الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / فقه العلاقات البشرية (4) (عبر ديوان “أغوار النفس”) قراءة فى نقد النص البشرى للمعالج

فقه العلاقات البشرية (4) (عبر ديوان “أغوار النفس”) قراءة فى نقد النص البشرى للمعالج

فقه العلاقات البشرية (4)

(عبر ديوان “أغوار النفس”)

 

 

قراءة فى نقد النص البشرى

 للمُعـَالِج

 

 

أ.د. يحيى الرخاوى

 

2018

 

سلسلة كتب “فقه العلاقات البشرية”

(تداعيات  ديوان “أغوار النفس”)

الكتاب الأول:

العلاج النفسى (مقدمة)

بين الشائع والإعلام والعلم والناس

 

الكتاب الثانى:

هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟

(سبع لوحات)

 

الكتاب الثالث:

قراءة فى عيون الناس

(خمس عشرة لوحة)

 

وهذا هو:

الكتاب الرابع:

قراءة فى نقد النص البشرى

 للمُعـَالِج

 

الأهـداء

إلى روح الصديق الراحل

أ.د. محمد شعلان

 

مقدمة:

فى هذه المرحلة، وأنا أقوم بتجميع ما أمكن مما سطرت هنا وهناك شاكراً ربى، حامداً التكنولوجيا الحاسوبية التى استطاعت أن تحتفظ لى  بالكثير مما خطر لى، ورأيته، وعرفته، وافترضته، أكتشفُ باضطراد جرعة معايشتى  لما هو نص “يحيى الرخاوى”. لا أرفض هذا الاكتشاف ولا أخجل منه، ورويدا رويدا بدأت أدرك أن هذا هو منهجى مهما كان الوصف والتصنيف .

حين خطر لي أن العلاج التكاملى، وخاصة العلاج النفسى، وبالذات العلاج الجمعى، أن كل ذلك ليس إلا “نقدٌ للنص البشرى” رحت أؤكد أن هذا لا يعنى إعادة تشكيل النص (نص المريض) دون احتمال (بل ضرورة) إعادة تشكيل نص المعالج.

النقد هو إبداع ثان، ويبدأ بقراءة النص ، ثم احتوائه، ثم إعادة تشكيله بما يضيف إلى إبداعيته وليس فقط بما يُحـِسْن وصفه ، وبغير ذلك لا يكون النقد نقدا، ثم إننى نبهت مرارا أن مجرد الاكتفاء بتصوّر إعادة تشكيل النص البشرى للمريض، دون النص البشرى للمعالج، هو نوع من تجاوز حدود الإبداع الحقيقى على مسار الطرفين، كما أنه استهانة بالمريض وكأنه مادة أو موضوع للتشكيل دون مشاركة متبادلة، إن من حق المريض أن يقرأ نص المعالج تماما كما يقرأ المعالج نصه، ولا ينجح النقد بناء غائيا إبداعيا إلا أذا سرى على الجانبين تلقائيا.

أثناء إعدادى لمواصلة استلهام ما بقى من قصائد فى هذا الأصل “ديوان أغوار النفس”، اكتشفت أن أغلب ما تبقى هو جرعة كبيرة من السيرة الذاتية متفاعلة مع المسار المهنى طول الوقت تقريبا، فعرفت أنها أقرب إلى قراءة نص المعالج بغير قصد مباشر، خاصة وأنه ظهر فى شكل إبداعى لم يخطر ببالى مسبقا، فكان أقرب إلى الكشف والتعرى حالة كونهما فى جدل طول الوقت مع الممارسة العملية واحتمال مسار النمو.

هذا، وقد سبق أن  بينت موقفى الحذر مما يسمى السيرة الذاتية، ليس باعتبار أنها بعيدة بالضرورة عن الموضوعية، وإنما احتراما للتركيب البشرى الأعجز عن الإلمام بعمق طبقات وجوده، وهمس ثوانى تقلــّبه ، وبالذات احتراما لقصور ما يسمى “الذاكرة” التى أعيد النظر فيها وفى طبيعتها، وفى قدرتها، وفى موقعها من الوجود عامة والوجود البشرى خاصة.

لقد فوجئت وأنا أتابع نفسى متنقلا بين كل النشاطات التى سجلها قلمى أحيانا بالرغم منى([1]) فوجئت بغلبة ما يمكن أن يسمى ،أو يشير إلى ما هو سيرة ذاتية بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا أريد أن أشغل القارىء بعرض بعض ذلك، فاكتفى فى هذه المقدمة بأن أبرر فصلى بعض قصائدى، فى ديوانى: (بالعامية) “أغوار النفس” عن بقية  قراءة العيون البشرية التى قرأتها بالتتالى فى الجزء الثالث من سلسلة “فقه العلاقات البشرية” على الوجه التالي:

حين وصلت إلى قصيدة “المعلم” وأنا أعرف أنها كانت  محاولة قراءة مباشرة فى مستويات وعيى شخصيا عبر عيونى، رحت أقرأ هذا النص وكأنه ليس أنا، فوجدت أننى أتعرّف علىّ أكثر فأكثر بالرغم منى، ووجدت أن هذه القصيدة،  بالإضافة إلى قصيدتـَىْ “جمل المحامل”،و “الخلاص”، مرتبطة أشد الارتباط بنوع ممارستى مهنتى الذى أفرز كل هذه الأعمال، وبالذات هذا العمل تحديدا.

طبعا لن أعرج بأى تفصيل إلى ما تم نشره فى أعمال أخرى مثل أدب الرحلات الذى ظهر فى ثلاثة أجزاء، وتم فيه تجوال متعدد المستويات فى وعى الداخل كما فى رحلات الخارج وخاصة: الترحال الثالث بعنوان: “ذكر ما لا ينقال”([2])

الفصل الأول

اللوحة السادسة  عشر:

(من ديوان: “أغوار النفس”)

     قراءة فى عيون:

المِعــلـِّم

 Untitled-1 copy

(1)‏

طـَبْ‏ ‏والمعلمْ….‏‏؟

له‏ ‏عيونْ‏ ‏كما‏ ‏العيونْ‏‏؟

بتقول‏ ‏كلام‏ ‏هوَّا‏ ‏الكلامْ‏؟

ولاَّ‏ ‏كلامْ‏ ‏غير‏ ‏الكلامْ‏؟‏ ‏

‏ ‏أذكـِّر‏ ‏القاريء‏ ‏هنا‏ ‏ببعض‏ ‏ما هدفت‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏مما‏ ‏ذكرته‏ ‏فى ‏المقدمة لهذه المجموعة‏ ‏حيث‏ ‏قلت: ‏ ‏إنها‏ – أيضا ‏– تجربة‏ ‏شخصية‏ ‏عنيفة‏، ‏علمتنى ‏فى ‏مهنتى ‏وعن‏ ‏نفسى ‏ما‏ ‏صار‏ ‏هاديا‏ ‏لى، ومحذِّرا أيضا، ومحيِّرا أحيانا كثيرة.

فى العلاج الجمعى، يسرى على المعالج الأساسى ما يسرى على أى مريض، ويعامل على نفس المستوى، فمثلا: إذا طـُـرحت لعبة من ألعاب العلاج النفسى، وطـَـلـَـب المعالج من مريض أو أكثر أن يلعبها، فإن من حق نفس المريض أو أى مريض آخر أن يطلب من المعالج أن يلعبها هو أيضا، وقد اعتدت أن ألعب آخر واحد فى المجموعة، حتى لا تؤثر استجاباتى على بعض المرضى إذ قد يتصورون أن هذا الذى قمت به أنا هو المطلوب. المعالج المبتدئ تحت التمرين، يُعفى من معاملة المثل حتى لا يخطو فى رؤيته لنفسه، أو حركة نموه، أكثر مما يستطيع، ويظل هذا الإعفاء ممتدا حتى يطمئن هذا المتدرب أنه آن الأوان أن يسمح بمعاملته بنفس القواعد التى تسرى على المدرّب، فيعلن أنه تنازل عن حق الإعفاء، ويسمى ذلك أنه “أضاء النور الأخضر”، فيخطو خطوة هامة في التدريب بمغامرة الكشف، وذلك مقارنة بحقه قبل ذلك فى إضاءة “النور الأحمر” للاعتذار عن المشاركة.

على نفس القياس، أجلت القراءة فى عيونى شخصيا حتى نهاية محاولة التعرف على تشكيلات الوعى البشرى من خلال عيون الآخرين، وهو ما تضمنَّه الكتاب الثالث بوجه خاص  “قراءة فى عيون الناس”([3])

لاخيار ‏للطبيب‏ ‏النفسى ‏وهو يعود إلى ‏نفسه‏ تلقائيا و‏ كثيرا، وتكرارا، سواء بالمواجدة empathy أو التقمص Identification سواء من خلال المشاركة فى الوعى البينشخصى، أو الجمعى، أو غير ذلك كل ذلك بالخبرة، وليس بالاستبطان المعلقنِ([4]) وهو يراجع تلقائيا كل ما وصل إليه، بعد أن يصل إليه، هذا الاضطرار لا يقسم الشخص إلى ملاحـِظ وملاحَظْ فتتعطل حركية الوعى وتلقائية التفاعل، وإنما هو جدل نشط تلقائيا يحدث بين مستويات الوعى المتبادلة فى كل الأحياء، حتى الانسان بداهة، إن هذه المشاركة على كل المستويات هى مصدر المعالج الأساسى فيما يتلقاه من مريضه، وهو منفتح لكل ما يأتيه ظاهرا وباطنا كمدخل لاحترام مريضه، ومن ثـَـمَّ نفسه، والاحترام هو عاطفة أساسية أعتبرها أرقى درجات الحب، كما أشرتُ مرارا، وكما أجلت الحديث عن ذلك بالتفصيل مرارا أيضا.

‏ ‏الشجاعة‏ مطلوبة أكثر كثيرا حين يقارن الطبيب (أو المعالج) نفسه بمريضه، فيصله ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏البشرى الأساسى، ‏ولكن‏ ‏فى ‏ترتيب‏ ‏هذا‏ ‏التركيب‏ ‏وفاعليته ‏ونتائجه‏، مرحلة بمرحلة، ولابد أن يدرب الطبيب نفسه على ممارسة درجة من العدل والصبر، وأن يتعود الألم المشارِك، وغير المشارك، وقد يصل الأمر – إن استطاع – أن يتصور معاملة المثل، على الأقل فيما يتعلق بالتخطيط، والتوجيه، والأمانى، والوجدان، يمتد ذلك إلى أقرب الأقربين، بمعنى أن يرضى على مريضه ما يرضاه على نفسه وعلى أولاده وزوجه، وأن يرجو للمريض ما يرجوه لنفسه ولأولاده، وزوجه، مع كل التقدير والانتباه للفروق الواقعية، يواصل ذلك وهو يدرك باستمرار وتجدد: ‏أن‏ ‏الاختلافات‏ – ‏إن‏ ‏وجدت، وهى موجودة حتماً ‏– ‏هى ‏فروق تنظيمية‏ ‏خارجية‏ وواقعية، ‏أما‏ ‏موقفه‏ ‏المعرفى ‏ومسئوليته‏ ‏العلاجية فهما متضـَمنان فى العلاج=الممارسة النقدية (نقد النص البشرى).

تـَدَرُّجُ وعى الطبيب فى عملية نمو مضطرد أمرٌ وارد، بل حتمى، مع طول ممارسته، وهو الدليل على تواصل تطوره، وشحذ خبرته، ولكن الشك فى مصداقية البصيرة، مهما احتدّت، واجب عليه طول الوقت، ومن ثم فالمراجعة والنقد الذاتى ومن الآخرين بما فيهم المرضى (مستويات الاشراف) هى الضمان الأول فى استمرار التبصر ونمو الوعى. طريق النمو ليس له نهاية، وكل ذلك مفروض أن يصب فى صالح مرضاه، خاصة من خلال ما أسميناه “إِشراف المريض” و”إشراف النتائج” و”الإشراف الذاتى”، مع سائر صنوف الاشراف الأخرى. ([5])

فى ‏هذه‏ ‏اللوحة (القصيدة) من قراءة العيون‏ ‏أصف‏ – ‏فى ‏محاولة‏ ‏صدق‏ –  ‏حيرتى ‏مع‏ ‏نفسى: ‏ بما أِملْتُ، وآمل، به أن يدعم مسيرتي: ماذا‏ ‏أنا‏؟ ‏ومن‏ ‏أنا‏؟ ‏وهى ‏بعض‏ ‏سطور‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏أوراق ما سمح به الوعى أن يـُسطر، ‏أما‏ ‏بقية‏ ‏الأوراق‏ ‏فقد‏ ‏أوهب‏ ‏الشجاعة‏ ‏لنشرها‏ ‏يوما‏ – ‏أو‏ ‏أموت‏ ‏بها‏ ‏آسـِفـًا‏ – وكما أشرت فى المقدمة فقد سبق أن نشرت بعض ذلك لاحقا فى عمل أدبى جمع بين أدب الرحلات والسيرة الذاتية وهو ترحالاتى الثلاثة([6])، وأيضا سجلته فى بعض شعرى الذى لم ينشر أغلبه‏ وإن كان جارى نشره بعد هذه اللملمة فى أضفتها إلى النص الأصلى هذا العمل الحالى الذى يقتصر على الثلاث قصائد المتبقية من ديوانى “أغوار النفس” بالإضافة إلى المقدمة / الخاتمة.

أعتقد أن هذه القصيدة التى تأخرت حتى النهاية تقريبا وهى بعنوان: “المعلم”: هى محاولة متواضعة ‏تواضع‏ ‏العاجز دون ادعاء، وهى ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏دليل إصرارٍ مثابرٍ على ‏مواصلة السعى دون استرخاء إلا ليعاود السعى، أعتقد – أو لعلى آمل – أن تقوم هذه الأوراق بتقديم فرصة ائتناس “عن بعد” لمن يحاول معنا.

يبدأ‏ ‏التشكيل‏ ‏بالتساؤل‏:‏

طـَـبْ والمـِـعـَـلمّ؟

له عيون كما العيون؟

بتقول كلام هوّه الكلام ولا كلام غير الكلام؟

هذا التساؤل وصلنى متكررا من “لسان حال” المجموعة ككل، وأيضا من أغلب أعضائها فـُرادًى، تساؤل يقول:

يا ترى هل‏ ‏كلام هذا “‏المـِعـَلـِّمْ”([7])، ‏يحمل‏ ‏المعنى ‏والفعل‏ ‏والمسئولية‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يحملها‏؟ ‏أم‏ ‏أنه‏ كلام ‏للاستعمال‏ ‏الظاهرى؟ ‏ ‏يصلح‏ ‏للمرضى (والآخرين) ولا يسرى عليه شخصيا ‏ولا‏ ‏يصلح‏ ‏له؟‏

هل هو ‏يبيع‏ ‏النصح‏ ‏والفتاوى ‏والتفسير‏ والتأويل لغيره مرضى وغير مرضى؟ من واقع علمه وتحصيله، أم أنه يغامر فتفتح منه مستويات وعيه فيجرى تواصل متعدد القنوات طول الوقت.

تقمصتُ الصورة التى وصلت إلى بعض (أو كل) الأصدقاء فى هذه الخبرة خوفا، وتـحـُّفزاً، ورفـْضاً، ونقدا، فراح لسان حال أغلبهم يقول (وخاصة في بداية الخبرة):

 (2)‏

شيخ‏ ‏الطريقة‏ ‏قاعدْ‏ ‏لىِ ‏كما‏ ‏قاضى ‏الزمانْ‏.‏

بيقسِّم‏ ‏الأرزاقْ‏ ‏ويمنح‏ ‏صكّ‏ ‏غفران‏ ‏الذنوبْ‏،‏

وكإن‏ ‏مشكلة‏ ‏الوجـودْ‏،‏

‏ ‏ما‏ ‏لهاش‏ ‏وجود‏،‏

‏ ‏إلا‏ ‏حـَـدَاهْ‏. ‏

عامل‏ ‏سبيل‏ ‏إسمه‏ “‏الحياه‏”:‏

‏”‏قال‏ ‏ده‏ ‏يعيش، ‏

ودى ‏تموتْ‏، ‏

ودا‏ ‏مالوش‏ ‏الاّ‏ ‏كِدَه‏”.‏

قاعد‏ ‏يصنَّفْ‏ ‏فى ‏البشر‏ ‏حسب‏ ‏المزاج‏: ‏

‏ “‏لازم‏ ‏تـعــدِّى ‏عالصراط‏”‏

‏ ‏واللى ‏بيشبه‏ ‏حضرتـُهْ‏: ‏يديه‏ ‏قيراط‏:‏‏

 ‏فى ‏جـَنـِّتـُهْ‏، ‏

واللى ‏يخالفَ‏ ‏هوّا‏ ‏حـُـرّ‏.‏

‏ ‏يكتب‏ ‏على ‏قبره‏ ‏ماشاء‏:‏

مـَـيـِّـتْ‏ ‏صحيح، …لكنه‏ ‏حر‏ ‏فْ‏ ‏تـُـرْبـِتـُه‏. ‏

 

‏ ‏وان‏ ‏قلنا‏ ‏ليه‏ ‏ياعمنا‏‏؟

بيقول‏ ‏كما‏ ‏قاضى ‏الزمان‏:‏

ماقـْدِرْشِى ‏يمشى ‏عالصراط‏، ‏ويكون‏ “‏كـمـثـلى‏”.‏

ونقولـُّه‏: ‏مثلك‏ ‏يعنى ‏إيه‏‏؟‏ ‏

يتخضّ‏ ‏ويبان‏ ‏فى ‏عيـنيه‏،‏

ســــؤالات‏ ‏كثير‏:‏

‏ ‏بتقول‏ ‏عـيـنيه‏:‏

فى هذه التجربة الخاصة جدا، كنت غالبا الأكثر خبرة مهنية، وهذا لا يعنى أننى كنت الأنضج أو الأعرف، ومع ذلك بدا لأغلب المشاركين أننى شيخ طريقة خاصة، بمعنى العارف بالمطلوب والطريق، والتوجه، وبالتالى هو الذى يملك أدوات قياس الخطى، وحسن الأداء… إلخ، وكل هذا غير صحيح، إلا أننى لا أنكر أنه كان هو ما وصل إلى أغلب المشاركين خاصة فى البداية، فلعل ما وصلهم هو الصحيح، فإن كان الأمر كذلك، فهذا هو الخطأ الذى يمكن أن يقع فيه أى قائد مجموعة، سواء عيّن نفسه قائدا لها (وهذا نادرا ما يحدث فى مثل هذه الخبرات)، أو فـُرِضَت عليه صورة القائد من خلال رؤية الآخرين له.

وبرغم هذا التحذير المبدئى، فلا مفر من الاعتراف بأن من يمارس الطب النفسى بالعمق الكافى، سوف يجد نفسه “‏يعرف‏ ‏أكثر فأكثر” بشكل مضطرد، ‏رضى ‏أم‏ ‏لم‏ ‏يرضَ‏، ‏ومعرفته‏ ‏هذه عادة لا تتوقف عند حدود مهنته، بل إنها معرفة عادة ما تمتد – مختارا أو مضطرا – إلى تساؤلات كلية، وفروض محتملة، تتعلق‏ ‏بالوجود‏ ‏الإنسانى ‏عامة، وليس بطبيعة المرض والمريض فقط، ‏ ‏فهو‏ ‏يواجه‏ ‏المشكلة‏ الأزلية ‏ ‏وهى “ماهية‏ ‏الإنسان‏”، و”غائية الحياة“، فعمله لا يقف به عند الاكتفاء برؤية ‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏جوانب‏ ‏الانسان‏ ‏مثل‏ ‏فكره‏ ‏أو‏ سلوكه او اسم مرضه أو تقييم معاناته، وإنما هو يضطره بشكل مباشر أو غير مباشر إلى مواجهة تساؤلات موضوعية حول ‏ ‏وجوده‏ هو، ومعنى استمراره هو..، إلى الوجود عامة… إلخ إلخ، هذه الأسئلة قد يلقيها المريض فى وجهه مباشرة من خلال أعراضه أو بصيرته، وقد تتحرك فى الطبيب تلقائيا نتيجة لصدقة مع نفسه وتصديقه أزمة مريضه، هذا أثناء الممارسة، فما‏ ‏بالك‏ ‏إذا‏ ‏مر‏ ‏بتجربة‏ ‏مغامـِـرة عنيفة، مثل التى أنتجت هذا العمل كله([8])، الذى يـُختتم بهذه الرؤية الذاتية الصعبة، التى قد تـَصدق أو لا تـَصدق؟

لا ‏يواجه‏ مثل هذه المشكلة‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏عانى ‏هذا‏ ‏الحدس‏ ‏العلمى ‏الفنى ‏الوجودى ‏العميق‏ ‏حتى اضطر اضطرارا إلى مواجهة مشكلة الوجود ‏البشرى، ليس نظريا ‏فى ‏مطلق‏ ‏غايته‏، ‏ولكن‏ ‏واقعا‏ ‏خلال ‏مسيرة‏ ‏حياته‏ ‏اليومية، ‏وما‏ ‏أبعد‏ ‏القطبين! ‏إنه‏ ‏يحمل‏ ‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏قولا‏ ‏ثقيلا‏، ‏لايستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتخلص‏ ‏منها‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أشرقت‏ ‏فى ‏عقله‏ ‏ووجدانه‏ ‏معا‏، ‏وهو أيضا لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يـُغفلها‏ ‏وينحـِّـيها‏ ‏جانبا‏ ‏لأنه ‏ ‏يراها‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏عدة‏ ‏مرات‏ ‏فى ‏مرضاه‏، ‏وطول‏ ‏الوقت‏ ‏فى ‏نفسه‏، ‏وهو لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏ينظـِّرها‏ ‏فى ‏فكرٍ‏ ‏بحت، لأنه:‏‏

ليس‏ ‏فيلسوفا‏ ‏يبحث‏ ‏وراء‏ ‏ماهية‏ ‏المفاهيم‏ ‏فى ‏ذاتها‏، ‏

وهو‏ ‏ليس‏ ‏فنانا‏ ‏يحورها‏ ‏ويعلنها‏ ‏بتشكيلاته المميزة‏ ‏ليوقظ‏ ‏بها‏ ‏الناس‏ ‏يوما‏ ‏ما‏،

‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏نبيا‏ يحاول أن ‏يحققها‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏ ‏فعلا‏ ‏يوميا‏ منتشرا مضيئا ‏ثائرا‏ ‏مستندا‏ ‏إلى ‏المطلق‏ ‏وما‏ ‏بعد‏ ‏الحياة‏ ‏الدنيا‏، ‏

وهو‏ ‏ليس‏ ‏متصوفا‏ ‏بحيث يستطيع أن يضبط جرعة ما يبوح به وما لا يبوح به للعامة خاصة.‏

وهو‏ ‏ليس‏ ‏عالما‏ بالمعنى الذى انتهى إليه أغلب العلم المؤسساتى الذى أصبح أقرب إلى كنيسة المعلومات المحكمة المنزلة المنضبطة بالمناهج الثابتة. والأموال المتراكمة.

 إذا كان هو ليس أيا من كل ذلك، فمن هو وكيف هو؟

أظن أن هذا العمل – مرة أخرى: الأقرب إلى السيرة الذاتية عبر المسار المهنى– هو محاولة لعرض بعض الإجابات الناقصة، التى تتعلق بفرد واحد، مرّ بما أتيح له، ووضع إجابات هى بمثابة فروض عاملة لا أكثر ولا أقل.

نبدأ بالصورة التى وردت فى هذا الجزء من المتن، وهى الصورة التى ربما وصلت إلى مستوى ما من وعى من خاضوا التجربة معه، ورفضوه، وأحبوه، وحذروا منه، وتساءلوا عنه، فألقى سلاحه وتقمصهم وهم يتساءلون عن ماهيته، وقد بدا لهم أنه يدعوهم ليكونوا نسخة منه (وهذا غير صحيح على طول الخط كما سوف يتضح الآن، وفى هذا العمل برمته).

ولكن دعونى أضيف الفقرة التالية حتى يتأملها القارئ قبل أن نعود إلى شرح الفقرتين معا:

ذلك أنه يبدو أن صاحبنا قد قـَـبـِـل التحدى، دون أن يقرّ أنه فعلا يريد أن يكونوا “مثله”، فكل بقية هذا التشكيل تقول أنه حين قبل التحدى “مثلك يعنى إيه؟”، اكتشف فى دهشة أنه لا يعرف الإجابة، فقفز إليه نفس تساؤلهم، وراح يبحث معهم: صحيح: “مثلى” يعنى إيه؟ وبرغم أنه لم يقر أنه يريدهم أن يكونوا مثله، إلا أن للسؤال مشروعيته فى ذاته، فإن صح أنه يعرض على الآخرين نوعا من الوجود يليق بالبشر، فهل يا ترى حقق هو هذا النوع؟ فإذا به يكتشف أنه يسعى، ما زال يسعى، وسوف يظل يسعى غالبا، وفى سعيه هذا يرى صورته من أكثر من زاوية، فى أكثر من تجلِّ كما بدت فى هذا التشكيل.

 مازلت أتقمص رأيهم (رأى أغلبهم) فى الصورة التى تلقوها عن نوع حضور هذا القائد (المِعلـِّم) وكأنه يفرض ذاتية وجوده على غيره بشكل حـَرْفى، وكأنه يريد من الآخرين أن يكونوا نسخة منه، هذا التلقى (من المريض أو الأبناء أو أى واحد) وارد فى العلاج النفسى وفى الحياة عامة، وأحيانا يكون حقيقة عند بعض المعالجين الذين لا ينتبهون إلى نوع وجودهم الذى يستمدونه من سلطتهم على مرضاهم.

المِعلِّم يبدو بذلك أنه مثل شيخ الطريقة (الصوفية) له مريدون، ومنهج (طريقة)، و”رؤية” (فروض!)، المهم هنا، هو أن استقبال مرضاه (وأحيانا المحيطين به أيضا)، يصوِّر لهم أنه يصنفهم على مزاجه

“قاعد يصنف فى البشر حسب المزاج”

والتصنيف هنا ليس بوضع لافتة تشخيصية (اكتئاب، فصام… إلخ)، لكنه تصنيف أقسى وأكثر دَمْغاً، هذا ما يصل للخائفين من طغيان شخصيته، وهو تصور إصدار أحكام على المشاركين في التجربة، أحكاما تشمل تحديد جرعة الحيوية (الحياة) التى يتصف بها الشخص (أو المريض)، فكثيراً ما يصف الطبيب النفسى (أو المعالج) مريضه بأنه ميت..

  بصراحة دعونى أعترف أننى بعد حيرة طويلة انتبهت إلى أننى لا أنتمى إلى أيديولوجيا معينة، أو حتى إلى أية منظومة ثـَـبـَّـتـَـتْـهـَـا وصاية أوصياء عليها مهما كان تقديسها، بقدر ما أنتمى إلى ما يمكن أن أسميه “حركية الحياة“، وليس عندى توصيف أكثر من أنها “استمرارية الحفاظ على الوجود البشرى نابضا فى دورات استيعاب فإبداع، لا يتوقفان (حتى بعد الموت)([9])، يبدو أن هذا اليقين يصل إلى المحيطين بى باعتباره يقينا ثابتا، مع أنه ليس أكثر من “نظام” أو “برنامج له قواعده”، التى لا أعرف إلا أقلها.

يبدو أنه ترتب على انتمائى لما أسميته “حياة” كقيمة فى ذاتها: أن الآخرين تلقوه باعتباره “أيديولوجية ما” حتى لو كان اسمها “الحياة”،

عامل سبيل اسمه “الحياة”

 وبالتالى يمكن تصور هذا التلقى من الآخرين مع احترام أسبابه، بأنه ينتهى إلى: “أن من يتبع هذا الطريق: (ولا أظن أنه وصلهم باكرا أنه: “النبض المستمر” والتغير الوارد دائما، والبسط (الإبداع) المتناوب)، فهو يتبع طريقة  هذا “المِعلمْ” “شيخ الطريقة”، لكن استقبالهم هنا وأنا أتقمصهم أكد لى أن هذه “الطريقة” التى صورونى شيخها، قد وصلتهم باعتبارها أيديولوجية أقيس بها درجة “حركية الحياة” عندهم، وبهذا تصبح المسألة أقسى، وأخنقُ إحكاماً، من أية أيديولوجية أخرى، لأنها تصل إلى الآخرين، وكأنها “براءات وجود صادرة من “فوق بدرجة كذا!.

وها هو لسان حالهم يصف تصنيف المـِـعـَـلـِّـم لهم – من وجهة نظرهم – بخطوط كاريكاتيرية هكذا:

 هذا يصلح لأنه ينتسب إلى “الطريقة” (الحياةْ).

“قال ده يعيش”!

وهذه لا تصلح أصلا للانتماء إلى هذه “الحياة”.

“ودى تموت”

وذاك يكفيه هذا القدر من جرعة الحياة.

“ودا مالوش إلا كده”

هكذا كان تصورهم – غالبا – عن  أحكامى على الخائفين من هذه الحركية، أو هذا البرنامج، باعتباره أيديولوجية مفروضه، وكأن عليهم أن يتبعوها ليحظوا بنيشان الشهادة أنهم “أحياء”، وهنا يقفز سؤال على لسانهم: إذا كان هذا هو المطلوب يا عمنا فكيف يمكن تحقيقه؟

وهو سؤال لا يمكن الإجابة عليه طبعا بالألفاظ، ولا حتى بالممارسة، بشكل مباشر: ويتكرر السؤال، فيأتى جوابٌ ضمنى: أنه إن لم توجد تفاصيل مسبقة لمعالم المذهب، فثم طريق إليه، وهوما يقابل “المشى على الصراط“.

مفهوم “المشى على الصراط” له معى قصة طويلة فى مسار فكرى ووجودى، وقد أسميت ثلاثيتى الروائية “المشى على الصراط” بأجزائها الثلاثة (الواقعة – مدرسة العراة – ملحمة الرحيل والعود)([10]) بناء على هذا المفهوم، أنا أفهم المشى على الصراط باعتباره جزءًا من البرنامج الذى أسميته “حركية الحياة”، وهو يتضمن: “عملية الانتقال” من حالة “وجود مستقر” (ساكن غالبا) إلى حالة “وجود واعٍد آخر” (غير معروفة معالمه عادة)، أعتقد أن هذا هو قريب مما يسميه فردريك بيرلز “المشى فى النار”([11]) Passing into Fire، خاصة فى العلاج الجمعى حيث يتواصل الإفشال التدريجى للآليات الدفاعية المستعملة والمثبـِّـتة لحالة الوجود المستقرة، فتهتز الميكانزمات وتتخلخل لدرجة ما، ويُستدرج مُستعملها بعد هز آلياتها إلى “نور البصيرة”، فلا تعود ميكانزماته قادرة على مواصلة عملية التثبيت والتسكين التلقائية، فيتحرك المريض (أو أى شخص ينمو) مرغما نسبيا من خلال اختيار عميق إلى احتمال آخر، ويدخل فى مرحلة صعبة عادة بعد أن فقد القديم فاعليته وتماسكه دون، أو قبل، ظهور ملامح الجديد، برغم يقينٍ مـَـا بأن هذا الطريق (الصراط) هو الذى يؤدى إلى “احتمال ما يرجـُو مما لا يُعـْلم”، فهو ليس صراطا يؤدى إما إلى الجنة “يدّيه قيراط فى جنته” وإما إلى النار، ولكنه صراط بين “القديم الساكن” و”الجديد المحتمل” “غيْر معروف المعالم”.

الاتهام المـُـوَجـَّـه للمعلم هنا هو أنه يخدع الناس – خاصة مـَـنْ حوله– بوعود غامضة، لكنه يخفى فى سريرته مواصفات محددة للحياة التى يعتبرها الجنة (ربما اليوتوبيا)، وهكذا يبدو لهم أن دخول جنته الخاصة (الخصوصى) هذه لا يرتبط بكدح السائر على الصراط، بقدر ما يرتبط برضا المعلم حامل قلم الأحكام والتصنيف!

قاعد يـِصنـَّف فى البشر حَسَبِ المزاج،

 إذن فهو متهم بأنه يخلخل القديم، ولا يعد بجديد محدد، ويمنح مقابل رضاه حجرات أو قصور (أو أفدنة أو قراريط) فى جنته الخاصة، فهى – من واقع تخوفهم – ليست دعوة للتكامل والتطور، وإنما هى دعوة للتبعية والتقليد بأن يكونوا نسخة منها.

واللى بيشبه حضرتـُهْ، يديه قيراط فى جـَنـِّتـُهْ

كل هذا وصلنى ضمن وجهة نظرهم التى تقمصـْـتـُـهـَا، وقد تصوروا، أو قرروا، أو اكتشفوا، أن كل ذلك: كان يجرى تحت زعم “حرية مشبوهة”.

فى هذه المواقف العلاجية (وغير العلاجية) يتم استعمال كلمة “الحرية” بإفراط شديد وخداع حقيقى، لا أتردد فى أن أشبهه باستعمال أمريكا للفظ الديمقراطية التى تسوّقها لنا باستمرار لتحقيق الفوضى (وهم يوهمونا أنها خلاّقة)، حتى نخضع للتبعية والاستسلام، وهم يصورون لنا أن ذلك قد تم باختيارنا (حريتنا).

المتن هنا يحاول أن يعرى صورة “المعلم” كما وصلتهم وهو يدعى أنه يسمح لأى واحد أن يخالف تعليماته، السماح بالاختلاف، مثل مزاعم “قبول الآخر” من على السطح، يبدو كأنه: منتهى الحرية، لكنه سماح فوقىّ مشروط – كما يرونه:

 واللى يخالف “هوه حر”!!

 وعليه أن يدفع ثمن استعماله حريته حكما نهائيا بالنفى الإعدامى.

مَيـِّت صحيحْ،!!

 لكنه حرّ فْ تربته!

 أية حرية تلك التى تفترض واحدية الاختيار قبل السماح المزعوم بالاختلاف؟

أية حرية تلك التى تنتهى بالحكم بسحب صفة الحياة منك بمجرد أن تخرج عن الخط المرسوم: الصراط المحدد!!؟

هكذا يتم الإعدام “رميا بالأحكام الفوقية” بعد الطرد من الجنة.

كما يمكن أن يتم النفى القاتل بالسقوط من على شعرة الصراط: وأنت تترجح عليها مرعوبا.

كثير من المرضى الذين يدخلون هذا المأزق يلح لسان حالهم فى طرح أسئلة مشروعه معلنة وخفية، عادة تقول:

 مادام القديم قد اهتز أو تخلخل وتحطم هكذا حتى لم يعد من الممكن الرجوع إليه، فلم يعد أمامنا إلا المضى قدما إلى المجهول، لكن يظل من حقنا ان نسأل “إلى أين؟” “ثم ماذا؟”،

 وهم لا يجدون إجابة – من المعلّم (المعالج!) بالذات – إلا “أنت حر“،

 كيف “هو حر” وهو لم يعد يستطيع إلا المضى قدما على شعرة الصراط؟

هذه الصورة التى تبدو ديكتاتورية إلى هذه الدرجة ليست حقيقة العلاج، ولا هى كانت حقيقة ما جرى فى التجربة الخاصة التى أتحدث عنها، (من وجهة نظرى)، إلا أن تعريتها هكذا ربما تكون ضمانا لتجنب حدوثها عشوائيا فى العلاج أو غير العلاج إلا اضطرارا.

مساحة الحركة، والحضور الاختيارى، والاستمرار الاختيارى المتجدد لفترة من الزمن تسمح بمواصلة السير على الصراط إلى الوجود الجديد الذى يصبح قديما ليهتز فيما بعد، فى أزمة نمو لاحقة، فيدخل إلى صراطٍ تال وهكذا: هذا هو قانون حركية الحياة.

“المشى على الصراط” لا يوصل صاحبه إلى غاية محددة، لكنه يؤكد له سلامة توجهه كدْحاً.

 إن أسهل سبل الهرب من مواجهة مواصلة السعى اختيارا، هو أن يتصور المريض (أو أى شخص) أن المطلوب هو أن يكون صورة طبق الأصل من المعالج – المعلم – (القدوة)، وهذا يبدو في البداية أنه هو الضمان إذا واصل المشى على الصراط، ومادام قد أصبح نسخة من “المعلم”، فهو سوف يحصل على قيراط من الجنة الموعودة

لكن كيف يكون مثله والمعلم نفسه لا تتبين له معالم محددة ومعلنة؟ فيتواصل التساؤل:

 “ونقول له: مثلك يعنى ايه”؟

يسكت.. يتوه

يسرح.. يقف!

وعـْـنيهْ تقول.. كلام كتير:

وهكذا لا يجد الخائفون جوابا جاهزاً لأن المعلم شخصيا لا يعرف الجواب،

فيبدأ هو شخصيا البحث عن جواب وفى عينيه “كلام كثير” وتنتقل السيرة إلى مواجهة الذات في صورة أسئلة متلاحقة وفروض متولدّة، واحتمالات متعددة:

‏(3)

 ‏يا‏ ‏هلترى ‏عمال‏ ‏باشوف‏ ‏الناس‏ ‏عشان‏ ‏أهرب ‏‏ما‏ ‏شوفشى ‏مين‏ ‏أنا‏؟ ‏ ‏

ولا‏ ‏باشوفـْنـِى ‏الناس‏؟‏؟

 

نـِفـْسى ‏أشوفْنِى ‏من‏ ‏بعيد

من‏ ‏تحت‏ ‏جلدي‏. ‏

من‏ ‏وسط‏ ‏قضبان‏ ‏الحديد‏. ‏

من‏ ‏غير‏ ‏كلام‏ ‏ولا‏ ‏سلام‏.‏

أحيانا‏ ‏تكون‏ ‏رؤية‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى – ‏والفنان‏ وربما أى مبدع  – ‏للآخرين‏،‏ ‏ثم تصنيفهم‏ ‏وحتى ‏علاجهم‏ ‏ونقدهم، ‏وتصويرهم‏، ‏هى ‏مهرب‏ ‏من‏ ‏رؤيته‏ ‏ذاته‏، ليس بمعنى الاستبطان كما أشرنا مرارا، وإنما بمعنى البصيرة كما تمنينا، ‏وإذا‏ ‏لم‏ ‏يمارس‏ ‏الطبيب‏ ‏رحلة‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏نفسه‏، ‏وبالعكس،‏ ‏فإنه‏ ‏خليق‏ ‏أن‏ ‏يكتشف، ولو لاحقا‏ ‏إعاقة‏ ‏نموه‏ ‏هو‏ ‏شخصيا،‏‏ ثم إنه حين‏ ‏يرى ‏نفسه‏ ‏فى الناس دون نفسه فإنه لا يرى نفسه،‏ ‏أو‏ ‏كما‏ ‏قال‏ ‏لى ‏أحد‏ ‏الأصدقاء (المرضى)‏ ‏مرة‏: “‏أنا‏ ‏لست‏ ‏امتدادك‏ ‏الجغرافى‏”.. ‏فأيقظنى ‏على يقظتى، (‏علما بأن‏ ‏هذا‏ ‏الصديق‏ ‏قال‏ ‏هذا‏ ‏التعليق‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏كنت قد‏ ‏كتبت‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏بسنوات‏) ‏وفى ‏محاولة‏ ‏الرؤية‏ ‏الصادقة، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يقف‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏نفسه‏ ‏موقفا‏ ‏تجاوزيا‏ (‏من‏ ‏بعيد‏)، حتى ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يحكم،‏ ‏على ‏ماهية‏ ‏وجوده‏، ‏ومن ثمَّ يعدل‏ ‏من‏ ‏مسيرته‏ ‏باستمرار‏ ما أمكن ذلك.

“نِفْسى ‏أشوفنى ‏من‏ ‏بعيد”

‏ هذا المستوى من ‏الرؤية‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏تقييم‏ ‏للسلوك‏، ‏ولكنه – ‏حتى ‏ينفع‏ – ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏رؤية‏ تقترب من ‏حقيقة‏ ‏الوجود‏، أو بعض ذلك على الأقل، وهى تحتاج أن نبتعد ونقترب مما نريد أن نراه، فما بالك برؤية الذات، الرؤية هنا استلزمت هذه النقلة إلى مدى – على مسافة- يسمح أن يكتمل المنظر.

“نـِفـْسـِى أشوفـْنـِى من بعيد: من تحت جلدى”

‏لامفر من مغامرة ‏الغوص‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏تحت‏ ‏السطح‏ ‏بصدق‏ ‏ومعاناة، ومرة أخرى أؤكد أن هذه ليست محاولة استبطان (Introspection)، وأيضا يحتاج الأمر إلى التخلص من سجن تقديس المهنة وجاهزية الأحكام المسبقة:

“مـِـن‏ ‏وِسط‏ ‏قضبان‏ ‏الحديد‏”

قيود‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏الظاهرة‏ ‏كثيرة‏ ‏وصعبة‏، ‏ومنها تواصل‏ ‏اتصاله‏ ‏بالمجتمع‏، ‏وحكم المجتمع عليه بما هو ليس هو، وانتظار المجتمع منه ما ليس عنده، وممارسته‏ ‏اليومية‏،‏ ‏فى ‏مجاله‏‏ ‏وخارج‏ ‏مجاله‏… إلخ‏، ‏أما‏ ‏قيوده‏ ‏الداخلية‏ ‏فهى ‏أشد‏ ‏وأصلب‏ ‏فهى آلياته (ميكانزماته) التى ‏تحميه‏ ‏من‏ ‏جرعة‏ ‏رؤية‏ ‏لا‏ ‏يقدر‏ ‏عليها‏، ‏ومن‏ ‏مفاجآت‏ ‏معرفة‏ ‏تفوق‏ ‏مسيرته‏ ‏أو‏ ‏تغير‏ ‏مجراها‏، دون إذنه، ودون ضمانات المآل، وهذه القيود أصلب وأخطر لأنه لا يعرفها عادة.

ولكن كيف نضمن أن الرؤية ليست استبطانا معقلنا؟

أعتقد أن ذلك يتحقق حين نفاجأ بنتائج البصيرة النافذة أكثر مما يتم من خلال جهد تفكيرىّ قصدى، نعم: لا يوجد قرار يسمح بهذا الكشف البصيرى، وإنما يوجد قرار للتعرض لاحتمال ذلك، ربما هذا هو ما أشار إليه النص، وهو يستبعد أن تكون الرؤية كلمات مرصوصة أو تحتاج إلى تمهيد معين.

“من‏ ‏غير‏ ‏كلام‏ ‏ولا‏ ‏سلام‏”

ثم يبدأ المتن فى سرد محاولات شحذ البصيرة خطوة بعد خطوة بشكل مباشر، أى بتدرُّجِ حتمىّ.

أقلب‏ ‏عيونى ‏ولا‏ ‏ابص‏ ‏فى ‏المرايه‏؟ ‏ ‏

نبدأ بالخطوة الأولى وهى: النظر لصورة الذات فى مرآة الذات بدرجات مختلفة من البصيرة.

 تعلمنا من قديم ما يسمى “وهْل المرآة” Mirror Illusion وهو يشير إلى أن الشخص حين ينظر فى المرآة يرى نفسه على مسافة كأنه واقف خلف المرآة، وحقيقة الأمر أن الصورة ليست إلا منعكسا ضوئيا!

‏ ‏أنا‏ ‏لو‏ ‏ابص‏ ‏فى ‏المرايه‏ ‏حاشوف‏ “‏خيال‏”.‏

يبدو أن هذا النص فى المتن يدعم التأكيد على أن المسألة ليست مجرد النظر إلى الداخل، فقد ينتج عن ذلك أن نرى أنفسنا كما ينبهنا “وَهْل المرآة” وليس كما هى، الشخص وهو يحاول ذلك إنما ينقسم إلى “مـُـشاهِد راصـِـد” بالعقل عادة، و”مشاهَد تحت الفحص”، وهكذا يجرى ما يمكن أن يسمى “تشيؤ الذات”، وهو أمر يقلل أو حتى ينفى أنها رؤية الذات أصلا.

هكذا: تنكشف الصورة باعتبارها صورة، وليست “أنا” الحقيقى بتكثيف طبقاته المتداخلة، تتأكد صورة الذات: أنها ليست إلا خيالا، قد يكون فى حقيقته “عكس” أو “مقلوب” ما هو “أنا”.

أنا لو حابصّ فى المراية حاشوف خيالْ

إيدو‏ ‏اليمين‏ ‏إيدى ‏الشمالْ‏.‏

                               واقف‏ ‏بعيد‏ ‏ورا‏ ‏الإزاز‏. ‏

واجى ‏أَقـَرَّب‏ ‏للمرايهْ‏ ‏ألتقى ‏بـَرْد‏ ‏الجماد‏. ‏

وِشِّى ‏يبطط‏، ‏والنـَّفـَسْ‏ ‏بيغطـى ‏تقاسيمه‏ ‏كما‏ ‏جبل‏ ‏السحاب

‏ ‏قـُدَّام‏ ‏قمر‏ ‏مظلم‏ ‏حزين‏. ‏

هذه الصورة استعرتها من بيتىْ شعر حكاهما لى والدى، وهو معجب بالصورة التى استطاع الشاعر أن يرسمها لتصوير منظر البدر فى يوم غائم، (نصف نصف) حين يظهر من بين سحب متقطعة، ثم تختفى، ثم تظهر إلا قليلا وهكذا، صوّر الشاعر هذا المنظر، وكأن البدر هو وجه فتاة جميلة تنظر فى المرآة، وهى تتحسر على جمالها الذى لم يقدره أحد كما يستحق، فلم يتقدم لها أحد حتى تاريخه، تشاهد الجميلة وجهها فى المرآة، فتـُبـْهر بجمالها، وفى نفس الوقت تتحسر على أنها لم تتزوج حتى الآن، فتتنهد أسفا، فينطلق من تنهيدتها بخار ماء نَفَسِها، فيغطى سطح المرآة بشكل متقطع، هكذا بدا البدر للشاعر وهو يظهر ويختفى من وراء السحاب الخفيف المتحرك، وهو ما يقابل بخار ماء تنفس الجميله أمام المرآة وهو يتكثف ويخف ويتفرق بغير انتظام، فتبدو ملامح وجهها الجميل جزئيا أو كليا ويتواصل التنهيد…!!!

والبدر منتقبٌ بغيم أسود       هو فيه بين تفرُّج وتـَبـَلُّجِ

كـَتـَنـَفُّسِ الحسناءِ فى المرآةِ     إذْ كـَمُلـَت محاسنها ولم تتزوج

ربما كانت هذه الصورة فى خلفية وعيى وأنا أحاول أن أنظر فى مرآة نفسى، فى مقابل تبلج البدر وتفرجه من وراء هذا الغيم النقاب، فيتكشف لى حزن غائر يكاد يخفينى عنى.

علاقتى بالحزن شديدة القوة، أنا لا أرحب به ولا أرفضه، أعيش زخمه وأنطلق منه، الحزن الذى بدا فى هذه الصورة ليس هو الحزن الذى أدافع عن حقى فيه، لكنه حزن مرّ مظلم يعلن قتامة صخور القمر دون ضوئه الفضى الساحر، أو شاعريته الساحرة.

وامّا‏ ‏قلبت‏ ‏عيونى ‏جـُوَّه‏ ‏عـْمـِيتْ‏.‏

وحاولت‏ ‏ابُصّ‏:

حاولت‏ ‏اقرا‏ ‏فى ‏الضلام

مالقيت كلام

إذا‏ ‏كان‏ ‏لابد‏ ‏للطبيب النفسى‏ أن ‏يرى ‏نفسه‏ ‏فعليه‏ ‏أن‏ ‏يغامر بتنشيط عينه الداخلية، وبدون أن نعود للتأكيد على الفرق بين “الإدراك” و”التفكير”، وعن طبيعة العين الداخلية، لابد من إعادة التأكيد أن كل هذه العمليات تجرى بعيدا عن بؤرة الوعى الظاهر، وأننا عادة لا نعرفها إلا بأثر رجعى ومن خلال فروض عاملة.

فرض العين الداخلية internal eye طرحتـُه مؤخرا فى سياق احترام “واقع الداخل” internal reality وذلك لتفسير الهلاوس الحقيقية ([12])، وأيضا للمشاركة فى فروض تفسير نوم حركة العين السريعة ([13])

المتن هنا لا يشير إلى هذه العين الداخلية مباشره وإنما ينبه إلى أننا إذا حاولنا رؤيه الداخل بنفس العين التى ترى الخارج، وبنفس قواعدها، فغالبا لن نرى شيئا أصلا.

‏عادة‏ ‏يـُشترط‏ ‏فى ‏ممارسة‏ ‏التحليل النفسى ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏المعالج‏ ‏ذاته‏ ‏بخبرة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى، ‏وهذه‏ ‏نصيحة‏ ‏طيبة‏ ‏تهدف‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏الهدف‏ ‏الذى ‏أعرضه‏ ‏هنا‏، ‏إلا‏ ‏أنى ‏أختلف‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏التفاصيل‏ ‏نتيجة تصورى أن‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى – عادة – ‏ ‏بطريقته‏ ‏التقليدية‏ ‏ سرعان ما يلحق تعميق الرؤية بتفسير نظرى مرتبط بالماضى، مُحْكم الحبكة. ‏

أعود فأشير ‏هنا‏‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏طائفة‏ ‏من‏ ‏أطباء‏ ‏النفس‏ ‏والمعالجين‏ ‏يتقنون‏ ‏الاستبصار‏ Introspection ‏لذواتهم‏ ‏حتى تفسير‏ ‏أحلامهم،‏ ‏ولكنها‏ ‏”عملية”‏ ‏عادة‏ ‏تبدأ‏ ‏بالكلام‏ ‏والملاحظات‏ ‏وتنتهى ‏بالكلام‏ ‏والملاحظات‏ (‏الكلام‏ ‏المسموع‏، ‏أو‏ ‏المكتوب،‏ ‏أو‏ ‏الصامت‏) وعادة ما تنقلب الألفاظ‏  إلى رموز ‏معطـِّلـَة للرؤية‏ ‏الحقيقية‏ ‏الموضوعية‏ ‏والدافعة‏ ‏للتغيير،‏ ‏ويتوقف‏ ‏الطبيب‏ (المعالج) ‏حيث‏ ‏يظن‏ ‏أنه‏ ‏يتقدم‏ ‏ويعرف‏، فى حين أنه متوقف داخل سجن ألفاظه ورموزه.

أكرر التحذير ‏من‏ ‏الاستبصار Introspection‏ بلا تردد، الاستبصار‏ ‏قد‏ ‏يـُـظـْـهر ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏انعكاس‏ ‏للحقيقة‏ ‏ وليست‏ ‏الحقيقة‏ ‏ذاتها‏، قد ‏يكشف ‏صورة‏ ‏فكرية‏ ‏عن‏ ‏الذات، ‏وليست‏ ‏الذات‏ ‏نفسها،‏ ‏وفى ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏خدعة‏ ‏وتقريب‏ ‏قد يصل غالبا إلى درجة من التشويه، إذْ قد يُظهر لنا ‏صورة‏ ‏باردة‏ ‏أو محرفة‏، ‏وهى عادة ليست‏ ‏الحقيقة‏‏ ‏الحية‏ ‏الثائرة‏ ‏الخائفة‏ ‏المتحفزة‏ ‏المتحدية‏ ‏معا‏.

‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏الذات‏ ‏قد‏ ‏يشوهها‏ (‏وشى ‏يبطط‏) إذا كان اقترابا يستعمل أداة لا تصلح لها، ‏ثم إن مزيدا‏ ‏من‏ ‏الاقتراب‏ ‏قد‏ ‏يخفى ‏معالمها‏.

وحاولت أقرا فى الظلام مالقيت كلام

‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏الألفاظ‏ ‏عاجزة‏ ‏عن‏ ‏وصف‏ ‏ما‏ ‏بالداخل‏ ‏أو‏ ‏شرحه‏، ‏وإذا‏ ‏كانت‏ ‏صورة‏ ‏النفس‏ فى مرآة الفكر ‏ما‏ ‏هى ‏إلا خيال‏ ‏معقلن ‏قد‏ ‏يقترب من‏ ‏الحقيقة‏ ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏الحقيقة‏، بل أحيانا يكون عكس الحقيقة، أو مسخ للحقيقة، ‏فهل‏ ‏يمكن‏ ‏مواجهة‏ ‏الداخل‏ ‏دون‏ ‏رموز‏ ‏الفكر‏، ‏ودون‏ ‏تصوير‏ ‏النفس‏، ‏مواجهة‏ ‏حسية‏ إدراكية ‏مباشرة؟‏ ‏ربما يمكن بعض ذلك من خلال رؤية الغـَـيـْـر:

هذا ما يحاول أن يشير إليه المتن هنا دون أى ضمان لنجاح المحاولة.

ورْجـِـعـْـت‏ ‏أبصِّـلْـكم‏ ‏هناك‏، ‏فى ‏عيونكمْ ‏انتمْ. ‏

أنا‏ ‏أبـْـقـَـى ‏مين‏ ‏؟

أن ترى نفسك من خلال رأى، أو رؤية، الآخر (أو كليهما)، شىء مهم، لكنه لا يمثل إلا بعض الحقيقة أيضا، هذه الظاهرة تحدث فى العلاج الجمعى بشكل خاص، قد يحدث أن تكون المجموعة فى حاجة أن تحكم على أحد أفرادها بصفةٍ مـَـا، فى موقف معين، سواء بناء عن مبادرته أو فى تفاعل يحتاج رأى الجماعة، وهذا ما يسمى عادة “المصداقية بالاتفاق”([14])، لكن حقيقة الممكن تعلن أنه مهما كان الاتفاق فإن الاختلاف وارد ومهم، والآراء يكمل بعضها بعضا.

حين حاولت أن أشاهد صورتى كيف تتجلى فى عيونهم وصلتنى هذه الصور المتلاحقة كالتالى:

وألاقى ‏صورتى ‏زى ‏ما‏ ‏انتم‏ ‏محتاجين‏: ‏

‏بصفة عامة فإننا نرى – عادة، أو غالبا – الآخرين من خلال احتياجنا إليهم (أو عكس ذلك)، وهذا ما حاولت أن أعدده وأنا أتقمص بعض الرؤى التى تصورتُ أنها تمثل بعض (أو أغلب) رؤية المشاركين فى هذه الجماعة، على الوجه التالى:

(1) ‏اللى ‏شايفنى ‏كما‏ ‏النبى

أحدهم‏ ‏يرانى “‏صاحب‏ ‏رسالة”‏ ‏فى ‏الحياة، ‏تسير‏ ‏على ‏أرجل‏ ‏رغم‏ ‏ضخامتها‏ ‏وثقلها‏، ‏رسالة تتجاوز آمال وطموحات مهنته، يحاول نشرها حتى ‏ترجح‏ ‏الحياة‏ ‏على ‏الموت‏، ‏والتطور‏ ‏على ‏الجمود‏، ‏حتى يكاد يبدو نبيا غير مرسل.

 ‏وبرغم ما يبدو في هذه الرؤيه من ظاهر التقدير حتى التقديس، إلا أننى أعرف، وأمارس (بالتدريج طبعا) كيف أنها كانت ومازالت رؤية معوِّقة لأن فيها ما فيها‏ ‏من‏ ‏اعتمادية‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الرائى، ‏وإلغاء‏ ‏لحقيقة‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏القاصر الذى يتصف به الطبيب مهما بلغ تقديس مهمته فى ثقافة مثل ثقافتنا، وأيضا هي تحرم الطبيب مهما كان قائدا أو معلما أو “أسطى” من حقه الانسانى البسيط فى الضعف والأخذ والانتماء والاحتياج.

(2) واللى ‏شايفنى ‏ربـنـا‏

قد يتمادى التقدير فالتقديس لدرجة قصوى تبلغ التأليه‏، فيراه ‏آخرٌ قادرا‏ ‏على ‏كل‏ ‏شيء،‏ ‏هذا‏ ‏موقف‏ ‏ألعن‏ ‏من‏ ‏الموقف‏ ‏السابق‏، ‏لأنه‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏يـُـلغى ‏ضعفه‏ ‏البشرى ‏مثل‏ ‏الموقف‏ ‏السابق‏ وأكثر (النبى)، فهو يضع‏ ‏عليه‏ ‏مسئوليات‏ ‏الألوهية‏، ‏وبالتالى ‏يتخلى مثل هذا “التابع” عن حمل‏ ‏عبء‏ ‏حياته‏ ‏ومرارتها‏ ‏وصراعاتها‏ ‏بعبادة‏ ‏هذا‏ ‏الإله‏ ‏البشرى ‏القادر‏، ‏هذه الآلية الدفاعية هى من الدفاعات‏ ‏التى ‏تصنع‏ ‏”فراعين الحكام‏”، ولو‏ ‏علم‏ ‏هؤلاء‏ ‏الحكام‏ ‏كم‏ ‏يظلمهم‏ ‏من‏ ‏يُلغى ‏ضعفهم‏ ‏ويؤكد‏ ‏وحدتهم‏، ‏لكانو‏ ‏أول‏ ‏الثوار‏ ‏على ‏زعامتهم وفرعنتهم‏ ‏إذا وصلت بتابعيهم (وبهم) إلى هذا العـَمـَى الذى ‏ينكر‏ ‏عجزهم‏ ‏الإنسانى، ‏ويحرمهم‏ ‏من‏ ‏حقهم‏ ‏فى ‏الخطأ‏‏ ‏وفى ‏الضعف‏ ‏وفى ‏الأخذ‏.‏

فى موقف العلاج النفسى الجمعى، تبدأ مثل هذه الآليه الدفاعية من الموضع الذى وصفه “بيرلز” وأسماه آلية: “يالروعة أدائك يا أستاذنا الجليل“Gee professor you are wonderful!، حتى التقديس المطلق أو القدرة المعْجِزة!! وإذا كان هذا الميكانزم واردا فى ثقافة الغرب فهو أكثر تواترا وإعاقة فى ثقافتنا عدة مرات.

(3) واللى ‏شايفنى ‏واد‏ ‏بُرَمْ

‏أما‏ ‏الرؤية‏ ‏الثالثة‏ ‏فإنها‏ ‏نقيض‏ ‏وجهتـَـى ‏النظر‏ ‏السابقتين‏، ‏فهى ‏لا‏ ‏تـَرَى ‏إلا‏ ‏قشرة‏ ‏الشطارة‏ (‏والحداقة‏ ‏والفهلوة‏ وحذق الصَّنعة… إلخ‏) الطبيب‏ ‏النفسى ‏غير‏ ‏الأديب‏ ‏والفنان‏ ‏والفيلسوف‏ ‏وعالم‏ ‏المعمل‏، ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏يديه‏ ‏غائصتان‏ ‏فى ‏أمعاء‏ ‏المجتمع‏ ‏ورجليه‏ ‏فى ‏طين‏ ‏الواقع‏، ‏وهو حتى ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏ فى أداء مهمته، فى ثقافة ناسه الخاصة جداً، ‏فإنه‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يحذق‏ ‏اللغة‏ ‏السائدة‏ ‏بدرجة‏ ‏قد‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏سواها‏ (‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏غاية المراد عند بعض الزملاء، ويسمى أحيانا “الذكاء الاجتماعى”‏)!!! ‏الطبيب (النفسى، وغير النفسى)‏ ‏مطالب‏ ‏بالنجاح‏ ‏بلغة الواقع وعلى أرضه‏، ‏وإلا‏ ‏أصبح‏ ‏مثلا‏ ‏فاشلا‏ ‏أمام‏ ‏مرضاه، ‏وأغلبهم‏ ‏يحتاجون‏ ‏إلى ‏جرعة‏ ‏الواقع‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يحتاجون‏ ‏إلى ‏المهارة اللامعة على حساب النمو الحقيقى‏.‏

وإذْ‏ ‏أيقنتُ‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الطريق‏، ‏كان علىّ ‏أن‏ ‏أدفع ‏ثمن‏ ‏الصبر‏ ‏عليه‏، ‏وأن أتحمّل الاتهامات‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يرضيها‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يقترن‏ ‏الذكاء‏ ‏الاجتماعى ‏والنجاح‏ ‏المادى ‏بالشر‏، ‏وهى هى التى تقرن‏ ‏الخير‏ ‏المثالى ‏بالطيبة‏ ‏أو‏ ‏الخيبة‏، سبق أن شرحت هذه الحيلة التى أتصور أننى كنت واعيا بها معظم الوقت، ورضيت أن أمارسها مسئولا عنها، حتى أتحكم في جرعتها، وأستطيع باستمرار أن أميز بين الغاية والوسيلة، وأن أمارس النقد الموضوعى دون إعاقه ما أمكن ذلك.

هذا ما كتبته شعرا بالفصحى، مرة بشكل مباشر فى ديوانى “سر اللعبة”([15])

وبعقل‏ ‏الفلاح‏ ‏المصرى ‏أو‏ ‏قل‏ ‏لؤمه‏ ‏

دُرْتُ‏ ‏الدورة‏ ‏حول‏ ‏الجسر‏:

حتى ‏لا‏ ‏تخدعنى ‏كلمات‏ ‏الشعر، ‏

أو‏ ‏يضحكَ‏ ‏منى ‏من‏ ‏جمعوا‏ ‏أحجار‏ ‏القصر‏ ‏القبر، ‏

أو‏ ‏يسحقَ‏ ‏عظمى ‏وقع‏ ‏الأقدام‏ ‏المتسابقة‏ ‏العجلى ‏

أقسمت‏ ‏بليلٍ‏ ‏ألا‏ ‏أضعف‏… ‏ألا‏ ‏أنسي‏

‏–2–‏

وأخذت‏ ‏العهد، ‏

غاصت‏ ‏قدماىَ ‏بطين‏ ‏الأرض‏ ‏

وامتدت‏ ‏عنقى ‏فوق‏ ‏سحاب‏ ‏الغد‏

وأعتقد أن خطابى إلى ابنى شعرا أيضا فى قصيدة أخرى باسم “الحاجة والقربان”([16])، فى ديوان آخر (من باريس إلى الطائف) كانت فيه إشارة إلى مثل ذلك وفى قصيدة “الحاجة والقربان” مخاطبا ابنى (محمد) كاشفا نفسى مُصالِحاً مُعاتبا نفسى كيف ابتعدت عنه كل هذه الأميال:

……….

هل‏ ‏تعرفنى ‏من‏ ‏خلف‏ ‏الأقنعة‏ ‏السبعة‏:‏

وأنا‏ ‏أتكلم‏ ‏مثل‏ ‏السادة؟

وأنا‏ ‏أمشى ‏بينهمو‏ ‏كالعاده؟

وأنا‏ ‏أُدْهـَـشُ‏ ‏وكأنى ‏لا‏ ‏أعلم؟

وأنا‏ ‏أُفتى ‏وكأنى ‏أعلم؟

وأنا‏ ‏أضحك‏ ‏وكأنى ‏أفرح؟

وأنا‏ ‏أحسب‏ ‏وكأنى ‏أجمع؟

وأنا‏ ‏أرنو‏ ‏وكأنى ‏أسمع؟

كل هذا يعطى الذى: “شايفنى واد مِرَقـَّع أو حِدِق”، الحق فى أن يرانى كما يستطيع، لكن أظن أن عليه أن يواصل الرؤية كما وردت فى القصيدتين إذا أراد تكملة الحكاية.

التمست العذر لهذه‏ ‏المجموعة التى تصورت أنها ترانى بهذا المنظار وهى ‏تصُدر‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأحكام‏ “واد مرقـَّـعْ أو حـِـدِقْ” حيث تصورت أن رؤيتها لى بهذه الصورة‏ ‏ربما ساعدها فى أن تؤجل معركة مواصلة النمو على أرض الواقع تحت هذه الظروف الصعبة،‏ ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الفئة‏ ‏التى ‏تدمغ‏ ‏أى ‏نجاح‏ كمـِّى لامع وتصفه بالفهلوة، كما تصف من يحققه بأنه “مرقع أو حدق” ‏هى ‏فئة‏ ‏قد ‏تؤدى ‏دورا‏ ‏إيجابيا فى التحذير من التمادى فى مثل هذا النجاح، لكنها قد تتمادى فى هذا الاتجاه حتى تعوق الرؤيه ليس فقط لمسيرة النجاح اللامع وإنما لمسيرة أى نجاح وأى إنجاز ضرورى لمواصلة الحياة والنمو.

‏ثم إن‏ ‏الدور السلبى لهذا الموقف‏ ‏قد يمتد حتى يفرض نموذجا مطابقاً لحركة الثائر المغامر طول الوقت، الذى لا يخرج عن مثاليته، وبالتالى لا يحقق ثورته فى نفس الوقت، وقد يكتفى بدوره بأن‏ ‏يصدر‏ ‏الأحكام‏ ‏ويرفض‏ ‏اكتساب‏ أسباب ‏القوة خوفا من النقد، وهو يرفض أن يدفع ثمن ذلك، ‏فيترك مقاليد القوة ‏لمن‏ ‏يسىء‏ ‏استعمالها‏ على طول الخط من البداية للنهايه، ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏يشجع‏ ‏قسمة‏ ‏ضيزى ‏يرضى ‏بها‏ ‏أهل‏ ‏الشر‏ ‏ودعاة‏ ‏الجمود‏، ‏تلك‏ ‏القسمة‏ ‏التى ‏تقول‏ ‏على ‏لسان‏ ‏أهل‏ ‏الواقع البشع المستمرّ:‏ ‏لكم‏ ‏المـُثـُل‏ ‏الطيبة‏ ‏والذكر‏ ‏الحسن‏، ‏ولنا‏ ‏القوة‏ ‏والقدرة‏ ‏والسلاح‏ ‏والفعل‏ ‏القاهر‏. ‏وما‏ ‏أغبى ‏من‏ ‏يقبل‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏القسمة‏ ‏وأعجزه!

(4) واللى ‏شايفنى ‏قـِـفـْـل‏ ‏ومـْـتـَـرْبـِـسْ‏ ‏حزين‏

واجهتُ أيضا في هذه الخبره أحكاما أقسى وأصعب عانيت أيضا منها وهى تحول بين تواصل مستويات الوعى بما نرجو منه، فقد كان واضحا طوال مراحل هذه الخبرة الطويلة أننى ارفض النكوص للنكوص، أو ربما أخافه حتى لا ينتهى بنا إلى التسيب والانفلات، وبما أن أية تجربة حقيقية لابد أن تمر بهذا الاحتمال، فربما كنت أمثل عند هذا الفريق الرابع (وكانوا كُثْر) السقف الذى يمنع التجاوز، وكانت تـُوجـَّه إلىّ الاتهامات المختلفة الرافضة لهذا الموقف من أول اتهامى بالكبت، إلى اتهامى بالجبن، مرورا بنزع الثورية عنى، وأحيانا اتهامى بما يشبه منظرة الفنان الذى يرسم الواقع دون أن يخوضه، وقد كنت أتألم ليس لأنى فقط لست كذلك، ولكن أيضا لاحتمال أن أكون كذلك، فى الطبعة الأولى كان النص هكذا: “واللى شايفنى قفل مقفول من سنين“،  لست أدرى ما الذى جعلنى أغير النص فى المتن بعد ذلك إلى “قفل ومتربس حزين”، ربما لاحتمال التنبيه إلى الربط بين الكبت والحزن، أو لما شاع عنى أننى أقلبها غما، لحظة احتمال “السـَّيـَبـَان” نكوصاً.

موقف‏ ‏آخر‏ ‏كنت‏ ‏أراه‏ ‏وأنا‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏نفسى ‏فى ‏عيونهم، ‏فالطبيب‏ ‏النفسى – ‏كما‏ ‏قلت‏ ‏وكررت‏ – ‏ملتزم‏ ‏بالواقع‏ ‏أشد‏ ‏الالتزام‏، ‏ومن‏ ‏هنا‏ ‏يأتى ‏رفضه‏ ‏الواضح الجاهز:‏ ‏لأى ‏نكوص‏ ‏غير‏ ‏مسئول‏، ‏ولأية ‏حرية‏ ‏لمجرد‏ ‏اللذة‏، ‏وأى ‏رفض‏ ‏لمجرد‏ ‏العناد.

ولقد تحملت من جراء هذه الرؤية أو هذا الاتهام ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏الرفض‏ ‏والهجوم، ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏ساعدنى ‏على ‏رؤيتى ‏لنفسى، ‏حيث وضعت‏ ‏هذا‏ ‏الاحتمال أنى أمثل لهم سقف القهر‏، ‏وعايشت هذا الموقف وهذا الاحتمال ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أستطيع‏، ‏وتقمصت‏ ‏من يرمينى به محترِمـًـا رؤيته حتى انتهيت‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏وجود هؤلاء النقاد هو أقرب إلى “الوجود الفنى الحر”، وهو فى ذلك قريب من الوجود المثالى النظرى السابق، ولكنى فى النهاية، ومع مرور الوقت ‏أيقنت‏ ‏أن مثل هذا الدور/الاتهام ‏لا‏ ‏يصلح‏ أن يكون صفتى الغالبة فى هذه الخبرة على الأقل.

‏كما رجحت‏ ‏أن‏ ‏هجومهم‏ ‏هو ليس‏ ‏من‏ ‏أجلى، ‏بل‏ ‏ربما كان تجسيداً لصعوبة المسار، واعتبار أننى‏ ‏أتمسك‏ ‏بالالتزام‏ ‏بالواقع‏ ‏إلى ‏قاع مرارته‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏أصر‏ ‏فيه‏ ‏على ‏التطور‏ ‏إلى ‏غاية‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏.‏

فى العلاج النفسى قد يصل للمريض صورة المعالج باعتباره والداً قاهرا، أو سلطة كابتة تمثل نفس هذا السقف الذى رأيته فى عيونهم، وتصبح هذه الصورة معطـِّلة للعلاج حين تتداخل الأدوار، فيغلب على العلاج شكل الضبط والربط، وأيضا تأثير السلطة الوصِيـَّة، وكثيرا ما يقوم الطبيب أو المعالج بهذا الدور بشكل لا شعورى (أو شعورى) حين تتحكم فيه منظومته القـِيمِيـَّة الخاصة، أو نواهى دينه، أو قهر مجتمعه، فينتقل ذلك إلى المريض بشكل معطـِّـلِ غالبا.

(5) واللى ‏شايفنى ‏حرامى ‏أصلى ‏معـتـبـر‏.

‏لا يتوقف تشويه صورة القائد أو المعالج ‏فى ‏عيون‏ ‏البعض عند رفض المهارة القصوى و”الفلهوة”، وإنما تمتد للاتهام بأنه شخصية ‏ملوثة‏ ‏فى ‏قيمها الأخلاقية‏، حتى السرقة أو النصب.

 ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏أمامى ‏أن‏ ‏أرد‏، ‏بل‏ ‏كان علىّ ‏أن‏ ‏أواصل‏ ‏مسيرتى ‏فى ‏صبر‏ ‏عنيد‏، ‏محاولا‏ ‏إعادة النظر، ‏ومنتظرا حكم‏ ‏الزمن‏، ‏وفاعلية‏ ‏ما‏ ‏أقدر‏ ‏عليه لخيرى وخير‏ ‏الناس‏، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏أقسى ‏التجارب‏ ‏التى ‏مررت‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏يأتى ‏هذا‏ ‏الاتهام‏ ‏من الأقربين جدًّا، ‏ويتأكد ذلك حين‏ ‏كنت‏ ‏أرفض‏ ‏أن‏ ‏أحملهم‏ – ‏بسلبياتهم‏ ‏ومثاليتهم‏ – ‏على ‏محفة‏ ‏نجاحى ‏الذى ‏دفعت‏ ‏فيه‏ ‏ما‏ ‏دفعت‏.

قبول ورفض واحترام ومراجعة:

أقر وأعترف مرة أخرى أن هذه الموجات من‏ ‏ ‏النقد‏ حتى الشجب كانت ‏مُوقِظـَة‏ ‏لى ‏فى ‏كل‏ ‏حين‏، ‏فكنت‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أعتبرها آراء‏ ‏صحيحة ‏ما‏ ‏أمكن ذلك، ‏حتى ‏أظل‏ ‏منتبها‏ ‏إلى ‏احتمال انحرافى‏،

يمكن‏ ‏أكون‏ ‏أنا‏ ‏كل‏ ‏ده‏.‏

‏لكنى ‏أبدا‏ ‏مش‏ ‏كده‏. ‏

 ‏فأشكرهم‏ ‏فى ‏قرارة‏ ‏نفسى ‏على ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ – ‏رغم‏ ‏عنف‏ ‏الألم‏  –  وقد استمرت‏ ‏معى ‏هذه‏ ‏المعاناه‏ ‏مدة‏ ‏طويلة، ‏فلا‏ ‏أنا‏ ‏أرفض‏ ‏رؤيتهم‏، ‏ولا‏ ‏أنا‏ ‏أستسلم‏ ‏لها‏، ‏ومع حرصى طول الوقت ألا ‏تعوقنى هذه الرؤى ‏متحملا نصيبى من‏ ‏المعاناة‏ ‏الخفية‏، ‏‏كان‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أستمر‏ ‏فى ‏الحصول‏ ‏على ‏مقاليد‏ ‏القدرة‏ ‏تساعدنى ‏على ‏تحقيق‏ ‏رؤيتى ‏التى ‏أُلقـِـيـَـتْ‏ ‏على ‏وجدانى ‏وفكرى ‏قولا‏ ‏ثقيلا‏، ‏وما‏ ‏أصعب‏ ‏كل‏ ‏هذا‏!

‏كنت – وما زلت – على يقين من أن ‏من‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏نفسه‏ عليه ‏ألا‏ ‏يرفض‏ ‏رؤية‏ ‏غيره‏ ‏له‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏دوافعها‏، ‏ومهما‏ ‏بدت بعيدة عن الحقيقة‏، ‏ومهما‏ ‏كان‏ ‏الألم‏ ‏المترتب‏ ‏على ‏تبنى ‏هذه‏ ‏الرؤى ‏المشوهة‏ ‏والمزعجة‏، ‏فإن‏ ‏وظيفة‏ ‏وجهات‏ ‏نظر‏ ‏الآخرين‏ ‏لا‏ ‏بديل‏ ‏لها‏ ‏إلا‏ ‏أوهام‏ ‏الوجود‏ ‏المعصوم‏،‏ وهكذا فإن الذى حدث – غالبا– هو أنه فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏كنت‏ ‏أتقبل‏‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏تماما‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏رفضتها‏ ‏ظاهريا، كنت ‏أعلم‏ ‏فى ‏آخر‏ ‏طبقات‏ ‏وجودى ‏أننى ‏لست‏ ‏مجرد ما يظهر منى لهم، لكننى أيضا هو ما يصلهم، ‏فالرؤية‏ ‏الجزئية‏ ‏المنحازة‏ ‏هى – ‏فى ‏النهاية‏ – ‏ورغم‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أفيد‏ ‏منها‏ – هى ‏رؤية‏ ‏جزئية‏ ‏منحازة، لكنها فى نفس الوقت رؤية محتملة، إذن ‏لا يجوز التوقف عند اتهامهم أنهم لا‏ ‏يرون‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يحتاجون‏، ‏أو أنهم‏ ‏لا‏ ‏يريدون‏ ‏أن‏ ‏يروا‏ ‏بقية‏ ‏ما هو أنا، فأعود أتقمصهم وألتمس لهم العذر، وأرفضه فى نفس الوقت، حتى أنى عدت أراجع مواقفهم لأفهم أكثر ما وراءها مما قد يفسرلى بعض ما حيرنى وآلمنى (بينى وبين نفسى غالبا) كما يلى:

شوفوا‏ ‏كويس‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏

(1) واحد‏ ‏يقول‏: ‏خايف‏ ‏أشوفك‏ ‏لسـَّـه‏ ‏حـَـبـَّـه‏

‏أحدهم‏ ‏يؤجل‏ ‏الرؤية‏ ‏باستمرار، ‏ويساورنى ‏الشك‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التأجيل‏ ‏هو‏ مجرد عجز عن الاتهام، وفى نفس الوقت هو خوف من التبعية، وقد يستمر هذا الموقف ‏إلى ‏ما لا‏‏ نهاية‏.‏

(2) والتانيهْ ‏بتقول‏: ‏يا‏ ‏حرامْ‏!! ‏طبْ‏ ‏حبـَّـه‏ ‏ حبـَّـه

هذه الثانية‏ ‏تشفق‏ ‏(‏على ‏نفسها‏ ‏فى ‏الأغلب‏) من‏ ‏الرؤية  ‏وتعلل‏ ‏ذلك‏ ‏بأنها‏ ‏ترى ‏بقدر ما تستطيع، وقد كنت أرعب من هذه الشفقة بقدر ما أرفضها دون أن أنكر على نفسى حاجتى إليها.

 (3) والتالت‏ ‏إلمسطول‏ ‏لو‏ ‏الكرباج‏ ‏يطرقع‏ ‏جوا‏ ‏مخه يشوف‏ ‏دقيقة‏،

                                بس‏ ‏فينه‏ ‏من‏ ‏الحقيقة‏

هذا الثالث الغائص فى‏ ‏ذاته‏ ‏قد‏ ‏يرى ‏عقليا‏ ‏فقط‏، ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يجرؤ أن يواصل الرؤية ، ويختبرها، هذا الثالث بالذات كانت رؤيته مخترقة فعلاً: مرة اتهمنى بأنى أكبر “شيزيدى” (انطوائى منغلق على ذاته) فى الجماعة، ففزعت لأننى كنت تصورت ذلك عن نفسى فى لحظات سابقة، أما أننى كذلك طول الوقت فهذا ما اكتشفت خطأه بالتدريج: “بس فينه من الحقيقة”.

(4) والرابع‏ ‏اللى ‏خوفه‏ ‏عازلــه‏ ‏جوا‏ ‏سجن‏ ‏المزه‏، ‏أو‏ ‏جبل‏ ‏الجيوشى،

‏ الوِدّ ‏وِدّهُ‏ ‏يشوف‏ ‏ضلام‏ ‏القبر‏، ولا‏ ‏إنه‏ ‏يدوق‏ ‏الصبر،

                                  الصبر‏ ‏مـر‏ ‏والشوف‏ ‏يضر‏.‏

هذا الرابع‏: كان يرفض‏ ‏أن‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏قوقعته‏ ‏التى ‏تحميه‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏رؤية‏ ‏عادلة‏، ‏فيها‏ ‏أدنى ‏تفاعل‏ ‏موضوعى ‏يحمل‏ ‏تهديد‏ ‏الخروج‏ ‏إلى ‏مواجهة‏ ‏الحياة‏، ‏وتـَـحـَـمـُّـل‏ ‏مسئوليتها‏، وعلينا أن نتذكر تلك الحقيقة البسيطة التى تـُنـَبـِّهنـُا إلى أنه:

 أن ترى الآخر كما هو، إنما يعرضك أنت أيضا أن ترى نفسك،

ثم الأخطر : هو أنه يعرضك أن تغامر بعلاقة حقيقية معه… إلخ.

عودة إلى محاولة قراءة تالية:

حين تيقنت أن سعيى أن أرى نفسى من خلال رؤية الآخرين لى – على الأقل فى هذه الخبرة المعيشة – هو بلا طائل يرضينى عبرت إلى مستويات وعيى شخصيا أقرأ ما يصلنى عنها، بأقل قدر من الاستبطان كما نبهت.

 وسجلت المحاولات كالتالى:

أولاً: ‏ليسوا‏ ‏هم‏ ‏فقط‏ ‏الذين ‏يرونى ‏شاطرا‏ ‏وحاذقا أو دكتاتورا أو نصابا، ‏إلخ‏ ‏ولكنى ‏أنا‏ ‏أيضا‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏كنت‏ ‏أتفرج، ‏على ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏الظاهر ‏الشاطر‏ ‏الحاذق‏ – الذى هو “أنا” – ‏وكأنه ‏لا‏ ‏يـُـجـَـارى ‏فى ‏مجالات‏ ‏النجاح‏، ‏والجمع،‏ ‏والصعود، حتى أن بعض من انبهر بى، وصدق مبادئى، أو صدق ما أعلنه من مبادئ على الأقل، قال لى ذات مرة أنه من غير المعقول أن أحقق هذا النجاح بوسائل نظيفة، معتقداً أنه لا أحد يستطيع أن يحقق مثل ذلك فى بلد مثل هذا، فى عصر مثل هذا، إلا لو استعمل وسائل النجاح الشائعة المتاحة، وهى ليست دائما، ولاغالبا، وسائل نظيفة، مرة أخرى: لم أكن أرفض ذلك بشكل متشنج أو مباشر، حتى أستطيع أن أعود لنفسى، وأبحث فى وسائلى، وليس فقط فى نتائجى، كان هذا الهاجس يدفعنى دائما – كما ذكرت – أن أعيد النظر هكذا:

‏… ‏وساعات‏ ‏أبص‏ ‏لإيدى ‏وانا‏ ‏بالعب‏ ‏ببيضتين‏ ‏والحجر‏،‏

أو‏ ‏لما‏ ‏باقـلـب‏ ‏فى ‏التلات‏ ‏ورقات‏ ‏واخـَـبـِّــى ‏فى ‏الولد‏.‏

وأقول‏ ‏يا‏ ‏ناس‏ : ‏بقى ‏دول‏ ‏إيدىّ ‏اللى ‏بصحيح‏ ‏؟

‏                                            ‏بقى ‏ده‏ ‏أنا‏ ‏؟‏ ‏

أعرف أن التكرار أصبح أكثر مما ينبغى، لكننى أريد أن أقتطف من جديد جزءا محدودا مما ورد من شعرى بالفصحى، بالذات ديوان “سر اللعبة” مكرر:

“هذبت‏ُ ‏أظافر‏ ‏جشعى، ‏

ولبست‏ ‏الثوب‏ ‏الأسمر‏،

ولصقت‏ ‏اللافتة‏ ‏الفخمة‏‏،

وتحايلت‏ ‏على ‏الصنعة،

وتخايلت‏ ‏طويلا‏ ‏كالسادة‏ ‏وسط‏ ‏الأروقة‏ ‏المزدانة‏ برموز‏ ‏الطبقة.‏..، …‏،

هأنذا‏ ‏أتقنت‏ ‏اللغة‏ ‏الأخرى، 

حتى ‏يُسمع‏ ‏لى، ‏فى ‏سوق‏ ‏الأعداد‏ ‏وعند‏ ‏ولى ‏الأمر”

لا أعتقد أنه قد سُمِع لى، فى سوق الأعداد وعند ولى الأمر، وحين سُمِعَ لى، لم يكن ذلك بسبب ما أنجزت، أو ما حققت من نجاح أفخر أنا به بينى وبين نفسى، ولكن كان إما بالمصادفة، وإما لأسباب لا أعرفها.

 حصلت على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب بمحض الصدفة، وها هى ذى تفاصيل تلك الصدفة:

 المرحوم أ.د. إبراهيم توفيق، أستاذ أمراض القلب فى جامعة الإسكندرية، أصبح صديقى لظروف خاصة، عرَّفنى د. إبراهيم على بعض أصدقائه (ثلته)، وكان من بينهم الناقد الطيب الحاذق “يوسف الشارونى”، (والكاتب والشاعر – أركان حرب!! – محمد الحديدى وغيرهم)، فى مناسبة بالصدفة حضر مع أ.د. إبراهيم الأستاذ يوسف الشارونى وقدمنى صديقى د.إبراهيم على أنى كاتب وكذا، وعرفه بكتابى الأول “عندما يتعرى الإنسان، طلقات من عيادة نفسية”، وهو كتاب لم أتحمس له كما ذكرت من قبل([17])، فانتهزتها فرصة، وأخبرت الأستاذ يوسف الشارونى أن لى رواية من جزأين طبعتها على حسابى الخاص، فرحب ترحيبا شديدا بطيبة فائقة أن يطلع على هذا وذاك.

فهى المصادفة..

 نفس هذه الرواية كنت قد كتبتها ونشرتها بمحض الصدفة أيضا هكذا:

الحكاية أننى كنت أكتب فى “مجلة الصحة” التى كانت تصدرها وزارة الصحة وترأس تحريرها د. نوال السعداوى فى السبعينات، سلسلة من المقالات تحت عنوان “يوميات مريض نفسى”، أناقش فيها – ساخرا – كيف يشخص المريضُ الطبيَب مثلما يشخص الطبيب المريض، وكيف يلف المريض النفسى على التخصصات المختلفة وهو يبدى رأيه فى كل منها، حتى يصل إلى تشكيلات الطب النفسى بأنواعها، فينقدها – المريض – الواحد تلو الآخر أيضا، وكلام من هذا، ثم توقفت المجلة، وحين أتيحت الفرصة لى أن أرجع إلى ما كتبت وجدته يصلح مخططا لمسودة رواية ما، فكتبت الجزء الأول باسم “الواقعة”، وكنت أود أن أشير من خلالها إلى أن خبرة الجنون هى أقرب إلى “قيام القيامة” “إذا زلزلت النفس زلزالها، وأخرجت الذات أثقالها، يومئذ تحدث أخبارها، فإذا ما أكمل صاحب مثل هذه الخبرة المزَلْزِلة الطريق إلى وجه الحق تعالى، فقد نجح فى المشى على الصراط بالسلامة، ثم إنى بعد ذلك دخلت هذه الخبرة الجماعية التى هى أصل ومصدر الهام ديوانى “أغوار النفس”، ثم انتظمت فى ممارسة العلاج الجمعى مما أغرانى بكتابة الجزء الثانى من الثلاثية الذى أسميته “مدرسة العراة”([18]). فكادت تكون الخبرة الروائية الموازية التى أفرزت ديوان “أغوار النفس”.

وقد جاءت طباعة هذين الجزأين بعد مصادفة أخرى أحكيها كالتالى:

كنت أطبع بالاشتراك مع زميلى المرحوم أ.د. عمر شاهين كتابا دراسيا فى الأمراض النفسية بهدف ترقيته أستاذا أو شيئا من هذا القبيل، وانتهينا من طباعته فى مكتبة ابن المرحوم كامل الكيلانى بعابدين، وكان يملكها ويديرها “رشاد” ابنه (على ما أذكر)، وبعد انتهاء الطباعة حين كنت أودع الأستاذ “رشاد الكيلانى” شاكرا، سألنى إن كان لدى كتاب جاهز للطباعة، لأن المطبعة لا تجد ما تطبعه هذه الأيام، فقلت له نعم، وأخذت المسودة، وأعطيتها له فخرج الجزءان، على ورق صحف قبيح أسمر لضيق ذات اليد، وعلى حسابى الخاص، ثم جاءت مقابلتى مع الناقد الكريم يوسف الشارونى السالفة الذكر.

بعد أقل من أسبوعين حضر إلى فى العيادة الأستاذ يوسف الشارونى بنفسه يستأذن أن يقدم الرواية إلى لجنة الجوائز، وتصورت أنه يجاملنى من أجل خاطر صديقنا أ.د.إبراهيم توفيق، لكنه كان جادا، ثم إنه بعد شهور، حضر متفضلا قبل إعلان الجوائز رسميا وأخطرنى بنيل الجائزة، وفى اجتماع لاحق بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، أخطرنى المرحوم الأستاذ الدكتور محمد أحمد خليفة بأن الرواية نالت الجائزة بالإجماع… إلخ، بعد إعلان حصولى على الجائزة ثارت ثائرة كثير من الأدباء وبعض النقاد، واتهمنى بعضهم مباشرة أننى حصلت على الجائزة لأننى وافقت (أو شاركت) فى التطبيع مع إسرائيل، وكلام كثير من هذا،  بعد أن خلطوا بينى وبين حماس المرحوم أ.د.شعلان ليس للتطبيع وإنما لقبول تحدى “السلام”.

هذه جائزة تشجيعية لم أنل غيرها طوال حياتى، (حتى الآن)،([19])

هذا الاستطراد – كجزء من السيرة الذاتية – ربما يبين كيف أنه لم

“يُسمع‏ ‏لى، ‏فى ‏سوق‏ ‏الأعداد‏ ‏وعند‏ ‏ولى ‏الأمر”

 إلا مصادفة!!

 لكن فى مرة أخرى، جاء التقييم عفوا من جهة غير رسمية، وذلك حين اتصل بى أ.د. أحمد مجاهد ثم أ.د. أحمد نوار، وأخبرانى أن جماعة الأدباء قد اختارونى رئيسا لمؤتمر أدباء مصر الذى عقد فى سوهاج (12–14 ديسمبر 2006)، بصراحة فرحت بهذا الاختيار أكثر من فرحتى بالجائزة السالفة الذكر، كان اختيارا من ذى صفة، ودون أن أتقدم إليه، وقد ذهبت، وتعجبت، وشكرت، ورأست، كما كانت فرصة رائعة لأن أتعرف على هذا الإنسان الفارس المبدع النادر د. أحمد نوار، وأيضا على نقاد وأدباء من أكرم وأشرف من يمكن أن أتعرف عليهم، هل حقيقة أن كل هؤلاء الكرام قد تفضلوا فأكرمونى برئاسة مؤتمرهم، لماذا؟ ومن أنا؟ كان هذا، ومازال أكثر كثيرا مما أستحق، ولا أظن أنه قد حدث لأنى شاطر، أو لأنى أحذق اللعبة ببيضتين والحجر، لكننى، وقبل انتهاء المؤتمر، وقد كنت قد ألقيت كلمة الافتتاح مع المحافظ وغيره، وكان المفروض أن ألقى كلمة الختام، وجدت نفسى أنسحب، وبدون أدنى سبب حقيقى، اعتذرت عن اليوم الأخير وسافرت فجأة قائدا سيارتى من سوهاج إلى القاهرة، ولم أعرف حتى هذه اللحظة، لماذا اعتذرت ولماذا سافرت هكذا فجأة، ولم يتصل بى أحد بعد ذلك يسأل أو يعاتب، أو يتساءل، لكننى أحسست – ومازلت – أن بى شيئا خطأ فعلا يحتاج إلى تفسير لم أعثر عليه حتى الآن، شيئا لعله مرتبط بأننى رفضت ما لا أفهم طبيعته وآلياته حتى لو كان حقى.

فهل يصح بعد ذلك أن يرانى زملاء هذه الخبرة التى حكيتها شعراً فى ديوانى “أغوار النفس” وروايتى فى الجزء الثانى من ثلاثيتى “مدرسة العراة” هل يصح أن يرونى أو أرى نفسى ممثلا لهذه الشطارة الغامضة؟

هذا، وقد رأيت أنه من المناسب أن أثبت هنا ما كتبته فى تعتعة الدستور (20/12/2006) بعد المؤتمر مباشرة وهو كما يلى بالنص:

سوهاج، وأدباء مصر، والعلماء البروليتاريا

بتشريف طيب، حظيت بالمشاركة (رئيسا) فى مؤتمر أدباء مصر فى سوهاج، (12/2006) ولظروف قاهرة لم أكمل لليوم الأخير، الرسالة التى وصلتنى من معظم مداخلات المؤتمر، كانت بنفس قوة ودلالة الرسالة التى وصلتنى من انتهازى فرصة وجودى فى جوف الصعيد، لأقوم بزيارة منازل بعض أصدقائى: من العاملين معى بالقاهرة فى دورهم المتواضعة جدا، الجميلة – بهم – جدا، فى “كوم يعقوب” مركز أبو طشت.

 الصعيد هو الصعيد، لا أحد يعرفه إلا إذا اختبر مذاقه مثل مذاق الويكة (البامية المهروسة المشططة)، وصلتنى حركية الناس “بلا لوحات حكومية” مثل حركية التُّكتُـك، كما بدت لى بهلوانية السيارات على الطريق الزراعى كموتسيكلات تجرى رأسيا على جدار دائرى أملس فى سيرك أسطورى مـِـلـْـك “أولاد الحاج أبيدوس”.

 من المؤتمر والناس تضاعفتْ آلام تفاؤلى المزمن، حتى قلت للمحافظ اللواء محسن النعمانى، وللدكتور أحمد نوار: “الله يسامحكم، هل أنا ناقص؟ سأعود لأبدأ من جديد، بأمل جديد، وألم جديد، برغم كل شىء”. ردّا ردا طيبا نبّهنى إلى بعض ما أحاوله هنا وهناك. الدكتور أحمد مجاهد لا يهمد، والشاعر مسعود شومان لا ينطفئ، والجميع فرحون بشىء ما، شىء طيب قادم لامحالة، لعله هو ما لاح لنا فى فيلم سيرة محمد عفيفى الذى عرض ذات مساء، مع أمسيات المؤتمر لتؤكده أمسية سيد حجاب الشعرية الحيوية المزلزِلة.

المؤتمر كان عن “مراجعة الدور المصرى فى معظم المجالات” (أو كل المجالات) وليس فقط فى مجال الأدب، تساءلت: هل هذا من حق الأدباء؟ أجبت نفسى: نعم، بل هو واجبهم. استقبلت العنوان باعتبار أن المقصود هو: مراجعة دور “الإنسان المصرى”، وليس بالضرورة دور مصر “الوطن، أو مصر الدولة”. لم يعد الإنسان المصرى مثله مثل كل إنسان الآن عبر العالم يعمل لنفسه فقط، ولا حتى لبلده، هو يعمل بالأصالة عن نفسه والنيابة عن كل الناس. إنقاذ البشرية أصبح “فرض عين” على كل فرد حيثما كان، إذا قام به البعض لا يسقط عن الباقى. الأديب المصرى المبدع الحقيقى هو ممثل شرعى للإنسان، بدءا بالإنسان المصرى حين يستوعب وعى ناسه بلحمه ودمه، ليس للزيف فيه نصيب، ليفرزه إبداعا قابلا للتواصل العالمى، بعد أن أتيحت الفرصة بثورة المشتبكات المتلاحمة أمميا دون حدود أو وصاية أو رقابة، الرقم الذى أعلنه الدكتور مصطفى الضبع فى المؤتمر عن عدد “مواقع” الإنترنت الخاصة عبر العالم والذى يربو على ثلاثين مليونا موقعا أدهشنى بقدر ما أسعدنى، كما فرحت حتى الخجل من تقصيرى حين سمعت الأرقام التى أعلنها د. أحمد نوار عن نشاط قصور الثقافة ومساحة حركية قوافلها خلال عام وبعض عام. أليس من الطبيعى أن أنوء تفاؤلا مؤلما وأنا أستلهم روح الكفاح اليومى لأهل كوم يعقوب مركز أبو طشت، جنبا إلى جنب مع حيوية المحافظ الذى شعرت بطزاجة دهشته المتجددة وهى لا تقل بهرا عن مسئولية الإدارة وحفاوة الكرم اللذين عشناهما فى ضيافته، ليصلنى كل ذلك وسط دفق معلومات نشاط د. نوار ومعاونيه؟

من موقعى المهنى والأكاديمى تأكد لى ما آل إليه حال أغلب العلماء فى علاقتهم بشركات الدواء كعينة لما يجرى فى مجالات أخرى، العلم “باهظ التكلفة” لم يعد تقدر عليه إلا الشركات العابرة بالغة العـَمـْلـَقـَة، التى تدير العالم لحسابها بواسطة الحكومات الذاهلة أو الشريكة، هذه الشركات لا تستطيع أن تشترى أديبا أو شاعرا ولا بجائزة نوبل، لكنها تشترى العلماء (دون وعى منهم غالبا). قلت فى كلمتى فى المؤتمر:

لقد أصبح العلم المؤسسى كنيسة فى خدمة كهنة السيطرة وباباوات التحكم فى مصائر البشر، لصالح الشركات العملاقة المتحالفة مع المافيا والأصوليين عبر العالم، لم يعد الخطر يقتصر على الخوف من سوء استعمال ناتج العلم للتدمير والإبادة، دون التعمير والتقدم، وإنما تمادى إلى الخوف من الاستمرار فى تسخير العلماء لخدمة المال، دون البشر، حتى وصل الأمر إلى استخدام العلم والمعلومات والعلماء لبرمجة الناس لصالح الاستهلاك لا الإبداع، وإلهاء الكافة عن أولويات ما يحفظ بقاءهم ويحفز تطورهم.

العلماء أصبحوا بروليتاريا العصر الحديث، تستغلهم الشركات العملاقة بطرق أبشع وأخبث.

العلماء يستنقذون بكم معشر الأدباء والشعراء والتشكيليين وسائر المبدعين الأحرار والنقاد.

قرب الختام قلت:

الإبداع فى كل مجال، دون استثناء هو الحل: انطلاقا من تعديل مناهج التعليم (بما يشمل تثوير دور المعلم) وحتى التضفُّـر والجدل البنّاء بين كل منظومات المعرفة.

إن نقد المؤسسة العلمية الاحتكارية لا يقل إبداعا وضرورة عن نقد المؤسسة الدينية التقليدية الفوقية، كما أن نقد المؤسسة التعليمية الرخوة القشرية الآسنة، لا بد أن يتواكب مع نقد المؤسسة الثقافية الأعلى.

……..

(انتهى المقال تقريبا)

وبعد

أشعر أن هذا الحديث عن مؤتمر الأدباء، الذى كنت رئيسا له، لا أدرى كيف، وعن موقفى منه قد يكون ردا مناسبا على هذه الاتهامات لشخصى والظنون التى خطرت لهم بشأن دورى الظاهر، وهى أيضا الطنون التى سجلتها على نفسى، تبينت وأنا أعيد قراءة هذا الشرح على هذا الجزء من المتن أنه بمثابة تبرير للحديث عن شخصى الذى طال، حيث امتدت الاستطرادات على هذه القصيدة “المعلم”، حتى كادت تصبح سيرة ذاتية مستقلة، أكثر منها شرحا على متن بهدف دراسة “فقه العلاقات البشرية”، وخاصة فى العلاج النفسى (نقد النص البشرى)، إذن ماذا؟

أشعر أننى مدين بالاعتذار، وليكن هذا الفصل مكملا بشكل أو بآخر لترحالاتى الثلاثة ([20])، العلاقة بين هذه الجزئية المحدودة وهذا العمل الحالى هى أنها جديرة بأن تطرح عدة تساؤلات، هاكم بعضها:

  • إلى أى مدى تؤثر صورة الطبيب النفسى أمام نفسه، ومن مصادر أخرى غير العلاقة العلاجية، على ممارسته العلاج النفسى (أو الطب النفسى عموما)، وعلى علاقاته بمرضاه أثناء العلاج النفسى؟

(2) إلى أى مدى يؤثر نجاح الطبيب النفسى فى الحياة العملية على أرض الواقع (بقياس المال والسلطة والشهرة… إلخ) على مهنته، وما علاقة ذلك بمثالية بعض الأطباء والمعالجين حقيقة أو تصورا؟

(3) ما هى علاقة أدوار الطبيب النفسى المختلفة، كما تصل إلى الناس من مصادر مختلفة، بدوره كمعالج، وكطبيب؟

(4) ما هى الصورة الأكثر صدقا؟ رؤية الطبيب النفسى لنفسه؟ أم رؤية الناس له؟ أم رؤية مرضاه له؟ (على اختلافهم)، وكيف يوفق بين هذا الأدوار وغيرها؟

هيا نواصل ونرى كيف يرى نفسه:

(5)

وساعات‏ ‏أشوفنى ‏حكيم‏ ‏وعمرى ‏ألف‏ ‏عام‏.‏

شايف‏ ‏تمام‏ ‏عارف‏ ‏تمام‏. ‏

كل‏ ‏اللى ‏راح‏، ‏واللى ‏احنا‏ ‏فيه‏،

 ‏واللى ‏حاييجى ‏بدون‏ ‏أوان‏.

كنت دائما أعرف أن هذه اللحظات الباهرة الخطرة، من المعرفة الكاملة المحيطة ينبغى أن توضع فى مكانها، وإلا توقـَّف النمو، وأُضِيرَ الجميع، وأولهم أنا.

مسئولية المعرفة تحتد حين نواصل المعرفة، لكن حين نتصور، لأى سبب من الأسباب (حقيقة نسبية، أم غرورا، أم جنونا، أم جهلا) أننا قد عرفنا كل شىء، فمعنى ذلك أنه لم يعد ثمَّ معنى لوجودنا بشرا، من أقبح ما قرأت للمتنبى، بيته المشهور:

وعلمتُ حتى لا أُسائِلَ واحداً    عن علمِ واحدةٍ لكي أزدادَها

 وعلى النقيض من ذلك فكما علّمنا مولانا النفّرى فإن فضل “الجهل، الذى ليس ضده العلم”، هو مفتاح المعرفة الممتدة، عرفت ذلك من مرضاى، ومن كل مصادر الإبداع والعلوم الأحدث.

لكننى أعرف من خلال مرضاى أيضا، وأحيانا من خلال خبرات عابرة سريعة، أن هناك يقينا آخر، ليس يقينا بوفرة المعلومات حتى الإلمام بكل العلوم كما زعم المتنبى، أو كما أتصور أنا حجم معلومات أبى العلاء المعرى، وإنما هو يقين معرفة تعلن التماهى بين أصغر مكوناتنا (الدنا) وأوسع مجالات الوعى الكونى إلى الحق تبارك وتعالى، هذه لحظات يقين تلغى الزمن لتحتويه، دون إنكار، وتشمل الكون لتمثله، دون انمحاء، وهى فى حضورها الإيجابى: نقطة عودة إلى التفاصيل على أرض الواقع، أما فى تشوّهِها السلبى، فهى نقطة توقف عند اللاشىء، على أنه كل شىء.

 مع احترامى لكل ما تعلمته من المرضى، فإن أغلب خبراتهم فيما يمكن أن يسمى “المعرفة الكلية اليقينية” هى خبرات سلبية تشمل العالم ولكن لا لتحتويه، وإنما لتمحوه فى الذات وليس العكس، وقد وصفت احتمال المآل السلبى لهذه الخبرات الرائعة بما خطر لى فى قصيدة “رقصة الكون” فى ديوانى “سراللعبة” من حيث أنها لا أمان لها إن لم يحتوها جدل مسئول يفرز تشكيلا قادرا ناميا فى الذات أو خارجها:

وعرفت يقيناً أن المعرفة الحقة،

هى فى المعرفة الحقة،

دون دليل أو برهان

إلى أن قلت:

لِمَ أشْرقَ فى نوركْ؟

فانطمس العالم إلاىْ

 نفس هذه اللحظة قد تكون هى لحظة التقاء الأجزاء المتناثرة فى توجـُّهٍ ضاٍّم نحو تجـَمـُّع يقين الإشراق، إلى المطلق الممتد، بالإبداع الممكن، أكملتُ  قائلا:

‏فى ‏ذاك‏ ‏اليوم‏: ‏رقصت‏ ‏حبات‏ ‏الرمل‏، ‏وتعانق‏ ‏ورق‏ ‏الأشجار‏،

‏وسرت‏ ‏قطرات‏ ‏الحب‏.. ‏من‏ ‏طين‏ ‏الأرض‏ ‏إلى ‏غصن‏ ‏الوردة‏،

‏وتفتحت‏ ‏الأزهار،. ‏فى ‏داخل‏ ‏قلبى، ‏فى ‏قلب‏ ‏الكون‏.

‏وارتفع‏ ‏الحاجز‏ ‏بين‏ ‏كيانى ‏والأكوان‏ ‏العليا‏

.. ‏أصبحتُ‏ ‏قديما‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏شئ ‏قديم‏ ‏قبلى،

 ‏وامتد‏ ‏وجودى ‏فى ‏افاق‏ ‏المستقبل‏،

‏دون‏ ‏نهاية‏

‏فعرفت‏ ‏الله‏،

 ‏وعرفت‏ ‏الأصل‏ ‏وأصل‏ ‏الأصل‏([21])

لا أدعى أننى رأيت نفسى فى تلك اللحظات كثيرا أو طويلا، لكننى أزعم أننى حين أقترب منها، أو تقترب منى أخاف، وأزيحها جانبا، وأنزل بسرعة إلى أرض الواقع، أبحث عن “جهلى” أحتمى به، وعن “الآخر” أدفع به تألها مشوِّها.

 نعم كنت أرانى معرضا لهذا الاحتمال أحيانا، وهذا قريب من بعض ما جاء فى مقدمة هذه القصيدة، فأنتبه بسرعة، وأعود فرحا “بعاديـّتى” و”جهلى” كما ذكرت.

ثم تتواصل محاولة رؤيتى ذاتى من بعد آخر عـَبـْر جدلى مع والدى فى نفس القصيدة  “المعلم” فى ديوان “أغوار النفسى” كالتالى:

 (6)‏

وساعات‏ ‏أشوفنى ‏أبويا‏ ‏صُحْ‏.‏

بس‏ ‏الزيادة‏ ‏إنى ‏لابس‏ ‏بدله‏ ‏وارطن‏ ‏باللسان‏،‏

وأقول‏ ‏كلام‏ : ‏قال‏ ‏إيه‏ ‏لصالح‏ ‏البشر‏،‏

‏                           ‏وللتاريخ‏ !!‏

لكنه‏ ‏الله‏ ‏يرحمه‏:

كان‏ ‏يعبد‏ ‏اللوزة‏ ‏وطين‏ ‏الأرض‏ ‏والورد‏ ‏الطويل‏،‏

مزيكته‏ ‏كانت‏ ‏مكنة‏ ‏الرى ‏تغنى ‏تحت‏ ‏جميزه‏ ‏كبيرة‏ ‏مضللة‏،‏

واسأل‏ ‏فى ‏نفسى:‏

أنهو‏ ‏اللى ‏أصلح‏ ‏للتاريخ‏ ‏؟

الكلمه‏، ‏والحب‏ ‏السعيد‏، ‏فى ‏أوده‏ ‏ضلمة‏ ‏منعكشه‏‏؟

                           أو‏ ‏لوزه حلوه‏ ‏مفتحه‏؟؟‏ ‏

‏علاقتى بأبى علاقة طويلة شائكة رائعة، كتبت فى ترحالاتى فصلا كاملا عن “أمى([22])  لكننى لم أفرد فصلا لأبى، أحسن!! ما زال أبى ياتينى فى أحلامى حتى هذه السن، وكلما حضر واستيقظت سألت نفسى: ألم أتمثله تماما بعد؟ لماذا يظل أبى يشغل داخلى هكذا مستقلا حتى الآن بما يتيح له أن يحضر فى عالمى الآخر من جديد([23])

هذه اللقطة تبدأ بالتنبيه إلى أن جدل “الابن – الأب”، يبدأ بالاعتراف بالتقمص

 “وساعات أشوفنى أبويا صُح”

 وبالتالى يمكن أن تتراجع ‏ ‏ ‏تلك‏ ‏المعركة‏ ‏الوهمية‏ ‏التى تبالغ فى التركيز ‏عليها الثقافة الغربية، بما أتصور معه أنه أمر معطل‏ ‏للنمو‏ ‏الفردى ‏والتطور‏ ‏حيث‏ ‏تبدو‏ ‏السلطة‏ (‏ممثلة‏ ‏فى ‏الأب‏) ‏كأنها‏ ‏إعاقة‏ ‏للتطور‏ ‏على ‏طول‏ ‏الحظ‏.

فى ‏خبرتى (‏وفى ‏رأى ‏إريك‏ ‏بيرن‏ ‏كذلك‏) ‏أن‏ ‏التصالح‏ ‏مع‏ ‏الوالد‏ (الداخلى بالذات = الذات الوالدية Parent ego state) ‏هى ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يـُـطـِـلقُ‏ ‏قدرات‏ ‏النمو‏ ‏والتكامل‏. ‏التصالح‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏الاستسلام‏، ‏ومن‏ ‏لا‏ ‏يرى ‏والديه‏ ‏فى ‏نفسه‏، ‏فيقبلهما‏ ‏ويتخطاهما‏ ‏إذْ ‏يستوعبهما‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يصالحهما‏، ‏فقد‏ ‏يمضى ‏سائر‏ ‏عمره فى‏ ‏معركة‏ ‏بين‏ ‏ذواته‏ ‏لا‏ ‏تنتهى‏. “التصالح” وارد كمرحلة قبل “الاستيعاب” حتى “التمثيل“، بما يقابل التمثيل الغذائى قياسا حين تنقلب المادة الغذائية إلى جزء لا يتجزأ من نسيج الجسم الحيوى، فى  نظريتى: “النظرية الايقاعية التطورية”([24])، ومن خلال جدل النمو يتحول “الأب المُدخل” إلى جزء من نسيج المعلومات البيولوجى، فهو النمو المتمادى.

فى العلاج النفسى: المعالج والد، خصوصا فى ثقافتنا، والأمر لا يحتاج إلى تصوير العلاقة العلاجية على أنها إعادة، أو تكرار، أو استعادة علاقة والدية قديمة وهو ما يسميه التحليل النفسى التقليدى “طرح” المشاعر السابقة على المعالج، وإنما هى علاقة نمائية طبيعية تتجدد، وتتكرر، مع اختلافات فى التفاصيل والمآل، مع كل أزمة نمو، بل ومع كل نبضة إيقاع حيوى، وعلى قدر قبول المعالج لدور الأب، ثم قدرته على التخلى عن هذا الدور لصالح نمو المريض، وقدرة المريض على قبول الاعتمادية الإيجابية المتبادلة (وليست الرضيعية) مرحليا، يكون التقدم على مسار العلاج، بعد قبول التماثل مع الوالد (أشوفنى أبويا صُحْ) يبدأ تبين الاختلافات الضرورية لصالح النمو دون تكرار النص الوالدى حرفيا.

كانت لوالدى علاقة خاصة جدا بالطبيعة، بخيوط الفجر، بهسهسة الليل، بلوزة القطن المتفتحة، وأيضا بلوزة القطن “المبندقة” (المغلقة كالبندقة)، بصوت “الحلزونة” وهى تدور، بأنفاس خفير الحظيرة وهو نائم يحرسها.

كان‏ ‏يُعبد‏ ‏اللوزْة‏ ‏وطين‏ ‏الأرض‏ ‏والوِرد‏ ‏الطويل‏،‏

كان يستطيع أن يميز صوت مكنة الرى مـِـلـْـكـِـنا بالذات، كان يميزها من بين سائر الماكينات على بعد عدة كيلومترات، كان يسمع خبطاتها وهو جالس فى شرفة “الدور الثالث” فى بيتنا بالقرية، وهو يردد ورده بعد قيام الليل.

استيقظت – طفلا – ذات ليلة، وأثناء مرورى بالردهة إلى دورة المياه، نادانى والدى من الشرفة حيث كان جالسا يتهجد، وكلفنى أن أنادى الغفير من الحظيرة ليكلفه أن يذهب إلى الحقل البعيد (العورة) حيث كان والدى يعلم أننا نروى أرضنا تلك الليلة “بالمكنة” هناك، وحين سألته لماذا؟ قال لى لأنه لم يعد يسمع صوت ماكينتنا، ويريد أن يرسله ليطمئنه، توقفت، فأرهفتُ السمع، وسمعت أصوات مكائن كثيرة، فأخبرته أن ثمة أصوات لماكينات كثيرة تأتى من نفس اتجاه حقلنا المعنى، فقال لى إنه ليس من بينها مكنتنا، فهو يعرف صوتها، أيقظت الخفير، وذهب، واستفسرت منه فى الصباح، وصدق أبى، وصلتنى هذه الذكرى الغامضة فخرج هذا البيت من الشعر:

مزيكته‏ ‏كانت‏ ‏مكنة‏ ‏الرى ‏تغنى ‏تحت‏ ‏جميزه‏ ‏كبيرة‏ ‏مضللة‏،‏

 ‏كانت روح والدى (توفى 1968) تحضرنى (يحضرنا) أحيانا ونحن نمارس هذه الخبرة التى أفرزت هذا الديوان “أغوار النفس” (1978) ومن ثم هذا الشرح “فقه العلاقات البشرية”، كان يحضرنا ونحن نسرح بخيالنا متصورين أن اجتماعاتنا تلك سوف تطلق قدراتنا معا، وبالتالى سوف تمكننا من ‏إصلاح‏ ‏الكون‏ ‏و‏هداية‏ ‏البشر‏ ‏و‏إبلاغ‏ ‏رسالة‏ ‏الوجود، شعرا، أو طِبٌّا، أو فلسفة‏، ‏أو‏ ‏بالعلم‏ ‏الجديد، ‏أو‏ ‏بالفن‏ ‏الجميل، كان يحضرنى فقط: لا محتجا، ‏ولا رافضا، وكنت أعتذر له حيث لا يراه غيرى طبعا، وأقارن بين ما نفعل جلوسا نتبادل ما تيسر، وبين علاقته الوثيقة بالطين، والزرع، واللغة، والله.

واسأل‏ ‏فى ‏نفسى:‏

أنهو‏ ‏اللى ‏أصلح‏ ‏للتاريخ‏؟

الكلمه‏، ‏والحب‏ ‏السعيد‏، ‏فى ‏أوده‏ ‏ضلمة‏ ‏منعكشه‏؟

أو‏ ‏لوزه حلوه‏ ‏مفتّحه‏‏؟؟‏ ‏

علاقة هذه الفقرة بالعلاج النفسى هى أنها ربما تنفى الإشاعة القائلة “إنه علاج بالكلام”، صحيح أن الكلام هو الوسيلة الأولى للتواصل فى العلاج وغير العلاج، لكن ينبغى أن يظل الكلام مجرد “حامل رسالة” لابد أن تُختبر على أرض الواقع وفى نبض العلاقات، الكلام، فى العلاج النفسى وغيره، إن لم يستوعبه فعل الواقع: فى شكل العمل والعلاقات خارج إطار العلاج والإنتاج اليومى البسيط، وغير البسيط، واستعادة حيوية نبض الإيقاع الحيوى، يمكن أن يؤدى إلى عقلنة معيقة Intellectualization، أو حتى إلى لفظنة مغتربة Verbalism.

التطور كله، قبل ظهور الكائن البشرى العاقل Homo Sapiens (الناطق) تم بدون كلام، فإذا جاءت هذه الإضافات (الكلام، والوعى بالوعى، والعقل المنطقى) لتضيف إلى مسيرة التطور إمكانيات التخطيط، والتنظيم، واقتصاديات الوقت، والتكافل: فبها ونعمت، أما إذا حلت محل قوانين التطور الطبيعية الأسبق حتى تضمر، فهى معيقة إعاقة قد تصل إلى التهديد بالانقراض. (ولهذا حديث آخر).

(7)‏

وساعات‏ ‏أشوفنى ‏طفل، ‏طفل،‏

إنتو‏ ‏نسيتوه‏،‏

واهله‏ ‏سابوه‏، ‏

ولا‏ ‏هوّا‏ ‏قادر‏ ‏يبقى ‏أبوه‏،‏

ولا‏ ‏انْتو‏ ‏قادرين‏ ‏تلحقوه‏،‏

يا‏ ‏ناس‏ ‏ياهوه‏:‏

يا‏ ‏تلحقوه،.،‏

‏ ‏يا‏ ‏تموّتوه‏.‏

ثم بدا لى وأنا انظر فى نفسى أنه ‏وراء‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الشطارة‏، ‏والحكمة‏، ‏والحذق‏، ‏والصدق‏، ‏والمحاولة‏‏، والتجربة، والخطأ، والدهشة، والرفض، والأبوّه، والاحتمالية، بدا لى أنه وراء كل ذلك: ‏يكمن‏ ‏كيان‏ ‏صغير ضعيف بريء، ‏لا‏ ‏قوة له حالا، إلا أنه يملك كل قوى الحياة المتمثله فى الوعد القادر!

 حين نظر “المعلم” فى نفسه لمح ذلك الكيان وهو يحاول ‏ ‏الظهور‏ ‏وسط ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الزحمة،‏ ‏ولا أحد فى الداخل أو الخارج منتبه إلى وجوده أو معترف به

“انتو نسيتوه”.

نادرا ما‏ ‏تهف‏ ‏نسمات شوق إلى‏ ‏أمانٍ آخر‏ ‏للحظات، وما أن ‏تصل رؤيتى لذاتى‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏ ‏الأصلية‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏البشرى، وهى تصلنى أيضا من بعض من يحبنى حين يرى هذا الطفل “هكذا”: ‏أستطيع أن أرى ‏طفلى ‏وراء‏ ‏كل‏ ‏ما سبق‏ ‏يقظا‏ ‏منتظرا‏، لكن ‏عادة‏ ‏لا‏ ‏يدرى ‏به‏ أحدٌ ‏وسط‏ ‏مظاهر‏ ‏القوة‏ ‏والنجاح والشطارة‏، ‏وهو لا‏ ‏يقبل‏ – ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏يستطيع‏ – ‏أن‏ ‏يكرر‏ ‏وجودا‏ ‏قديما‏ ‏معاداً.

“‏ولا‏ ‏هو‏ ‏قادر ‏يبقى ‏أبوه‏”!

 كان يبدو لى أحيانا أنه لا مغيث، مادام هذا الجانب من وجودى غير مرئى، وما‏ ‏أشق‏‏ ‏هذا‏!

وحين‏ ‏يبلغ‏ ‏الألم‏ ‏أقصاه‏ ‏يكاد هذا الطفل‏ ‏يتمنى ‏الموت‏ ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يدرك أحد‏ ‏وجوده بما هو، وكان الجوع يحتد أكثر حين ينتظر المعلم بعض ذلك من ‏أحد‏ ‏الذين‏ ‏أعطاهم‏ ‏ما عنده، فهو يأمل‏ ‏أن‏ ‏يقدر بعضهم‏ ‏على ‏الاعتراف‏ بهذا‏ ‏الطفل‏ ‏يوما‏‏، ربما ‏ليواصل متكاملا‏‏ ‏إلى ‏خطوات‏ ‏نموه‏ ‏الثابته‏ القادرة ‏المطمئنة‏ بالفعل المتجدد.

وحين يحتد الألم، أكثر فأكثر يستغيث:

يا تلحقوه، يا تموّتوهْ

لست متأكدا من مدى جدية هذه الاستغاثة، صحيح أن ألم الإنكار أو التنكر لا يطاق، لكننى لا أحسب أننى تمنيت أيه نهاية لأية بداية بشكل حقيقى، ذلك أننى على يقين أنه لا توجد نهاية لأية حياة حقيقية، يبدو أن الحياة كلها بدايات، بل إن الموت([25]) هذه الصرخة “ياتموّتوه” انطلقت قبل بصيرتى فى الموت وأنه نقلة وعى، وأزمة نمو، فهل يا ترى كان وراءها فرض ببعث محتمل؟

أما بالنسبة لعلاقة كل ذلك بالعلاج النفسى فأنا لا أستطيع أن أجزم أين موقع طفلى هذا بالنسبة للمريض؟

 فى ثقافتنا، وهو ما يجرى على لسانى كثيرا جدا، أن “الطبيب والد” بما يستتبع ذلك التأكيد على السماح للمريض بمرحلة من “الاعتمادية الرشيدة”، وهذا غير الوسواس اللحوح على استقلالية الذات، وإثباتها، وتفرّدها طول الوقت (وهو الغالب فى الغرب).

فما هو دور “طفل المعالج” فى العلاج؟

العلاج “شراكة” و“مواكبة” بقدر ما هو “رعاية” و“مسئولية“، والعلاج الذى أمارسه وأدعو له هو محاولة استعادة حقنا فى مواصلة النمو، والطفل – فينا – هو الأحق بذلك، وهو لا يواصل النمو السليم على حساب سائر الكيانات المكوّنة للذات البشرية، وإنما هو يفعل ذلك من واقع الجدل الحيوى مع سائر الكيانات (الذوات) فى النفس الإنسانية.

 هذا العلاج النمائى يتطلب استيعاب المريض من جانب المعالج “بكل ما هو”، فهو يشمل قدرا غير قليل من التقمص، بقدر ما يتطلب قدرا مناسبا من الفهم والمنطق.

المريض يحضر للعلاج عادة بطفله – الداخلى – مهزوما أو مشوها، أو طفيليا أو معاقا، والعلاج يحتاج أن ينطلق من محاولة تصحيح كل ذلك أو أغلب ذلك، لإطلاق خطوات النمو من جديد، ولا يتم هذا من خلال سماح السلطة الأبوية (الطبيب الوالد) أو قدرتها على الرعاية والحماية فحسب، وإنما يتواصل من عمق آخر – يا حبذا فى نفس الوقت – من خلال المشاركة والمواكبة والمعية([26])، وهذا قد يحتاج –  كما أفترض – إلى تحريك “طفل المعالج” فعلا.

ثم إن المعالج – المفروض يعنى – تتاح له نفس الفرصة للنمو بكل ما هو، وهذا ما يـُطـَمـْئِنُ المريض إلى أنه وَجَـدَ والدا (طفلا) من نوع جديد، يسير “معه” بقدر ما يحيط “به”.

فإذا عدتُ بعد هذا التصور الفرضى المبدئى أراجع حقيقة ما هو طفلى الخاص، الذى قفز منى فى هذا المتن هكذا، فإننى أحتاج إلى إعلان الاعتراف بما جاء فى النص وأكثر، فهى فرصة أن أراجع صداقتى للأطفال (حتى الثامنة عادة وأصغر) لأجد أننى أصاحبهم سنّا بسن، فأعيد اكتشاف حضور طفلى وحيويته.

وإليكم عينة من حادث عابر:

كنت أحدث زوجتى فى الهاتف، وإذا بصغرى حفيداتى (4سنوات) تطلب منها أن تحدثنى “عايزة أكلم جِدّى” وفرحت، وشكرتها، وأعدت عليها عرض حبى لها: إنتى عارفة يا “نور” أنا باحبك قد إيه” قالت: “عارفة”، قلت: “وأنتِ؟” قالت: “أنا ما بابحبكشى” قلت: “طيب ليه طلبتى تكلمينى فى التليفون بقى؟” قالت: “كده” قلت: “طيب ليه مابتحبنيش” قالت: أنا باحب “أمى بس” (تعنى جدتها، فهى تناديها بـ “أمى”، مثلما يفعل أبوها وسائر أبنائى وبناتى فهم لا يقولون “بابا” و”ماما” وإنما أمى وأبويا) قلت لها: “طز فيكى” قالت لى: طيب.

بعد يومين وجدتها مساءً عند جدتها وبجوارها عمتها (ابنتى “منى” التى لم تكبر داخلى أبدا فهى فى عمر نور طول الوقت) قلت لها: “لسه مابتحبنيش” يا نور قالت: “أيوه” قلت: “لكن أنا باحبك برضه” قالت: “وأنا ما باحبكش”، وكان وجهها يشرق بالبهجة برغم ذلك، قلت لها: “ولو، حافضل أحبك برضه”، قالت: “وأنا حافضل ماحبكش”، قلت لها: “أما نشوف مين اللى حايغلب”.

ثم بعد فترة صمت قالت لى: “جدى، إنت ليه ما قلتش أنا زعلان منِّك عشان ما بتحبنيش” قلت لها: هوه انتى عايزانى أقول لك أنا زعلان منك ليه”؟ قالت لى فوراً: “عشان أقولك لك “إزعل”، وضحكتْ، وضحكتُ، وأخذتها فى حضنى وأحسست أنها أيضا تأخذنى فى حضنها، وكان موعد نومى قد أزف فقلت: “أنا رايح أنام تعالى غطّينى” فتبعتنى دون تردد، ونمتُ وجذبتُ الغطاء على جسدى فأكملتْ “نور” حبكته حول كتفىّ، وكأنى عروستها اللعبة، ثم انصرفتْ دون أن تقبلّنى!!

(فضلت أن أعرض هذا الحدث بأقل قدر من التعليق لعل هذا الطفل الذى ظهر فى صحبة “نور”، يظهر نشطا حاضرا قريبا، وهو يقوم بدورٍ ما فى العلاج دون أن يعلن وجوده لا ظاهرا ولا مستقلا، نحن نعالج المرضى بما هو “نحن” “كل ما هو نحن”، وحين يتعرف المعالج على هذا الجانب من وجوده (دون حاجة إلى تسميته طفلا أو خلافه) يستطيع مطمئنا أن يمارس سلطة أبوته بثقة أكبر، وكلا النشاطين يصلان معاً إلى المريض، فهو العلاج.

ثم يعود “المعلم” يكتشف جانبا آخر من وجوده يبدو عكس ذلك تماما حين يقول المتن:

 (9)‏

‏ ‏وساعات‏ ‏أشوفنى ‏وحش‏ ‏كاسر‏.‏

إلـلى ‏يخالف‏ ‏أدبحه‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏فصال‏.‏

ولا‏ ‏أقبل‏ ‏المنطق‏ ‏ولا‏ ‏أقبل‏ ‏جدال‏.‏

وأشك‏ ‏فى ‏النـِّسمهْ‏، ‏وفى ‏الورده‏ْ، ‏وفى ‏الطفل‏ ‏الرضيعْ‏،‏

‏ ‏لو‏ ‏مـَيـِّلـُوا‏ ‏كده‏ ‏أو‏ ‏كده‏،‏

 

‏ ‏أحسن‏ ‏يكونوا‏ ‏بيعملوا‏ ‏خطة‏ ‏متينهْ ‏مُحكمهْ‏ ‏ضد‏ “‏الحياه‏” !!‏

وكأنها‏ ‏معمولهْ‏ ‏مخصوص‏ ‏لجْل‏ ‏خاطرى،‏

‏ ” ‏تبقى ‏المؤامرة‏ ‏عليها‏ ‏ضدى‏”!!،‏

‏ ‏وكأنى ‏مبعوث‏ ‏العناية‏، ‏منقذ‏ ‏البشرية‏ ‏فى ‏مركب‏ ‏تخاريفى

            اللى راح ترحم:  عزيزى “إبن آدم” مالطوفان!‏!!!. ‏

أعتقد أن هذه الرؤية هى كشف اعتراف لما هو أقرب إلى الموقف النمائى المسمى الموقف “البارنوى”([27])، والذى سميتُـهُ مؤخراً الموقف “الكرّفرّى” وإن رجحتْ فى هذا المقتطف نسبيا كفة “الكرّ” على كفة “الفرّ”، أو الذراع العدوانية على آلية التوجس والشك.

انطلاقا من رؤية ذلك الطفل القادر الضعيف الوديع الواعد، استطاع المعلم أن ينتقل وهو يكتشف سائر احتمالات وجوده وتركيبه، أن ينتقل إلى رصد الجانب الآخر من وجوده، وهو قدرته الفائقة على الإغارة العدوانية دفاعا عن موقفه المحدد، وتمسكا بأبعاد رؤيته، وهو ما بدأ به المتن، فإذا كان المتن قد بدأ بالسخرية ممن يحيد عن الصراط من مريديه.

واللى يخالف هو حرْ، ميت صحيح، لكنه حرفْ تربته

فإن الصورة تنتهى هنا بإعلان اعتراف صريح  بالميل إلى رفض الخلاف والاختلاف من الأساس، وهكذا استطاع المعلم أن يعترف بذلك الجانب التوجسى الشاك فى كل شىء دون استثناء “فهو يشك “فى النسمة وفى الوردة، وفى الطفل الرضيع”، وهو يبرر شكه ويقبله يقينا يتيح له التخلص من أى مخالف من المخالفين ماداموا حادوا عن طريقه، فهى “المؤامرة”.

“أحسن يكونوا بيعملوا خطة متينة محكمة ضد الحياهْ”

وكأنها‏ ‏معمولهْ‏ ‏مخصوص‏ ‏لجْل‏ ‏خاطرى،‏

‏ ” ‏تبقى ‏المؤامرة‏ ‏عليها‏ ‏ضدي‏”!!،‏

 وكأنه يعتبر نفسه بذلك الممثل الأول للحياة، أو صاحبها، أو أنها خلقت من أجله، فهو حارسها، ومنقذ البشر بالحفاظ عليها من الضياع والغرق بالطوفان.

وكأنى مبعوث العناية، منقذ البشرية فى مركب تخاريفى

اللى راح ترحم عزيزى “إبن آدم” ما لطوفان

وهكذا تحتد البصيرة “مركب تخاريفى” فتصبح كل هذه الرؤية كشفاً للترويض أكثر منها تقريراً للتسليم، ولو بهذا الاسلوب الكاريكاتيرى الساخر

هل ياترى لهذا الجانب من وجود المعالج لزوم فى العملية العلاجية؟

مادام الشعر قد قفز منى يعرّى هذا الاحتمال، ولو ليروّضه، فلا مفر من الإقرار بوجود هذا الجانب، وأيضا لا مفر من محاولة فهم دوره فى العلاج النفسى كما حاولنا مع الجانب الطفلى حالا.

مرة أخرى “الطبيب والد”، والوالد فى ثقافتنا يحضر فيه هذا الجانب المهاجم الشاك الحاسم بهذا القدر وأكثر، فإذا ما اعترف المعالج بحضوره فإنه قد يحسن ترويضه من جهة، كما أنه قد يستفيد من إطلاق قدراته فى المساعدة فى اتخاذ قرارات حاسمة أو فرض شروط لازمة يرى أنها ضرورية تماما لاستمرار مسيرة التأهيل والعلاج فى الاتجاه الصحيح، وفى جميع الأحوال هو لا يفرض رأيه أو يلزم باتباع طريقه، ثم أن هذا الموقف الشاكّ له جانبه الإبداعى، فهو يسهل أحيانا وضع الفروض التفسيرية والتأويلية بشكل مترابط حتى لو بدا تآمريا ، فهو إيجابىّ، يعين على فهم النفسِمـْراضية Psychopathology. (التى هى موضوع هذا العمل ربما أكثر من العلاج النفسى).

(9)‏

وكتير‏ ‏أشوفنى ‏كل‏ ‏ده‏! ‏

لكن‏ ‏هناك‏ ‏جوا‏ ‏قوى ‏فرق‏ ‏بسيط‏.‏

يفرق‏ ‏كتير‏.‏

يمكن‏ ‏يكون‏ ‏سر‏ ‏الوجود‏. ‏

(10)‏

واتـْـمـَـنـَّـى ‏يوم‏ ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏اموت‏:‏

ييجى ‏حد‏ ‏منكم‏:‏

‏– ‏بس‏ ‏بيحب‏ ‏الحياة‏ ‏أكتر‏ ‏ما‏ ‏انا‏ ‏ما‏ ‏باحبها‏ –‏

ويبص‏ ‏فى ‏عيونى ‏قوى:‏

ويقولى “‏مين‏”‏

أنا‏ ‏أبقى ‏مين‏؟

والفرق‏ ‏ده‏:‏

فرق‏ ‏بصحيح‏،‏

ولاَّ‏ ‏كلام‏‏؟‏!!‏؟‏ ‏

وبعد

إن من‏ ‏أراد‏ ‏رؤية‏ ‏نفسه‏ ‏حقيقة‏، ‏فسوف‏ ‏يجد‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏النوازع‏ ‏والصور والتجليات والاحتمالات‏ ‏و”حالات‏ ‏الأنا”‏ ‏موجودة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت،‏ ‏وأن‏ ‏واحدة‏ ‏لا‏ ‏تغنى ‏عن‏ ‏الأخرى، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أى‏ ‏انقسام‏ ‏أو‏ ‏تفكك،‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعنى ‏وعيا‏ ‏بكل‏ احتمالات حضور ‏جوانب وتجليات‏ ‏الوجود‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏تم‏ ‏التكامل‏ ‏لم‏ ‏يغفل‏ ‏جانبا‏ ‏لحساب‏ ‏جانب‏ ‏آخر‏.

‏ ولكن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏الفرق‏ ‏الحقيقى ‏بين‏ ‏من‏ ‏يريد‏ ‏التكامل‏ ‏فيرى ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏فى ‏نفسه‏، ‏ومن‏ ‏يعيش‏ ‏بسبعة‏ ‏أوجه‏، أو مائة، يتلاعب‏ ‏بها‏ ‏ويلبس‏ ‏لكل‏ ‏مقام‏ ‏وجهه‏‏؟‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الإشكال المتحدّى.

لعل‏ ‏هذا‏ ‏الفرق‏ ‏هو‏ ‏بين‏ ‏مسيرة‏ ‏الوعى ‏المسئول‏ ‏وبين‏ ‏تحايل‏ وتقلب ‏الوجود‏ ‏المناوِر‏.‏‏

 وبألفاظ أخرى‏:

 هو‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏التفكك‏ ‏المتصارع‏، ‏وبين‏ ‏التناقض‏ ‏المتآلف‏ ‏فى ‏جدل‏ ‏خلاق‏.

‏ وهو‏ ‏هو الفرق‏ ‏بين‏ ‏الاعتراف‏ ‏بكل‏ ‏جوانب‏ ‏النفس‏ ‏ضعفها‏ ‏وقوتها‏ ‏شرها‏ ‏وخيرها‏، ‏للتوليف‏ ‏بينها‏ ‏فى ‏كلًّ‏ ‏جديد‏، ‏وبين‏ ‏مواجهة‏ ‏أجزاء‏ ‏النفس‏ ‏المنفصلة‏ ‏فى ‏هرب‏ ‏من‏ ‏بعضها‏.

‏ وهو‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الرؤية‏ ‏المسئولة‏ ‏للتغيير‏، ‏وبين‏ ‏الرؤية‏ ‏‏للفرجة‏ العاجزة المكتفية بالرؤية والتأجيل.

 وهو‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏تناسق‏ ‏الوجود‏ ‏رغم‏ ‏اختلاف‏ ‏أجزائه‏ ‏وبين‏ ‏تناثر‏ ‏الوجود‏ ‏بسبب‏ ‏اختلاف‏ ‏أجزائه، ‏إلخ‏.

الإشكال الحقيقى هو فى وجه الشبه الشديد بين معالم التكامل وألعاب النكوص، وللتحقق من حقيقة الأمر لا مفر من تجاوز الاكتفاء برؤية الشخص نفسه مهما احتدت بصيرته.

 وهذا هو ما ختم به المعلم القصيدة بإعلانه الصريح لحاجته لرؤية من خارجه تنقذه من احتمال خطئه، لكنه يشترط  فى حكم هذا الشاهد العدل أن “يحب الحياة أكثر”.

“بس بيحب الحياة أكثر ما أنا ما باحبّها”

حب الحياة ربما كما سيرد فى الفصل الأخير، هو حب الناس فعلا قادرا متجددا طول الوقت.

وتنتهى القصيدة (التشكيل) بألا تنتهى، فهى تترك الباب مفتوحا، لكل احتمال، وللمراجعة، ولتجديد الحكم، ولاستمرار النقد.

والفرق ده: فرق بصحيح، ولاَّ كلام؟

هكذا ينهى المعلم القصيدة بإعلان‏ ‏حاجته‏ ‏لرؤية نفسه بعيون الآخر، ويبدو أنها حاجة‏ ‏شديدة‏ ‏وملحة‏، ‏ومن‏ ‏خلالها‏ – ‏لو‏ ‏تمت‏ ‏فى ‏حياته‏ – ‏سيطمئن‏ ‏ويرتاح‏، ‏فإذا‏ ‏عز‏ ‏وجود‏ ‏الآخر‏ ‏فليكن‏ ‏الحكم‏ ‏لآخرين، ‏وإذا‏ ‏عز‏ ‏وجود‏ ‏الآخرين‏ ‏فليس‏ ‏أمامه‏ ‏إلا‏ ‏الاحتكام‏ ‏للتاريخ‏، ‏ولكنه‏ ‏حينئذ‏ ‏لن‏ ‏يحقق‏ ‏أمنيته‏ (‏قبل‏ ‏ما‏ ‏أموت‏).

….

….

ثم نختم هذا الفصل بالقصيدة مكتملة لعل قراءتها مجمعة توصل لنا ما هو أكثر من كل ما ورد فى هذه الصفحات السابقة.

 (1)‏

طب‏ ‏والمعلمْ….‏‏؟

له‏ ‏عيونْ‏ ‏كما‏ ‏العيونْ‏‏؟

بتقول‏ ‏كلام‏ ‏هوَّا‏ ‏الكلامْ‏؟

ولاَّ‏ ‏كلامْ‏ ‏غير‏ ‏الكلامْ‏؟‏ ‏

(2)‏

شيخ‏ ‏الطريقة‏ ‏قاعدْ‏ ‏لى ‏كما‏ ‏قاضى ‏الزمانْ‏.‏

بيقسِّم‏ ‏الأرزاقْ‏ ‏ويمنح‏ ‏صكّ‏ ‏غفران‏ ‏الذنوبْ‏،‏

وكإن‏ ‏مشكلة‏ ‏الوجـود‏،‏

‏ ‏ما‏ ‏لهاش‏ ‏وجود‏،‏

‏ ‏إلا‏ ‏حـَـداهْ‏. ‏

عامل‏ ‏سبيل‏ ‏إسمه‏ “‏الحياه‏”:‏

‏”‏قال‏ ‏ده‏ ‏يعيش‏، ‏

ودى ‏تموتْ‏، ‏

ودا‏ ‏مالوش‏ ‏الا‏ ‏كده‏”.‏

 

قاعد‏ ‏يصنف‏ ‏فى ‏البشر‏ ‏حسب‏ ‏المزاج‏: ‏

‏ “‏لازم‏ ‏تـعــدِّى ‏عالصراط‏”‏

‏ ‏واللى ‏بيشبه‏ ‏حضرته‏ ‏يديه‏ ‏قيراط‏:‏

‏ ‏فى ‏جنته‏، ‏

واللى ‏يخالف‏ ‏هوه‏ ‏حر‏.‏

‏ ‏يكتب‏ ‏على ‏قبره‏ ‏ماشاء‏:‏

ميـِّتْ‏ ‏صحيح، لكنه‏ ‏حر‏ ‏فْ‏ ‏تربته‏. ‏

‏ ‏وان‏ ‏قلنا‏ ‏ليه‏ ‏ياعمنا‏ ‏؟

بيقول‏ ‏كما‏ ‏قاضى ‏الزمان‏:‏

ماقدرشى ‏يمشى ‏عالصراط‏، ‏ويكون‏ “‏كـمـثـلي‏”.‏

ونقولُّه‏: ‏مثلك‏ ‏يعنى ‏إيه‏ ‏؟‏ ‏

يتخض‏ ‏ويبان‏ ‏فى ‏عيـنيه‏،‏

ســــؤالات‏ ‏كثير‏:‏

‏ ‏بتقول‏ ‏عـيـنيه‏:‏

‏(3)

 ‏يا‏ ‏هلترى ‏عمال‏ ‏باشوف‏ ‏الناس‏ ‏عشان‏ ‏أهرب

‏‏ما‏ ‏شوفشى ‏مين‏ ‏أنا‏؟!

ولا‏ ‏باشوفنى ‏الناس‏؟؟!!

نفسى ‏أشوفْنِى ‏من‏ ‏بعيد

من‏ ‏تحت‏ ‏جلدي‏. ‏

من‏ ‏وسط‏ ‏قضبان‏ ‏الحديد‏. ‏

من‏ ‏غير‏ ‏كلام‏ ‏ولا‏ ‏سلام‏.‏

 

أقلب‏ ‏عيونى ‏ولا‏ ‏ابص‏ ‏فى ‏المرايه‏؟ ‏ ‏

‏ ‏أنا‏ ‏لو‏ ‏أبص‏ ‏فى ‏المرايه‏ ‏حاشوف‏ “‏خيال‏”.‏

إيده‏ ‏اليمين‏ ‏إيدى ‏الشمال‏.‏

واقف‏ ‏بعيدْ‏، ‏ورا‏ ‏الإزاز‏. ‏

واجى ‏أقرب‏ ‏للمرايهْ‏ ‏التقى ‏بَرْد‏ ‏الجماد‏. ‏

وشى ‏يبطط‏، ‏والنـَّـفس‏ ‏بيغطـى ‏تقاسيمه‏ ‏كما‏ ‏جبل‏ ‏السحاب

‏ ‏قدام‏ ‏قمر‏ ‏مظلم‏ ‏حزين‏.

…..‏

وامّا‏ ‏قلبت‏ ‏عيونى ‏جوَّهْ‏ ‏عـْـمـِـيت‏.‏

وحاولت‏ ‏ابص‏.‏

حاولت‏ ‏اقرا‏ ‏فى ‏الضلام

مالقيت كلام

ورْجعت‏ ‏أبصِّـلْـكم‏ ‏هناك‏، ‏فى ‏عيونكم‏ ‏انتم‏:

أنا‏ ‏أبقى ‏مين‏ ‏؟

وألاقى ‏صورتى ‏زى ‏ما‏ ‏انتم‏ ‏محتاجين‏: ‏

 

‏ ‏اللى ‏شايفنى ‏كما‏ ‏النَّبِى، ‏

واللى ‏شايفنى ‏ربِّـنـَا‏، ‏

واللى ‏شايفنى ‏واد‏ ‏بُرَمْ‏،‏

واللى ‏شايفنى ‏قِفْل‏ ‏ومْتَرْبِسْ‏ ‏حزين‏، ‏

واللى ‏شايفنى ‏حرامى ‏أصلى ‏معـتـبـر‏، ‏

يمكن‏ ‏أكون‏ ‏أنا‏ ‏كل‏ ‏ده‏.‏

‏ ‏لكنِّى ‏أبدا‏ ‏مِشْ‏ ‏كِدَه‏ .‏

شوفوا‏ ‏كويس‏ ‏يا‏ ‏جماعه‏: ‏

واحد‏ ‏يقول‏: ‏خايف‏ ‏أشوفك‏ ‏لسَّهْ‏ ‏حَبّه‏،‏

والتانية‏ ‏بتقول‏: ‏يا‏ ‏حرام‏ !! ‏طَبْ ‏ حَبّه حَبّه

والتالت‏ ‏المسطول‏ ‏لو‏ ‏الكرباج‏ ‏يطرقع‏ ‏جوا‏ ‏مخه يشوف‏ ‏دقيقة‏

‏بس‏ ‏فينه‏ ‏مـْن‏ ‏الحقيقة‏ !

والرابع‏ ‏اللى ‏خوفه‏ ‏عازلــه‏ ‏جوا‏ ‏سجن‏ ‏المزه‏، ‏أو‏ ‏جبل‏ ‏الجيوشى،‏

الوِدّ‏ ‏وِدُّهْ‏ ‏يشوف‏ ‏ضلام‏ ‏القبر‏،‏

ولا‏ ‏إنه‏ ‏يدوق‏ ‏الصبر‏،‏

الصبر‏ ‏مـرّ‏ ‏والشوف‏ ‏يضرّ‏.‏

وانا مين يشوفنى؟

 أنا أبقى مين؟

 (4)

‏… ‏وساعات‏ ‏أبص‏ ‏لإيدى ‏وانا‏ ‏بالعب‏ ‏ببيضتين‏ ‏والحجر‏،‏

أو‏ ‏لما‏ ‏باقـلـب‏ ‏فى ‏التلات‏ ‏ورقات‏ ‏واخـَبـِّـى ‏فى ‏الولد‏.‏

وأقول‏ ‏يا‏ ‏ناس‏ : ‏بقى ‏دول‏ ‏إيدىّ ‏اللى ‏بصحيح‏ ‏؟

‏ ‏بقى ‏ده‏ ‏أنا‏ ‏؟‏ ‏

وانا مين يشوفنى؟

 أنا أبقى مين؟

(5)

وساعات‏ ‏أشوفنى ‏حكيم‏ ‏وعمرى ‏ألف‏ ‏عام‏.‏

شايف‏ ‏تمام‏ ‏عارف‏ ‏تمام‏. ‏

كل‏ ‏اللى ‏راح‏، ‏واللى ‏احنا‏ ‏فيه‏،

 ‏واللى ‏حاييجى ‏بدون‏ ‏أوان‏.

(6)‏

وساعات‏ ‏أشوفنى ‏أبويا‏ ‏صُحْ‏.‏

بس‏ ‏الزيادة‏ ‏إنى ‏لابس‏ ‏بدله‏ ‏وارطن‏ ‏باللسان‏،‏

وأقول‏ ‏كلام: ‏قال‏ ‏إيه‏ ‏لصالح‏ ‏البشر‏،‏‏ ‏وللتاريخ‏ !!‏

لكنه -‏ ‏الله‏ ‏يرحمه -‏ :‏

كان‏ ‏يعبد‏ ‏اللوزة‏ ‏وطين‏ ‏الأرض‏ ‏والورد‏ ‏الطويل‏،‏

مزيكته‏ ‏كانت‏ ‏مكنة‏ ‏الرى ‏تغنى ‏تحت‏ ‏جميزه‏ ‏كبيرة‏ ‏مضللة‏،‏

واسأل‏ ‏فى ‏نفسى:‏

أنهو‏ ‏اللى ‏أصلح‏ ‏للتاريخ‏؟

الكلمه‏، ‏والحب‏ ‏السعيد‏، ‏فى ‏أوده‏ ‏ضلمة‏ ‏منعكشه‏‏؟

                                   أو‏ ‏لوزه حلوه‏ ‏مفتحه‏؟؟‏ ‏

 (7)‏

وساعات‏ ‏أشوفنى ‏طفل، ‏طفل،‏

إنتو‏ ‏نسيتوه‏،‏

واهله‏ ‏سابوه‏، ‏

ولا‏ ‏هوّا‏ ‏قادر‏ ‏يبقى ‏أبوه‏،‏

ولا‏ ‏انْتو‏ ‏قادرين‏ ‏تلحقوه‏،‏

يا‏ ‏ناس‏ ‏ياهوه‏:‏

يا‏ ‏تلحقوه،.،‏

‏ ‏يا‏ ‏تموّتوه‏.‏

 (8)‏

‏ ‏وساعات‏ ‏أشوفنى ‏وحش‏ ‏كاسر‏.‏

إلـلى ‏يخالف‏ ‏أدبحه‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏فصال‏.‏

ولا‏ ‏أقبل‏ ‏المنطق‏ ‏ولا‏ ‏أقبل‏ ‏جدال‏.‏

وأشك‏ ‏فى ‏النـِّسمهْ‏، ‏وفى ‏الورده‏، ‏وفى ‏الطفل‏ ‏الرضيعْ‏،‏

‏ ‏لو‏ ‏ميلوا‏ ‏كده‏ ‏أو‏ ‏كده‏،‏

‏ ‏أحسن‏ ‏يكونوا‏ ‏بيعملوا‏ ‏خطة‏ ‏متينهْ ‏مُحكمهْ‏ ‏ضد‏ “‏الحياه‏” !!‏

وكأنها‏ ‏معمولهْ‏ ‏مخصوص‏ ‏لجْل‏ ‏خاطرى،‏

‏ “تبقى ‏المؤامرة‏ ‏عليها‏ ‏ضدى‏”!!،‏

‏ ‏وكأنى ‏مبعوث‏ ‏العناية‏، ‏منقذ‏ ‏البشرية‏ ‏فى ‏مركب‏ ‏تخاريفى

اللى راح ترحم عزيزى “إبن آدم” ما لطوفان!‏!!!. ‏

 (9)‏

وكتير‏ ‏أشوفنى ‏كل‏ ‏ده‏! ‏

لكن‏ ‏هناك‏ ‏جوا‏ ‏قوى ‏فرق‏ ‏بسيط‏.‏

يفرق‏ ‏كتير‏.‏

يمكن‏ ‏يكون‏ ‏سر‏ ‏الوجود‏. ‏

(10)‏

واتمنى ‏يوم‏ ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏اموت‏:‏

ييجى ‏حد‏ ‏منكم‏:‏

‏– ‏بس‏ ‏بيحب‏ ‏الحياة‏ ‏أكتر‏ ‏ما‏ ‏انا‏ ‏ما‏ ‏باحبها‏ –‏

ويبص‏ ‏فى ‏عيونى ‏قوى:‏

ويقولى “‏مين‏”‏

أنا‏ ‏أبقى ‏مين‏؟

والفرق‏ ‏ده‏:‏

فرق‏ ‏بصحيح‏،‏

ولا‏ ‏كلام‏‏؟‏ !!‏؟‏ ‏

**********************************

 الفصل الثانى:

جمل المحامل

2

مقدمة:

لم يبق فى هذه الورطة (ديوان “أغوار النفس”) إلا قصيدتان، (ثم البداية/الخاتمة) هذه القصيدة، وقصيدة “الخلاص”، كلتاهما لها علاقة ما بالسيرة الذاتية، لذا فضلت أن اضمهما إلى هذا العمل دون الكتاب الثالث “قراءة في عيون الناس”([28])

أرجو أن يصل من كل هذا التعرى – مرة أخرى– كيف أن المعالج النفسى هو “نـَـصٌّ بشرى” قابل للقراءة، وفى نفس الوقت: قادر على “إعادة التشكيل” لا أكثر ولا أقل، وبما أننى أدعى أن هذا العمل هو “فى فقه العلاقات البشرية” وهو الكتاب الرابع فى هذه السلسلة  كما يقول العنوان، فإننى أتصور أن قراءة هذا المعالج (كاتب هذا الكلام) “نصا بشريا” هو ضمن ما نحاوله فى توصيل بعض أساسيات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى وخاصة من منطلق العلاج عامة والعلاج النفسى خاصة.

ثم فليتحمل القراء ما بقى منى، وأمرهم إلى الله، ولتصل الفائدة لمن يستطيع أن يستخلصها.

لكننى أبدأ بقصيدة فريدة لم ترد في ديوان “أغوار النفس” وهى من واقع خبرة خاصة صعبة مررت بها: خبرة قصيرة سريعة وسط ثلة أخرى من الأصدقاء والصديقات وهى حوار بينى وبين لسان حالهم (كالعادة) أكثر منه حوارا بالألفاظ المـُعـْلنـَةْ:

(1)

= ‏لأ‏.. ‏عـَنـْدَكْ‏ !!‏

‏ – ‏ليه‏ ‏؟‏ ‏

‏= ‏ممنوع‏ ‏ده‏ !!‏

‏ – ‏إيه‏ ‏؟

‏=‏ ممنوع‏ ‏كـلــه‏،‏

 

‏ – ‏طب‏ ‏أعمل‏ ‏إيه‏ ‏؟‏ ‏

‏=‏ زى ‏ما‏ ‏دايما‏ ‏كنت‏ ‏بتعمل‏.‏

 

قـَـرنك‏ ‏جامد‏، ‏خليك‏ ‏شايل‏.‏

‏ – ‏لأ‏ ‏مش‏ ‏لاعب‏.. ‏جرى ‏إيه‏ ‏؟‏.. ‏الله‏ !!‏

الذى حدث:

 هذه الثله هى غير جماعة قراءة العيون([29])، كنا على العشاء معا فى مطعم بلدى جميل، وخيل لى أنه قد آن الأوان أن أشكو، أو أن أضعف، أو أن آخذ، أو أن أحكى، فوصلنى تـَحفـُّظ طيب من الجميع، لكنه رفض حقيقىّ: أنه “ليس هكذا“، أو “ليس الآن“، أو “ليس أنت“!! أو كل ذلك معا. فجزعت سرًّا!

القضية صعبة: ذلك أنه يبدو أن من قُدِّرَ له أن يقوم بدور من “يرى”، و”يعطى” و”يفتى”، ومثل ذلك، يظل يمارس هذا الدور المميز، وكأنه دور قد اختاره فعلا ولو إلى أجل مسمى، وبرغم ما فى هذا الدور من ميزات لا تنكر، فإن التمادى فيه حتى بعيدا عن التزامات المهنة، إنما يفتح باب اعتماد الآخرين عليه، وتتفاقم التغذية المتواصلة تدعم نفس موقف كل الأطراف فتدور الدائرة فى نفس الاتجاه بلا نهاية، وأحيانا يبدو هذا الشخص مضحيا، ومعطاءًا (وكلاما من هذا، مما نصفق له كثيرا)، ويفرح به صاحبه غالبا، فهو حتما مشارك فى هذا الاختيار، وفى هذا الاستمرار، كما أن هذا الاختيار نفسه، قد يكون ورطة تعويضية بشكل أو بآخر.

فى بداية افتتاحى لمستشفاىَ الخاص، زارنى أحد “الأجانب” الطيبين المختصين فى فرعى، وأخذت أشرح له كيف أن فكرة المجتمع العلاجى تختلف فى ثقافتنا عن ثقافة الغرب، وأننى أدير هذا المجتمع بطريقة كذا وكيت، وأنه لا توجد قواعد ثابتة لخطة علاج كل تشخيص بذاته، بل تتغير الخطة أولا بأول، وأحيانا أثناء اليوم الواحد لكل مريض حسب استجابته للخطوة السابقة، وهكذا، سألنى هذا الرجل الطيب: “ومن ذا الذى يقوم بهذا التعديل هكذا أولا بأول لكل هؤلاء المرضى؟” قلت له: إننى أتولى قيادة الفريق: وإن كل زملائى وزميلاتى وكل العاملين يلتقطون ما نفعل، ونتعلم ونتشاور، ونحور، ونواصل، وقد التقط هذا الضيف أننى على الأقل فى تلك المرحلة الباكرة أقوم بأغلب العمل تقريبا، أو على الأقل أتولى مسئولية التخطيط اليومى المتجدد، ونبهنى مرة ثانية أن هذا مـُرهـِق، وأبلغنى رأيه أنه لا يمكن أن يستمر الحال هكذا، وأثناء مرورنا فى المستشفى، وعرضى له بعض خطوات التخطيط والتقييم والتغيير، قابلت زوجتى وكانت تعمل معنا عملا علاجيا محوريا فى المستشفى، وعرّفته بها باعتبارها زوجتى وزميلتى أيضا، سألنى إن كانت تعمل معى كل هذا الوقت، فأجبت أن “نعم”، فسأل: وأنت تحمِلـُهاَ مثل الآخرين هكذا طول هذا الوقت، ولم أتبين عمق السؤال جيدا، إلا أننى أجبت أن “نعم”، وهنا قال بنظرة شفقة بها بعض الاعتراض الطيب، “ما هذا؟ ومـِـنْ مَنْ تحصل أنت على احتياجاتك العاطفية آخر النهار؟”، ولم أفهم جيدا هذه الطيبة، أو هذا الاعتراض، أو لعلى فهمته، ولا أذكر الآن (بعد أربعين عاما) ماذا كان ردى على هذا السؤال.

هذه هى حكاية ذاتيه تماما، لكنها تتعرض لمسألة شديدة الأهمية فى العلاج النفسى خاصة، وفى العلاج عامة، ذلك أنه:

 إن لم يكن للمعالج مصدر رِىّ عاطفى من خارج محيط مهنته، فإنه قد يمارس عطاءً قهريا تعويضيا يبدو من الظاهر رائعا تماما، وهو ليس بالضرورة كذلك، الاحتمال الأخطر هو أنه قد يحصل على احتياجاته العاطفية من مرضاه، دون أن يدرى عادة، فـَيـُدْفـِعـَهـُمْ ثمنا باهظا دون أن يدروا بدورهم عادةً، وقد يتعطل العلاج، وقد يتأخر الفطام أو الاستقلال، وقد تنحرف المسيرة… إلخ.

 أظن أننى أطلت البقاء فى دور، بل مأزق، حمل الآخرين (جـَـمـَـل المحاملْ) بشكل مزمن، وقد حاولت أن أخفف منه أو أخرج بعيدا عنه بشكل متكرر، ونجحت أحيانا، ربما خفَّ كثيرا، وإن كنت أعتقد أننى لم أنجح تماما، وحتى الآن.

كنت كلما سنحت لى الفرصة أن أعلن حقى فى أن أتخلى عن حمل مجموعة الأصدقاء (وربما حمل مرضاى) ولو قليلا، أفاجأ بالصعوبة، والمقاومة والرفض كما جاء فى المتن، وكما يظهر فى تواصل الحوار بينى وبين “لسان حال” الثله الصديقة كما يلى:

 (2)

‏= ‏إعقل‏ ‏يابــا‏، ‏قلنا‏ ‏ممنوع‏،‏

ممنوع‏ ‏تغضبْ‏، ‏تزعلْ‏، ‏تهمدْ‏، ‏تسكتْ‏،‏

  تحلمْ‏، ‏تسرح‏ْ….، ‏

ممنوع‏ ‏كــله‏.‏

‏ – ‏ولإمتى ‏يا‏ ‏نـــاس؟

‏=‏بكره‏ ‏انشـــالله‏ ‏

‏ – ‏بقى ‏كدا !! ‏بكره‏ ‏؟

‏‏فيه‏ ‏إيه‏ ‏بكره؟

 

‏= ‏بكره‏ ‏حانسمح‏ ‏لك‏ ‏تتكلمْ‏.‏

بكره‏ ‏حانسمح‏ ‏لك‏ ‏تتـألمْ‏.‏

بكره‏ ‏حاتجنى ‏ثمرة‏ ‏كـدّكْ‏،‏

لما‏ ‏نكبر‏ ‏نبقى ‏قدّكْ‏ !!‏

                 (‏وانا‏ ‏مالى ‏قد‏،. . ‏ومالى ‏حدّ‏

                  خايف‏ ‏لتْكونْ‏ ‏الحاره‏ ‏سد‏). ‏

وصلنى هذا الرفض منهم بقسوة لا أنكر أن فيها نوعا من الحب والتقدير، لكنها تظل قسوة بلا شك، وتصورت أن مطلبى – إن كنتُ صادقا – كان شديد البساطة وهو “معاملة المثل”، لكن رفضهم تمتعى بهذا الحق – حق الضعف – كان حاسما وربما واقعيا، وربما كان يُخفى شكهم أيضا أن هذه هى رغبتى الحقيقية “معاملة المثل”، وأتذكر أن هذا الرفض الطيب كانوا يبررونه بأننى قطعت رحلة من النضج أسبق وأقدم وأعمق منهم، رحلة تمكننى من حمل هذه المسئولية، وحملهم، ومادام الأمر كذلك، فإن رفضهم إعطائى حقى (المزعوم) فى معاملة المثل لم يكن رفضا مطلقا، وإنما – كما زعموا – كان رفضا مرحليا فى صورة التأجيل حتى يحققوا درجة من النضج تقارب ما حققتُ أنا – بزعمهم، وساعتها يمكن تبادل الأدوار.

بكره حاتجنى ثمره كدّك

لما نكبر نبقى قدّك”

يلاحظ أن هذا الرفض لم يقتصر على رفض الضعف فحسب، وإنما على رفض كل “مطلب” من حيث المبدأ! “ممنوع كلّه”، (هذا ما وصلنى مع المبالغة!!)

ممنوع تغضبْ، تزعلْ، تهمدْ، تسكتْ، تحلمْ، تسرحْ

ويزداد حذرى من امتداد التأجيل إلى ما لانهاية ويتجدد الشك فى حكاية “سبق النضج” حين يتصور المعتَمِدْ أن المعتمـَـد عليه قد وصل إلى ما يبرر هذا الاعتماد باعتباره الأكبر، فيعلن صاحبنا اعترافه وأيضا أمنيته أنه ليس بهذه الدرجة التى يتصورونها، وأن حرمانه من حقه العادى، ومن الاعتراف بنقصه العادى، لابد وأن يزيد من وحدته حتى يبدو له الطريق مسدودا.

وأنا مالى قدّ ومالى حدْ

خايف لتَكْون الحاره سدّ

أتوقف هنا لأشير إلى خـِـبـْـرتين موازيتين، سابقة، ولاحقة([30])

أولا: ورد فى ديوانى “سر اللعبة” فى قصيدة “جبل الرحمات” ما يلى:

……………

……………

نحتوا‏ ‏فى ‏الصخر‏ ‏الهيكل‏: ‏

فى ‏داخله‏ ‏سرٌّ‏ ‏أكبر، ‏

صنم‏ ‏عبدوه‏ ‏وما‏ ‏عرفوه، ‏

قربان‏ ‏المعبد‏ ‏طفل، ‏

يرنو‏ ‏من‏ ‏بعد، ‏

لا‏ ‏يجرؤ‏ ‏أن‏ ‏يطلب، ‏

أو‏ ‏يتململ، ‏

……………

……………

نظر‏ ‏الطفل‏ ‏إلى ‏كبد‏ ‏الحق‏ ‏

وتمنى ‏الموت‏.‏

‏(4)

لكن‏ ‏النور‏ ‏يداعبُ ‏بـَصَرَهْ،

وحفيف‏ ‏الدفء‏ ‏يدغدغ‏ ‏جلده، ‏

فيكاد‏ ‏يصيح‏ ‏النجده، ‏

يتحرق‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏ضعفه‏

لكن‏ ‏الرعب‏ ‏الهائل‏ ‏يكتم‏ ‏أنفاسه، ‏

ويعوق‏ ‏خطاه، ‏

……………

……………

أسمَعُ‏ ‏خلف‏ ‏الصخر‏ ‏حفيفا‏ ‏لا‏ ‏يسمَعـَهُ‏ ‏غيرى

يحسبه‏ ‏الناس‏ ‏حديث‏ ‏القوة‏ ‏والجبروت

……………

……………

هل‏ ‏يمكن؟؟‏

‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نضعف‏ ‏دون‏ ‏مساس‏ ‏بكرامتنا؟

فلكم‏ ‏قاسـَـينـْـا‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏الحرمان‏..، ‏وفرط‏ ‏القوّة ْ، ‏

ولكم‏ ‏طحنتنا‏ ‏الأيام، ‏

والأعمى ‏منا‏ ‏يحسب‏ ‏أنا‏ ‏نطويها‏ ‏طيا

ثانياً: بعد اثنين وعشرين عاما من كتابة هذا المتن أحِلـْتَ إلى المعاش فى أول أغسطس 1994، وأنا لا أزال أصعد وأحمل، أحمل وأصعد، وبعد ذلك بعامين لاح لى حقى فى الإنهاك، فكتبت قصيدة فى نفس المعنى تقريبا، بعنوان: “‏‏النورس‏ ‏العجوز”([31]) وها هى ذى:

أنهكًنـِى ‏التحليُق‏ ‏فى ‏سمائِها‏ ‏اللـَّـعـُـوب

أنهكنِى ‏نجاحِىَ ‏الدؤوب

وصخرتِى ‏تودّع‏ ‏الصلابة‏ ‏

‏‏لكنّها‏ ‏لا‏ ‏تنكسر

 

أريدُ‏ ‏والدى

أريده‏ ‏يحول‏ ‏بينها‏ ‏وبينى ‏

أرُيد‏ ‏سجَّانا‏ ‏يفك‏ ‏قيدى، ‏

‏إذ‏ ‏يُـحكم‏ ‏الأقفال‏ ‏لا‏ ‏أضيعُ‏ ‏حرّا

‏‏

أريد‏ ‏أن‏ ‏أنام‏ ‏فى ‏حضن‏ ‏التى ‏ترانى:‏

‏كما‏ ‏أنا‏ ‏

‏‏فرخًا‏ ‏صغيرا‏ًً ‏لائذا‏ًً ‏بعُشـَّـهِ

‏‏لا‏ ‏فى ‏الأعالى ‏حيث‏ ‏يحسَبُون‏ ‏

 

لم‏ ‏ينمُ‏ ‏بعدُ‏ ‏ريشُهُ‏ ‏فلم‏ ‏يَطِر‏ ‏أصلا‏ًً ‏

فكيف‏ ‏تبحثون‏ ‏عنه‏ ‏فى ‏السماء‏ ‏أيها‏ ‏القساهْ

 

أريد مَنْ ترانى فاتحا منقارىَ الطرىّ

القُطُ من منقارها الحنانَ والأمانَ الحياهْ

أريد أنطوى تحت الجناح

أعبر الفيافى دون أن أحلّقْ

 

أريد‏ ‏خيزرانة

تفيقنى: ‏أرى ‏بها‏ ‏حدودي

أريد‏ ‏جلادا‏ ‏يحول‏ ‏دون‏ ‏قتلي

‏‏يأبى ‏أضيعُ‏ ‏وسْـطَ‏ ‏وهم‏ ‏ذاتِـى

 

لا‏ ‏تضحكوا‏ ‏على ‏طفل‏ ‏غريرٍ‏ ‏صدّق‏ ‏الأكذوبة

لا‏ ‏تخدعوه‏ ‏تتركوه‏ ‏فى ‏سمائها‏،‏

والخيط‏ ‏فى ‏أيديكمو‏ ‏كأنه‏ ‏المشانقُ‏ ‏الخفيّة‏.‏

‏‏لا‏ ‏تزعموا‏ ‏بأنه‏ “أراد”

 

النورسُ‏ ‏العجوز‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يدورْ‏.‏

قد‏ ‏أنهكتْـهُ‏ ‏لــُـعبة‏ ‏الصعودِ‏، ‏والسراب‏ ‏يسبقهْ‏،‏

يغمرُه‏ ‏الدُّوار‏، ‏والفراغُ‏ ‏يخنُـقه

قد‏ ‏آن‏ ‏أن‏ ‏يحُطَّ‏ ‏فوق‏ ‏أرضكمْ‏ ‏

‏لا‏ ‏ترجموهُ‏ ‏كهلا‏.‏

 

إن‏ ‏حط‏ ‏تدفنوه‏ ‏دون‏ ‏معـزَى،‏

تأكله‏ ‏الديدان‏ ‏وهو‏ ‏بعدُ‏ ‏حيّا‏.‏

لا‏ ‏لن‏ ‏يعودْ

أسنة‏ ‏الرماح‏ ‏مُشرعة

تملأ‏ ‏وجه‏ ‏الأرض‏ ‏والقلوب

 

لم‏ ‏يبق‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يظلّ‏ ‏فوقَ‏ ‏الفوقِ‏ ‏ضائعا

‏‏وكلُّ‏ ‏ما‏ ‏يشُدّه‏ ‏يذوبْ

فتختفى ‏السماءُ‏ ‏فى ‏الضياءْ

ويختفى ‏الضياءُ‏ ‏فى ‏الغروبْ

يتوه‏ ‏فى ‏دوائرِ‏ ‏الصباح‏ ‏والمساء

‏‏يواصلُ‏ ‏التحليقَ‏ ‏صاعداً‏ ‏معانِدَا

لكنّه‏: ‏ما‏ ‏عاد‏ ‏يسـتطيع‏ ‏

‏‏       ما‏ ‏عاد‏ ‏يستـطيع

الإسكندرية‏: 12/5/1996‏

 ولكن ما باليد حيلة: فلتبدأ رحلة الصبر، أو تستمر رحلة الصبر، دون التنازل عن حقى فى الضعف، مع التنبيه الآمِلِ الواضح أنها مسألة وقت مهما طال، هذا ما يبدو من بقية القصيدة الأصل من ديوان “أغوار النفس”، المصدر الأساسى للعمل الحالى:

والصبر‏ ‏مرار‏! ‏

وانا‏ ‏مش‏ ‏رافض‏ ‏أشرب‏ ‏كاسه‏.‏

على ‏شرط‏ ‏يكون‏ ‏للكاس‏ ‏دا‏ ‏قرار‏.‏

واستحمل‏ ‏طول‏ ‏الليل‏ ‏غُــلبى،‏

على ‏شرط‏ ‏الليل‏ ‏ييجى ‏بعده‏ ‏نهار‏.‏

الفقرة التالية لا تحتاج إلى شرح خاص.

والصحرا‏ ‏بنزرع‏ ‏فيها‏ ‏الصبر‏،‏

تـِـطـْـرح‏ ‏حرمان‏.‏

نسقيه‏ ‏من‏ ‏طولة‏ ‏البال‏،‏

وبنحدى ‏كلام‏ ‏ونقول‏ ‏موال‏:‏

‏”‏جمل‏ ‏المحامل‏ ‏برك‏ ‏شـِــمـْـتـِـتْ‏ ‏لـعادى ‏فيه‏”‏

لكنهم ظلوا يصرون على أن الجمل لم يبرك، بل وأنه ليس من حقه أن يشكو أصلا، وهو يصر أنه ليس إلا شخصا عاديا كما شرحنا.

الطبيب النفسى هو مـِـهـَـنـِـى عادى تماما، أى تقديس للمهنة، أو مبالغة فى القدرة، هو إعاقة له فى مهنته، ونذكـّر من جديد بالحذر من المبالغة فى نجومية الطبيب النفسى ودور الإعلام السلبى فيها وما يؤدى إليه ذلك من خلط الأدوار، وهذا لا يتم فقط على حساب موضوعية العلاج النفسى، وإنما أيضا على حساب فرص الطبيب النفسى أو المعالج النفسى فى نموه الشخصى، الشخص العادى هو الشخص العادى، وهو القادر على النمو العادى، مسألة التميز والعبقرية ليست غاية فى ذاتها، المتصوف الحقيقى هو الذى لا يعود اسمه متصوفا، وبوذا نفسه بعد أن دار دورته لم يقبل أن يعترف أنه حقق رحلته إلا حين لم يصبح بوذا كما تـُصـَوِّرُه لنا سماته الفذة وسيرة حياته الفريدة.

التأكيد على حق الطبيب النفسى، أو المعالج النفسى أن يكون شخصا عاديا يرد فى الفقرة التالية ردا على اعتراضهم على شكواه وإظهار ضعفه، على أنه برك تحت أحماله (وبالذات حمله لهؤلاء المعترضين المعتمدين) فهو يرد على اعتراضهم بالمطالبة بأبسط حقوقه العادية: فهو يرد على رفضهم ضعفه قائلا: “ماهو نـِـفـْسُهْ يعيش زى العايشين“.

= ‏جمل‏ ‏المحامل‏ ‏لابيشكى. . ‏ولا‏ ‏بيقول‏ ‏آه

                            – ‏ليه‏ ‏يعنى ‏بقي؟

ما‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏يعيش‏، ‏زى ‏العايشين؟

فيرُّدون أكثر حدة، ورفضا:

‏= ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عايش‏ ‏اهه‏، ‏إسم‏ ‏الله‏ ‏عليه‏.‏

‏ ‏بيقول‏ ‏ويعيد‏، ‏ونـــرد‏ ‏عليه‏، ‏

‏ ‏بـيشيل‏ ‏فى ‏هموم‏، ‏وفْ‏ ‏غلب‏ ‏الناس‏،‏

‏ ‏وحياخد‏ ‏إيه‏ ‏غير‏ ‏وجع‏ ‏الراس‏،‏

‏ ‏من‏ ‏زن‏ ‏الحاجة‏ ‏ومدّ‏ ‏إيديه؟

الذى حدث أثناء هذا اللقاء الذى أثار كل هذا الحوار، وأخرج هذه القصيدة، هو أن إحداهن قالت له بوضوح شديد أنهم لو استجابوا له، واحترموا حقه، فإنه لن يتذوقه ولن يستفيد منه كما يتصور هو ويطالب، وكانت هذه الزميلة من أقرب القريبات إليه، وقد كانت تعنى أنه لم يـَـعـْـتـَـدِ الأخذ، ولم يستطعم حنانا حقيقيا من قبل، كما فعلوا هم من خلال اعتمادهم عليه، أو على غيره، وبالتالى فهم إذا قبلوه بينهم عاديا كواحد منهم، فهذا لن يرويه، فهو – ربما من إزمان الحرمان نتيجة لاستمرار نفس الدور على أساس الزعم أنه قد حقق درجة أعلى من النضج – لن يجدى معه عطاء، خاصة ممن تعودوا الأخذ منه، استشهدتْ هذه الصديقة بالمثل القائل: “إطعم مطعوم، ولا تطعم محروم”، وأذكر أن هذا الاستشهاد قد لاح لى كأنه قرار صريح بأنى لا أستحق ما أطلب أصلا.

كنت قد ناقشت هذا المثل من قبل([32])، ونبهت إلى احتمال أن يكون له معنى آخر غير القسوة التى تبدو فى ظاهره، وهو أن المحروم جدا، إذا ما بدأ حرمانه من فترة باكرة، واستمر حتى أصبح هو “نوع وجوده”، فإنه يحتاج إلى نوع آخر من العطاء، غير مجرد إشباع الجوع، وقد شبهت قسوة الحرمان التى يترتب عليها هذا العجز عن الارتواء، بالوجود المثقوب، الذى كلما ملأته بما يستحق أن يُملأ به يتسرب ما وضعته فيه من “ثقب الحرمان المزمن”، وبالتالى، مرة أخرى يصبح مثل من يشرب الماء المالح، كلما شرب ازداد عطشا.

ثرت أكثر على هذا الموقف، وأن يكون حرمانى من دور “الشخص العادى”، هو مبرر لمزيد من الحرمان، وأن أستمر فى حملهم (جمل المحامل) بقية عمرى، وهذا ما جاء فى المتن فى الفقرة التالية تفسيرا للمثل المستشهد به.

هل معنى أن تمتنع عن إطعام المحروم الذى تتصور أنه لا يشبع أن يصبح حرمانه قدرا أبديا بلا ذنب جناه، إلا أنه أجـَّل حقه حتى يكبر من حوله بما يسمح له أن يأتى دوره ليأخذ كما أخذوا ؟

هذا ما جاء – احتجاجا – فى الفقرة التالية:

‏–‏ كده‏ ‏برضه‏ ‏ياناس‏‏؟!!

بعد‏ ‏دا‏ ‏كله‏ ؟‏ ‏إلحق‏ ‏عليه‏؟!!

بقى دا اسمه كلام تتمثلوا بيه؟!!

قال إيه، قال إيه:

‏= ‏إيش‏ ‏يفهم‏ ‏فى ‏الغنوة‏ ‏الأطرش؟

إيش‏ ‏يفهم‏ ‏فى ‏الصورة‏ ‏الأعمي؟

إيش‏ ‏يفهم‏ ‏محروم‏ ‏من‏ ‏يومه‏،‏

فى ‏الحـنـية‏ ‏والملاغية؟

‏”‏إطعم‏ ‏مطعوم‏، ‏يــستطعـم

أما‏ ‏المحروم‏، ‏يــستحمل‏”‏

وصلنى أن هذا الاستحمال هو إشارة إلى ضرورة الصبر الحتمى المفروض والتأجيل إلى مالا أعرف متى. إلى متى؟؟

أذكر أننى طرحت عليهم هذا السؤال بشكل مباشر أو غير مباشر، فجاءنى الرد، ربما من نفس التى استشهدتْ بالمثل السالف الذكر “أنه: كل آتٍ قريب” (ما خلاص هانت)، أو لعلها أشارت: “سوف نقول لك، حين نرى الوقت مناسبا” أو شىء من هذا القبيل، ولعلها تساءلت: لماذا الاستعجال؟ (كل هذا بالألفاظ أو بلسان الحال!!)

وينتبه إلى أن التأجيل والاستحمال قد يـُفرضان عليه فرضا وبشكل دائم ويتواصل الحوار:

‏– ‏ يستحمل‏ ‏تانى ‏يا‏ ‏ناس‏؟‏ ‏دا‏ ‏حرام‏! ‏

‏=‏ ما‏ ‏خلاص‏ ‏هانت‏.‏

‏–‏ لأ‏ ‏ما‏ ‏هانتشى. . ‏إيش‏ ‏عرفنى؟

مش‏ ‏يمكن‏ ‏لعبة‏ “‏إستني‏” ‏تفضل‏ ‏على ‏طول؟

على ‏ما‏ ‏يحصَّلنى ‏الدور‏ ‏حاخلص‏.‏

 

القلب‏ ‏مقدد‏. ‏

‏ ‏والجرح‏ ‏ممدِّدْ‏.‏

فى ‏الأرض‏ ‏الشوك‏،‏

والميه‏ ‏عصير‏ ‏صبار‏.‏

 

‏=‏ ما‏ ‏تكركبهاش، ‏على ‏مهلك

‏ ‏و‏”‏سعيده‏” ‏وحابـْـقـَـى ‏انـْـدَهـْـلـَـك‏!!!‏

حين يحتد الجوع والاحتياج بهذا الوضوح، يصبح الوعد بالرِّى أصعب من القبول بالواقع، بل إن مثل هذا الوعد، لو انساق المخدوع إليه يزيد الجوع اشتعالا، فالجوع مع التلويح باحتمال الرى هو أقسى من الجوع مع التسليم باستحالة الرى، فالحذر من أن تكون هذه اللمعة فى الأفق ليست إلا سرابا: واجب “مش يمكن لعبة إستنى تفضل على طول“؟

الانتظار المفتوح هكذا هو أخبث ألعاب التأجيل وعْدا بما لا يكون، بما يترتب عليه أن تحل النهاية قبل أن يأتى عليه الدور على ما يحصلنى الدور حاخلص“، السخرية التى تلت ذلك تتبدى فى قول لسان حالهم:

“سعيدة”، وحـَـابـْـقـَـى اندهلك”،

ربما يكشف هذا النوع من التحيه الفرق بين: “وداعاً” وبين “إلى اللقاء”([33])، فما بالك بـ “سعيدة” وهى تحية غير مألوفة فى ثقافتنا، سعيدة هنا تشير إلى الاستهانة بجدية المطالبة بالحق فى الضعف وفى الأخذ وفى الرؤية.

هنا تقفز أهمية التدريب على الجانب الإيجابى من “معايشة اللحظة” “هنا والآن”، بدأً بـ (حدْس اللحظة) ([34]) من تنظير باشلار، حتى الممارسة العملية فى العلاج الجمعى، إنه لا شىء يوجد إلا “الآن”، ما ليس هو الآن، ليس هو، ألح علىّ هذا المبدأ حتى عبرت عنه فى الأراجيز التى كتبتها للأطفال قائلا:

ييجى بـُكـْرَه، يلاقى نفسه:

“النهارده” بتاع غداً([35])

إذن ليس هناك بكره!

فما العمل؟

يخيل إلىّ أن التعريه فى المقطع التالى هى موضوعية أكثر منها تسوُّلٌ لزج.

واتهيألى ‏حايشوفوا‏ ‏انا‏ ‏مين‏.‏

وانى ‏غلبان‏ ‏محتاج‏ ‏ليهم‏، ‏

وجعان‏، ‏محروم‏، ‏عايش‏ ‏بيهم‏،‏

أضعفْ‏، ‏وازحف‏، ‏وأَقَعْ‏، ‏وأقوم‏.‏

إذا كان الحق البسيط العادى (حق الضعف، وحق المعاملة بالمثل) غير جاهز، أو حتى غير وارد، فإن الاستمرار فى المطالبة به يصبح نوعا من النعابة، ولا مفر من أن يمتلئ، ما هو  “الآن” بانتظار من نوع آخر، فليستمر الجمل فى حمل “المحامل” بشرف دون شكوى، حتى لو حمل الكرة الأرضية فوق قرنه.

وشهور وسنين وانا باستنى

“شـِـلـْـتـَـهـَـا على قرنى” وباتْمنى

حـَـمـْـل همّ كل الناس، بإرادة متواضعه، دون ادعاء النبوة، والاستمرار فى ذلك دون نعابة تنتظر المقابل، هو نوع الموقف الذى يؤكده استمرار التميز ومواصلة العطاء.

ولكن: هل هذا ممكن دون الانزلاق إلى المثالية الخائبة، فوجدت ما دفعنى إلى الناس/الناس أكثر وأرحب.

وبنيت قصرى سكّنته الناس

لست متأكدا ماذا يعنى “القصر” هنا، حضرنى قول مواز من قصيدة لى بالفصحى “رسالة من دون كيشوت إلى إخوان أبى لهب”([36]) والتى ورد فيها نص فيه كلام عن: “روضتى” و”ملعبى”، وأعتقد أن لهذا وذاك صلة ببناء “قصرى” هنا.

 جاء ما يلى فى قصيدة الفصحى وهى التي اقتطفت منها حالا، جاء فيها أيضا:

فى “روضتى”،

 ألقيت بذرة القلق

نبتت بوجدان البشر

وقد أنهيت هذه القصيدة بقولى:

يا سادتى

هذا أنا لمَّا أزل

سيفى خشب

لكن لؤلؤة الحياة بداخلى لا تنكسر

وبرغم واقعنا الغبى

ينمو البشر فى ملعبى

تصورت الآن أن شطر “وبنيت قصرى سكنته الناس” يمكن أن يشير إلى أن ذلك قد تم فى “روضتى” التى ألقيت فيها بذرة القلق، وأن ذلك القصر محاط “بملعبى” حيث “ينمو البشر”.

المألوف أن القصر هو لصاحب القصر دون الناس، وأن الملعب للعب دون النمو، إلا أنه يبدو أننى حين اضطررت اضطرارا لهذا التأجيل ردا على تخليهم وسخريتهم، نسيت التأجيل، واتسعت دائرة مسئوليتى ربما “غصبا عنى”، حتى صار همى هو كل “الناس” بدءًا بالأقرب، مرة أحاول أن أسكنهم قصر فكرى وخبرتى انطلاقا إلى قصورهم الخاصة المفتوحة، ومرة أخرى لأتيح لهم اللعب (الإبداع) فى ملعبى، حتى يكملوا مسيرة النمو (الإبداع)، فخطر لى أن ملعبى هذا هو هو حول ذلك القصر.

إن كان الأمر حقيقة كذلك فأين الانتظار؟ ولماذا التأجيل؟

لأننى ظلـَـلـْـت وأظل ذلك الانسان الفرد الضعيف صاحب الحق، لكن دون نعابة، أنتظر أن يرانى أحدهم كما أنا، وليس كصاحب القصر المبنى فى الروضة وحوله الملعب.

ويتكرر الاحتجاج على طلب الحق فى الضعف، فيتكرر رفض هذا الاحتجاج

‏=‏ ما‏ ‏فيناش‏ ‏من‏ ‏كـِدَهْ‏ ‏مش‏ ‏لايقة‏ ‏عليك‏.‏

–‏ لأ‏. ‏لايقة‏ ‏ونـص‏:‏

ويتصاعد التحدى كما تتأصل الثقة بأنه: ما دام الوقت “الآن” ملىء بالناس للناس، فالحق واصلٌ لصاحبه مهما طال الزمن.

لو‏ ‏حتى ‏الليل‏ ‏طال‏ ‏ست‏ ‏شهور‏،‏

والتلج‏ ‏اتجمع‏ ‏فوق‏ ‏قلبى،‏

والطفل‏ ‏اتجمد‏ ‏مالسقعه‏، ‏

والدم‏ ‏اتوقف‏ ‏فى ‏عروقى،‏

‏ ‏والنهر‏ ‏بقى ‏صخر‏ ‏بيلمع‏،‏

والوادى ‏بقى ‏صحرا‏ ‏بتلسع

والبنى ‏آدمين‏ ‏بقوا‏ ‏مـش‏ ‏هَّمهْ‏، ‏

                       أنا‏ ‏حاعملها‏.‏

ويـُقـَابـَل هذا التحدى بالإصرار من جانبهم على أن يظل يحمِلها مادام يدعى أنه بكل هذه القدرة.

‏= قدها‏ ‏وقدود‏، ‏ياللا‏ ‏اعملها‏، ‏

بس‏ ‏تخليكْ‏، ‏برضه‏ ‏شايِلْـهَا‏ ‏

كررت الحديث مرارا كيف أن الوعى الجماعى Collective Consciousness الذى يتكون منا معا أثناء العلاج الجمعى، نتيجة حركية (وتناصّ) النصوص البشرية أثناء إعادة تشكيلها معا، هو وعى متصاعد إلى وعى أوسع فأشمل، فأعلى فأرحب، حتى تتناغم مستويات الوعى فيما تفيده نهاية القصيدة التى أنهيتـُـها بهذا الإصرار:

‏–‏ ربنا‏ ‏موجود‏ ‏حا‏ ‏يعدِّلهـا

يزرع‏ ‏فى ‏قلوب‏ ‏المحرومين‏:‏

بذرة‏ ‏تنبت‏، ‏حُبَ‏ ‏وتسبيح‏، ‏

تطرح‏ ‏شجرة‏ ‏لها‏ ‏ضِلَ‏ ‏كبير‏،‏

تحضن‏ ‏نِسمـَة‏ ‏وتغازل‏ ‏الريح‏،‏

وتفرَّع‏ ‏توصل‏ ‏لخالـقـها‏. ‏

لكنهم – برغم كل ذلك – لا يكفون عن الاستبعاد والتثبيط والسخرية.

‏=‏إبقى ‏قابلنى !!‏

وفى المقابل: لا أهمد بدورى من الحركة والتجريب والسعى بالناس إلى الناس،

 فأكتشف أن الناس الذين يملئوننى بحق: ليسوا هؤلاء الناس المعتمدين علىّ طول الوقت، وإنما هم الناس بداخلى وخارجى فى حركة مثقلة مع هذا الوعى الجماعى الذى يتخلق ناميا باستمرار “إليه”.

‏– ‏وطـْـلـِـعـْـت‏ ‏أدب‏،‏

‏ ‏نزلت‏ ‏أدب‏، ‏

ولقيت‏ ‏ناسى ‏

جوَّه وْ بَرَّه

مالْيين‏ ‏القلب‏.‏

وِقتلت‏ ‏الغول

حَوَّطوا‏ ‏بيَّا

وعملناها:

طِلعـِتْ هيـَّـا

يلاحظ هنا أن القصيدة انتهت بـ “وعَمَلْنَـاهَـا”، وليس بـ “عملتها”، إذن يبدو أن القضية لا تتوقف عند “أكون أو لا أكون” أو حتى عند “أكون أو أصير”، وإنما بالضرورة عند “أكون لنكون، فيكونون لأكون”.

وبعـد

أين يقع كل هذا من العلاج النفسى؟

أولا: نبهت ابتداء أن هذه القصيدة، والتى تليها (الأخيرة) فيها جرعة السيرة الذاتية غالبة بشكل كاد يفصلها عن “فقه العلاقات البشرية”، لكننى أضيف هنا: وهل أنا أعالج مرضاى إلا بما هو أنا، بعجزى واجتهادى ومحاولتى وتعريتى وعلاقتى بنفسى وبهم إلى ربنا؟ وهل أنا إلا أحد نـُـصوص قصيدة الوجود البشرية؟

ثانيا: لعل فى هذه القصيدة ما يوصل لمن يقبل الاشتغال بهذه المهنة مدى صعوبتها التى تحتاج إلى مجاهدة النفس إلى هذه الدرجة حتى يمكن أن يستمر.

ثالثا: يبدو ان هذا الموقف البسيط العنيد الصعب كان هو هو موقفى منذ تبينت معالم مسارى الشخصى من خلال مهنتى، فقد حضرتنى قصيدة موازية كتبتها بالفصحى قبل عام واحد من كتابة هذا الديوان، وقد حاولت أن أبين فى هذه القصيدة معالم أوضح لهذا الموقف، وقد رأيت إثباتها كاملة هنا بعد أن حذفتها من الطبعة الأخيرة لديوان “سر اللعبة” لست أدرى لماذا: هي نفس القصيدة التي رأيت أخيرا أن أثبتها كاملة: رسالة من دون كيشوت إلى إخوان أبى لهب ([37]).

– 1-

يا‏ ‏سادتى:‏

‏”تبَّتْ‏ ‏يدا‏ ‏أبى ‏لهب” ‏

ماذا‏ ‏كسب؟‏

يا‏ ‏سادتى

هذا‏ ‏أنا‏ ‏لمّا‏ ‏أزل‏‏

‏”ألقى ‏السلاح؟؟‏”

لا‏ ..

هذى ‏أمانيكم ،

‏                (…‏كذا ؟‏!!!) ‏

والسيد‏ ‏اليأسُ‏ ‏المُلثـَّـمُ‏ ‏بالعــدمْ

يلقى ‏التحيةَ  ‏الشماتةَ‏ ‏الندمْ

على ‏مُصارع‏ ‏الهواءِ‏ ‏الذاهل اللبّ‏ ‏ ‏المتيــَّمِ‏ ‏بالأملْ،     ‏

سيفى ‏خشب؟‏!!!‏

خيرٌ‏ ‏من‏ ‏الحبل‏ ‏المَسَدْ

فى ‏جيدِكمْ‏

– 2-

طـاحونتِى … ‏

عبثَ‏ ‏الهواءُ ‏بكفــِّها،

دارتْ‏ ‏تئنُّ، ‏توقفتْ، دارتْ‏ ‏

طاحونتـِى،  ‏ثأرى ‏القديم

لكنَّ‏ ‏رَوْضى ‏يرتوى ‏من‏ ‏مائِهاَ،

مهما‏ ‏علا‏ ‏سدُّ‏ ‏الفزعْ

وتعثــَّر‏ ‏المجرى ‏بجندل‏ ‏ظنكم

لن‏ ‏توقفوا‏ ‏نهرَ‏ ‏الحياهْ ‏

بل، ‏فاحذورا‏ ‏طوفَانها‏

– 3-

فى ‏روضتى:

ألقيتُ‏ ‏بذرة‏ ‏القلق

نبتتْ‏ ‏بوجدان‏ ‏البشر

نحت‏ ‏الجنينُ ‏الطينَ‏ ‏فانهار‏ ‏العدمْ     ‏

صرخ‏ ‏الوليدُ‏ ‏الطفلُ‏ ‏أذَّن‏ ‏بالألمْ‏

وتطاول‏ ‏الشجرُ‏ ‏الجديدْ:

يعلو‏ ‏قبابَ‏ ‏الكون‏ ‏إذ‏ ‏يغزو‏ ‏القمر،

والشوكُ‏ ‏يدمى ‏الكفَّ‏ ‏إذ‏ ‏يحمى ‏الثمرْ‏ ‏

واللؤلؤُ‏  ‏البراق‏ ‏فوق‏ ‏الساقِ‏ ‏من‏ ‏صمغ‏ ‏الضجـَّرْ

– 4-

ذى ‏صرخـَتـِى

سوطُ  ‏اللهــيبِ‏ ‏النورِ‏ ‏رعدُ‏ ‏القارعة

يكوى ‏الوجوهْ‏.. ‏

يا‏ ‏ويحكمْ‏ !! ‏

من‏ ‏يوقْفُ‏ ‏الرجعَ‏ ‏الصـَّدى ‏فى ‏قلبكم‏

هيهاتْ . .

‏إلا‏ ‏الموت،

حتى ‏الموت‏ ‏لا‏ ‏يُخفى ‏الحقيقة‏ ‏بعدنا‏

‏. . .  ‏

يا‏ ‏ويحكــمْ ‏منها‏ ‏بداخلكم‏ . ، ‏

نعمْ،… ‏ليست‏  ” ‏أنا‏ “

بل‏  “نحن‏ ” ‏فى ‏عمق‏ ‏الوجودْ ‏

بل‏ ‏واهبُ‏ ‏الطينَ‏ ‏الحياة

بل‏ ‏سر‏ ‏أصل‏ ‏الكون، ‏كل‏ ‏الكل‏، ‏

نبض‏ ‏الله‏ ‏فى ‏جنباتنا‏ ‏

ليستْ‏ ‏أنا‏

– 5 –

يا‏ ‏سادتى

هذا‏ ‏أنا‏ ، ‏لمّا‏ ‏أزلْ

سيفى ‏خشب‏ ‏؟؟

لكنّ‏ ‏لؤلؤة‏ ‏الحياة‏ ‏بداخلى ‏لا‏ ‏تنكسرْ

وبرغم‏ ‏واقعنا‏ ‏الغبى ،

ينمو‏ ‏البشرْ. . . ‏فى ‏ملعبى

وبعد

كالعادة أختم الفصل كالعادة بالقصيدة الأساسية من ديوان “أغوار النفس”، وها هي ذي مكتملة:

(1)

= ‏لأ‏.. ‏عـَنـْدَكْ‏ !!‏

‏ – ‏ليه‏ ‏؟‏ ‏

‏=‏ممنوع‏ ‏ده‏ !!‏

‏ – ‏إيه‏ ‏؟

‏=‏ممنوع‏ ‏كـلُّــه‏،‏

‏ – ‏طب‏ ‏أعمل‏ ‏إيه‏ ‏؟‏ ‏

‏=‏زى ‏ما‏ ‏دايما‏ ‏كُنْت‏ ‏بتعمِلْ‏.‏

قَرْنَكْ‏ ‏جامد‏، ‏خَلِّيك‏ ‏شايل‏.‏

‏ – ‏لأ‏ ‏مش‏ ‏لاعب‏.. ‏جرى ‏إيه‏ ‏؟‏.. ‏الله‏ !!‏

‏= ‏إعقل‏ ‏يابــا‏، ‏قلنا‏ ‏ممنوع، ممنوع:‏

ممنوع‏ ‏تِغْضَبْ‏، ‏تِزْعَلْ‏، ‏تِهْمَدْ‏، ‏تِسْكُتْ‏،‏

تِحْلَمْ‏، ‏تِسْرَحْ‏….، ‏

ممنوع‏ ‏كــله‏.‏

‏ – ‏ولإمتى ‏يا‏ ‏نـــاس؟

‏= ‏بكره‏ ‏انشـــالله‏ ‏

‏ – ‏بقى ‏كده‏ !! ‏بكره‏ ‏؟

‏ ‏فيه‏ ‏إيه‏ ‏بكره؟

‏= ‏بكره‏ ‏حانِسْمَح‏ ‏لَك‏ ‏تتكلم‏.‏

بكره‏ ‏حانسمح‏ ‏لك‏ ‏تتـألم‏.‏

بكره‏ ‏حاتجنى ‏ثمرة‏ ‏كـُدَّكْ‏،‏

لما‏ ‏نِكْبَر‏ ‏نبقى ‏قَدَّكْ‏ !!‏

‏ – ‏وانا‏ ‏مالى ‏قدّ‏، .. ‏ومالى ‏حدّ‏.‏

خايف‏ ‏لاتكون‏ ‏الحاره‏ ‏سد‏. ‏

والصبر‏ ‏مرار‏ !‏

وانا‏ ‏مش‏ ‏رافض‏ ‏أشرب‏ ‏كاسه‏.‏

على ‏شرط‏ ‏يكون‏ ‏للكاس‏ ‏دا‏ ‏قرار‏.‏

واستحمل‏ ‏طول‏ ‏الليل‏ ‏غُــلبى،‏

على ‏شرط‏ ‏الليل‏ ‏ييجى ‏بعده‏ ‏نهار‏.‏

والصّحّرا‏ ‏بنزرع‏ ‏فيها‏ ‏الصبر‏،‏

تطرح‏ ‏حرمان‏.‏

نسقيه‏ ‏من‏ ‏طولة‏ ‏البال‏،‏

وبْنِحْدِى ‏كلام‏ ‏ونقول‏ ‏موَّال‏:‏

‏”‏جمل‏ ‏المحامل‏ ‏بِرِكْ‏ ‏شـِمْتِتْ‏ ‏لـَعَادِى ‏فيه‏”‏

‏= ‏جمل‏ ‏المحامل‏ ‏لابيشكى .. ‏ولا‏ ‏بيقول‏ ‏آه

‏- ‏ليه‏ ‏يعنى ‏بقي!! ما‏ ‏هو‏ ‏نِفْسو‏ ‏يعيش‏، ‏زى ‏العايشين؟

‏= ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عايش‏ ‏اهه‏، ‏إسم‏ ‏الله‏ ‏عليه‏.‏

‏ ‏بيقول‏ ‏ويعيد‏، ‏ونْـــرُد‏ ‏عليه‏، ‏

‏ ‏بـيشيل‏ ‏فى ‏همْوَم‏، ‏وف‏ ‏غُلْب‏ ‏الناس‏،‏

‏ ‏وحياخد‏ ‏إيه‏ ‏غير‏ ‏وجع‏ ‏الراس‏،‏

‏ ‏من‏ ‏زن‏ ‏الحاجة‏ ‏ومدّ ‏إيديه؟

‏-‏ كده‏ ‏برضه‏ ‏ياناس‏ ‏؟

بعد‏ ‏دا‏ ‏كله‏ ‏؟‏ ‏الحق‏ ‏عليه‏ ‏!!

 

‏= ‏إيش‏ ‏يفهم‏ ‏فى ‏الغنوة‏ ‏الأطرش؟

إيش‏ ‏يفهم‏ ‏فى ‏الصورهْ‏ ‏الأعمي؟

إيش‏ ‏يفهم‏ ‏محروم‏ ‏من‏ ‏يومُهْ‏،‏

فى ‏الحـنـية‏ ‏والملاَغِيَّهْ؟

‏”‏إِطْعمْ ‏مطعومْ‏: ‏يِــسْتَطْعَـمْ

أما‏ ‏المحرومْ، ‏يــِسْتَحْمِل‏”‏

‏- ‏يستحمل‏ ‏تانى ‏يا‏ ‏ناس‏ ‏؟‏ ‏دا‏ ‏حرام‏ !‏

‏=‏ ما‏ ‏خلاص‏ ‏هانت‏.‏

‏-‏لأ‏ ‏ما‏ ‏هانتشى .. ‏إيش‏ ‏عرفنى ‏؟

مش‏ ‏يمكن‏ ‏لعبة‏ “‏إستني‏” ‏تفضل‏ ‏على ‏طول؟

على ‏ما‏ ‏يحصَّلنى ‏الدور‏ ‏حاخْلَصْ‏.‏

القلب‏ ‏مقدد‏. ‏

‏ ‏والجرح‏ ‏ممدد‏.‏

فى ‏الأرض‏ ‏الشوك‏،‏

والميه‏ ‏عصير‏ ‏صبار‏ .‏

‏=‏ما‏ ‏تكركبهاش‏; ‏على ‏مَهْلَكْ

‏ ‏و‏”‏سعيده‏” ‏وحاابـْـقى ‏اندهلك‏ !!!‏

(2)

وشهور‏ ‏ويام‏ ‏وانا‏ ‏باستنى،‏

شلتها‏ ‏على ‏قَرْنِى ‏وباتمنى،‏

وبنيت‏ ‏قصرى .. ‏سَكِّـنْتُه‏ ‏الناس‏.‏

واتْهَيَّألى ‏حايشوفوا‏ ‏انا‏ ‏مين‏.‏

وانِّى ‏غلبان‏ ‏محتاج‏ ‏ليهم‏، ‏

وجعان‏، ‏محروم‏، ‏عايش‏ ‏بيهم‏،‏

أضْعَفْ‏، ‏وازحَفْ‏، ‏وأقَعْ‏، ‏وأقوُمْ‏.‏

‏= ‏ما‏ ‏فيناش‏ ‏من‏ ‏كده‏ ‏مش‏ ‏لايقة‏ ‏عليك‏.‏

‏-‏ لأ‏. ‏لايقة‏ ‏ونـص‏:‏

لو‏ ‏حتى ‏الليل‏ ‏طال‏ ‏ست‏ ‏شهور‏،‏

والتلج‏ ‏اتجمع‏ ‏فوق‏ ‏قلبى،‏

والطفل‏ ‏اتجمد‏ ‏مالسقعه‏، ‏

والدم‏ ‏اتوقف‏ ‏فى ‏عروقى،‏

‏ ‏والنهر‏ ‏بقى ‏صخر‏ ‏بيلمعْ‏،‏

والوادى ‏بقى ‏صحرا‏ ‏بتلسعْ

والبنى ‏آدمين‏ ‏بقوا‏ ‏مـش‏ ‏همَّا‏، ‏

أنا‏ ‏حاعملها‏.‏

‏= ‏قدها‏ ‏وقدود‏، ‏ياللا‏ ‏اعملها‏ ،‏

بس‏ ‏تخليكْ‏، ‏برضه‏ ‏شايِلْـهَا‏ ‏

‏-‏ربنا‏ ‏موجود‏ ‏حا‏ ‏يعِّدلْهَـا :

يزرع‏ ‏فى ‏قلوب‏ ‏المحرومين‏،

بذرة‏ ‏تنبت‏، ‏حب‏ ‏وتَسْبيح‏، ‏

تِطْرح‏ ‏شجرة‏ ‏لها‏ ‏ضِلّ‏ ‏كبير‏،‏

تِحْضُنْ‏ ‏نِسْمة‏ ‏وتغازل‏ ‏الريح‏،‏

وتفرَّع‏ ‏توصل‏ ‏لِخَالـِقـْها‏ .‏

 

‏=‏ إبقى ‏قابلنى !!‏

‏-‏ وطلعت‏ ‏أدبّ‏،‏

‏ ‏نزلت‏ ‏أدبّ‏، ‏

ولقيت‏ ‏ناسى ‏

‏ ‏هنا‏ ‏جوا‏ ‏القلب‏.‏

قتلت‏ ‏الغول

حَوَّطُوا‏ ‏بيا

‏ ‏وعَمْلنـاهـا‏،‏

‏”‏طِلْعِتْ‏ ‏هِيَّا .”.‏

*********** 

الفصل الثالث:

  الخلاص

الخلاص3

كما ذكرت، سبق أن كتبت فصلا بأكمله بعنوان “أمى” فى الترحال الثالث من ترحالاتى (سيرة ذاتية فى أدب رحلات) ([38])، ولا أجد عندى ما أضيفه فى هذه المنطقة. إلا أننى وجدت أن هذه القصيدة ليست عن أمى بقدر ما هى رحلتى شخصيا وأمى تحيط بها وبى طول الوقت.([39])

لكن هذا الشرح على المتن يهتم أكثر بربط هذه القصائد بما هو علاج نفسى، وأنا أتساءل الآن وأنا على وشك الانتهاء من هذا العمل:

 هل هو حتم علىّ أن أقوم بهذا الربط حتى لو لم يرد تلقائيا؟

 ربما كان الأمر كذلك، أعنى أن هذه هى الرسالة التى أود توصيلها فعلا، وإلا لماذا هذا الكتاب كله أصلا ؟

 تبدأ القصيدة بحوار مع (لسان حال) أمى يقول:

‏–1–

‏– ‏ليه‏ ‏يامَّه؟‏ ‏كان‏ ‏ليه‏؟

لما‏ ‏انتى ‏ما‏ “‏نتيش‏” ‏كان‏ ‏ليه‏‏؟‏ ‏

أنا‏ ‏ذنبى ‏إيه‏‏؟

أنا‏ ‏مين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏فين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏كام‏ ‏يامَّه؟

أنا‏ ‏إيه‏؟

‏= ‏جرى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏يا‏ ‏حبة‏ ‏عيني،

‏‏طب‏ ‏ما‏ ‏انت‏ ‏أَهُهْ‏ !‏

بقى ‏دا‏ ‏اسمه‏ ‏كلامْ

ما‏ ‏هو‏ ‏كله‏ ‏تمامْ

جرى ‏إيه‏!!!‏

تبدأ رحلة الوجود بيقين الأم – بمجرد الولادة – بأن وليدها قد أصبح خارجها، كيانا منفصلا عنها، مشروع وجود كائن بشرى جديد، بمجرد انتهاء وجوده لحما ودما داخلها، ينتقل الوليد من الرحم الجسدى، إلى الرحم النفسى. فى الرحم الجسدى تكون الحماية محيطة، وفى نفس الوقت الحركة طليقة، لكن ليس لها هدف إلا الحركة، كما يكون الأمان كاملا، أما وقد صارا جسدين بينهما مسافة، فإن الحركة تصبح محكومة “بحضور ما معا” على مسافة متغيرة، غير مضمونة، تحكمهما قوانين جديدة، مهدِّدَة أحيانا.

من البداية التى تتجسد تماما فى حفل “السبوع” تلجأ الأسرة إلى التأكيد على الأم أن تشحذ انتباهها أن الكيان الذى كان بداخلها تماما، أصبح خارجها فعلاً، أصبح كيانا مستقلا جسديا على الأقل، كبداية للحمل فالولادة النفسية، فى أطروحة سابقة بيـَّـنـْـتُ كيف أن السبوع([40]) بكل طقوسه المنظمة فى المكان والحركات والأهازيج تؤكد كلها هذه الرسالة. الكآبة التى تصيب الأم فى الأيام الأولى للنفاس (حوالى 60 % Maternity Blues ) هى تفاعل طبيعى لهذا الانفصال، واستعداد مناسب يمهد لعلاقة بين الأم ووليدها من نوع آخر.

حتى تسمح الأم بهذا الانفصال، وتعترف بوجود هذا الكائن الجديد خارجها، وهو الكائن الذى حملته: وهـْناً على وَهـْن، ثم وضعته بكل الألم الخلاّق، لا بد أن تكون هى “كائنة” حاضرة بشكل ما، أن تكون موجودة ساعية تعطى الغذاء العلاقاتى عبر الحبل السرى التواصلى، كما كانت تعطى خلاصة الاحتياجات الغذائية والتنموية عبر الحبل السرى داخل الرحم، ولكن لكى تفعل ذلك بكفاءة، لا بد أن تكون هى نفسها “كائنا موجودا قائما” يمارس علاقات الأخذ والعطاء. لكى “تعطى” الأم هى فى حاجة أن “تأخذ” أيضا فى نفس الوقت، أو قبلا، من أى مصدر بشرى آخر: أمها عادة، فى ثقافتنا الشعبية نعرف أن حضور أم الوالدة (فعلا أو بديلها) هو حضور أساسى أثناء الولادة وقبيلها، الوالدة “تتقطّف” على صدر أمها أثناء المخاض بما يؤكد حاجة الأم أن “تكون” محل رعاية ورؤية وهى تستعد لأن تعطى شهادة الكينونة للقادم الجديد، فإن لم “توجد” الوالدة أصلا بهذا المعنى الإنسانى الأساسى، فكيف ننتظر منها أن تعترف لغيرها (وليدها) بما تفتقر هى إليه جدا، تبدأ القصيدة هكذا:

ليه يامّه؟ كان ليه؟

لما انتى ما انتيش كان ليه؟

هذا اللوم: قد يشير إلى أن الأم التى “لم تكن” التى هى ليست “كائنة” فعلا بما هى الآن، لا تستطيع أن تعطى وليدها حقه فى الوجود كما ينبغى، لا أحد “يكون هكذا بما هو” جاهزا للعطاء غير المشروط، وإنما نحن جميعا “نتكوّن” باستمرار، ولهذا لا يجوز أن نلوم أحدا على أنه لم “يكن”، خاصة الأم، (لما انتى مانتيش) لكننا ربما نلومه على أنه توقف عن أن يواصل أن”يتكون”، وهذا أيضا يجرى فى حدود الفرص المتاحة، وقليلة هى هذه الفرص عموما، وهذا صحيح فى مجتمعنا خاصة بالنسبة للمرأة بالذات، لكن حاجة الطفل لا تـُحسبُ هكذا، الطفل يريد حقه من الاعتراف بغض النظر عن تبريرات من حوله أو ظروفهم الواقعية.

 أحيانا يولد طفلٌ ما وعنده حاجة قصوى جاهزة للتأكيد على حق الاعتراف هذا (وذلك ربما يحدث لأسباب وراثية أكثر)، وبالتالى يكون العيب فى “نهم برنامج احتياجه” أكثر من قلة مصادر رِيـِّه، ويواصل الطفل بوجه عام، وهذا الطفل بوجه خاص: صراخه المعلن عن حيرته الوجودية، وحاجته الأساسية بأى قدر من الاعتراف، بهذا الإلحاح المتسائل، فى كل اتجاه:

أنا‏ ‏مين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏فين‏‏؟‏

أنا‏ ‏كام‏ ‏يامَّه؟

أنا‏ ‏إيه‏‏؟

تـعـَدُّدُ الكيانات جاهز فى التركيب البشرى منذ البداية، “أنا كام؟”، التساؤل هنا لا يقتصر على “أنا مين”؟ أو “أنا إيه”؟ ولكنه يمتد إلى “أنا كام؟”. فى التحليل التركيبى structural analysis يولد الطفل وهو يحمل “مشاريع” الذوات كلها تقريبا، مشاريع بمعنى “برامج” حيوية (نيوروبيولوجية) تنتظر التشغيل والتشكيل والنمو([41])، والتساؤل هنا لا يكون واعيا طبعا، لكنه وارد كامن.

 لا يُطِلُّ هذا التساؤل عادة فى الوعى الظاهر إلا مع (1) بدايات الذهان، أو فى (2)أزمات النمو، أو مصاحبا (3) لإرهاصات الإبداع.

 تساؤل الطفل الداخلى البدئى هنا هو نفس التساؤل، لكن دون ألفاظ طبعا، وأيضا بوعدٍ فطرِى كلـِّىّ غير محدد.

ترد الأم ([42])  (لسان حالها طبعا) بطيبة دافئة، وفى نفس الوقت بدهشة مفهومة :

‏= ‏جرى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏يا‏ ‏حبة‏ ‏عيني،

‏‏طب‏ ‏ما‏ ‏انت‏ ‏أَهُهْ‏!‏

بقى ‏دا‏ ‏اسمه‏ ‏كلامْ !!!؟

ما‏ ‏هو‏ ‏كله‏ ‏تمامْ

جرى ‏إيه‏!‏

“كله تمام” بمقايييسها الآمـِـلـَـة، وفى حدود قدرات عطائهأ المتواضعة، ثم تنتقل الرسالة فجأة إلى مخاطبتها طفلها “الوالد” أملا داعما منتظرا، الأم تعتبر ابنها – فى منطقة ما مِنْ عمق وجودها – والدها أحيانا منذ الولادة.

رحلة البناء السرى (جبل الرحمات: (الطفل العملاق الطيب ص68 – هامش 27) والتحمل العطائى (جمل المحامل) الفصل السابق، قد تتم حتى لو لم يأخذ الطفل حقه، ولا يصل إلى الأم بعد نجاح الكائن الجديد أن ينمو، ويتحمل، ثم يستمر، ويحمل، إلا أنها ترى طفلها “والدا” وقد أصبح قادرا على العطاء، وأن عليه أن يستمد وجوده من التمادى فى هذا الدور الذى أوضحنا ثمنه بشكل شبه كامل فى الفصل السابق (جمل المحامل).

الأم هنا تنكر تساؤلات ابنها الوالد، ولا ترى احتياجات ابنها “الوليد”، لكنها لا تتنكر لها، أنه قادر بالتالى على “التغذية الذاتية” جنبا إلى جنب مع مواصلة العطاء، وأنه سوف يكتمل بمواصلة هذا وذاك دون حاجة إلى هذه الوقفة وهذه التساؤلات وإعلان هذا الاحتياج هكذا، فهى تمضى تطمئنه وتبرِّئ نفسها ولسان حالها يقول:

= ‏ ‏يا جدع‏ ‏يا‏ ‏أمير‏ ‏ياللى ‏بـتــدِّى،‏

إوعى ‏تهِّدى‏.‏

تَنَّكْ إدِّى

‏بكره‏ ‏تْعَدِّى‏.‏

ياسلام‏ ‏يا ولَدْ‏.‏

ما‏ ‏فى ‏زيـك‏ ‏حدْ‏.‏

ماتفكَّرشى، ‏دا‏ ‏الفكر‏ ‏مرارْ‏.‏

ودا‏ ‏بير‏ ‏يابنى ‏وما‏ ‏لوهشى ‏قرار‏.‏

 

‏– ‏بسّ‏ ‏يامَّه‏ ‏لو‏ ‏قلتى ‏ليه‏‏؟‏ ‏

‏ ‏كان‏ ‏ليه‏ ‏؟

 

‏= ‏جرى ‏إيه‏؟‏ ‏فيه‏ ‏إيه‏‏؟‏ ‏

(‏كان‏ ‏ليه‏‏؟‏ كان‏ ‏ليه‏‏؟‏)

 ‏دِهْدِى‏!؟ ‏

هيَّا‏! “‏عامْلَهْ‏”‏؟

وَّلا‏ ‏انا‏ ‏قصـدى؟‏ دِهْدِىْ!!‏

يحتد (لسان حال) الأم بحق على أنه حتى لو أنها عجزت أن تعطى وليدها اعترافا يستحقه، حتى لو أنها مسئولة ضمنا عن هذه الوقفة وما يشكو منه وهو محتوى هذا الاحتجاج، حتى لو أنه يلومها حبا وضعفا طبيعيا، فهى بريئة، وهى لم تقصد أيا من ذلك، ولعل هذا هو غاية ما عندها.

‏حين كتبتُ هذا المتن سنة 1973/1974، كنت أتصور أنه يمكن أن يكون الإنسان “زرع شيطانى”، وأن مَنْ حُرِمَ حق الاعتراف كما ينبغى لما ينبغى، يمكن أن يخلق نفسه بنفسه، لكننى حين كتبت الجزء الثالث من الترحالات (ذكر ما لا ينقال: “سيرة ذاتية”)، وأثبت هذه القصيدة فى الفصل المعنون “أمى”، تجسد لى قبح، وتشوه ما هو “زرع شطانى”: زرع لا يزرعه أحد، ولا يرويه أحد، ولا يستفيد منه أحد، ويضر ببقية المزروعات النافعة، فجأة: استنارت بصيرتى أن هذا هو أصعب، وربما أبشع، ما يمكن أن يُمتحن به بشر، المتن الأصلى كان يبدو وكأنه يُعلى من قيمة أن يصنع الإنسان نفسه بنفسه كأنه ابن نفسه، يظل المتن ينفخ فى هذه الصورة ويزيّنها حتى قرب النهاية، هذه الصورة الملوّحة: أن تخلق نفسك بنفسك هى مهمـَّة شديدة الإغراء مع أنها فى عمق معين لا تعنى إلا ألوهية زائفة، ربما كتلك التى تورط فيها “غرينوى” بطل رواية العطر([43])، حتى صار إلها كاذبا، ومن ثم قاتلا بالضرورة، وقد أثبتُّ هذا التراجع فى الترحال الثالث، وأعتقد أنه من المهم إثبات نص التراجع هنا قبل أن نكمل قراءة المتن، وما طرأ عليه، وما آل إليه:

15 يوليو 2000 ([44])

عذرا أمّى، ظلمتُـك، وكأنى فعلتـُها وحدى، إن كنت قد فعلتـُها أصلا.

قرأت لاحقا رواية “العطر” لباتريك زوسكند، وأعدت اكتشاف مسائل كثيرة تتعلق بما سبق أن أثبته هنا من افتراضات.

ولد جان باتيست غرينوى سفاحا من أم كانت تتخلص من أطفالها أولا بأول، وحين حاولت أن تتخلص منه عقب ولادته مباشرة ضُبطت، وحوكمت، وأعدمت.

أطلق غرينوى من تحت طاولة السلخ “صرخة مدروسة بدقة”، ويكاد المرء أن يقول إنها صادرة عن عقل مفكر، أراد بها الوليد الجديد أن يحسم أمره “ضد الحب ولصالح الحياة“، لأول وهلة بدا (لى) هذا الاختيار مستحيلا، هل يمكن أن يكون الحب على ناحية، والحياة الناحية الأخرى؟

كان غرينوى بلا رائحة، بلا وصلة بين “لارائحتة” ورائحة البشر، بلا “تـواجد معا”، فراح يشكّل نفسه بنفسه، يصنّع له رائحة مميِّزة، راح يحاول أن يصنع كل ما يحقق استمراره، ونجاحه، بل ونجاته من الموت بعد أن أزهق أرواح العذارى الواحدة تلو الأخرى ليحقق تصنيع “العطر الإله البديل” (الوجود المصنوع زيفا)، نجح فى أن يصنع كل ما أراده إلا أن تكون له رائحة مميزة (عن كل البشر) كما صورتها له ألوهيته الزائفة، رائحة يستطيع هو أن يتحقق منها (وبها) متفردا ساحرا قاتلا مسيطراً على الحياة.

وانتهت الرواية بأن الْتـَهـَمه الأوغاد “عن حب”(!!) (ربما ليعلنوا بذلك أنه بدون أن يكون جزءًا منهم وحتى إذا أصبح جزءًا منهم قسرا هكذا فإنه: لا وجود له أصلا).

 الـعَـدَم الذى انتهى إليه غرينوى تم من خلال علاقة التهامية بديلة عن التخلّق النابض بالناس ومعهم، هو النتيجة الطبيعية لهذا الزيف الخادع الذى يوهم الواحد أنه يمكن أن “يصنّع نفسه بنفسه”، مستغنيا عن التواصل الطبيعى الخلاّق الذى يتشكل من جدل العلاقة والسعى المشترك فى رحاب الحق المشترك الأعظم.

…..

خلاصة القول هو أنى اكتشفت أننى كنت أكذب على نفسى وأنا أزعم أننى                   

 “أَنا حابقى أبويا وأُمى كمان،

 أَنا حابقى كتير،

 أنا حابقى الناس.

 أنا حابقى”أنا”.

إٍزاى؟ ما اعرفْشْ.

 أنا لازم “أكون” و”أعيش.

أيضا كانت ومازالت خدعة كبيرة حكاية

“وحادوّر على نفسى بنفسى

 ولقيت لى خلاص”.

 أو مقولة “أنا حابقى الحب”(!!)

أليس هذا الذى قلتُه يكاد يكون مكافئا للعطر الخادع فعلا الذى كان سببا فى هلاك غرينوى.

 لكن ربنا ستر!!!!!

 هذه الخدعة الكبرى لم أكتشفها طبعا من قراءة العطر فقط.

إن ربع قرن من الممارسة والتقليب والمراجعة قد سمح لى أن أصل إلى ما جعلني أفهم هذا الإبداع الروائى بما ذكرتُ. أتصور أن هذا هو مدخلى لما مارسته وما أمارسه مما يسمى النقد الأدبى، (ومـِـنْ ثـَـمَّ: نقد النص البشرى).

أى غرورٍ غبى!!! هل يمكن أن يفعلها أحد وحده؟ ما هذا؟!!

أيام كتبت هذا الكلام كنت فى بؤرة وهم تجربة تصنيع الحياة، ربما كما كان باتيست غرينوى يصنّع العطر (الخاص جدا الفريد جدا).

(لكن مع تواصل الخبرة وتفاعل مستويات الوعى بالداخل والخارج تعدل موقفى ليقول:)

 لا أحد يمكن أن يبحث عن نفسه بنفسه (ليبدعها بدون الناس، لا أحد يكون الناس، إلا من خلال وعلى حساب علاقته بالناس،

 لا أحد يصنّع الحب إلا إذا كان ينتحر به (مثل غرينوى)،

 لا أحد يخلـّق من نفسـِه إلها زائفا إلا ليصبح قاتلا محترفا.

 يبدو أن من أنقذنى من هذا المصير هو أمّى الحقيقية، وزوجتى الحقيقية، وأبنائى الحقيقيون، وطلبتى الحقيقيون، ومرضاى الحقيقيون، وأصدقائى الحقيقيون، وصديقاتى الحقيقيات. ربما لهذا شعرت بعد ما يقرب من ستين عاما، وبعد رحيل أمى، أننى أريد أن أتعرّف عليها، لأشكرها، لأعتذر لها.

(انتهى المقتطف مع زيادة ما بين قوسين)

العلاج النفسى مصغر النمو الإنسانى:

الآن وأنا أراجع المتن الشعرى، وكذا أراجع استدراكى فى الترحالات فى فصل “أمى”، وجدت الفرصة تسنح من جديد للتأكيد على بعض الحقائق والرؤى التى تتعلق بالنمو الإنسانى، والعلاج النفسى الذى هو “مصغر النمو الإنسانى” (والمفروض أنه موضوع هذا العمل على مستويات مختلفة) فأضيف ولو ببعض التكرار:

أولا: لا أحد يصنع نفسه بنفسه إلا الله.

ثانيا: من حيث المبدأ يمكن أن يتصور الإنسان أنه يخلّق نفسه بنفسه، ولكن ربما هذا هو الذى قد يعطله لو استغرق فى ذلك فقط، يتوقف هذا على موقفه من الناس وبالناس وهو يبحث عن نفسه، إذ يتشكل بهم ومنهم. قد يسهم في البحث عنها، وقد يسهم كذلك فى إعادة تشكيلها، لكن أن يخلق نفسه بنفسه فقط فـ “كلاًّ وألف كلاَّ”.

ثالثا: إن أى استغناء عن الناس (ربما بدءًا بالأم) يستحيل أن يكون استغناء مطلقا، إنه لا يعدو أن يكون مظهرا دفاعيا مؤقتا على أحسن الفروض، أما إذا تمادى فهو الذبول، أو التألـُّـه، أو الجنون الانسحابى أو المتفسخ.

رابعا: إن العلاقة العلاجية فى العلاج النفسى تكاد تدور بداية ونهاية حول محاولة كسر هذا الوهم (الاستغناء حتى الانسحاب) دون استبداله بالاعتمادية الرضيعية التى ربما تُقبل كمرحلة عابرة قصيرة تماما لازمة أحيانا لإعادة البداية.

خامسا: إن هذا التراوح بين حركية النمو ما بين “الاستقلال”، وضرورة “قبول الاحتياج” هو من ضمن “برنامج الخروج والدخول” الذى أشرت إليه سابقا فى أكثر من موضع.

وبعد

كل هذه الحقائق والرؤى جعلتنى أرجع إلى أوراقى على الحاسوب، وهى ليست المسجلة فى ديوان أغوار النفس، ولا حتى فى الترحال الثالث “ذكر ما لا ينقال”، فضبطت نسخة من نفس القصيدة، لاحظت فيها اختلافات قليلة عن الأصل حتى الضد أحيانا، ويبدو أن ذلك قد تم بعد مراجعتى للقصيدة فى فصل أمى فى الترحال الثالث، نعم إلى الضد، تصوروا أن ينقلب ذلك المقطع:

‏– ‏علشان‏ ‏يامّه‏ ‏مش‏ ‏على ‏بالِكْ‏،

 ‏أنا‏ ‏حاحكيلِكْ‏:‏

أنا‏ ‏زرع‏ ‏شطانى،‏

ولا‏ ‏حدّ فْ يوم جه ورَّانى

يتحول إلى المقطع التالى:

‏– ‏علشان‏ ‏يامه‏ ‏مش‏ ‏على ‏بالك‏،

 ‏أنا‏ ‏حاحْكِيلِـكْ‏:‏

أنا‏ ‏خدت‏ ‏الدنيا‏ ‏معاكــى ‏بيكى،‏

من‏ ‏ورا‏ ‏ضهرك‏،‏

مش‏ ‏زرع‏ ‏شطانى،‏

مع‏ ‏إن‏ ‏ماحدش‏ ‏ورانى،‏

هل هذا يجوز؟

الشعر “حالة” (كما يعلمنا صلاح عبد الصبور) والحالة ترتبط بلحظتها، فإذا تغيرت الحالة خرج شعر آخر، إن كانت الحالة الجديدة قادرة على ذلك؟

ما هذا الذى فعلتـُهَ هكذا بالقصيدة؟

 فوجدت نفسى بين اختيارات كالتالى:

 أولاً: إما أن أتنازل عن كون ما كتبته شعرا أصلا، فهو رسالة منظومة دالة هادفة، وبالتالى فلى حق تطويرها أو تحديثها حسب تغيَر حالتى وخبراتى، ولتكن سيرة ذاتية منغرسة فى الألم والتعرّى والخطأ: فالمراحعة.

ثانياً: وإما أن أكتب قصيدة جديدة تؤرخ اللحظة الجديدة، وهذا أمر ليس بيد أى شاعر حقيقى، ليس بيد أحد يعرف ما هو الشعر أن يفرز شعرا متى شاء لما شاء.

ثالثاً: وإما أن أسجل الذى طرأ على “حالتى” فغيّر شعرى “ذاك” إلى شعرى “هذا” وأترك الحكم للقارىء، ولـْـيدرِجْ هو العمل تحت الاسم الذى يقترحه له النقاد إنْ تفضلوا!!

استطراد

موقفى من الشعر غريب، أعتقد أننى لم أكتب شعرا فيما عدَا بضع عشرة قصيدة، هذا بصفة عامة، وإن كان بعض من يتلقونه يعتبرونه كذلك.

فى نفس الوقت فهمت ثم توصلت: كيف أن الموت هو شعر آخر([45]) وبالنسبة إلىّ: فإن العلاج الجمعى يتراوح بين الشعر الجماعى (المرتبط بالوعى الجماعى وتخليق الأسطورة الجماعية الأحدث) وبين النقد التشكيلى لنصوص بشرية متناصة، وهكذا.

ففى الوقت الذى ضاق عندى مفهوم الشعر حتى يستبعد كل ما هو مقصود هادف بوعى كامل، اتسع ما هو شعر حتى يشمل كل ما هو تشكيل مبدع طليق مفاجئ جديد.

الأقرب عندى أن أعترف أننى لم أكتب الشعر الشعر إلا نادرا([46])، لعل أقرب وأجمل ما كتبت شعرا هو قصيدة “دورة حياة فقاعة([47])، وقصيدة: “النورس العجوز([48])، ثم إن ما هو شعر حقيقى، لم ينشر أغلبه حتى الآن([49]).

يبعد الشعر عن الشعر كلما كان هادفا ويقترب الشعر من الشعر كلما كان طليقا يتخلّق من “حالة” فريدة يستطيع بتشكيله وصوره وأنغامه أن يوصلها إلى متلقيه أقرب إلى “الحالة” التى كتب بها، أو أن يصل به إليها.

مازلت متمسكا بتصنيف صلاح عبد الصبور أن الشعر “حالة” لا هو “حلية” ولا هو “أسلوب”.

حين كتبت ديوانى “سر اللعبة” كان هادفا (أغلبه) لشرح طبقات ومراحل المرض النفسى إمراضيا (سيكوباثولوجيا)، ومع ذلك “ظهر شعراً ناقشه صلاح عبد الصبور (ناقدا) فى البرنامج الثانى فى الإذاعة المصرية وأصرّ على أنه شعر خالص!

فى نفس الوقت رفضت رفضا تاما أن أعتبر هذا الديوان نظما يشرح علما نفسيا، مثل ألفية ابن مالك شرحا لقواعد النحو العربى، أو مثل محاولة المرحوم “سليم عمار”([50]) من تونس فى وصف النفس والأمراض النفسية وهى عندى ليست شعرا، وحتى شعر ابن سينا عن النفس كذلك، وأفضل من ذلك قليلا شعر المعرى فى الحكمة  برغم ثقل الحسم وغير ذلك.

أنهيت ديوانى سر اللعبة هذا بنص يحدد موقفى من هذا الديوان قلت:

‏لا، ‏لا، ‏لا‏.. ‏

‏يا‏ ‏من‏ ‏ترقب‏ ‏لفظى ‏العاجز‏ ‏بعيون‏ ‏الفن‏ ‏المتحذلق‏،

‏أو‏ ‏تفهم‏ ‏روح‏ ‏غنائى ‏بحساب‏ ‏العلم‏ ‏الأعشى،

‏لا‏ ‏تحسب‏ ‏أنى ‏أكتب‏ ‏شعرا‏ ‏بخيال‏ ‏العجز‏ ‏الهارب‏،

 ‏أو‏ ‏أنى ‏أطفئ ‏نارى، ‏بدموع‏ ‏الدوح‏ ‏الباكى،

 ‏لا، ‏لا، ‏لا‏.. ‏

‏ ‏هذا‏ ‏قدرى، ‏

……………

 

فليحترق‏ ‏المعبدْ‏، ‏ولتذرُ‏ ‏الريحُ‏ ‏رماَد‏ ‏الأصنام‏ْْ،

‏ولتُسْاَلُ نفٌس ما كسبتْ‏،

‏وليعْلنُ‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مكان‏:

“فشل‏ ‏الحيوان‏ ‏الناطق‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏انسانا‏”،

‏أو،. .. . ‏فلنتطور‏‏.

إذ يصبح ما ندعوه شعرا: هو عين الأمر الواقع

…………….

…………….

وفى قصيدة لاحقة نفيت عن نفسى صفة الشاعر، كتبت أننى:

 

يا ليت شعرى لست شاعرا

‏–1–‏

لا‏ ‏أضرب‏ ‏الدفوف‏ ‏فى ‏مواكب‏ ‏الكلام‏،‏

ولا‏ ‏أدغدغ‏ ‏النغم‏.‏

لا‏ ‏أنحت‏ ‏النقوشَ‏ ‏حول‏ ‏أطراف‏ ‏الجملْ،‏

أو‏ ‏أطلبُ‏ ‏الرّضَا‏.‏

ولا‏ ‏أقولُ‏ ‏ما‏ ‏يقرّظ‏ ‏الجمال‏..،‏

يحتضرْ‏.‏

‏…..‏

ثم إنى أنهيتها بإعلان استقلال الشعر الشعر عنى، وأنه إن صحَّ شعرا فهو الذى يكتبنى، وليس العكس.

 جاءت نهاية نفس القصيدة هكذا:

–2–‏

‏‏تدقُّ‏ ‏بابى ‏الكلمة

أصدّها.‏

تُغافل‏ ‏الوعى ‏القديم‏،‏

أنتفضْ‏.‏

أحاولُ‏ ‏الهربْ‏،‏

تلحقنُى.‏

‏‏أكونُها‏،‏

‏‏فأنسلخ‏.‏

‏–3–‏

أمضى ‏أغافل‏ ‏المعاجِمَ‏ ‏الجحافل‏، ‏

بين‏ ‏المَخاضِ‏ ‏والنحيبْ‏.‏

أطرحُنى:‏

بين‏ ‏الضياع‏ ‏وَالرُّؤى.‏

بين‏ ‏النبىَّ ‏والعدَمْ‏.‏

أخلّق‏ ‏الحياة‏ ‏أبتعث‏.‏ ‏

أقولُنى ‏جديدا‏،‏

‏‏فتولًدُ‏ ‏القصيدةْ‏.‏

14/9/1983

هكذا صورتُ حركية الشعر شعرا فى نهاية القصيدة وأنا أعلن أننى “لست شاعرا”

وفى قصيدة أخرى هـَـجـَـوْتُ شاعراً جميلا رقيقا “رومانسيا” كما يقولون، هجوته قائلاً:

–1–‏

يا‏ ‏شاعر‏ ‏الودادِ‏ ‏والسهاد‏ ‏والمؤانسهْ،‏

‏ ‏معذرةً‏، ‏عجزت‏ ‏عن‏ ‏نثـْر‏ ‏الورود‏ ‏فوق‏ ‏موكب‏ ‏الأشواق‏.‏

حقّا‏ ‏عيونها‏ ‏أصفى ‏من‏ ‏السماءْ

من‏ ‏بعد‏ ‏يوم‏ ‏ممطرٍ‏ ‏بهيج‏.‏

وعودها‏ ‏أطرى ‏من‏ ‏النسيم‏،‏

وسـَيـْرها‏ ‏كمِثْلِ‏ ‏مِشٌية‏ ‏الَمــهـَا،

 

 ‏والوجهُ‏ ‏بالغماّزة‏ ‏البريئهْ،‏

‏ ‏يقول‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يقدر‏ ‏اللسان‏.‏

………

إلى أن قلت:

‏–2–‏

يــا‏ ‏شاعرا‏ ‏تمايلت‏ ‏أعطافـُهُ‏ ‏فوق‏ ‏البـراق‏.‏

فرُحتَ‏ ‏تشدو‏ ‏للفراق‏ ‏والعناقْ،‏

وتجْدلُ‏ ‏الأنغامْ،‏

ضفائرا‏ ‏من‏ ‏ذهب‏ ‏الكلام‏،‏

تعوم‏ ‏فى ‏عيونها‏ ‏وترتوى، ‏

فتعزف‏ ‏الألحانْ

………

……..

لأنهى القصيدة بمحاولة كشف عن كيف أعايش الشعر الذى أنتمى إليه قائلا:

–3–‏

وســْط‏ ‏الحياة‏ ‏كلـَّها‏ ‏

‏(‏بها،. ‏بدونها‏ ) ‏

نصبتُ‏ ‏خيمتى‏:‏

ناجيت‏ ‏ثـُعْـباناً‏ ‏وحيداً‏ ‏ذات‏ ‏ليلهْ،

 ‏أناملى ‏ترتاح‏ ‏فوق‏ ‏شوك‏ ‏قنفدْ، ‏

حَـضرتُ‏ ‏حفلاً‏ ‏ساهرا‏ ‏فى ‏وكْـرِ‏ ‏صـُرْصُـورٍ‏ ‏مُـهـَاِجْـر‏، ‏

صاحبتُ‏ ‏نملة‏ ‏وحيدهْ،‏

‏ ‏فى ‏رحلة‏ ‏عنيده‏ ‏

كلَّمت‏ ‏فرخا‏ ‏عاجزا‏ ‏قد‏ ‏أسقطته‏ ‏قسوة‏ ‏الرياح، ‏

حملـُتـُه‏ ‏مـُهـَدـْهداً‏ ‏لعشَّه‏ ‏فوق‏ ‏الـَّشـَجرْ، ‏

وما‏ ‏نسيتُ‏ ‏حورُكم‏ ‏من‏ ‏الحِـسـَانْ

‏(‏الحسن‏ ‏عندى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏دبّت‏ ‏به‏ ‏حياه‏).

وفاضَ قلبى بالسماح والشَّجَنْ:

يمامَتَان حَطَّتَا عَلَىَ فَنَنْ

لكننى لم أَسِتَطَع أن أصْحَبَكْ،

فى المَخْدَعِ الوثيرْ

فمعذرهْ

خَرَجْتُ بَعْدَ الدَّائِرهْ.‏

6/7/1981                                                     

برغم كل ذلك فقد أصر المرحوم صلاح عبد الصبور وهو يناقش معى ديوانى الأول “سر اللعبة” – ناقدا – كما أشرت حالا  فى أواخر السبعينات أن الديوان شعر خالص، وحين أفهمته أثناء البرنامج ثم بعده أنه شعر وصفىّ هادف، تحدانى، وقبلت التحدى فقمت بشرح على المتن هو الذى أخرج أهم أعمالى([51]) ولم أتمكن من توصيله لصلاح فقد رحل قبل أن أفعل، ولم أندم لا على الديوان ولا على الشرح، وإن كان ما أسميته “ملحق الديوان” كان أقرب إلى الشعر من الديوان نفسه([52]).

ثم استدرجنى شرح هذا الديوان الآخر بالعامية “أغوار النفس”، وإذا بى أقع فى هذه الورطة الأصعب التى أظن أنها كادت تباعد بين الديوان وبين أن يكون شعرا([53]).

ليكن.

وبما أنها رسالة، فقد تغير موقفى، بما يقابل تغير حالتى الشاعرة منذ كتابة النص الأول 1974 إلى كتابة الجزء الثالث من الترحالات سنه 2000: “ذكر ما لا ينقال” تغيّر إلى ما جاء فى هذا التحديث أو التطوير، وهكذا أعلن هنا أننى أتنازل عن تصنيف ما أكتب أنه شعر فى مقابل أن أوصّل رسالتى، وتفسير هذا التطور أوضحه أكثر كما يلى:

الذى وصلت إليه بعد هذا التحديث، أو التطوير، أو التطور، أو قل التراجع، هو أنه: يبدو أن الأم لا تستطيع إلا أن تعطى، وأن العيب غالبا يكون فى القدرة على التلقى أساسا، فإن حدث قصور من ناحيه الأم فهو لعجزها وليس بسبب تقصيرها.

وفيما يلى بعض فقرات الأصل سنة 1973 مقابل ما عثرت عليه من تطوير على حاسوبى، والذى جرى غالبا حول منتصف هذا العقد 2001 – 2010.

1973– 1974

حول منتصف العقد 2001–2010
‏– 4 – ‏

………..

حا‏ ‏شعر‏ ‏بالنبضة‏ ‏وبالرعشة‏، ‏من‏ ‏أى ‏كلام‏،‏

وحاعيش‏ !!!

‏= ‏والله‏ ‏يا‏ ‏بنى ‏محتاره‏ ‏معاك‏.‏

ما‏ ‏تعيش‏.‏

مين‏ ‏حايشك‏ ‏بس‏ ‏؟

– 5 – ‏

وضحكت عليكو وعشت أهه

أنا اهه.. أنا اهه

أنا اهه دلوقتى الآن حالا

أنا اهه

إزاى دا حصل؟

أنا ما اعرفش

أنا اهه وخلاص،

وباغنى مع نفسى بنفسى

ولاَقِيتْلىِ خلاص

 

‏– 4 – ‏

………..

حا‏ ‏شعر‏ ‏بالنبضة‏ ‏وبالرعشة‏، ‏من‏ ‏أى ‏كلام‏،‏

وحاعيش‏ !!!

‏= ‏والله‏ ‏يا‏ ‏بنى ‏محتاره‏ ‏معاك‏.‏

ما‏ ‏تعيش‏.‏

مين‏ ‏حايشك‏ ‏بس‏؟

– 5 – ‏

‏– ‏ما‏ ‏حايشنيشي

ما‏ ‏انا‏ ‏عايش‏ ‏اهـه‏،‏

بس‏ ‏ادْعِى ‏لى، ‏

أنا‏ ‏كنت‏ “‏خلاص‏”،‏

بس‏ ‏بفضلك‏ ‏ربنا‏ ‏قالها‏،‏

‏ ‏ولقيت‏ ‏لى “‏خلاص‏”.‏

وعملت‏ ‏منى ‏اللى ‏أنا‏ ‏هوه‏، ‏

وباجدد‏ ‏روحى ‏من‏ ‏جوه‏، ‏

‏ ‏وباغنى ‏مع‏ ‏نفسى ‏بنفسي

ثانية بثانية

‏ ‏فى ‏الناس‏، ‏بالناس‏.‏

 


أرجع إلى شرح متن هذه القصيدة بما يفيد توضيح النقلة فى المعالج والمفاهيم بما يفيد مزيدا من توضيح ماهية العلاج النفسى، مع التركيز على دلالة ما وراء تغيير المتن، من واقع الخبرة المهنية والنمو الذاتى، حتى ولو كان ذلك على حساب الشاعرية، الأمر الذى نفاه كثيرون ممن قرأوا النص القديم مقابل النص الجديد، حتى رأى بعضهم أن الجديد أفضل (شاعرية)، فى حين قال آخرون أن كلاهما “شعرُ مـَـرْحـَـلـَتـِـه”، وأن التغيير قدّم شعرا آخر، وليس شعرا أقل أو أفضل، ليكن، فليست هذه هى القضية الآن. أتصور أن النقلة التى حدثت هى مقبولة من حيث المبدأ، وبالذات لما تسمح به من إضافات مهنية محددة مفيدة وربما كشف ذاتىّ أيضا لبعض جوانب مسيرتى فيما أحدده كما يلى:

أولا: أنه مادام الطبيب النفسى (والمعالج النفسى) هو الأداة الأولى فى العلاج، فإن رصد تغيـّره (ولو من خلال مجالات أخرى) مهم نظراً لحتم تأثير ذلك على مسار العلاج.

ثانيا: إن التغير الذى حدث فى المتن له دلالة تدعو لمناقشة الموقف القديم مقارنة بالموقف الجديد، وتبريرات التغير من وجهة نظر مسار المعالج، ومن ثـَـمَّ العلاج النفسى.

والآن إلى شرح المزيد من المتن المقارن وعلاقة ذلك بالنمو والتركيب البشرى المتجدد([54]):

 

1973– 1974 حول منتصف العقد 2001–2010
‏– 2 – ‏

‏– ‏علشان‏ ‏يامّه‏ ‏مش‏ ‏على ‏بالِكْ‏،

 ‏أنا‏ ‏حاحكيلِكْ‏:‏

أنا‏ ‏زرع‏ ‏شطانى،‏

ولا‏ ‏حدّ فْ يوم جه ورَّانى

ولا شفت ازاى أو كام أو مين

 

ولا حد‏ ‏عـرف‏ ‏أنا‏ ‏باعمل‏ ‏إيه‏،‏

أو‏ ‏ليه‏ ‏أو‏ ‏فين‏.‏‏– 2 – ‏

‏– ‏علشان‏ ‏يامه‏ ‏مش‏ ‏على ‏بالك‏،

 ‏أنا‏ ‏حاحكيلـك‏:‏

أنا‏ ‏خدت‏ ‏الدنيا‏ ‏معاكــى ‏بيكى،‏

من‏ ‏ورا‏ ‏ضهرك‏،‏

مش‏ ‏زرع‏ ‏شطانى،‏

مع‏ ‏إن‏ ‏ماحدش‏ ‏ورانى،‏

ولا‏ ‏حد‏ ‏عـرف‏ ‏أنا‏ ‏باعمل‏ ‏إيه‏،‏

أو‏ ‏ليه‏ ‏أو‏ ‏فين‏.


ماذا يعنى هذا التراجع عن الفخر بالجهود المستقلة لتشكيل الذات ودفع نموها؟

فى العلاج، كما فى النمو، لا أحد يعرف ماذا تعطى الأم، أو ماذا يعطى المعالج للمريض تحديدا، وفى نفس الوقت فإن مجرد الالتقاء المنتظم يجعل احتمال الأخذ المتبادل واردا دون تحديد، اللقاء العلاجى هو فرصة لتواصل عبر عملية متعددة المستويات، لا يظهر منها إلا الانتظام فى الالتقاء حيث يغلب ظهور “الكلام” كوسيلة أولى، تبدو وحيدة، للتواصل، لكن على مسار النمو خاصة فى المراحل الأولى: يتم التواصل بأى لغة وكل لغة عبر أكثر من قناة تواصل، وبالذات عبر حركية حوار الوعى البينشخصى والوعى الجمعى، الطفل يأخذ دون استئذان كل ما يستطيع أن يأخذه، وفى مرحلة معينة من العلاج يكون الكلام والتفسير الكلامى هو أضعف ما يستطيع تلقيه، برغم أنه أظهره، يحتد ذلك أكثر فى العلاج الجمعى حيث تتعدد الرسائل وتتعدد قنوات التواصل فى شبكية أكثر تقاطعا وتداخلا، وأثـْـرَى جدلا.

تعبير “أنا خدت الدنيا معاكى بيكى من ورا ضهرك” يمكن أن ينطبق على إعادة تفسيرات نتائج التحليل النفسى الكلاسيكى الفرويدى، حيث زعم بعض محبيه (وأيضا بعض مبغضيه) أن المريض كان يشفى بالرغم من التداعى وتفسيراته الحر وليس بسببه، أى بالرغم من التأويل التحليلى وليس بسببه، أو على الأقل بالإضافة إليه (أحيانا)، هذا النوع من الأخذ يحدث تلقائيا على مستوى آخر من الوعى، ليس بالضرورة “اللاشعور”، لكنه مستوى آخر والسلام “من ورا ضهرك”، وأيضا من وراء ظهر المتلقى نفسه!!!.

مسألة “أنا حابقى أنا” ناقشتها طويلا وكثيرا قبل ذلك، حين حذرت من المبالغة فى ما يسمى “البحث عن الذات”، لأؤكد على أفضلية التركيز على عملية “تخليق الذات“، حتى على حساب “تحقيق الذات“، لا أحد عنده ذات مخبأة، وعليه أن يبحث عنها، ولا أحد عنده مشروع ثابت للذات يريد تحقيقه، الإنسان، أى إنسان هو مشروع يحمل برامج منوعة من كل تاريخ أسرته، وتاريخ نوعه، وتاريخ الحياة، وتستمر عملية تخليق الذات إلى ما لا يبدو له نهاية (حتى الموت وصلنى مؤخرا أنه أزمة نمو، وولادة جديدة كما أشرت: سابقا)، وبالتالى يمكن قراءة هذا النص “أنا حابقى أنا” باعتبار أنه يعنى أنه فى لحظة بذاتها “أتكون “أنا” إلى ما هو “أنا” (أيضا أكرر: بعيدا عن الوعى الظاهر بشكل ما).

الاختلاف الذى طرأ فى التحديث، هذا مهم وهو يرتبط بفكرى الأحدث فالأحدث الذى شرحته تفصيلا فى أطروحتى “الحرية والإبداع”([55]) حيث بيّنت أن مقولة شكسبير (هملت) “أكون أو لا أكون” هى مجرد مرحلة لا يجوز تقديسها أو الوقوف عندها، وأن حركية النمو تضعنا أمام إشكالة أكثر حيوية ووعداً، وهى إشكالة “أكون أم أصير” (التى هى بدورها خطوة إلى “أصير أم أطفِر”).

الفرق بين الأصل “أنا لازم أكون وأعيش“، وبين التحديث “أنا عارف إنى حاكون وأصير“، هو فرق دقيق ومهم لأنه يبين أن حتمية الكينونة “أنا لازم” هى أقرب إلى مقولة هَمـْلت (لشكسبير)، أما مواكبة ومسيرة النمو (التطور) “أنا عارف إنى حاكون وأصير” فهى أقرب إلى إعلان الاعتراف بسلاسة حركية النمو والتطور ما لم يعقها عائق.

حضور الوعى الكونى هنا (إلى وجه الحق تعالى) هو جزء جوهرى فى الفروق الثقافية التى أعاود تناولها بطريقة أو بأخرى كلما سنحت الفرصة، مثلا تناولتها مع شرح بعض تفاعلات وتفسيرات العلاج الجمعى انطلاقا مما أسميته الوعى الجمعى Collective Consciousness، وهى مسألة جوهرية بالنسبة لى، وأنا أفضل فى هذا المقام أن أؤجل الحديث عنها مكتفيا بإثبات المبدأ، محيلا من يشاء مؤقتا إلى أطروحتى عن الغريزة الهارمونية المتصاعدة (الغريزة الإيمانية) ([56]).

تكفى هنا التذكرة بأن العلاقات البشرية، حتى تكون بشرية، تحتاج إلى موصِّل جيد من الوعى الجمعى (البشر) فالوعى الكونى (إلى وجه الحق تعالى)، ليتم التعامل بين الوحدات البشرية بكفاءة تطورية، وأن هذه ليست سوى برامج بيولوجية فيزيقية، وليست نظريات أو آراء تجريدية ميتافيزيقية، ونجد هنا فى المتن مجرد إشارة إلى أن حركية النمو تحتاج إلى ائتناس بهذا وذاك “ربنا ستار”، كما تحتاج إلى إحاطة تضم هذا / إلى ذاك/ إلى هؤلاء / إليه “ربنا دا كبير“.

أنا عارف إنى حاكون وأصير

ربنا ستار

ربنا دا كبير

بكره تشوفى

لأ دلوقتى

هذا اليقين “هو حركة فى اتجاه قادم” (بكره تشوفى) لكن المتن الجديد يتحوط ضد التأجيل، وهو يستدرك بسرعة “لأ دلوقتى“.

 يرجعنا ذلك إلى حدس اللحظة (باشلار) من جهة وإلى مبدأ “هنا والآن” الذى هو جوهر ومحور العلاج الجمعى بوجه خاص، إذْ مهما كان اليقين بالحركة، وبأولية ما هو عملية Process على المحتوى (= أولوية الدال عن المدلول) وبالمآل المفتوح، فإننا لا نملك إلا “الآن” والـ “هنا”، والتركيز على ذلك واليقين به هو ما يجعلنا نطمئن إلى سلامة سير قوانين البرامج التى تحكم هذه اللحظة فى اتجاه السهم الضام.

أما بقية المقطع فلم يحدث فيه تغيير، وتعبيرات الحتم المتحدى للجميع هنا “غصبن عنه، غصبن عنى، غصبن عنك” لا تشير إلى أن حركية النمو تحدث قسراً أو تعسفا، وإنما هى تشير إلى الإصرار على تجاوز المعيقات، والتشوهات والدفاعات (الميكانزمات) التى تعوق النمو والتطور، حتى التحليل النفسى الكلاسيكى هو ليس حلا لمشاكل أو فكا لعقد، بقدر ما هو إزالة إعاقة Unblocking.

الحياة هى “الحياة” إذن قبل وبعد الوعى بأنها “الحياة”،([57]) لكن شريطة ألا تكون قد تشوهت حتى اختبأت وراء ما يشبه الحياة بلا حياة.

أحيانا ألقيها فى وجه المريض (ونفسى طبعا) عارية تماما حين أنبهه – ونفسى – أن “القضية الحقيقية الأوْلى بالمواجهة هى اختيارنا المبدئى: أن نعيش أم لا“، (يا نعيش يا نموت)، ونحن لا نعنى بذلك الموت بمعنى إنهاء الحياة الجسدية، وإنما نعنى: إما أن تمتلئ الحياة بالحياة([58])، وإما أن نرضى بأن نصبح مجرد ناقلات جينية لمن يستطيع أن يعيش – بعدنا – بشرا يوما ما.

 الأم فى هذا المقطع لا تعترض على إلحاح ابنها على أن يعيش الحياة، فهى نفسها تعيش فعلا الحياة دون أن تعلن أو تعى ذلك، دون أن تنقل القضية إلى مسألة معقلنة تحتل بؤرة الوعى. الأم هنا، دون ان تكتب شعراً أو تتكلف شرحاً، تتعجب من تساؤلات الإبن وإصراره على كشف ما هو طبيعى بتعبيرات وألفاظ غير طبيعية، الأمومة غير قاصرة على الجنس وكل أمهات الأحياء يمارسْنَ أمومتهن بكفاءة طالما يتبعن برامج البقاء، والأم هنا حين تقول له (فى المتن القديم/الجديد فهو لم يتغير) “ما تعيش، مين حايشك بس“، لا تستهين بتساؤلاته بقدر ما تتعجب منها ولها!!

الاختلاف الذى طرأ على هذه الفقرة بعد ذلك له دلالاته برغم أنه ليس اختلافا جوهريا، ذلك أن تعبير “وضحكت عليكو وعشت أهه، أنا أهه أهه” يبدو وكأنه سِرْقة لما هو “حياة” من وراء ما – أو مَنْ – يحول دون ذلك، ولكن مع التحديث الذى حدث فى المتن انقلبت المسألة إلى حفز التحدّى “ماحايشنيشى”، كما انقلب “وعشت أهه” إلى “أنا عايش أهه“، ذلك أنه أحيانا يكون قرار الحياة “أن أعيش” هو مجرد كشف عن أبسط قواعدها ومنتهى حضورها دون أى جهد إضافى واعٍ للبحث “عن الذات”، أو حتى تخليق الحياة فى الذات، (ولعل الحيوانات “أشطر” منا فى ذلك).

المتن القديم يصر على التنبيه على أن ممارسة الحياة تحدث دون ضرورة الوعى بها، وهو يبدو جيدا فى ذاته، ولم يكن فى حاجة أن ينسخه المتن الجديد، لكننى خفت التزيد والتكثيف لو قارنت بينه وبين التحديث تفصيلا وسوف أكتفى بالتركيز على التحديث، خاصة وقد حضر فيه “الدعاء” الذى أعتبره الوصلة (الإرادية أحيانا) بين الوعى الشخصى والوعى الكونى (إلى وجه الحق تعالى)، ويتم التعرف على موضوعيته هنا أبسط وأقرب، حيث إن الوصلة كانت من خلال دعاء هذه الأم السلسلة “العائشة” بلا فذلكة “بس ادعى لى“، فطلب الدعاء هنا ربما جاء تأكيدا لهذه الوصلة.

هكذا نفهم مغزى النقلة من “أنا كنت خلاص” إلى “ولقيت لى خلاص“، النقلة تمت بعد إضافة “بس بفضلك ربنا قالها“، لتؤكد نفس الوصلة، التى تنقلنا مباشرة إلى “ولقيت لى خلاص“. “خلاص” الأولى هى نهاية، و”خلاص” الثانية هى بداية إذْ ما أن تنتهى أى مرحلة حتى تبدأ أخرى، وهنا تحضر الأم بصورتها الأصيلة لتحتوى الوجود النامى من جديد فى رحم السماح الحضّانة، تحضر حضورها الذى لا ينفصل عن الوعى الكونى (مرورا بالوعى الجمعى) مرة أخرى: “بس بفضلك ربنا قالها“.

التركيز على الرعاية البشرية الوالدية فقط دون وصلة “بعديّة” إلى الكون فالغيب نحو المطلق يبدو مخالفا للطبيعة الإنسانية من منظور معين.

النقلة من “انا كنت خلاص” إلى: “ولقيت لى خلاص” فيها كل أبعاد إعادة الولادة.

حدثت إضافة محدودة لن أشير إليها هنا، فليكتشفها القارئ بنفسه ليكتمل المقطع كله مشيرا إلى برنامج “الدخول والخروج” على مستوى الذات وأيضا على مستوى الآخر (الآخرين) “فى الناس بالناس”.

العلاج النفسى الفردى يركز أكثر على مستوى الذات فى حضور آخر (يقابل الأم)، أما العلاج الجمعى  (مثله مثل علاج الوسط) فهو ينتقل إلى نفس الحركية “الدخول والخروج” ولكن على مستوى “الوعى الجمعى”، “بالناس فى الناس”.

الختام جاء خطابا نقديا، وحفزاً إلى السعى، وعودة إلى التأكيد أن المسألة يمكن أن تكون شديدة البساطة “وحا تعرف معنى لأى كلام“، وفى نفس الوقت غائرة الجوهر “وتكون، وتعيش“.

أما مقولة “وباغنى مع نفسى بنفسى” فهى تشير أكثر فى المتن الأول إلى التصالح (الهارمونى) الداخلى مع الذات، لكن التحديث جاء ينبهنا نقدا إلى أنها ليست قاصرة على ذلك، إذْ لو أنها اقتصرت على أن “الغنوة” هى “مع نفسى بنفسى” فنحن مازلنا عند مستوى “أكون” و”تحقيق الذات” بعد البحث عنها وكلام من هذا، أما التعديل فقد نقلنا إلى الامتداد فى حركية الهارمونى الأوسع التى تتكشف لنا عبر رحلة النمو (العلاج) “ما انت عارفها“، “جواك – براك، ماليه الدنيا”، وأيضا : “بالناس للناس”

ثم يأتى التفصيل ليؤكد على الأهمية الجوهرية لحضور المعنى فيما هو علاج، وهو من أولويات العلاج المعرفى، وأيضا العلاج بالمعنى Logotherapy، وفى هذا ما يدعم ما سبقت الإشارة إليه من أن الحياة لا تكون حياة إلا بتعمير الدنيا بما هى وبناسها.

ثم يركز المتن الجديد على “حدس اللحظة” فى نفس الوقت الذى يؤكد فيه أنه لا يتم نمو بعيدا عن الناس “المعنى/الناس/ثانية بثانية”

إذا تم هذا وتحقق لأى منا على هذا المستوى فهل تكون رحلته قد نجحت وأنه وصل “وخلاص”؟

الاستدراك الأخير يرد على ذلك بالنفى “لأه“، ثم تقفل القصيدة أنه “لسه شوية”. وهذه الشوية تظل نشطة مفتوحة أبدا لتؤكد أن التطور ليس له نهاية في مستوى الوعى الظاهر.

ثم نختم بالقصيدة مجتمعة (بعد التحديث).

(1)

 ‏ليه‏  ‏يامّهْ؟‏ ‏ كان ‏ليهْ‏؟

لما‏ ‏انتى ‏”ما‏ نْتِيشْ‏” ‏كان‏ ‏ليه‏‏؟‏ ‏

أنا‏ ‏ذنبى ‏إيه‏ ‏؟

أنا‏ ‏مين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏فين‏ ‏؟‏ ‏أنا‏ ‏كام‏ ‏يامه؟

أنا‏ ‏إيه‏ ‏؟

‏= ‏جرى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏يا‏ ‏حبة‏ ‏عينى؟

‏ ‏طب‏ ‏ما‏ ‏انْتَ‏ ‏أهه‏!‏

 

بقى ‏دا‏ ‏اسمه‏ ‏كلام

ما‏ ‏هو‏ ‏كله‏ ‏تمام

جرى ‏إيه‏!!!‏

= ‏ ‏يا جدع‏ ‏يا‏ ‏أمير‏ ‏ياللى ‏بـتــدِّى،‏

إوعى ‏تهِّدى‏.‏

تَنَّكْ إدِّى

‏بكره‏ ‏تْعَدِّى‏.‏

ياسلام‏ ‏يا ولَدْ‏.‏

ما‏ ‏فى ‏زيـك‏ ‏حدْ‏.‏

ماتفكَّرشى، ‏دا‏ ‏الفكر‏ ‏مرارْ‏.‏

ودا‏ ‏بير‏ ‏يابنى ‏وما‏ ‏لوهشى ‏قرار‏.‏

 

‏– ‏بسّ‏ ‏يامَّه‏ ‏لو‏ ‏قلتى ‏ليه‏‏؟‏ ‏

‏ ‏كان‏ ‏ليه‏ ‏؟

 

‏= ‏جرى ‏إيه‏؟‏ ‏فيه‏ ‏إيه‏‏؟‏ ‏

(‏كان‏ ‏ليه‏‏؟‏ كان‏ ‏ليه‏‏؟‏)

 ‏دِهْدِى‏!؟ ‏

هيَّا‏! “‏عامْلَهْ‏”‏؟

وَّلا‏ ‏انا‏ ‏قصـدى؟‏ دِهْدِى!!‏

 (2)

‏- ‏علشان‏ ‏يامّه‏ ‏مش‏ ‏على ‏بالك‏، ‏أنا‏ ‏حاحكيلـك‏:‏

أنا‏ ‏خَدْت‏ ‏الدنيا‏ ‏معاكــى ‏بيكى،‏

من‏ ‏ورا‏ ‏ضهرك‏،‏

مش‏ ‏زرع‏ ‏شطانى،‏

مع‏ ‏إن‏ ‏ماحدش‏ ‏ورانى،‏

ولا‏ ‏حد‏ ‏عـرف‏ ‏أنا‏ ‏باعمل‏ ‏إيه‏،‏

أو‏ ‏ليه‏ ‏أو‏ ‏فين‏.‏

 

 

لكنىِّ ‏لما‏ ‏بقيت‏”‏هُوَّه‏”،‏قالوا‏:‏

‏ ‏ياسلام‏!‏

دا‏ ‏شَبَهُو‏ ‏تمام‏،‏

‏ ‏ما‏ ‏احنا‏ ‏عارفين‏ ‏كده‏ ‏مالأول‏،‏

وبـْنـِخـْزى ‏العين‏.‏

= ‏دا‏ ‏صحيح‏ ‏يا‏ ‏بنى:‏

أنا‏ ‏كنت‏ ‏خايفه‏ ‏عليك‏ ‏مالعين

الناس‏ ‏دول‏ ‏شر‏.‏

ما‏ ‏وراهم‏ ‏يابنى ‏إلا‏ ‏القــرّ‏.‏

هوا‏ ‏انا‏ ‏كان‏ ‏قصدى ‏ياضناي

‏يا‏ ‏حبة‏ ‏عينى ‏؟‏ !‏

ماتفكرشى ‏دا‏ ‏الفكر‏ ‏مرار‏،‏

ودا‏ ‏بير‏ ‏يابنى ‏وما‏ ‏لوهشى ‏قرار‏.‏

 (3)

‏ياريت‏ ‏يامَّه‏ ‏كان‏ ‏فِكْر‏ ‏وْبَسْ‏.‏

دى ‏حاجاْت‏ ‏من‏ ‏جُوَّه‏ ‏وبتتحَسَّ‏.‏

يـَـامـَـا‏ ‏نـِفسِى ‏يامّه‏ ‏اصرخ‏ ‏واتفـش‏.‏

جوايا‏”‏يامّه‏ ‏ما‏ ‏بيرحمش‏،‏

ولا‏ ‏ليَّا‏ ‏يامّه‏ ‏فيها‏ ‏ذنب‏،‏

ولا‏ ‏قادر‏ ‏اختار‏:‏

يَاتْلَيِّسْ‏ ‏يامَّهْ‏ ‏ولاشوفشى، ‏

يارجع‏ ‏الأوّل‏ ‏وأدوّر‏،‏

واحبل‏ ‏واولـد‏:

نفسى ‏مـن‏ ‏أول‏، ‏وجديد‏،‏

وابدِى ‏وأعيد‏.‏

واتألم‏ ‏واصرخ‏ ‏من‏ ‏تانى ‏لو‏ ‏حد‏ ‏سِمِعْ‏.‏

واشرب‏ ‏من‏ ‏شهد‏ ‏الحنيه‏.‏

من‏ ‏وِش‏ ‏سِـمـِحْ

              = ‏وان‏ ‏ما‏ ‏حصلشى ‏؟؟‏!! ‏

‏- ‏حايكون‏ ‏أهون‏ ‏من‏ ‏دا‏ ‏اللى ‏حصل‏،‏

يعنى ‏عاجْبِكْ‏ ‏؟

    = ‏واللهِ‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏مانِى ‏فاهمهْ، ‏

       يمكن‏ ‏عاميهْ،

دى ‏الدنيا‏ ‏ضلامْ.‏

والناس‏ ‏الشر‏ ..‏

لم‏ ‏يبطل‏ ‏يوم‏ ‏فى ‏لسانهم‏ ‏قر‏،‏

ياكلوك‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏لحمه‏ ‏طريه‏،‏

ويقولوا‏ “‏يا‏ ‏روحى ‏عليه‏ ‏كان‏ ‏زين‏”.‏

ليه‏ ‏يا‏ ‏ابنى ‏كده؟

بـتـعرض‏ ‏نفسك‏ ‏لِنْيابَهْم‏.‏

ياكْلُوكْ ‏يا‏ ‏ابنى،‏

ويْغَمِّـسُوا‏ ‏بيَّا ‏ورحمة‏ ‏ابوك‏.

 (4)

‏- ‏لأ‏ .. ‏ياختى ‏مانيش‏ ‏خايف‏ ‏منهم‏،‏

أنا‏ ‏مستبيع‏.‏

الدنيا‏ ‏بْخير‏، ‏وانا‏ ‏مِسْتَبْيَعْ‏.‏

أنا‏ ‏حابقى ‏أبويا‏ ‏وأمّى ‏كمان‏.‏

أنا‏ ‏حاْبقى ‏كتير‏.‏

أنا‏ ‏حابقى ‏الناس‏.‏

أنا‏ ‏حابقى ‏الحب‏.‏

أنا‏ ‏حابقى “‏أنا‏”. ‏

إزاى؟

ما‏ ‏اعرفش‏. ‏

أنا‏ ‏عارف‏ ‏إنى ‏حاكون‏، ‏وأصير‏،‏

ربنا‏ ‏ستار‏، ‏ربنا‏ ‏دا‏ ‏كبير‏.‏

بكره‏ ‏تشوفى، ‏…لأ‏ ‏دلوقتى:

 

غَـصْـبِـنْ‏ ‏عنهم‏،

غـصـبـن‏ ‏عني‏،

غـصـبـن‏ ‏عَنِّكْ‏.‏

‏= ‏غـصـبـن‏ ‏عنى ‏؟‏ ! ‏

وانا‏ ‏بِدّى ‏أشوفـَـكَ‏ ‏سيد‏ ‏الكلْ‏،‏

.. بَسْ

-‏ ما‏ ‏بَسِّشْ‏،‏

 

ولا‏ ‏سِيد‏ ‏الكل‏ ‏ولا‏ ‏دِيْلهم

أنا‏ ‏حاخد‏ ‏حقى ‏من‏ ‏عينهم:‏ ‏

من‏ ‏بسمة‏ ‏طفل‏،‏

أو‏ ‏حِـنّـية‏ ‏خالتى ‏أم‏ ‏الخير‏ ‏بياعة‏ ‏الفجل‏،‏

أو‏ ‏”عم‏ ‏عَلِى” ‏واقف‏ ‏يضحك‏ ‏ورا‏ ‏قدرة‏ ‏فولْ‏،‏

أو‏ ‏حتى ‏نهيق‏ ‏جَحْش‏ ‏العمدهْ‏.‏

أو‏ ‏من‏ ‏هَمْسِةْ‏ ‏ورقِـةْ‏ ‏ورده‏،‏

من‏ ‏أيها‏ ‏حاجة‏ ‏اسمها‏ ‏عايشه‏،‏

بتقول‏ ‏أنا‏ ‏اهه‏،‏ أنا فيَّا حياهْ

حا‏ ‏شعر‏ ‏بالنبضة‏ ‏وبالرعشة‏، ‏من‏ ‏أى ‏كلام‏،‏

وحاعيش‏ !!!

‏= ‏والله‏ ‏يا‏ ‏بنى ‏محتاره‏ ‏معاك‏.‏

ما‏ ‏تعيش‏.‏

مين‏ ‏حايشك‏ ‏بس‏ ‏؟

(5)

‏- ‏ما‏ ‏حايِشَنِيشِي

ما‏ ‏انا‏ ‏عايِشْ‏ ‏اهُـهْ‏،‏

بس‏ ‏ادْعِى ‏لى ،‏

أنا‏ ‏كنت‏ “‏خلاص‏”،‏

بس‏ ‏بفضلِكْ‏ ‏ربِّنا‏ ‏قالها‏،‏

‏ ‏ولقيت‏ ‏لى “‏خلاص‏”.‏

وعَمَلْت‏ ‏مِنِّى ‏اللى ‏أنا‏ ‏هوه‏ ،‏

كلُّهْ بْفَضْلُهْ

وباجَدِّدْ‏ ‏روحِى ‏من‏ ‏جُوَّهْ‏، ‏

‏ ‏وباغَنِّى ‏مع‏ ‏نَفْسِى ‏بْنَفْسِي

ثانية بثانية

‏        ‏فى ‏الناس‏، ‏بالناس‏.‏

(6)

ما‏ ‏تْصَدَّقشى ‏إن‏ ‏الواحد‏ ‏لازم‏ ‏يعرف‏ ‏أصله‏ ‏وفصله‏،‏

‏                                     ‏ما‏ ‏تصدقشي‏.‏

ما‏ ‏تصدقشى ‏إن‏ ‏الدنيا‏ ‏راح‏ ‏منها‏ ‏الخير،‏

ولا‏ ‏إن‏ ‏الناس‏ ‏دول‏ ‏شر‏،

ولا‏ ‏إن‏ ‏كلامّهم‏ ‏قَـرّ‏،

ولا‏ ‏إن‏ ‏الأرض‏ ‏ملانه‏ ‏كـُفــَّار‏،‏

ولا‏ ‏إن‏ ‏البير‏ ‏دا‏ ‏مالوهشى ‏قرار‏،‏

(7)

ما‏ ‏تقولشى “‏لوْ‏” .. ‏وما‏ ‏تندمشي‏.‏

ما‏ ‏تقولشى “‏بكرَهْ‏” ‏ما‏ ‏ينفـعشـِي‏.‏

ما‏ ‏تقولشِى “‏همـَّا” ‏ما‏ ‏تهربـشي‏. ‏

ما‏ ‏تقولشى “‏ما‏ ‏خدتش‏” ‏إدوني‏.‏

ما‏ ‏تقولشِى “‏ما‏ ‏شفتش‏” ‏ورُّونِي‏. ‏

عايز‏ !‏؟‏ ‏

دَوّرْ‏ ‏واتْخَانِقْ‏،‏

 

وساعتها‏ ‏حاتلقى ‏عمار‏ ‏فى ‏عمار‏،‏

وحا‏ ‏تعرف‏ ‏معنى ‏لأىّ ‏كلام‏، ‏و‏”‏تكونْ‏”،….‏و‏”‏تعيشْ‏”،‏

وتغنى ‏الغنيوَه‏ ‏الحـلـوه‏: ‏

ماانت‏ ‏عارفها‏، ‏

جوَّاك‏، ‏برَّاك‏، ‏ماليَا‏ ‏الدنيا‏.‏

 **************

الفصل الرابع

عن “ماهية الحياة” لدى المعالج، فالمتعالج

ماهية الحياة4

مقدمة:

يبدو هذا الفصل أقل ارتباطا بالنص البشرى للمعالج، مع أن المتن ورد ضمنا فى نفس الديوان الأصل “أغوار النفس”، وقد كدت أرحـِّـل هذا الجزء إلى عمل آخر لكننى انتبهت فجأة إلى أن “النص البشرى” للمعالج والمتعالج على حد سواء لا يـُقرأ ولا يـُنقد منفصلا عن موقفه الأعمق فالأعمق بالحياة عامة، ثم إنى لاحظت أن قصائد هذا الفصل تكاد تشارك فى التنبيه إلى رفض فكرة أن العلاج النفسى هو نشاط معقلن أو علاج بالكلام، فهو حوار جدلى بين مستويات الوعى معا كما أشرنا إليه فى الفصول السابقة.

هذا وقد تذكرت كتابا أعجبت به يوما وهو كتاب “علاج القبول والالتزام” Acceptance and Commitment Therapy (ACT) سنة 2009   لمؤلفهSteven C. Hayes   وهو يمثل الموجة الثالثة من تطويرات “العلاج المعرفى” وله عنوان فرعى هو “اخرج من عقلك إلى حياتك”، فوصلنى دعمٌ لفكرة أن العلاج النفسى كما أحاول تقديمه هو “خروج إلى الحياة”، وهذا عندى يبدأ بالتنبيه إلى التخفيف من غلبة نشاط ما أسميته “عضلة العقل”، وإلى مزيد من رفض “مـَكـْلمة التفسير النفسى والتأويل التحليلى”، الأمر الذى شجعنى أن أُبـِقىِ هذا الفصل ضمن محاولة الكشف عن موقفى “الشخصى” من هذه القضية، و”ماذا تعنى الحياة عندى” – فهى هكذا تصل إلى مرضاى طوعا أو ضمنا –وهكذا تكتمل صورتى أمامهم بشكل أو بآخر وهو هدف هذا العمل!!.

حين بدأتُ تقييم موقفى العلاجى من واقع معايشتى لمرضاى كان التحدى الأساسى الذى وجدت نفسى فى مواجهته هو دعم الحياة ضد الموت (السلبى الثنائى النهاية)، فمررت بمراحل التعرف على “ما هو حياة”، مما يمكن أن يكون فى تقديمه ما يوصل رسالة الحركة والمراجعة والتى كانت خطوطها العريضة كما يلى:

1– رأيت فى البداية أن الحياة تمثل “التقدم/الاقتحام”، فى حين يمثل الموت التقهقر “التراجع/النكوص” فكنت أرى الفصام يمثل الموت مثلا من حيث إنه نكوص فـَتـَحـُّلل، فيكون علاجه هو استرجاع التماسك للتقدم.

2– ثم انتبهت إلى أن الحياة هي النبض الحركة فى مقابل أن الموت هو السكون، فانتقلت من الاقتصار على التركيز فى الدفع إلى الحياة، إلى الاهتمام بمحاولة التحريك (استعادة زخم الحركة) مطمئنا إلى أن الحركة لها تلقائيتها النابضة الكافية لإعلان الحياة ودفعها، وبالمقابل يكون الموت هو السكون، ومن ثم الضمور فالعدم .

3– ثم تصالحت مع الموت، ووصلنى كيف يمكن أن يكون نقلةٌ من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى، وأنه “إعادة ولادة”، وأنه “أزمة نمو”، فوجدت أن هذه الرؤية الجديدة تنفى عن الموت سكونه وعدميته بشكل أو بآخر، فبدأت تحفظاتى تجاه الاطمئنان إلى أن الحياة هى الحركة الطبيعية فى ذاتها باعتبار أن الموت قد يكون كذلك.

4– وحين تيقنت أن الحركة وحدها قد لا تعنى الحياة، رحت أحاول رصد خداعات الحركة اللاحياة: فثم حركة فى المحل، وثم حركة دائرية مغلقة تنتهى حيث بدأت، فهى حركة زائفة فى النهاية، وثم حركة هى “إعادة النص” وهى تتدخل فى بعضها البعض، وأفادتنى هذه الرؤية فى أن أنتبه إلى أن الحركة إنما تمثل الحياة من خلال شرط ارتباطها بالإيقاع الحيوى النابض، الذى تكون محصلته إيجابية حين يكون البسط تشكيلا للامتلاء، وليس مجرد تفريغ لما امتلأ به.

5– ثم أضيف إلى ذلك بُعد متداخل، هو حتمية “برنامج الدخول والخروج” in – and – out program باعتباره حركية مكمـِّلة لدفع زخم الحياة، شريطة أن يكون ذراع الخروج أرحب وأكثر امتدادا من الدخول (ولو قليلا) مع كل دورة، أو على الأقل مع محصلة الدورات.

6– ثم امتدت رؤيتى لمدارات متمادية الاتساع حتى ترابطت حركية الحياة البشرية مع كل حركة حياة فى دوائر تتولد من بعضها البعض إلى ما بعدها: حياة الطبيعة، فحياة الكون، فوصلنى معنى ما هو كدح إلى وجه الحق تعالى، فأصبحت الحركة عندى بين الوحدات (البشر) لا تمثل أعماق ما هو حياة إلا إذا تواصلت مع الحركة نحو المطلق إلى الغيب المفتوح النهاية.

7– وهكذا انتهيت إلى التعرف على ما تيسر من برامج النمو مثل:

  • التقدم <==> التقهقر
  • التعتعة <==> السكون
  • البسط <==> الامتلاء
  • الخروج <==> الدخول

 شريطة أن يتواصل كل ذلك إلى:

 الامتداد فى، ومع:

  • إيقاع نبض دوائر الحياة فى اتساعها المتمادى، وإبداعها المتجدد.

وبعد

ما هى علاقة كل هذا بالمعالج ونصه البشرى الجارى نقده طول الوقت؟

أعتقد أن هذا الفصل يحدد بشكل تقريبىّ ما وصلتُ إليه من خطوط عامة – ليست نظرية خاصة أو إيديولوجيا محكمة- وإنما هي محاولة الكشف عن “مسيرة حياتى” وربما علاقتها بما هى “مسيرة الحياة” وأن هذا – إن صدق – يستحسن أن يصل إلى من يهمه الأمر مرضى ومتدربين وغيرهم ضمن ما هو قراءة “نصّى البشرى”

 ما أمكن ذلك!

استهلال:

كانت هذه القصيدة هى مقدمة الجزء الثالث فى الديوان وكان عنوانه “غنيوتين” ولكننى فضلت أن أجعلها فصلا مستقلا، كما ذكرت وعلاقتها بالنص البشرى للمعالج هى أنها تكاد تمثل ما انتهيت إليه – تقريبا- عن معنى الحياة (والموت أحيانا)، استلهاما من مهنتى أساسا (وغير ذلك).

***

نبدأ بقراءة المتن:

‏- 1 -‏

الحياة‏ ‏هى ‏الحياة‏.‏

أغلى ‏حاجة‏ ‏فيها‏ ‏هى : ‏إنى ‏عايش‏.‏

باترجف‏ ‏من‏ ‏خطوتى ‏الجايـّةْ‏، ‏ولكن‏:‏

باترعب‏ ‏أكتر‏ ‏لو‏ ‏انى ‏فضلت‏ ‏ساكن

كل‏ ‏ما‏ ‏أشك‏ ‏ف‏ ‏خطاى، ‏

ألتفت‏ ‏ما‏ ‏لقاش‏ ‏وراى ‏

إلا‏ ‏إنى،‏

‏ ‏وسط‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏باغني

يعنى ‏بابنى، ‏

‏ ‏أنا‏ ‏وابـني‏.‏

واللى ‏مش‏ ‏ممكن‏ ‏حايخلص‏ ‏بــيه‏ ‏وبـيّـا‏.‏

يبقى ‏غيرنا‏ ‏يكمله‏.‏

شرح على المتن

بصراحة، مازالت عندى مقاومة شديدة لكتابة شرح على متن هذه القصيدة بشكل خاص، ومع ذلك فأنا مضطر، مادامت الورطة مستمرة، فلتتم بما يمكن، والسلام.

إذا وصَـلـَـنا أن الحياة هى الحياة، فهى لا تحتاج إلى مزيد من شرح، لكن ما دمنا فى مجال استغلال المتن، للدخول إلى بعض ما يعيننا فى مهنتنا، وبالذات فى موقف العلاج النفسى، فلتستمر المحاولة ضد كل مقاومة.

المرض النفسى، كما كررنا مرارا، هو توقف مؤلم، أو منسحب، أو متجمد، وكل هذا هو “ضد الحياة”، كما بينا، إذن يمكن أن نتصور أن العلاج، والعلاج النفسى ضمنا هو “إحياء” بكل معنى الكلمة، “..ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعا”، إذن قد يجدر بالطبيب النفسى، والمعالج النفسى، أن تكون عنده بعض ملامح عن ماذا يعنى بالحياة، ما دامت وظيفته هى الإحياء، شريطة ألا ينسى أن لديه شخصياً نفس الفرصة لتنشيط الحياة فى نفسه من جديد، حتى وإن كانت نشطة، أو يتصور أنها نشطة  بشكل ما، إلى درجة ما (ما دام نصه البشرى يشارك إيجابيا فى عملية النقد البينشخصى!)

الحياه هىّ الحياهْ

أغلى حاجه فيها هيَّا:

 “إنى عايشْ”

لا يوجد تفسير للحياة إلا أنها الحياة.

كثيرا ما طرح علىّ مريض هذا السؤال: ماذا علىّ أن أقرر الآن؟ فأجدنى أطرح نفس السؤال على نفسى دون أن أدرى، وقد كنت أرد على كثير من مرضاى، دون تجاوز الأمور الحياتية اليومية التى علينا أن نقررها سويا، أو يقررها هو مؤتنسا بعلاقتنا (حتى لا يزعل الخواجات)، كثيرا ما كنت أجد نفسى أقول له (ولنفسى):

عليك أن تقرر: “إما أن تحيا، وإما لا”، ولم أكن أقول عادة “إما أن تحيا وإما أن تموت([59])“، خشية أن أثير عنده هذا الاحتمال وكأنه بديل حقيقى، أو بصراحة: لأننا عادة ما يكون انطلاقنا – ونحن لا ندرى – هو من أن عمق مهنتنا هى أنها تسهم فى فن الإحياء، حتى إحياء الموتى، (بفضل الله، والفن العلاجى/العلم/النقد).

أغلى شىء فى الحياة هو أن نعيشها:

“أغلى حاجة فيها هيَّا: إنى عايش”.

لا تُقَيَّم الحياة بما يملؤها من مكاسب، أو ملذات، أو أملاك، أو حتى قيم، وربما إنتاج، “الحياة حياة” قبل كل هذا وبعد كل هذا، واسألوا كل من قبلنا من أجدادنا الأحياء الأخرى!

نتعلم من أجدادنا من ملايين السنين أن هدف الأحياء الأدنى (التى كثيرا ما أشعر بالخجل حين نصفها أنها أدنى) هو “أن تبقى”، بلا أى سبب لاحق فى حدود دوائر وعيها، العصفور لا يبقى فى عشه حيا، لأنه عش جميل، أو ملجأ من المخاطر تحديدا، ولا يبقى الأسد حيًّا، لأنه ينتظر من السيدة حرمه اللبؤة أن تقوم بتمشيط شعر لبدته قبل اللقاء السعيد، العصفور والأسد يعيشان الحياة أولا، ثم تُملأ الحياة بما تستحق أن تُملأ به، فيبقى النوع، ويقاوم الانقراض جيلا بعد جيل([60]). فإن فشل أى نوع منها فى تلك المهمة فقد اختار الانقراض وليس فقط الموت فرداً.

حين تنحرف المسيرة، وتصبح الحياة مضمون ما تحوى“، وليست “توجـُّـه وحركية ما تُفرز بما هى ليتخلق الآتى”، حين يحدث ذلك: يصبح التهديد بالانقراض أقرب!

منذ اكتسب الإنسان الوعى بالوعى، أصبح يقيس الحياة، ويخطط لها، ويحسب مبررات استمرارها، بمقاييس منحازة إلى مَنـْطـِقـِه الظاهر، وليس إلى كلية وجوده طولا وعرضا، وأيضا راح يقيسها بمقاييس من خارجها، بعضها من صنعه، ليست كلها لصالحه.

الحياة يلزمها بداهة نسيج متيِن من البنية الأساسية كى تنبض، لكن لا ينبغى أبدا أن يحل هذا النسيج التحتى مهما كان ضروريا محلها برغم أنه من أساسياتها، أو من شروطها، أو من ضروراتها… إلخ.

تظل مجرد حقيقة “أنى أحيا”، هى الحقيقة البادئة التى لو امتلأنا بها، وأمكن أن نبعثها فى مريضنا، لأصبحت نقطة انطلاق واعدة منفتحة.

 يبدو أن حياتنا المعاصرة قد أنستنا هذا تماما، أو غالبا، أو إلى حد كبير، لو أحسنتَ الإنصات إلى صوت عصفور الكناريا على فرع شجرة، لوجدته يردد نفس هذين البيتين:

الحياة هى الحياة

أحلى حاجة فيها، هيَّا:

“إنى عايش”

ما رأيك لو نتوقف عند هذا المقطع، ونحاول أن نردده لعلنا نصدّقه بما هو، دون إبداء أسباب (يمكن أن تفعل ذلك وأنت تسمع غناء هذا العصفور بعد أن تنزل صوت غنائه من جوجل!! أو اليوتيوب (لست متأكدا) الصوت موجود فعلا: حاوِلْ).

هيا نجرب:

…….

الحياة هى الحياة

أحلى حاجة فيها، هيَّا:

إنى عايش

…….

الحياة هى الحياة

أحلى حاجة فيها، هيَّا:

إنى عايش

…….

وهكذا..!

ثم هيا:

 لكى يكون الإنسان بشراً عليه أن يعيش جدل الوعى مع وعى آخر، وعى بشرى أيضا، بل أكثر من وعى فى كل فرد، ومع عموم الناس. يبدو أن القصيدة التى نحن بصددها تنبهنا إلى ذلك بشكل سريع قبل أن ننسى، فبمجرد اختيار الحياة نجدنا بين الناس هكذا:

الحياه هيّا الحياهْ

أغلى حاجه فيها هيَّا:

 “إنى عايشْ”

وِسْط ناسْنا الطيبين

حتى ناسنا النُصْ نُصْ

همّا برضه أحلى ناسْ: طيبين

ما انا منهمْ،

يبقى لازم زيُّـهمْ،

حلو خالصْ

بس انا برضه بَلاقينِى ساعات كدا نُصْ نُـصْ،

قلت أتعلم، وابُص

إذن: لا تكون الحياة حياة بشرية إلا بين الناس.

فى العلاج النفسى الفردى الصحيح، يعتبر المعالج ممثلا لمن هو “آخر” بالأصالة عن نفسه والنيابة عن الناس، هذا مفهوم آخر غير المفهوم الذى يؤكد عليه التحليل النفسى التقليدى، حين يهتم أساسا بالتركيز على “الطرح” والتداعى الحر والتنفيث. إن لم يتم من خلال العلاج تهيئة وتنمية العلاقة مع جماعة صغيرة، (أسرة مثلا)، ثم مع بعض الناس ثم مع كل الناس، فهو علاج تنفيثى محدود غالبا. هكذا يعلن المتن من البداية أن الحياة لاتكون حياة إلا وسط ناسنا الطيبين.

من خبرة العلاج الجمعى:

أتاحت لى خبرتى فى قصر العينى مع مرضى العلاج الجمعى خاصة، أن أعرف، وأتعرّف على عينات من ممثلى الشعب المصرى الحقيقى عاماً بعد عام، أعنى الشعب المصرى: التاريخ، الشعب المصرى الطبيعى، الشعب المصرى “هنا والآن”.

أنا أمارس العلاج الجمعى المجانى فى قصر العينى منذ سنة 1971 مع مرضى من الشريحة الأقل قدرة من الطبقة الوسطى والدنيا، من الطبقات الأفقر والأكـْدح، تعلمت من هؤلاء البشر معنى الطيبة المصرية الحقيقية “وسط ناسنا الطيبين”، وهم يعطون الموافقة الطيبة بكل ترحيب أن يجلس معنا فى نفس قاعة العلاج، فى دائرة أوسع، كل من يرغب فى التعلم والتدريب لمشاهدة الجلسة العلاجية بشروط شديدة اليسر، كما يقبل أفراد المجموعة الطيبون التصوير بالصوت والصورة، خدمة للعلم والمتعلمين قصريـًّـا، الطريقة التى أمارس بها هذا العلاج علانية مع إمكانية التدريب ودوام التسجيل استمرت حتى الآن أكثر من أربعين عاما ومازالت مستمرة:

تجتمع عينة ناسنا الطيبون (من 8–14 فرد) بشكل منتظم كل أسبوع فى يوم محدد (الأربعاء الآن) الساعة 7.30 صباحا ولمدة ساعة ونصف، ولا نحدد اختياراً معينا للسن أو التشخيص أو الشخصية، اكتشفت وأنا أكتب هذا الشرح الآن أن الذى شجعنى على الاستمرار طوال هذه السنين هو أن: “ناسنا طيبون” بالمعنى البسيط العميق، وليس بمعنى الاستسهال أو السطحية أو التفويت، يبدو أن هذه الطيبة مـُـعدية، ومهما كان ظاهر الأعراض، ومهما كان اسم التشخيص، ومهما كان نوع الشخصية، فإن وعياً جمعياً يتكون فيما بيننا من أول جلسة وينمو باضطراد حتى نهاية العام (مدة التعاقد للعلاج هى عام كامل: اثنا عشر شهرا).

قلت حالا إن هذه الطيبة معدية، لكن التعبير الأصح هو أن أقول إنها “قادرة على أن تستخرج ما يقابلها” “خلقة ربنا” من كل فرد من أفراد المجموعة، فهى ليست سمة أو صفة تنتقل من فرد إلى فرد (معالج أو مريض) بقدر ما هى حقيقة بادئة تتحرك منا بمثير صدق التقائنا، فيتحرك فينا ما هو “نحن” ثم نتجمع وسط دائرتنا إذ يتخلّـق منا وعى جماعـِىّ جاهز للتواصل مع “الوعى الجمعى” Collective Consciousness([61]).

ربما الذى يجعل العلاج الجمعى ذا فاعلية فى ثقافتنا المتواضعة هو أن هذا الجزء الطيب (العام المشترك) يتحرك من داخل المعالجين مثلما هو من داخل المتعالجين: ليساهم فى تكوين الوعى الجمعى (الخاص) المشترك المشارِك.

ليس فى الأمر خصوصية للشعب المصرى، فهذه الطيبة التى أتحدث عنها تصلنى من ناسى لأننى منهم، وهى أقرب إلى ما أسميناه “الفطرة”، فالأرجح أنها هى أصل ما هو “ربى كما خلقتنى” ونلاحظ أن المتن ينبهنا أن هذه الطيبة موجودة فى الطيبين ظاهرا، وحتى فى الذين أخفتها دفاعاتهم وكأنهم غير ذلك، أو حتى أنهم “نصف نصف”.

فى خبرتى مع طول عمر الممارسة مع المجموعات المتتالية التى لا يزيد عمر الواحدة منها عن عام واحد: وجدت أن هذا “العامل المشترك” “الذى نسميه طيبة “المصرى” (ومثله) هو هو “الحلاوة” التى نصف بها الحياة طول القصيدة، هذه الحلاوة بدت فى وصف ناسنا الطيبين حتى “النص نص” منهم بأنهم:

أحلى ناسْ: طيبين.

بنفس الآلية تتم تعتعة نفس هذه المنطقة عند المعالج، “عندى” مثلا، فأنا أعلن من البداية، مع تمام مسئوليتى “أن ما يسرى على المرضى يسرى علىّ”، فتنشط عندى – فى الأغلب – نفس المنطقة “الطيبة الجماعية المسئولة” (لاحظ أضفنا لفظ “المسئولة” هنا).

انتماء المعالج هكذا إلى هذه المنطقة المشتركة بنفس الشروط لايتصف بأى قدر من التواضع أو التنازل، بل إنه يعطى للمعالج قيمة أخرى: أنه واحد من الناس مع اختلاف جرعة الخبرة والمسئولية.

يمكن أن يقيس المعالج مدى لياقته لهذا النوع من العلاج بمدى تلقائية أدائه أثناء العلاج من جهة، وبعدم إرهاقه منه بأى درجة من جهة أخرى، لأن العامل العلاجى الأهم هو تخليق هذا الوعى الجمعى المشترك الذى يجمع أفراد المجموعة إلى بعضهم، فينتمون إليه، فيرتد إليهم يعالجهم، كما خلقهم ربهم، فهم “أحْلى ناس”، وليسو “أحلى الناس”، وما يخرج بشكل طبيعي، هو طبيعىّ، فمن أين يأتى الإرهاق؟

فإذا كان تحريك هذه المنطقة تجعلنا نرى أنفسنا “أحلى ناس” فإن المعالج حين يرى نفسه أحد هؤلاء الـ “أحلى ناس” يكتشف أنه أيضا “حلو خالص”..

إذن فصفة المبالغة “أحلى، والإطلاق “خالص” لا تشير إلى تفضيل فوقىّ لأنها تقر أن سمة أو صفة الحلاوة هى أيضا صفة ناسنا العاديين جدا حتى ناسنا “النص النص”، كذلك المعالج ليس إلا شخصا من هذا النسيج نفسه الذى: “أحيانا يكون نص نص”، وذلك لا ينقص من حلاوته، كما لا ينقص من حلاوة الناس.

بس انا برضه بَلاقينِى ساعات كدا: نُصْ نُـصْ

تكرار وصف الحياة فى هذه القصيدة بالحلاوة “الحياة الحلوة حلوة” ثم ما تكرر هنا “أحلى ناس” و”حلو خالص”، هو وصف قريب مما أريد توصيله لمعنى “خلقة ربنا”، التى هى الأقرب لما يتخلق بنا معا،  وربما هو ما نطلق عليه: “الوعى الجمعي”.

 اللفظ الآخر الذى يوصل بعض ما يجرى هو لفظ “الفرحة”، وكل من لفظ “الحلاوة” ولفظ الفرحة هو الأقرب إلىّ جدا من ألفاظ “السعادة” و”الراحة” وحتى “الطمأنينة” وهى الألفاظ التى يصر أغلب المرضى على طلبهما أو على الأقل السؤال عنهما، كما يصر أغلب النفسيين على تسويقهما، وسوف نعود إلى ذلك.

هذه البداية هى المدخل فى العلاج الجمعى الذى هو ليس إلا “نموذجا” “للحياة البشرية معاً”، وهى المدرسة التى تعلمت وأتعلم فيها ومنها جوهر الحياة:

قلت أتعلم، وابُص.

حركية الحياة، وحتم التواصل للاستمرار

حركية الحياة تمتد إلى حركية الموت، حتى الموت الحقيقى هو بعض مراحل حركية الحياة من بـُعـْدَ معين. قد يسكن السطح فيخدعنا الركود، لكن تظل الحياة تتحرك داخلنا تحت هذا السطح الراكد رغما عنا. الموت، كما وصلنى مؤخرا، كنقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى، وهو أزمة نمو، فهو حركة، فهو حياة. هذه الحركية ليست خطـِّـية، وليست دائرية، وليست لولبية، وليست أمامية، وليست خلفية، هى كل ذلك فى تكامل وتناوب وإيقاع حيوى متصل.

ثلاثة أبعاد للحركية:

أهم الأبعاد التى ينبغى التركيز عليها، وهى التى تتجلى لنا فى رحلة العلاج النفسى (الجمعى خاصة) هى:

(1) حركية “برنامج الدخول والخروج” In and Out program، وهو البعد الذى يسمح بالتواصل البشرى على مسافات متنوعة من الوعى، ويتم النمو طالما يرجح ضلع التقدم/الخروج باستمرار مع كل دورة، إلى أبعد من رجوعه، وأورد بعض أمثلة لهذا البعد كما يلى:

* الدخول إلى الرحم النفسى والخروج إلى الآخـَـر (الموضوع/ الناس).

* الدخول إلى النوم (الواقع الداخلى) والخروج إلى اليقظة (الواقع الخارجى).

*  الدخول إلى الحلم والخروج إلى النوم غير الحالم.

* الدخول إلى حضـَّـانة المجتمع والخروج إلى رحابة المطلق.

ولعل هذا هو ما يميز العلاقة الحية، والمقاومة المتناوبة فى العلاج النفسى، وخاصة العلالج الجمعى.

 (2) ثم حركية الملء ↔ البسط = Filling–Unfolding (الإيقاع الحيوى Biorhythm)، حيث دورات هذا الايقاع تمتد من أول التفاعل الكيميائى حتى إطلاق تيار النبض العصبى، كما تتجلى فى:

* دورات النوم واليقظة.

* ثم دورات النوم الحالم واللاحالم.

* ثم دورات تناوب الذوات.

* ثم دورات الملء والبسط الإبداعى.

وفى العلاج يتم التعامل مع هذه الحركية بمواكبة جرعة النوم والأحلام (وليس تفسيرها)، مع ضبط جرعات النشاط والتلقى طول الوقت، وذلك باستعمال كل الوسائل بما فى ذلك التعامل الانتقائى المتغير مع بعض العقاقير المتميزة.

(3) وأخيرا حركية الجدل الولافى Synthesis، وهى الأساس فى النمو والتطور والإبداع، هى حركية أعمق من أن تُخْتَصَر فى تعبير “التوليف بين أضداد”، حيث هى جماع كل حركية الحياة بكل البرامج السابقة وغيرها لتخليق الخطوة التالية التى يعلنها تغير نوعِىُّ، إلى مواصلة مسيرة الحياة متجددة متخلقة دون تحديد أى نهاية لها.

وفى العلاج عموما والعلاج الجمعى وعلاج الوسط خصوصا نرى نتاج هذه الحركية أكثر من أننا نرصد تفاصيلها، وتظهر النتائج فى صورة التغيير النوعى الذى يمنع النكسة، أو يرحب بها بشروطه، فيتواصل النمو.

الوعى بحركية الحياة:

الوعى بحركية الحياة ليس ضروريا لإقرارها، بل إنه قد يعيقها (بس انت لو بصيت لرجليك، تقع)، لكن فرط نشاط الوعى البشرى لا يتركنا نسير بتلقائية طبيعية راقصين مع الدنيا (هى الشابّة وانت الجدع)([62])، حركية الحياة لا ترتبط بأية وصلة مباشرة مع أى من: “إلى أين؟”، أو “حاسب”، أو “أسرع”، أو”ماذ بعد؟”، أو أى شىء من هذا القبيل!!.

 الحركة الزائفة:

حين يحتد الوعى بحركية الحياة، على أى مستوى نـُـرعب من أية حركة كانت، بغض النظر عن نوعها أو اتجاهها أو النظر فى مآلها، الرعب من الحركة يكون فى أشد صوره حين يكون الجمود جاثما وغير ناجح فى نفس الوقت، العلاج النفسى، من منظور النمو، يتواصل كما يلى:

* تحريك الراكد

* وكسر الغلاف

*  وربما: نقب الجدار

* ثم تعديل الاتجاه

*  فإطلاق الطاقة

*  فدفع النمو فى الحياة بتنشيط كل الحركيات السالفة الذكر مهما خفنا منها:

باترجف‏ ‏من‏ ‏خطوتى ‏الجايَّةْ‏، ‏ولكنْ‏:‏

باترعب‏ ‏أكتر‏ ‏لو‏ ‏انى ‏فضلت‏ ‏ساكنْ

الخوف من الحركة:

إذا زاد الخوف من الحركة حتى أشلّ، فإنه يصبح مـُـعـَـوِّقا بالغ الإعاقة.

هذا ما عبرت عنه فى قصيدة سابقة بالفصحى ([63]) قائلا:

أخاف‏ ‏من‏ ‏تموّج‏ ‏الأحشاءِ، ‏

من‏ ‏نثْـرة‏ ‏الأجنّةْ،‏

من‏ ‏دوْرةِ‏ ‏الدماءِ،‏

ومن‏ ‏حَـفِـيفِ‏ ‏ثْـوبىَ ‏الخَـشِـنْ‏

أخافُ‏ ‏من‏ ‏نساِئم‏ ‏الصباحْ‏ ‏

من‏ ‏خَـيْـطِ‏ ‏فجرٍ‏ ‏كاذبٍ،‏

أو‏ ‏صَـاِدقٍ‏ ‏

من‏ ‏زَحْـفِ ‏ليلٍ‏ ‏صامت‏ ‏

أو‏ ‏صاخبِ‏ ‏

أخافُ‏ ‏من‏ ‏تَـنَـاثُـرِ الذَّرَّات‏ ‏فى ‏مَـدَارِها‏ ‏

أخافُ‏ ‏مِـنْ‏ ‏سَـكوِنَها

هذا الهلع من أية حركة هو الذى يعوق الحركية الإيجابية لدفع الحياة، الخوف من الحركة فى ذاتها يكون أشد فى الحالات التى استقر فيها السكون حتى تجمد السطح، وأيضا فى الحالات التى أزمنت الحركة الزائفة مثل “إعادة النص”، أو “محلك سر”، ومن الحالات التى أصبحت فيها الحركة “دائرية مغلقة”.

قبول المخاطرة مهما كانت مرعبة، وضرورة ضبط الجرعة:

 التحدى الملقى على المعالج والمريض هو ضرورة قبول فمواجهة هذا الرعب الضرورى والهائل من أية حركة، ثم القدرة على ضبط الجرعة فى كل مرحلة بما يناسبها.

سر نجاح العلاج النفسى هو الاعتراف بحتم الحركة وفى نفس الوقت احترام إرعابها، إذا نجح العلاج النفسى أن يتعتع هذا السكون بجرعة مناسبة، فهو يخلـّق أزمة نمو علاجية، تحتاج للزمن والاستمرار لاستيعابها.

تحدث هذه التعتعة تلقائيا فى أزمات النمو، ومع إرهاصات بدايات عملية الإبداع.

يترتب على الوعى بأى من هذا التحريك (العلاج) أو هذه الحركة (أزمة نمو طبيعية) رعب الخطو إلى المجهول (مهما بدا معلوما من بعيد، أو واعدًا بشكل ما)، يترتب أيضا على هذا التهديد المرعب دعوة إلى التراجع عن هذه الخطوة والرضا بالسكون القائم (واللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش)، يسرى هذا على المريض وعلى المعالج على حد سواء.

لكن الكائن النامى، معالجا أو مريضا، لا ينخدع بهذا الإغراء الذى يلوّح بأمن هذا السكون، فهو يرعب منه أكثر من خوفه السابق من الحركة، رعب السكون هو رعب الموت/العدم، وهو رعب أخطر وأعمق.

باترجف‏ ‏من‏ ‏خطوتى ‏الجايَّةْ‏، ‏ولكنْ‏:‏

باترعب‏ ‏أكتر‏ ‏لو‏ ‏انى ‏فضلت‏ ‏ساكنْ

الرعب من السكون وارد حين يلتقط الوعى من بـُعـْدٍ أعمق أنه سكون يحتوى حركة مكتومة جاهزة للتفجر، ربما كما جاء فى نص قصيدة لى بالفصحى([64]):

تفجّر السكونُ فى قوالبِ الجليد،

ولم تدوِّ الفرقعة.

تحرّكتْ أشلائِـىَ المجمَّدة،

تفتـَّت الجبلْ،

فطارت العَرَائسْ،

تكسّرت حواجزُ الأصواتْ،

تخلـّقتْ. .. تطاولتْ،

فأجـْهِضـَتْ،

وضجّت السكينة.

أين حركية المعالج من كل ذلك؟

ماذا لو كان المعالج هو الذى سكن إلى ما هو فيه واستقر؟

 هل يستطيع مثل هذا المعالج أن يحرك المريض المتجمد دون أن يتحرك هو نفسه بنفسه لنفسه؟

السكون/التوقف وارد أكثر بالنسبة للمعالج منه بالنسبة للمريض، المريض الذى يسكن إلى آليات مرضه – باستثناء المرض العضوى التشريحى – هو غالبا سكن إلى حلِّ مرضىّ يتجلى عادة فيما هو: “اضطراب شخصية” بما في ذلك “فرط العادية” Hypernomality، أو “بارانويا مزمنة“، أو ربما المآل السلبى المرضى لأى ذهان نشط، وخاصة الفصام، هذه الحالات جميعا، إذا ما أخذت فرصة علاج مكثف، يمكن تحريكها بدرجة ما، مع أنها من حيث المبدأ شديدة الصلابة عصية على التحريك.

أما المعالج الذى سكن إلى ما هو فيه فما الذى يضطره أن يتنازل عن آليات تسكينه (ميكانزماته)، خاصة إذا انتمى إلى نظرية (أيديولوجية–حتى لو اعتبرها علمية) متماسكة وشائعة وقوية؟

رعب المعالج من الحركة قد يكون أكبر من رعب المريض.

الرعب من الحركة هو رعب من الحياة، والرعب من السكون هو الرعب من اللاعودة: العدم.

ومن المتن الأقدم بالفصحى:

أخاف أن أموتَ إن حييتْ

أخاف إن حييتُ لا أموتْ،

إذا كانت الحياة لا تكون حياة إلا فى حالة حركية: متعددة القوانين، متنوعة البرامج، متصاعدة المستويات، ضامة التوجه إلى المجهول الأرقى، فإن ذلك يسرى على المريض وعلى المعالج على حد سواء، وهنا يبدأ التحدى، وتتأكد ضرورة الإشراف على العلاج النفسى بكل مستوياته، وباستمرار.

رفض الزيف وحتم المثابرة:

 الحركة الحقيقية مرعبة لأنه يصاحبها – أيضا – قدر من الشك الشائك حول مسارها ومصيرها، هو شك معرفى أكثر منه شك متذبذب عاجز، فى هذه القصيدة يقفز الشك المعرفى يؤكد أن المراجعة بالالتفات إلى الوراء مسموح بها لتكتمل الحركة للتقدم للأمام.

كل‏ ‏ما‏ ‏أشكّ‏ ‏فْ‏ ‏خطايَا، ‏

ألتفت‏ ‏ما‏ ‏لقاش‏ ‏ورايَا ‏

إلا‏ ‏إنى:

‏ ‏وسط‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏باغَنِّي

يعنى ‏بَابْنِى، ‏

‏ ‏أنا‏ ‏وابْـنِي‏.‏

النظر إيجابيا إلى الوراء يؤكد الاطمئنان إلى اتجاه السهم النشط على طريق الحياة الممتد أبدا.

هكذا يؤكد المتن أن: الغناء (التناغم مع) وسط الناس، مع البناء، مع تواصل الأجيال، هو الضمان أننا نغنى للحياة فعلا إذ نتناغم مع دوائر الكون عرضا فطولا، (هل يا ترى هذا هو ما كانت تقوم به أغانى العمل التى تراجعت حتى كادت تختفى تماما؟).

ضرورة الزمن لتواصل مسيرة حركية الحياة:

استمرار الحياة ليست قضيتنا أفرادا، وربما هى ليست قضيتنا أجيالا، الأحياء التى نجحت أن تبقى حتى الآن (واحد فى الألف) نجحت دون أن تطرح على نفسها أى سؤال مما طرحناه هنا والآن، هى فعلت ذلك باحترام فاستيعاب فتفعيل قوانين وبرامج البقاء للاستمرار عبر الأجيال، هذا اليقين باستمرار الحياة هو سر النمو، ودفع العلاج، وأساس الإبداع، مع الاستمرار.

واللى ‏مش‏ ‏ممكن‏ ‏حايخلص‏ ‏بــيه‏ ‏وبـيّا.‏

يبقى ‏غيرنا‏ ‏يكمله‏.‏

هذا اليقين باستمرار الحياة هو سر النمو، ودفع العلاج، ودعم الإبداع، تعلمت هذا المبدأ من “عم على” السباك، وقد حكيت عن هذا الحادث (وربما كتبته) مرارا.

هو صديق “سباك” عرفته منذ أوائل الستينات، كان يعمل بيده غالبا، ويكاد يرفض أى صبى يساعده ضمانا للإتقان (كما أخبرنى)، (وقد استلهمت من عم على شخصية “عم محفوظ” فى الجزء الأول لثلاثيتى فى رواية  “الواقعة”([65])

كان عم على مستغرقا فى عمله فى الحمام، ودخلت أستعجله المرة تلو المرة، نظر إلىّ باسما معترضا ولم يصرح لى بأن هذا الاستعجال قد يفسد ما ألزم به نفسه من إتقان عمله، نظر عم على فى وجهى فوجدنى مكفهرا قلقا على ما يبدو، فنصحنى ألا أتعجله، وأن ما لا ننجزه الآن سوف ننجزه بعد قليل، وما لا ننجزه اليوم سوف يـُـنجز غدا، وما لا يُنجز غدا سوف يُنجز الأسبوع القادم، وما لا ينجز هذا العام سوف ينجز العام القادم، وما لا ننجزه نحن، فسوف ينجزه أولادنا، وما لا ينجزه أولادنا، فلا داعى لإنجازه أصلا (وضحك).

أشعر أن الفصحى قد أبعدت الرسالة التى أريد توصيلها، فلأنقل الرواية التى عمرها خمس وأربعين سنة بألفاظ “عم على”

“. . إيه فيه إيه؟ مالك يا دكتور؟ هدّى روحك، إللى ما نخلّصوش دلوقتى نخلصه بعد شوية، واللى ما نخلصوش النهارده نخلصه بكره، واللى ما نخلصوش بكره نخلصه الجمعة الجاية، واللى ما يخلصشى السنه دى يخلص السنة الجاية، واللى ما نخلصوش احنا يخلصوه أولادنا، واللى ما يخلصهوش أولادنا إن شالله ما خِلص..!!”

لم يصلنى من هذه الرسالة أى تأجيل سلبى، بل ما وصلنى منها هو الحرص على الإتقان، والإقلال من اللهفة على النتائج، ما دام العمل يجرى بأصوله، فقفز منى هذا النص فى هذه القصيدة.

(2)

يعنى ‏بَابْنِى، ‏

‏ ‏أنا‏ ‏وابْـنِي‏.‏

واللى ‏مش‏ ‏ممكن‏ ‏حايخلص‏ ‏بــيه‏ ‏وبـيّا.‏

يبقى ‏غيرنا‏ ‏يكمله‏.‏

الحياة : الاغتراب = اللاحياة:

(3)

الحياة‏ ‏دى ‏مش‏ ‏كلام‏ ‏مرصوص‏ ‏على ‏صفحات‏ ‏جرايد‏،‏

‏ ‏أو‏ ‏حكاوى ‏فى ‏القهاوى ‏والدواوير‏ ‏والمقاعد‏،([66])

أو‏ ‏شـلـل‏ ‏مرصوصة‏ ‏تعرف‏ ‏فى ‏الصياعة‏ ‏واللكــــاعة‏،‏

‏                                            أو‏ ‏برامج‏ ‏فى ‏الإذاعة‏.‏

ثم يواصل النص تعرية “ما ليس حياة”، أو ما هو تشويه للحياة، أو تزييف لها، أو تجميد لحركتها، أو ما لا يستحق أن يوصف بأنه “حياة” أصلا، وهو ما يسمى أحيانا “الاغتراب”.

وبقدر ما يبدو فى المتن من شجب ورفض وتحذير من صور الاغتراب المختلفة، ينبغى الحذر من تصور أننا لا نحتاج إلى بعضٍ من كل هذا حتى يمكن أن نستمر بأى درجة فيما يسمى الحياة العادية أو الواقعية، صحيح أن الكلام والحكاوى وكثيرا من الندوات والحوارات مغتربة، لكن صحيح أيضا أن الكلام لا يمكن أن يقاس بالمسطرة كما يقول صلاح جاهين([67]). المصيبة فى صور الاغتراب المعاصر هو المبالغة فيها وكأنها قيمة مطلوبة لذاتها، وليست اضطرارا مرحليا على درب النمو، وأيضا تكمن خطورتها فى أنها شائعة ولحوح، وأنها متنوعة، وخادعة، ومتميزة أحيانا وبراقة.

 عندى تحفظ فى مجال العلاج النفسى، أن يغلب على المعالج مثل هذا الموقف الذى يعرى هذا الاغتراب هكذا، حتى يبدو ما أقدمه له وكأنها دعوة مثالية للتخلى عن أى درجة من ذلك تماما، وهذا خطأ. ماذا يفعل الناس بدون الكلام الذى يطل عليهم يوميا على صفحات الصحف حتى لو كان أغلبه لغواً، ومعظمه كذبا؟ ونفس الشىء بالنسبة لوسائل الإعلام الأخرى درامية أو إخبارية أو حوارية، ماذا يفعلون إن لم “يدردشوا” و”يدشوا” من هنا وهناك، ثم يفوتوّن ويتغافلون عن هذا أو ذاك شعوريا أو لاشعوريا حتى يواصلوا حياتهم الصعبة بما يمكن؟ (وأحيانا: ما لا يمكن)

 صحيح أن هذا ليس هو غاية المراد حين نتكلم عن “الحياة التى هى الحياة” أو التى هى “أغنية عمل حى”، أو التى هى تواصل شائك رائع جميل مهدد مستمر، لكن علينا أن ننتبه طول الوقت أننا نحتاج جرعة مهمة من هذا الاغتراب العادى الذى تنقده هذه الفقرة بحدة وسخرية.

العلاج الجمعى الذى يركز طول الوقت، تقريبا، على المواجهة الآنية حالا، (أنا–أنت / هنا والآن)، هو النموذج الأمثل للتدريب على مواجهة هذه العينات من الاغتراب للتخفيف منها واحتمال حسن توقيتها.

لا بأس من أن ننبه مكررا أن هذه القاعدة (“أنا–أنت” “هنا والآن”) هى فقط للتفاعل أثناء العلاج الجمعى، وأنه يستحيل تعميمها، بل إنه ينصح بعدم تعميمها فى الحياة العادية.

 الحياة العادية هى خلفية ضرورية تكاد تملأ كل الصفحة يمينا ويسارا حتى نستطيع أن نقرأ المتن الضيق – غير المغترب – فى وسطها بالجرعة المناسبة.

الأمر يختلف فى العلاج النفسى الفردى، إذ أن الكلام عادة هو أساس للحوار أثناء هذا العلاج بما يحوى من كل احتمالات الاغتراب عن “هنا والآن”، ولكن بالتدريج يمكن أن تقل جرعة الاغتراب بشكل أو بآخر، ورويدا رويدا يصبح الكلام قادرا على التفعيل الممكن فى مسيرة تعديل السلوك وإعادة تشكيل النص البشرى.

ينتقل المتن بعد ذلك إلى نقد معاد لانفصال كثير ممن يسمون المثقفين حين يقول:

الحياة‏ ‏دى ‏مش‏ ‏ثقافة‏ ‏عليا‏ ‏جدا‏” ‏فـَـوْقَ‏ ‏هامات‏ ‏البشر‏”.‏

أو‏ ‏جوايز‏ ‏يمنحوها‏ ‏للى ‏فاز‏ ‏لما‏ ‏انتشر‏.‏

حين ينفصل المثقف بمعنى الصفوة المطلعة العارفة الفاهمة المبدعة أحيانا عن القاعدة العريضة لجموع الناس، تصبح له وظيفة أخرى لا مانع أن تكون إيجابية غير تمثيل وعى عموم ناسه والدفع بهم إلى ما يمكن من فرص لائقة بالجنس البشرى من تطور ونمو وإبداع، المثقف من الصفوة، التى يمثلها مثلا المجلس الأعلى للثقافة عندنا، هو إنسان نافع ويساهم فى الحفاظ على ما يميز فكر ناسه، بل والفكر عامة فى مرحلة تاريخية بذاتها، وربط ذلك بما سبق فى التاريخ، وأحيانا التخطيط لما يمكن مستقبلا، لكن هذا كله لا يمثل العينة المـُـثلى لما نسميه الحياة، فالحياة هى الحياة بذلك، وبدون ذلك، صحيح أن هؤلاء النفر من البشر قد امتلكوا وسائل أرقى وأنفع بكثير من سائر الناس، لكن الصحيح أكثر أن الحياة هى الحياة قبل ذلك وبعد ذلك، “إن الجائزة أية جائزة هى إعلان لتناسب دالّ بين مانحها والحاصل عليها فى فترة تاريخية معينة”([68]).

 وبشكل عام، فإنها عادة ما تـُـعطى لمن يستحقها، فلا يصح أن نأخذ حكاية “اللى فاز لما انتشر” على أنها القاعدة، ومع ذلك فالخطأ وارد، والانتشار أحيانا يعمل نوعا من “تأثير الهالة” ليحل محل “تقدير العمل أو الشخص”.

 قرأت حذر بهاء طاهر من حكاية “أكثر المبيعات انتشارا من الكتب” Best Seller وذلك قبيل ترجمته كتاب كويلهو “السيميائى” ثم حين تخطى هذا الحذر واطمأن إلى قيمة الكتاب قام بترجمته بحب شديد ومدحه مدحا لم أجد له مبررا فى نقدى له مقارنة برحلة ابن فطومة لنجيب محفوظ([69]). المهم أن الإشارة هنا تـُـنـَبـِّه إلى أن الانتشار، والثللية قد يشاركان فى ذهاب بعض الجوائز إلى غير أهلها، لكن هذه ليست هى القاعدة([70]).

علاقة هذه الفقرة فيما يخص العلاج النفسى هى أن شهرة المعالج ونتائجه المعلنة قد تعطيه “هالة” تؤثر على العلاج النفسى إيجابا وسلبا، فمن ناحية هى تجعل المريض جاهزا قبل العلاج لاحترام التعاقد والأمل فى الشفاء، مثلما سمع وشاع عن هذا المعالج وقدراته أو حتى “كاريزمته”، ولكن على الناحية الأخرى فإن هذه الشهرة قد تأتى من مصادر غير مهنية، بمعنى أنها ليست بالضرورة نتيجة حذقه الحقيقى لمهنته، ولا لنتائج تقاس نوعيا بما نريد أن نروج له ونحن نتكلم عن “الحياة الحياة”، وإنما هى قد تكون نتيجة لنجوميته الإعلامية، أو قد ترجع إلى سماته الشخصية المرتبطة بما يسمى “الذكاء الاجتماعى” وهذا أيضا له وعليه.

ننتقل بعد ذلك إلى الفقرة التالية:

–4–

الحياة هى الحياة

الحياةْ مش هيصهْ سايبه منعكشهْ

الحياهْ حركة جميلةْ مُدهـِشـَه.

بس بتخوّف ساعاتْ

لما بنْعرِّى الحاجاتْ

تشير هذه الفقرة إلى عدة أبعاد معا يمكن تعدادها كالتالى:

إن الحياة ليست بلا نظام، مهما بدت كذلك.

 ونحن ننسب “اللانظام” أحيانا للقضاء والقدر، وللمصادفة أو للحظ، والأمر ليس كذلك غالبا، الحياة هى مجموعة برامج بيولوجية وجودية مرتبة ومتداخلة ومتكاملة طولا وعرضا، حتى لو لم تبدُ كذلك فى ظاهرها.

 الحياة نظام مضطرد لبرامج منظمة (بما فى ذلك النظام الذى فى اللانظام (العشوائية أو الفوضى، أو الشواش) ([71]).

البرنامج الحيوى البيولوجى لا يظهر منه إلا ظاهره حتى لو كان فى واقع الأمر ليس معروفا كله.

الحياةْ مش هيصهْ سايبه منعكشهْ

إن الحياة حركة (وقد سبق الكلام على بعد الحركة منفصلا) لكن الإضافة هنا هى أنها كذلك بما تنتمى به إلى منظومة جمالية فى جماع تناسقها المرتبط بالحركة الإيقاعية غالبا.

الحياة حركة جميلة مدهشة

وطالما أن الحياة حركة: فثمة دهشة، وثـَمَّ خوف، وما دامت الحركة صادقة ومضطردة، فهى تقتحم المعلوم، كما تفتح آفاق المجهول متى لزم الأمر، لأنها حركة إلى مجهول أيضا (بس بتخوف ساعات).

هذه الحركة تؤدى إلى، وتتضمن، اتساع مساحة الوعى، ومن ثم تعميق البصيرة (لمـَّا بنعرى الحاجات).

– 5 –

الحياة هِيَّا الحياة

‏‏الحياة‏ ‏مش‏ ‏حلم‏ ‏ليلة‏ ‏صيف‏، ‏ولا‏ ‏إحساس‏ ‏يكركع‏ ‏

متـل‏ ‏قــلـّه ‏مايله‏ ‏تدلق‏ ‏مية‏ ‏المحاياة‏ ‏فى ‏صحرا‏ ‏مولعة،‏

لا‏ ‏الزرع‏ ‏يطلع‏ ‏فيها‏ ‏ولانارها‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏راح‏ ‏تنطفي‏.‏

كما أن الحياة “حركة جميلة مدهشة“، مهما بدا ظاهرها يجرى كيفما اتفق، فإنها أيضا “حركة هادفة مستمرة“، مهما التوى طريقها أو بدا متراجعا بعض الوقت، الصدفة هى من قوانين الحياة أيضا، لكنها حين تـُـضـَـمّ إلى مجمل المسيرة لا تعود صدفة، وحين تصبح الحياة مجموعة من التشنجات غير المترابطة، والتسكينات المؤقتة، يتقطع خيطها، وينفرط عقدها، ويتخثر قوامها، ولا تعود “حياة”.

المرض النفسى، هو وقفة مزعجة على هذا الطريق الهادف فى مجمله، لكنه فى ذاته يعلن اهتزاز للهدف، وخطورة في زاوية الانحراف، ونشاز عن اللحن الأساسى فهو من حيث المبدأ وقفة منذرة وهو ليس حتما بديلا تدهوريا متماديا من البداية للنهاية، وبالتالى فالتعامل معه ينبغى أن يكون فى حدود الاستماع إلى النذير لمعاودة المسير مع تصحيح الاتجاه.

النظر إلى الحياة على أنها مجموعة سلوكيات متقطعة، والتعامل مع المرض فالعلاج على أنه مجموعة عثرات فتسكينات مؤقتة، يجعل الممارسة الطبية العلاجية ممارسة إسعافية محدودة، وهذا النوع من الممارسة قد نحتاجه فى بعض الأحيان، لكن لا ينبغى أن يكون هو القاعدة ما أمكن ذلك، الإسعاف والتسكين شىء، والعلاج لإعادة التشكيل شىء آخر، التسكين قد يهدئ السطح الملىء بسحابة دخان بشعة مزعجة عامِيَهْ، لكنه لا يطفى النار وراء هذا الدخان، وإذا لم نتذكر هذه الحقائق فإن النار مع مرور الزمن تتحول إلى رماد لا إلى طاقة.

العلاج النفسى (المفروض يعنى!) ينتقل بطبيعته:

من مرحلة التسكين المحدود، إلى التغيير الممكن.

من مرحلة اختراق الدخان وإزاحته، إلى مرحلة احتواء النار لتنقلب طاقة مغيّرة.

وإلا يصبح العلاج أقرب إلى تبرير الوقفة، منه إلى تحريك المسيرة.

مزيد عن الوعى الجمعى والعلاج الجمعى

–6–

الحياة هياّ الحياة

كل ما بالْقانِى ماشى: ما بَـنَاتـْـكُمْ، أنبِسطْ.

إيدى ماسكه فى إيديُكمْ،

بابقى خايف إن واحد ينفرطْ

يا حلاوه لو تكون الدنيا ديَّهْ

زى ما ربى خَلَقْهاَ: هِيـَّـا هيهْ

تبقى رايح نحوها، تلقاها جايَّه

مرة أخرى يرجع المتن إلى التأكيد على أن الحياة أساسا هى الحركة، لكن الإضافة فى أول هذه الفقرة تعتنى بالتنبيه على أن الحركة فى ذاتها، مهما صلح مسارها، وتحددت إيجابية الهدف منها، لا تكون إنسانية تليق بما وصل إليه الإنسان من كونه كائنا اجتماعيا متحضرا مبدعا، إلا إن كانت “حركة معا”، حركة البشر مع بعضهم!

كل ما بالْقانِى ماشى: ما بَـنَاتـْـكُمْ، أنبِسطْ.،

إيدى ماسكه فى إيديُكمْ، بابقى خايف إن واحد ينفرطْ

فى العلاج الجمعى يتم تنشيط هذا البعد بشكل منظم مضطرد، هذا ما أسميناه “تشكيل وعى الجماعة إلى الوعى الجمعى Collective Consciousness ” (وهو ما أشرنا إليه ونحن نتناول فكرة “التناصّ” البشرى)([72]).

 الخوف من هذا التنشيط تحت ضغط بهجة الدهشة، وحمّى الحماس، هو أن ينتهى هذا الوعى الجمعى المحدود (وعى المجموعة العلاجية)، إلى وعى “خاص” بها، من حيث إنه يختلف نوعيا عادة عن الوعى الجماعى السائد فى المجتمع، لكن حتى لو زعمنا أنه أرقى، وأنشط، وأكثر إبداعا، وأنه قصيدة بشرية تؤكد حيوية “التناص” الإنسانى، إلا أنه إذا انفصل عن الوعى العام، يصبح نقيصة أكثر منه تميزا إلى أن تختفى خصوصيته الفوقية وسط عامة الناس على أرض الواقع.

 ينجح العلاج الجمعى حين تصبح هذه “القصيدة” البشرية التى أبدعتها جماعة محدودة، جزءا من “ديوان الشعر” الحياتى الممتد، وهذا أمر لا يتم بقصد فردى أو حتى بتخطيط علاجى من أفراد المجموعة، وإلا انقلبت المسألة إلى فعل سياسى بشكل أو بآخر، لكنه يشير إلى أمل فى أن ثمة مجموعات فى الحياة العامة تنتظم بشكل تلقائى، وبدوافع بقائية، يمكن أن تحقق ما يحققه العلاج الجمعى أو أفضل منه، دون أن يكون الدافع مرضيا، ولا الإبداع علاجيا، وفى تصورى (أو حلمى) أن تكون هذه الوحدات قادرة على التواصل، ليس فقط عبر تسهيلات التواصل التقنية الأحدث، ولكن عبر الوعى البشرى الممتد، فتحافظ على بقاء النوع البشرى ضد كل ما يتورط فيه من ممارسات الانقراض والتدهور (ولهذا حديث لا ينقطع طول الوقت، ما أتيحت الفرصة).

الخوف من أن ينفصل عن الجماعة أحد أفرادها، سواء جماعة العلاج أم جماعات التطور التلقائية، هو أمر طبيعى، لكن لا ينبغى أن يكون مزعجا أو معيقا للمسيرة الجماعية.

إن التعامل مع انقطاع فرد من المجموعة العلاجية أثناء مسيرة العلاج له قواعده التى نتعامل بها مع هذا الحدث، فمن ناحية فإنه من حق المنقطع أن يفسخ عقد الاتفاق العلاجى – بانقطاعه – حين يصله ما يبرر ذلك، حتى لو كان انقطاعه يعنى ترجيح كفة أن يظل مريضا، ومن ناحية أخرى هو يعطى فرصة للمجموعة العلاجية أن تعيش خبرة الانفصال أو الفقد، وأن تقيـّم مسيرتها نحو من خرج منها أو خرج عنها، فهى مجموعة صحية بقدر ما تستطيع أن تحافظ على التواصل مع الحاضر والغائب معا، من حيث المبدأ على الأقل.

كثيرا ما نستحضر “من غاب” عن المجموعة تخيلا واقعيا، ونـُجـْلسه على كرسى خال بشكل رمزى ماثل، ونحاوره أحيانا، ونتحاور بلسانه (دراما صغيرة) أحيانا أخرى، أو غير ذلك، وهكذا.

 عشت ونعيش خبرة لا أظن أننى نجحت فى شرحها أو عرضها بالقدر الكافى: وهى أن الشخص الغائب لا يغيب إلا فى العالم الخارجى، وأنه يظل جزءا من وعينا بشكل أو بآخر مهما طال الزمن، فالخوف من “إن واحد ينفرط” ينبغى أن يكون خوفا مشروعا، لكنه خوف لا يمثل خطرا حقيقيا على تماسك المجموعة (العلاجية أو الحياتية الصحيحة).

نكرر فى العلاج الجمعى، وأحيانا الفردى – وعموما- تعبير “خلقة ربنا” وهو تعبير مصرى عامىّ تلقائى، ربما هو أهم وأدق من استعمال كلمة الفطرة، وهو ليس تعبيرا دينيا مانعا، حيث يمكن استعماله بلغة التطور أيضا، وهو أقرب إلى ترديد الصوفىّ ذكر الله بقوله “ربى كما خلقتنى”، “ربى كما خلقتنى“.

وهنا يقول المتن “زى ما ربى خلقها هيا هيا”

وهو ما يؤكد أن هذه الطبيعة التى خلقنا بها هى حركية متبادلة بيننا وبين الحياة، تقدم عليك بقدر ما تذهب أنت إليها.

“تبقى رايح نحوها تلقاها جيه”،

وبالعكس.

–7–

الحياة هيّا الحياة

الحياة الحلوة تِحلى بْكُلّنا، إنتَ وانَا،

كل واحدْ فينا هوّا بعضنا،

بس مش داخلين فى بعض وهربانين،

زى كتلةْ قَشّ ضايعةْ فْ بحر طينْ.

ايوه فعلاً: كل واحد هوّا نفسُه،

بس نفسُه هِـيّأ ّ برضه كلنا،

مالى وعيه بربّنا

أشعر أن هذه الفقرة هى من أصعب الفقرات من حيث تحديها للشرح، ذلك أنها تكاد ترفض أن يمسها أحد بالتوضيح، توضيح ماذا بالله عليكم؟؟!!  يحضرنى شعور متجدد أن شرحها سوف يفسدها ويقلل من تأثير الرسالة التى يمكن أن تحملها، (مثل معظم ورطة هذا العمل).

“كل واحد فينا هوا بعضنا”

هل هذا هو الكل فى واحد؟

 وما حكاية “بعضنا”، وفى نفس الوقت “مش داخلين فى بعض وهربانين”

يأتى بيان ذلك فيما يلحق به مباشرة.

كل واحد هو نفسه

بس نفسه هىَّ برضه كلنا

يا ترى كيف ذلك؟

 هل هذا هو ما أشرنا إليه ونحن نشرح العلاقة الثنائية المـُـمـَـثـِّـلـَـة لكل العلاقات ونحن نشير  إلى أن أية علاقة تستحق أن توصف بأنها بشرية إنما تتم مع إنسان فرد آخر “بالأصالة عن نفسه، والنيابة عن سائر البشر”؟

ربما نعم.

طيب، فما هى حكاية “كل واحد هو نفسه“، مع أننا أكدنا طول هذا العمل أنه لا أحد هو نفسه، لأن “نفسه” هى مجرد مشروع فى “تشكل مستمر”؟

 لا، عندك، بالرغم من أنها فى تشكـّـل مستمر إلا أنها هى هى ذاتٌ متفردة فاعلة قادرة فى حدس لحظة بذاتها، التى هى وجود بين عدمين (كما يقول روبنال أو باشلار).

أما نهاية الفقرة فدعونى أقسم بالله العلى العظيم ألا أقترب منها،

وعليك أن ترجع إليها بنفسك فحين يكون

“كل واحد هوه برضه كلنا”، ما لى وعيه بربنا

سوف تعرف أين يقع منك “حبل الوريد”

آمل هكذا أن تتضح الفقرة دون شرح، يا أخى

الله!!!!!!!

أنت مالك أنت؟

الله!!

–8–

الحياة هيّا الحياة

الحياة الحلوة حلوه

والحياة المُرّه برضه، لو تاخد بالك شوية

راح تشوف مرارتها حلوة

هيه صعبة لو لوحدك

بس تسهل لو معانا الناس يا ناس

مش مصدق؟!!

طب حاتخسر إيه لو انت سمعتنا؟!

مش يجوز تلقاك معانا كلنا

نبقى أكثر منّنا!!

يبدو أن هذه الفقرة العادية، قد جاءت فى الختام لتخفف مما قبلها.

السطر الأخير كاد ينقذ هذا الجزء من تواضع شاعريته “نبقى أكتر مننا”.

رجع بنا هذا السطر إلى فكرة تشكيل الوعى البشرى الجمعى فى أية جماعة، ثم فى البشر كافة، أو ربما فى أى نوع، ليكون الكل هو أكبر من مجموع الأفراد، ويكون الوعى الجماعى له كيان مستقل فاعل (معالج تلقائى مثلا) أكبر من مجموع كل فرد على حدة.

الأرجح أن هذا هو ما يحدث فى العلاج الجمعى حين يكتشف من ينضم إلى المجموعة أنه لم يعد فردا فى مجموعة، بل أصبح وحدة فى كيان أكبر من مجرد عدد أفراد المجموع، هذه المسألة لا تطرح أبدا باعتبارها يقينا واردا، وإنما باعتبارها احتمالا واعدا “مش يجوز”.

هذا هو ما يعطى المجموعة العلاجية (أو أى مجموعة أحياء – بما فى ذلك المجموعات البشرية) حركية حيويتها، من خلال السماح بالدخول والخروج منها، لتتم كل رحلة بمزيد من الانتماء إلى هذا الوعى الجماعى/الجمعى؟

ونختم بالقصيدة مكتملة كالعادة مع الاعتذار عن التكرار الذى لابد أنه أصبح مملا:

‏- 1 -‏

الحياة‏ ‏هى ‏الحياة‏.‏

أغلى ‏حاجة‏ ‏فيها‏ ‏هى: ‏إنى ‏عايش‏.‏

باترجف‏ ‏من‏ ‏خطوتى ‏الجاية‏، ‏ولكن‏:‏

باترعب‏ ‏أكتر‏ ‏لو‏ ‏انى ‏فضلت‏ ‏ساكن

كل‏ ‏ما‏ ‏أشك‏ ‏ف‏ ‏خطاى، ‏

ألتفت‏ ‏ما‏ ‏لقاش‏ ‏وراى ‏

إلا‏ ‏إنى،‏

‏ ‏وسط‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏باغـَـنـِّـى

 (2)

يعنى ‏بابـْـنـِـى، ‏

‏ ‏أنا‏ ‏وابـْــنـْـى‏.‏

واللى ‏مش‏ ‏ممكن‏ ‏حايخلص‏ ‏بــيهْ ‏وبـيّـا‏.‏

يبقى ‏غيرنا‏ ‏يـِكـَمـِّلـُهْ‏.‏

 

(3)

الحياة‏ ‏دى ‏مش‏ ‏كلام‏ ‏مرصوص‏ ‏على ‏صفحات‏ ‏جرايد‏،‏

‏ ‏أو‏ ‏حكاوى ‏فى ‏القهاوى ‏والدواوير‏ ‏والمقاعد‏،

أو‏ ‏شـلـل‏ ‏مرصوصة‏ ‏تعرف‏ ‏فى ‏الصياعة‏ ‏واللكــــاعة‏،‏

‏أو‏ ‏برامج‏ ‏فى ‏الإذاعة‏.‏

(4)

الحياة هى الحياة

الحياةْ مش هيصهْ سايبه منعكشهْ

الحياهْ حركة جميلةْ مُدهـِشـَه.

بس بتخوّف ساعاتْ

لما بنْعرِّى الحاجاتْ

(5)

الحياة هِيَّا الحياة

‏‏الحياة‏ ‏مش‏ ‏حلم‏ ‏ليلة‏ ‏صيف‏، ‏ولا‏ ‏إحساس‏ ‏يكركع‏ ‏

متـل‏ ‏قــلـّه ‏مايله‏ ‏تدلق‏ ‏مية‏ ‏المحاياة‏ ‏فى ‏صحرا‏ ‏مولعة،‏

لا‏ ‏الزرع‏ ‏يطلع‏ ‏فيها‏ ‏ولانارها‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏راح‏ ‏تنطفى.‏

 (6)

الحياة هياّ الحياة

كل ما بالْقانِى ماشى: ما بَـنَاتـْـكُمْ، أنبِسطْ.

إيدى ماسكه فى إيديُكمْ،

بابقى خايف إن واحد ينفرطْ

يا حلاوه لو تكون الدنيا ديَّهْ

زى ما ربى خَلَقْهاَ: هِيـَّـا هيهْ

تبقى رايح نحوها، تلقاها جايَّه

(7)

الحياة هيّا الحياة

الحياة الحلوة تِحلى بْكُلّنا، إنتَ وانَا،

كل واحدْ فينا هوّا بعضنا،

بس مش داخلين فى بعض وهربانين،

زى كتلةْ قَشّ ضايعةْ فْ بحر طينْ.

ايوه فعلاً: كل واحد هوّا نفسُه،

بس نفسُه هِـيّأ ّ برضه كلنا،

مالى وعيه بربّنا

(8)

الحياة هيّا الحياة

الحياة الحلوة حلوه

والحياة المُرّه برضه، لو تاخد بالك شوية

راح تشوف مرارتها حلوة

هيه صعبة لو لوحدك

بس تسهل لو معانا الناس يا ناس

مش مصدق؟!!

طب حاتخسر إيه لو انت سمعتنا؟!

مش يجوز تلقاك معانا كلنا

نبقى أكثر منّنا!!

******

الخاتمة

 Untitled-1 copy

هذه الخاتمة خاتمة فعلا، وعلاقتها ضعيفة نسبيا بما هو علاج نفسى، اللهم إلا فى التأكيد على أن الأصلح لعلاج المصرى هو المصرى، والأصلح لعلاج العربى هو العربى، والأصلح لعلاج الهندى هو الهندى، والأصلح لعلاج الأمريكى لست أدرى من!!!

الاختلافات الثقافية ليست مجرد فروق تاريخية أو جغرافية أو اجتماعية أو دينية، وإنما هى كل ذلك معا، وأكثر.

وهذا هو عمق موقفى كمعالج وهو ما أرجو أن يتضح من هذه الخاتمة.

 الصراع الذى كان ومازال قائما بينى وبينى ‏هو مدى تعلقى بطين هذا البلد الذى ولدت على أرضه، ونشأت فى رحابه، ورضعت من طيبته وكرمه، وبين حبى للإنسان فى كل مكان على أى أرض، ما دام هو هو زميلى فى البشرية – “خلقةْ ربنا”.

 ثم خيل إلىّ أننى ‏وجدت‏ ‏الحل‏ ‏أخيرا‏ حين تذكرت ‏أن‏ ‏أى ‏صاروخ‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏وجهته‏ ‏فإنه‏ ‏لابد‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏قاعدة‏ ثابتة ومتينة وجاهزة ومنضبطة، سواء كان صاروخا عابرا للقارات، أو عابرا للأزمنة، أو عابرا للأفلاك، من هنا ‏ ‏أحسست‏ ‏أن حبى لمصر / الطين / الناس / الطيبة / الخيبة / التاريخ / الوقفة، هو هو ‏ ‏حبى للإنسان البشر / البَعد / الكون / الله، ‏فى ‏رحلة‏ ‏التكامل‏.‏‏

أذكر أن بداية هذه القصيدة كانت موجهة للصديق الذى أهديت إليه هذا العمل الحالي المرحوم أ.د.محمد شعلان سافر وفى نيته الهجرة، وقد كتبت هذه القصيدة، وكان مازال في “مشروع هجرته” وكان لم يستقر بعد نهائيا فى قراره، وهو صديق أحببته، وكنت ومازلت أحبه حبا شديدا، فجذوره من طين بلدى، برغم أن فروعه أو تفرعاته قد طُعِّمت بعضها بطُعم خوجاتى، وقد ثابرت على دعوته إلى الرجوع لنعملها سويا عبر مراسلاتنا، وكلانا فى الخارج يفصل بيننا الأطلنطى حتى عاد، ثم كان ما كان، لكنه عاد، وظللنا نتحاور قربا وبعداً حتى استأذن مبكراً رحمه الله.

تعميم معنى ومحتوى ودلالة ما هو “مصر” بداية من الفقرة الثانية هو الحل الذى اهتديت إليه.

الفكرة الجوهرية التى أنهى بها هذا العمل بهذه الخاتمة، هى الفكرة التى شاعت فى طول هذا العمل متنا وشرحا، بل عبْر مدى ممارستى للعلاج بكل تشكيلاته، بل ربما عبر كل رحلتى الذاتية بما قدر لى أن أعايشه، وهى:

 إن كل ما يمكن أن نفعله أثناء رحتنا المحدودة، نموا، وعلاجا وتطورا، هو أن نتحدى التشويه القائم والمحتمل، وسوف نجد أننا نرجع تلقائيا إلى أصل شرف “ما هو نحن” (“خلقة ربنا”، “ربِّى كما خَلَقْتنى”) وهذا يحتاج إلى معرفة متواصلة متجددة، ومحكات عملية محددة، وممارسة متواصلة مفتوحة، ومراجعة ناقدة قادرة، وإبداع مغامر، ومثابرة، وحوار وجدل عبر كل قنوات تواصل من كل مستويات الوعى، إلى كل دوائره المتناغمة عرضا والممتده طولا، إلى غيب لا نعرف أبعاده لكننا نستدل على التوجه إليه من سلامة النبض وتواصله.

وهذا هو العلاج (النفسى!!، وغير النفسى!!).

و…. خلاص.

الخاتمة (دون شرح على المتن):

–1–

‏ ‏يا‏ ‏طير‏ ‏يا‏ ‏طاير‏ ‏فى ‏السَّمَــا،.‏

رايح‏ ‏بلاد‏ ‏الغـُـرْب‏ ‏ليه‏؟

إوعكْ ‏يكون‏ ‏زهقكْ ‏عماك

عن‏ ‏مَصرنا‏.‏

عن‏ ‏عَصرنا‏. ‏

تفْضل‏ ‏تلفّ‏ ‏تلفْ، ‏كما‏ ‏نورسْ‏ ‏حزين‏.‏

حاتحط‏‏ فين، ‏والوجْد‏ ‏بيشدّكْ‏ ‏لفوق‏.‏

إلفُوقْ‏ ‏فَضَا‏.‏

إلفُوقْ ‏ ‏قَضَا‏.‏

وعْنيكْ‏ ‏تشعلق‏ ‏كل‏ ‏مَادَى ‏وتنسى ‏طين‏ ‏الأرض‏: ‏مصر‏.‏

‏ – 2 –‏

دانا‏ ‏لما‏ ‏بابص‏ ‏جوا‏ ‏عيون‏ ‏الناس‏،‏

الناس‏ ‏من‏ ‏أيها‏ ‏جنس‏،‏

بالاقيها‏ ‏فْ‏ ‏كل‏ ‏بلاد‏ ‏الله‏ ‏لخلق‏ ‏الله‏.‏

وفْ‏ ‏كل‏ ‏كلام،. . ‏وف‏ ‏كل‏ ‏سكات‏.‏

وِذَا‏ ‏شفت‏ ‏الألم‏، ‏الحب‏، ‏الرفض‏، ‏الحزن‏ ‏الفرحه‏ْ ‏فى ‏عْيونهم‏.. ‏

يبقى ‏باشوف‏ ‏مصر‏.‏

وباشوفها‏ ‏أكتر‏ ‏لما‏ ‏بابصّ ‏جوايا‏.‏

والناس‏ ‏الحلوين‏ ‏اللى ‏عملوا‏ ‏حاجات‏ ‏للناس‏،‏

كانوا‏ ‏مصريين:

‏”‏كل‏ ‏واحد‏ ‏همُّه‏ ‏ناسُهْ‏، ‏

كل‏ ‏واحد‏ ‏ربـّه‏ ‏واحدْ‏، ‏

كل‏ ‏واحد‏ ‏حُـرّ‏ ‏بينا‏،

حُر لينا ‏

يبقى ‏مصرى‏”‏

 

‏ ‏تبقى ‏مصر‏ ‏بتاعتى ‏هى ‏الدنيا‏ ‏ديه‏ ‏كلها‏،‏

‏ ‏هى ‏وعد‏ ‏الغيب‏، ‏وكل‏ ‏الخـلـق‏، ‏والحركة‏ ‏اللى ‏تبني‏.‏

‏ = ‏لأ‏ ‏يا‏ ‏شيخ‏ !!‏؟‏ ‏

‏– ‏قلت‏ ‏اصـبّـر‏ ‏نفسى ‏برضه‏ ‏بكلمتين‏، ‏

‏[‏بس‏ ‏هـمّا‏،

بس‏ ‏صح‏،

 ‏يعنى ! ‏برضه‏ !!]‏

 –3–

توتا، ‏توتا،،‏

واهى ‏خلصت‏ ‏منى ‏الحدوته‏.‏

لو‏ ‏حلوه، ‏حاتقول‏ ‏غنوه‏:‏

‏”‏هوه‏ ‏دا‏ ‏يخلص‏ ‏من‏ ‏الله‏:‏

اللى ‏غمّض‏ ‏ماتْ ‏غبِى، ‏

واللى ‏شاف‏، ‏خاف‏ ‏واترعب‏،‏

مابـقـاش‏ ‏نَبِى

 

لو‏ ‏ملتوته‏،‏

حاتقول‏ ‏حدوته‏:‏

كان‏ ‏فيه‏ ‏زمان‏،‏

‏ ‏واحد‏ ‏رفض‏ ‏عيشة‏ ‏الهوان‏،‏

قال‏ ‏إيه‏ ‏وحاول‏ ‏يبقى “‏خلقـة‏ ‏ربنا‏”‏

مع‏ ‏إنه‏ ‏زَيـُّهْ‏ ‏زيـنا‏،‏

‏ ‏يعـنى: ‏بشر‏.‏

قالـو‏ ‏لـه‏ ‏حاسب‏ ‏مِــا‏ ‏لقْـدرْ، ‏

‏ ‏قام‏ ‏راح‏ ‏عاِملْــها‏، ‏وقال‏ :”‏فـَشَـرْ‏”

المحتوى

العنوان صفحة
الاهـداء 5
مقدمة 7
الفصل الأول

اللوحة السادسة عشر: قراءة فى عيون:

المعلم 

9الفصل الثانى

جمل المحامل 

65الفصل الثالث

الخلاص 

93الفصل الرابع

عن “ماهية الحياة” لدى المعالج فالمتعالج 

127الخاتمة161

[1] – ربما هذا هو ما عبّرت عنه قائلا: ‏”كل‏ ‏القلم‏ ‏ما‏ ‏اتقصف‏ ‏يطلعْ‏ لُـه‏ ‏سن‏ ‏جديدْ‏،”…الخ. (مقدمة ديوانى “أغوار النفس” بالعامية) الطبعة الثالثة 2017 منشوارت جمعية الطب النفسى التطورى.

[2] – يحيى الرخاوى الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى ، سنة  2000

[3] – يحيى الرخاوى “قراءة فى عيون الناس”  منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، سنة  2018

[4] – Intellectulized Introspection  

[5] – يمكن الرجوع إلى “مستويات الاشراف” نشرة الإنسان والتطور اليومية: (19-3-2013)، (24-3-2013)  www.rakhawy.net،

[6] – يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” – الترحال الثانى:” الموت والحنين” – الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى  سنة 2000.موجود بالموقع وفى طبعة ورقية بمكتبة الأنجلو المصرية ومستشفى دار المقطم للصحة النفسية.

[7] – أفضل استعمال كلمة المِعلِّم (بكسر الميم) إشارة إلى فكرة الصبى والمعلم في أي صنعة، وكثيرا ما أفخر حتى مع مرضاتى أنى “صنايعى” أكثر من اعتزازى بأنى طبيب، وأكثر طبعا من أننى “دُكـْتـُرْ”

[8] – يحيى الرخاوى: ديوان أغوار النفس، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2017

[9] – نشرة الإنسان والتطور اليومية: بتاريخ 5-1-2008 “الموت أزمة نمو”    www.rakhawy.net

[10] – يحيى الرخاوى: ثلاثية المشى على الصراط، الجزء الأول: “الواقعة”، ميريت، 2008، الجزء الثانى: “مدرسة العراة”، الحضارة للنشر، 2008، الجزء الثالث: “ملحمة الرحيل والعود”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الثانية، 2017

[11] – فريدريك بيرلز Frederick Perls  (8 يوليو 1893 – 14 مارس 1970(، هو ألماني. يعتبر صاحب نظرية الإرشاد والعلاج النفسي الجشطالتي (Gestalt therapy).

[12] – نشرة الإنسان والتطور اليومية  2-6-2009 “بعض معالم المناقشة”  www.rakhawy.net

[13] –  نشرة الإنسان والتطور اليومية 28-4-2009 “مستويات وتشكيلات “الحقيقة”، والعين الداخلية”  www.rakhawy.net

[14] – Consensual Validity

[15] –  يحيى الرخاوى:  ديوان “سر اللعبة” الطبعة الثالثة –  قصيدة “جبل الرحمات” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى،  2017.

[16] – يحيى الرخاوى “البيت الزجاجى والثعبان”، الطبعة الأولى 1983، قصيدة “الحاجة والقربان”،  الطبعة الثانية بعنوان: “من باريس للطائف (وبالعكس)”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2017

[17] – وقد صدرت طبعته الثالثة مؤخرا، ومازال هو الكتاب الأكثر قبولا من معظم الناس ربما لسلاسته ومباشرته

[18] – بعد ربع قرن كتبت الجزء الثالث من ثلاثية المشى على الصراط بعنوان “ملحمة الرحيل والعود” ونشر فى طبعة أولى عام 2007 الهيئة العامة للكتاب، ثم الطبعة الثانية 2017 منشورات جميعة الطب النفسى التطورى.

[19] – وقد اضطررت إلى سرد كل ذلك لأنها من ناحية جزء من سيرتى الشخصية، ومن ناحية أخرى قد تكشف عن موقفى مما يسمى جوائز الدولة، حتى أننى كدت أصدق المرحوم بهجت عثمان (أحد حرافيش نجييب محفوظ، عرفته مؤخرا)، أنه سوف يكتب فى تاريخ إنجازاته فخرا أنه لم ينل جائزة قط.

[20] – يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” – الترحال الثانى:” الموت والحنين” – الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى  سنة 2000.

[21] – من قصيدة “رقصة الكون” ديوان “سر اللعبة”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الثانية، 2018 ، وعلى الرغم من أن هذه القصيدة كانت بداية لوصف طور الهوس فروض الهوس الإكتئاب إلا أننى اقتطفت الجزء الأول منها قبل أن تطير الأفكار وتتسابق، وتتدفق الطاقة بلا إبداع ولا تشكيل أي قبل أن تصبح مرضاً صريحا.

[22] – يحيى الرخاوى: الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”، الفصل الثالث (ص 73 – 102)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى – سنة 2000.

[23] – هكذا أعايش المعنى التمثيلى النمائى للأحلام دون تفسير، أنظر “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول – المجلد الخامس-العدد الثانى. سنة 1985

[24] – Evolutionary Biorhythmic نظرية الكاتب

[25] – خاصة بعد رؤيتى الأخيرة للموت، 2008 – 2010، هو بداية أقوى وأعمق (نقلة الوعى – أزمة نمو)، نشرة الإنسان والتطور اليومية “الموت أزمة نمو”  2/12/2005   www.rakhawy.net

-[26] انظر مقتطف عن العلاج الجمعى (نشرة الإنسان والتطور اليومية 1-6-2010 “نصوص” و”ألعاب” من العلاج الجمعى “2”) والتأكيد به على ما هو “مَعَ”.    www.rakhawy.net

[27] – وهو الذى اسميته مؤخرا اسما أفضل وهو “الطور الكرّفرّى التوجسى” انظر نشرة الانسان والتطور اليومية بتاريخ 6/6/2016. www.rakhawy.net

[28] – يحيى الرخاوى: سلسلة فقه العلاقات البشرية (عبر ديوان “أغوار النفس”) الكتاب الثالث “قراءة فى عيون الناس”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى 2018

[29] – يحيى الرخاوى: سلسلة فقه العلاقات البشرية (عبر ديوان “أغوار النفس”) الكتاب الثالث “قراءة فى عيون الناس”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى 2018

[30]  – يمكن الرجوع إلى القصيدة كلها مع الشرح على المتن وهى بعنوان “جبل الرحمات”،”الطفل العملاق الطيب”. (دراسة فى علم السيكوباثولوجى)، منشورات جمعية الطب التطورى، 1979، من ص 521 إلى 613 (72 صفحة). والطبعة الثانية من ديوان “سر اللعبة” منشورات جمعية الطب التطورى 2017.

[31]– يحيى الرخاوى: قصيدة “النورس العجوز” من الديوان الأول: “ضفائر الظلام واللهب” من ثلاثة دواوين:”ضفائر الظلام واللهب – شظايا المرايا- دورات وشطحات ومقامات”، منشورات جمعية الطب التطورى، 2018.

[32] – يحيى الرخاوى ” قراءة فى النفس البشرية (من واقع ثقافتنا الشعبية)” (ص 87)  منشورات جمعية الطب النفسى التطورى- 2017

[33]  – الفرق بين a diet & ou revoin

[34]  – يمكنك الرجوع إلى أطروحتى عن الزمن “‏إشكالة‏ ‏الزمن‏: ‏فى ‏الحياة، ‏والمرض‏ ‏النفسى‏، ‏والعلاج‏ ‏الجمعى” عدد أبريل/سبتمبر 1988 مجلة الإنسان والتطور. www.rakhawy.net

[35] – يحيى الرخاوى: أرجوزة “الخوف” من أغانى مصرية: “عن الفطرة البشرية للأطفالóالكبار (وبالعكس)” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2017،

[36] – يحيى الرخاوى: “رسالة من دون كيشوت إلى إخوان أبى لهب” ديوان “سر اللعبة” (الطبعة الأولى فقط) و”دراسة فى علم السيكوباثولوجى” ص 863  منشورات جمعية الطب النفسى التطورى.

[37] – انظر هامش رقم (36)                                       

[38] – أنظر هامش رقم (6)

[39] – أنصح القارئ بقراءة ذلك الفصل فى الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال، وهو يحتوى هذه القصيدة ضمنا، كما يحتوى نقدى لنهايتها مما سوف أورده هنا أيضا.

[40]نشرة الإنسان والتطور اليوميةطقوس “السُّبُوعْ”، وجدلية الانفصال/الاتصال” 22/1/2008

www.rakhawy.net

[41]– هذا التعدد يصل فى نظريات تطورية إلى كل العقول السابقة للعقل البشرى، أنظر “أنواع العقول” نشرة الإنسان والتطور اليومية : (25- 12- 2007، 2-1-2008) www.rakhawy.net  وأيضا يمكن التعبير عنه بمستويات الوعى أو حالات العقل فى منظومات علمية نيوروبيولوجية أخرى

[42] – مرة أخرى: المقصود طبعا: لسان حال الأم، فنحن فى منطقة التركيب البشرى الغائر.

[43] – نشرة الإنسان والتطور اليومية: “الخطوط العريضة للفرض الأساسى لنقد رواية “العطر” بتاريخ 8/12/2007    ww.rakhawy.net

[44] – يحيى الرخاوى الترحال الثالث “ذكر ما لا ينقال” الفصل الثالث “أمى” منشورات جمعية الطب التطورى  سنة 2000، ص 95

[45]–  كررت أن هذا كان ضمن نعى أدونيس لصلاح عبد الصبور.

[46]–  لعل أقرب ما كتبت شعرا هو ما نشر بعنوان “مقامات الرخاوى” في نشرات الإنسان والتطور اليومية: (23/3/2009، 23/2/2009، 12/1/2009)،  www.rakhawy.net وهو ما أعده حاليا للنشر المكتوب مجتمعا مع موجه النشر الأخيرة.

[47] –  ديوان “دوائر وشطحات ومقامات” تحت الطبع

[48] –  ديوان “دوائر وشطحات ومقامات” تحت الطبع

[49] –  وإن كان جارى نشره الآن فى مرحلة “النشر الورقى” التى أعيشها حاليا 2018.

[50]  –  سليم عمار: “ألفيّة مكرّرة في الأمراض النفسية المعتبرة” (أرجوزة في 3500 بيت)، تونس 1992.

[51] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 1979

[52] – وهم ما أنوى أن أصدره مستقلا كجزء ثان من هذه المكاشفات غالبا إذا سمح العمر.

[53] – لتظهر شرحه – للأسف – فى أربع كتب متتالية تحت ما أسميته “فقه العلاقات البشرية” هذا الكتاب هو رابعها.

[54] – ما يقابل الأمراضية (السيكوباثولوجى) فى حالة المرض.

[55]– مجلة فصول: “لإيقاع‏ ‏الحيوى ‏ونبض‏ ‏الإبداع”، المجلد‏ ‏الخامس‏: ‏العدد‏ ‏الثانى ‏يناير‏/فبراير‏/‏مارس‏  1985‏

[56]– ثمَّ نزوعٌ حيوى تلقائى (غريزى) للتناسق بين هارمونية الكائن الحى الذاتية وبين دوائر أوسع فأوسع من الهارمونية المحيطة الممتدة إلى الوجود الأوسع/ الكون/الأعظم المفتوح النهاية إلى ما لا نعرف (الغيب)، إن‏ ‏هذه‏ ‏الغريزة‏ ‏الأولية‏ مثلها مثل‏ ‏الجنس‏ ‏والعدوان‏، ‏ليست‏ ‏خاصة‏ ‏بالجنس‏ ‏البشرى، ‏بل‏ ‏إنها‏ ‏أكثر‏ ‏عالمية‏ ‏وأقدم‏ ‏تاريخية، ‏وهى -‏غير‏ ‏الجنس‏ ‏والعدوان‏- ‏قد‏ ‏يتعدى ‏حضورها‏ ‏العالم‏ ‏الحيوانى ‏إلى ‏عالم‏ ‏النبات‏ ‏أيضا التفاصيل فى أطروحة “الغريزة التوازنية الإيمانية” نشرت فى مجلة سطور ، عدد يوليو 2004 ،  قراءة فى الفطرة البشرية الأسس البيولوجية للدين والايمان، www.rakhawy.net

[57] – أنظر الفصل التالى

[58]– أنظر الفصل الرابع‏ “عن “ماهية الحياة” لدى المعالج فالمتعالج”

[59] – وطبعا أكون ساعتها حذر أن يصله السؤال “إما أن تحيا أو تنتحر” وأنا أتذكر أغنية  ثريا حلمى فى الأربعينيات “ياللى الحالة تعباك: الدنيا لسه بخيرها، وان كانت ماهيش عاجباك ما تسيبها و تشوف غيرها مادام بتنكر خيرها

[60] – مرة أخرى واحد فى الألف من كل الأحياء هو الذى نجح فى هذا الامتحان.

[61]– وليس فقط “اللاشعور الجمعى” الذى قال به يونج Collective Unconsciousness.

[62] – الاستعارة من رباعيات صلاح جاهين:

غمض عينيك وارقص بخفة ودلع

الدنيا هىّ الشابّة وأنت الجدع

تشوف رشاقة خطوتك تعبدك

لكن أنت لو بصيت لرجليك .. تقع

[63] – قصيدة “خوف”  من ديوان  “شظايا المرايا” تحت الطبع

[64] – قصيدة “خوف”  من ديوان  “شظايا المرايا” تحت الطبع

[65] – الجزء الأول من ثلاثية المشى على الصراط، وهو باسم الواقعة ، الطبعة الأولى 1977 ، الطبعة الثانية 2008، الرواية حائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980

[66] – المقاعد هنا لا تعنى الكراسى التى نجلس عليها، ولكنها تشير إلى حجرة فى بيوت الفلاحين فى بلدنا لاستقبال مجالس الائتناس والشاى، وأحيانا تعنى حجرة المقعد حجرة أعلى المنزل لنفس الغرض، وربما كان تحديد اسم “المقعد” لمجرد نفس أنها حجرة للنوم.

[67] – وقفت بين شطين على قنطرة

الصدق فين والكذب فين يا ترى

محتار حاموت، الحوت طلع لى وقال:

هوَّ الكلام يتقاس بالمسطره

[68] –  يحيى الرخاوى: الاهرام: 11/12/1999 “فى ‏عيد‏ ‏ميلاده‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ : ‏جوائز‏ ‏وجوائز”

[69] – النقد المقارن بين ابن فطومه وكويلهوا، دورية محفوظ ثم كتابى دراسات نقدية أحدث فى نجيب محفوظ، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى 2017.

[70] – وقد أشرت إلى بعض تفاصيل ذلك فى الفصل السابق

[71] – من أحدث العلوم المعاصرة علم الشواش Chaos Science وهو يدرس قوانين الصدفة والشواش…الخ

[72]– نشرة الإنسان والتطور اليومية: ظاهرة التناص بين البشر، نشرتا 13-7-2010، 20-7-2010.

صار مفهوم التناصّ هو أصل كل الإبداع تقريبا وراح النقاد يتكلمون عن حتمية التناصّ إزاء كل نص، لدرجة القول الجامع الذى يقول: “إن كل نص هو تناصّ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *