشرا بحق إذ نتعرف على حقيقتنا الجميلة؟؟
ما تيالاّ نقايس نستحملْ، نفضل مع بعض،
دا الموت الوغد بيتسحب من تحت الأرض،
إنما فيه بذرة منسيّهْ،
مِسْتنية،
نرويها نشوفها انها هيه،
تكبر، تمتد!
بهذه السلاسة، تصورت أن المسألة، برغم كل السراديب الخادعة والنهاية المرعبة، لا تحتاج منا إلا أن نتذكر ما نسيناه، وما أنسانا إياه إلا الرعب والجشع الشيطانى أن نذكره، يبدو فعلا، كما يقول المتن فى هذه المقدمة أن كل ما علينا هو أن نُقِرّ بوجود هذه الطبيعة الجميلة الحيوية كأصل للوجود البشرى، وأنها قابلة للنمو والترعرع بمجرد أن نعترف بها ونطلقها على سجيتها معاً .
“بذرة منسيّهْ، مِسْتنية،
نرويها نشوفها انها هيه، تكبر، تمتد”
لقد أردت من مجمل هذا التشكيل هنا أن أوضح مدى الصعوبة فى إدراك طبقات النفس حين تغطى إحداها الأخرى وكيف أن علينا ألا نتوقف عند مستوى تحتىّ وكأنه نهاية المطاف مهما بدا مفاجأة، فربما وراءه ما هو أكثر غورا وأهم دلالة.
الفقرة الأخيرة فى المتن كانت من البشاعة والإرعاب ما جعلنى أخففها بهذه الإضافة المزيدة، والتى كررتها فى نهاية القصيدة لعل وعسى!
ثم إلى المتن متكاملاً بعد إضافتة الخاتمة المزيدة:
(1)
وعيون عمّالة بتوعدْ من غير وعْـد.
بِتْشاوِرْ: على باب مكتوب فوق منه:
“سرداب السعد”،
بوابة تصب فْ بوابةْ،
والجـِـنـِّى بينفُخْ فى الغابةْ،
والبَنُّورةْ قْـدَّام الساحرْ،
والآخِـرْ: ما بايِـنْـلُوشْ آخِـرْ.
يا ترى حانـْلاقى قلب نضيفْ وصْـغّيـر وبرئ،
كما قلب العصفور فى الجنّة،
ولاّ حانـْلاقىِ نَقَايـَةْ مـِشْمـِشْ: جامدة وناشفة، وخايفة؟
واذا حـَتّـى اتكسرتْ، مرارِتْهـَا صـَعْـبْ؟
(2)
ولقيت فى الأول صورة البومة
بتبصْ، تبحـْلق:
وتقول جرَى إٍيهْ؟
بتبصـُّولـِى ليهْ؟
أنا مالِى؟
حوَالىّ خرابْ؟
دا خرابـْكُمْ إٍنتمْ.
دانا كترَّ خيرى.
عمالهْ بازَعّق وأقولْ:
”فيه لسَّهْ حياة، حتى فى خرابهْ”.
تكونوش عايزينْهَا: تِخْرَب فى السرْ؟
“خليها تعدّى”، “خلّيها تمرّ”!
ولا حد ينبّه، ولا حد يزنّ
والإسم حياة، والفعل ” كإن”
وبدال ما نغيّر، نحكى ونْـفِـنّ؟
وِأقَرَّبْ أكتر مالصَّورهْ،
وأبص فْ عين البومه.
واستغرَبْ!
دى عيونها إزاز.
عاملين كده ليه؟
حسِّس، جرَّب، يمكنْ،
وألاقى العين مش عين،
دِى زْرَارْ،
وأجرّب أزُقّ: تتحرك كُـلِّ الصوره،
والباب التانى يْبان.
(3)
ودى صورة مين؟
عمره كام دهر؟
الشيخ قاعدْ وِشُّهْ منوّرْ،
مركون على عصا بيفكر.
وعنيه بتشع الحكمةْ.
“فاكرين القصة ؟؟[7]
مين أنقذ طفل الأم
من جشع الست التانية !!؟
سيدنا سليْمان.
” مين كلـــِّـمْ نملهْ، وهزّ الملكهْ” ؟
– سيدنا سُليْمَانْ
يبقى البومة كان عندها حق
طب فين الكدب وفين الصدق؟
وفين الضرب وفين الحب
وفين العفو وفين الذنب
إزاى نسمح لعيالنا:
بالشق، الضم، النبض، الود،
اللعب، الجرى، العَـــدّ:
على عزف الناى
حانربى عيالنا ازاى؟
وعيالْ لـِــيّامْ دِى غـَلاَبـَهْ،
لا فى عَـصـَا تـرِحَـمْـهُمْ ولا حـِكْمَة،
مـِن مـَسَّ الجـَانْ
والجانْ أيَّامْنَا، لابسين جلد الإنسانْ.
ولا عادْ بـِيْهم الواحدْ منهم سورة “الكرسى”،
ولا سورة “الناسْ”.
والحكمةْ مـَا مَـاتـِتْ مـِنْ مُدَّهْ.
ما فاضلشى إلا الحكمة الموضهْ،
تِلقَاهَا مَلْفُوفهْ،
حوالين حِتَّةْ شكولاتهْ، جوّا الصالونات.
– إٍلحقنا يا عمّى الشيخ شُفْـنَا.
– “أَلحقكو ازاىْ؟
إنت اهبلْ؟ ولاّ بْـتـِسـتهِبلْ؟
دَانـَا صورهْ”
دا انا ميت.
وأَبُص كويسْ جوا عنين الصورة
وألاقى النملة بتزحف فى بياضها
والنمل اصحابه من مدة
إنما كات عينه يا خوانّا مليانة أَلـَمْ،
مش قادر يستحمل ألمه، وبيبكى بدال الدمع الدم
– إعمل معروف شيل النملة دى بتقرصنى،
وعَصاتى السوسْ بهدلها،
حانْكِفىِ عـَلـَى وِشِّى تَوْ مَا تبقى دِقـِيقْ،
والجانْ الإنسان الجِنّ،
حايقيم أفراحه مش حايِوْنّ
فى الخمارة: وفْ الحارة السّدْ
فى الدايرة المقفولة الضّلْمهْ، ما فيهاش حدْ
“دقِّـى يا مزيكا،
شمِّمنا يا ويكا”.
إعمل معروف شيل النملة
وِأَحاول اشيِلها،
أًتاريها التانية زرار،
والباب المسحوْر بـِيْــزَيـَّقْ.
(4)
هوّا انْـتِى!!!
بالبسمة الهاديهْ الناديةْ،
بالعين اللى بْتجرِى وراكْ بِحنانْهاَ،
وْبتـنِـْدهـَلـَكْ ماطْرحْ ماتْـرُوحْ.
هوّا انتِ؟ موناليزا الطاهرة الفاجرة؟
الواحد عايز إِيه غير بسمة حُبْ، وِحنَانْ،
والصدق الدافىِ وْكُلَّ الطيبَهْ يـْـلِـفــُّـونى،
وكإن الشر عمرُه ما كان.
وكإن الدنيا أمان فى أمانْ،
وكإِن البسمهْ الصادقة تْدَوِّبْ أيها حقد، وأيـُّـهَا خوف.
جرى إيه؟
الواحد كان حايصدق، وكإن الصورهْ حقيقـَهْ؟
يا أخينا:
مين المسئول عن بعضيـنَا ؟
عن أكل العيشْ؟
عن قتل الغدر؟
عن طفل عايزْ يِتَربَّى وِسْط المْكَنِ، القِرْشْ الدَّوْشَه الدَّمْ؟
عن جوع الناسْ؟
عن بيع الشرف الأَمل اْلبُكْرَه: امبارحْ؟
وأبصّ لْهَــا تانى واقول:
بالذمه بتضحكى على إيهْ؟
دى البسمةْ الحلوةْ الرايقةْ المليانـَهْ حنانْ، وخلاصْ!
يمكن تبقى مصيبه الأيام دِى!
حا تخلِّى الواحد يتهيأ لـُه إٍن الدنيا بخير، وينْامْ،
يحلم بالجنهْ…،
وِخلاصْ!
وعشان أبـْعدِ تأثيرها:
قهقهت كما بْـتُـوع الحـتِّــهْ،
فى المُــولـِدْ.
بصِّيتْ لـلصـُّورَهْ،
طَلَّعتِ لـْسـَانـِى:
تكشيرهْ امّال،!. . كـدَهـُهْ!
تبويزه امّال،!. . كـدَهـُه!”
وتغيظنى ولا تـبـوزش.
وأنا أعمل عقلى بعـقلـيـها من كـتر الغـيظ،
“بـلا نيلة بتضحكى على إيه؟”
وأحاول اشوّه ضحكتها، وأغطيها،
يا خرابى !!
الصوره دى رخره بتتحرك،
وبيفتح باب:
والساحر قاعد متّـاخِـر،
والآخِـرْ، ما بايلنـْلوش آخِـر.
وعيونه بتوعدْ،
من غير وعد.
يا ترى حانـلاقى قلب نضيفْ وصغيـّر وبرىء ،
كما قلب العصفور فى الجنة؟
ولا حانـلاقى نقايـة مـشمـش، مافيهاش ريحـة الـروح.
واذا حـتـى اتكسرتْ، مرارِتْهَـا صـعْـبْ؟
(5)
الشاب وسيم وحليوه، واقف مـنـطور،
والوش بريء ربـانـي، مافيهوش ريحة التعبير،
لكنْ باينْ، وكإنه جميلْ،
واسمه “دوريان”
هوا انتِ؟ إلصوره اياها؟
ودا صاحبك إللى اتمنى ف يوم يخدعنا
ما تبانـشـى عليه بصمات السن،
ولا خـتم الشـر، ولا صـوت لـضمـير.
وان كان لازم تتسجل كل عمايـلـه:
راح عامل صورة يبان فيها التغيير.
وكأنها صـورة الحــق الجـوانـى الـبـِــشِع العـريـان”.
إنما دى الصورة هنا مايعه ؟.
ما يكونشى جواها البـِشــعه؟
أقلـبـها:
يظهر لى الباب الأخراني.
دا مفيش ورا آخر باب، ولا أوده ولا بواب!!
(6)
والاقيلك بحر التيه، من تحت البحر الميت،
والطفلة الغلبانة بتبكى، ولا حد شايـفــها.
والميه مية نار، والجلد صدف ومحار،
لا هى قادره تصرّخ، ولا راضية تموت.
يا ترى يا جماعه الطفله دهه “صورة، صورة” دوريان؟
ولا انا غلطان ؟
أنا نفسى أطلع غلطان،
أحسن ما أشوف:
طفل بيتشوهْ،
من كتر الخوفْ،
وسط العميانْ.
ما تيالاّ نقايس نستحملْ، نفضل مع بعض،
دا الموت الوغد بيتسحب من تحت الأرض،
إنما فيه بذرة منسيّهْ،
مِسْتنية،
نرويها نشوفها انها هيه،
تكبر، تمتد!
……………….
……………….
ونواصل السبت القادم لقراءة اللوحة الثالثة عشرة: “الزير”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (3) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى عيون الناس” (خمس عشرة لوحة)، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – موناليزا بالإيطالية Mona Lisa أو الجيوكاندا بالفرنسية La Joconde: هي لوحة رسمها الإيطالي ليوناردو دا فينشي. يعتبرها النقاد والفنانون واحدة من أفضل الأعمال على مر تاريخ الرسم.إختلف النقاد والمحللين بتفسير تلك البسمة، وتراوحت الآراء بسر البسمة بدرجات مختلفة ابتدأ من ابتسامة أم دافينشي وانتهاء بعقدة جنسية مكبوته لديه”. (موسوعة ويكيبيديا 2010)
[3] – اللوحة العاشرة، “الترعة سابت فى الغيطان” ص 169
[4] – يحيى الرخاوى (“تبادل الأقنعة”.. دراسة فى سيكولوجية النقد) الهيئة العامة لقصور الثقافة،2006
[5] -اضفت الجملة الأخيرة “تجاوز حدس… الخ” للأصل كما ورد فى النشر السابق.
[6] – انظر أيضا : اللوحة الرابعة: “البركة” ص: 71 ، واللوحة العاشرة: (“الترعة سابت فى الغيطان“) ص : 169 .
[7] – هذه الفقرة والفقرتين التاليين أضيفتا إلى المتن السابق، نشره فى الديوان.