نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28-10-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5901
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(4) [1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الرابع:
“قراءة فى نقد النص البشرى.. للمُعـَالِج”
الفصل الأول:
اللوحة السادسة عشر: قراءة فى عيون:
المِعــلـِّم (4)
…………………..
…………………..
هيا نواصل ونرى كيف يرى نفسه:
(5)
وساعات أشوفنى حكيم وعمرى ألف عام.
شايف تمام عارف تمام.
كل اللى راح، واللى احنا فيه،
واللى حاييجى بدون أوان.
كنت دائما أعرف أن هذه اللحظات الباهرة الخطرة، من المعرفة الكاملة المحيطة ينبغى أن توضع فى مكانها، وإلا توقـَّف النمو، وأُضِيرَ الجميع، وأولهم أنا.
مسئولية المعرفة تحتد حين نواصل المعرفة، لكن حين نتصور، لأى سبب من الأسباب (حقيقة نسبية، أم غرورا، أم جنونا، أم جهلا) أننا قد عرفنا كل شىء، فمعنى ذلك أنه لم يعد ثمَّ معنى لوجودنا بشرا، من أقبح ما قرأت للمتنبى، بيته المشهور:
وعلمتُ حتى لا أُسائِلَ واحداً عن علمِ واحدةٍ لكي أزدادَها
وعلى النقيض من ذلك فكما علّمنا مولانا النفّرى فإن فضل “الجهل، الذى ليس ضده العلم”، هو مفتاح المعرفة الممتدة، عرفت ذلك من مرضاى، ومن كل مصادر الإبداع والعلوم الأحدث.
لكننى أعرف من خلال مرضاى أيضا، وأحيانا من خلال خبرات عابرة سريعة، أن هناك يقينا آخر، ليس يقينا بوفرة المعلومات حتى الإلمام بكل العلوم كما زعم المتنبى، أو كما أتصور أنا حجم معلومات أبى العلاء المعرى، وإنما هو يقين معرفة تعلن التماهى بين أصغر مكوناتنا (الدنا) وأوسع مجالات الوعى الكونى إلى الحق تبارك وتعالى، هذه لحظات يقين تلغى الزمن لتحتويه، دون إنكار، وتشمل الكون لتمثله، دون انمحاء، وهى فى حضورها الإيجابى: نقطة عودة إلى التفاصيل على أرض الواقع، أما فى تشوّهِها السلبى، فهى نقطة توقف عند اللاشىء، على أنه كل شىء.
مع احترامى لكل ما تعلمته من المرضى، فإن أغلب خبراتهم فيما يمكن أن يسمى “المعرفة الكلية اليقينية” هى خبرات سلبية تشمل العالم ولكن لا لتحتويه، وإنما لتمحوه فى الذات وليس العكس، وقد وصفت احتمال المآل السلبى لهذه الخبرات الرائعة بما خطر لى فى قصيدة “رقصة الكون” فى ديوانى “سراللعبة” من حيث أنها لا أمان لها إن لم يحتوها جدل مسئول يفرز تشكيلا قادرا ناميا فى الذات أو خارجها:
وعرفت يقيناً أن المعرفة الحقة،
هى فى المعرفة الحقة،
دون دليل أو برهان
إلى أن قلت:
لِمَ أشْرقَ فى نوركْ؟
فانطمس العالم إلاىْ
نفس هذه اللحظة قد تكون هى لحظة التقاء الأجزاء المتناثرة فى توجـُّهٍ ضاٍّم نحو تجـَمـُّع يقين الإشراق، إلى المطلق الممتد، بالإبداع الممكن، أكملتُ قائلا:
فى ذاك اليوم: رقصت حبات الرمل، وتعانق ورق الأشجار،
وسرت قطرات الحب.. من طين الأرض إلى غصن الوردة،
وتفتحت الأزهار،. فى داخل قلبى، فى قلب الكون.
وارتفع الحاجز بين كيانى والأكوان العليا
.. أصبحتُ قديما حتى لا شئ قديم قبلى،
وامتد وجودى فى افاق المستقبل،
دون نهاية
فعرفت الله،
وعرفت الأصل وأصل الأصل([2])
لا أدعى أننى رأيت نفسى فى تلك اللحظات كثيرا أو طويلا، لكننى أزعم أننى حين أقترب منها، أو تقترب منى أخاف، وأزيحها جانبا، وأنزل بسرعة إلى أرض الواقع، أبحث عن “جهلى” أحتمى به، وعن “الآخر” أدفع به تألها مشوِّها.
نعم كنت أرانى معرضا لهذا الاحتمال أحيانا، وهذا قريب من بعض ما جاء فى مقدمة هذه القصيدة، فأنتبه بسرعة، وأعود فرحا “بعاديـّتى” و”جهلى” كما ذكرت.
ثم تتواصل محاولة رؤيتى ذاتى من بعد آخر عـَبـْر جدلى مع والدى فى نفس القصيدة “المعلم” فى ديوان “أغوار النفسى” كالتالى:
(6)
وساعات أشوفنى أبويا صُحْ.
بس الزيادة إنى لابس بدله وارطن باللسان،
وأقول كلام : قال إيه لصالح البشر،
وللتاريخ !!
لكنه الله يرحمه:
كان يعبد اللوزة وطين الأرض والورد الطويل،
مزيكته كانت مكنة الرى تغنى تحت جميزه كبيرة مضللة،
واسأل فى نفسى:
أنهو اللى أصلح للتاريخ ؟
الكلمه، والحب السعيد، فى أوده ضلمة منعكشه؟
أو لوزه حلوه مفتحه؟؟
علاقتى بأبى علاقة طويلة شائكة رائعة، كتبت فى ترحالاتى فصلا كاملا عن “أمى“([3]) لكننى لم أفرد فصلا لأبى، أحسن!! ما زال أبى ياتينى فى أحلامى حتى هذه السن، وكلما حضر واستيقظت سألت نفسى: ألم أتمثله تماما بعد؟ لماذا يظل أبى يشغل داخلى هكذا مستقلا حتى الآن بما يتيح له أن يحضر فى عالمى الآخر من جديد([4])
هذه اللقطة تبدأ بالتنبيه إلى أن جدل “الابن – الأب”، يبدأ بالاعتراف بالتقمص
“وساعات أشوفنى أبويا صُح”
وبالتالى يمكن أن تتراجع تلك المعركة الوهمية التى تبالغ فى التركيز عليها الثقافة الغربية، بما أتصور معه أنه أمر معطل للنمو الفردى والتطور حيث تبدو السلطة (ممثلة فى الأب) كأنها إعاقة للتطور على طول الحظ.
فى خبرتى (وفى رأى إريك بيرن كذلك) أن التصالح مع الوالد (الداخلى بالذات = الذات الوالدية Parent ego state) هى من أهم ما يـُـطـِـلقُ قدرات النمو والتكامل. التصالح لا يعنى الاستسلام، ومن لا يرى والديه فى نفسه، فيقبلهما ويتخطاهما إذْ يستوعبهما بعد أن يصالحهما، فقد يمضى سائر عمره فى معركة بين ذواته لا تنتهى. “التصالح” وارد كمرحلة قبل “الاستيعاب” حتى “التمثيل“، بما يقابل التمثيل الغذائى قياسا حين تنقلب المادة الغذائية إلى جزء لا يتجزأ من نسيج الجسم الحيوى، فى نظريتى: “النظرية الايقاعية التطورية”([5])، ومن خلال جدل النمو يتحول “الأب المُدخل” إلى جزء من نسيج المعلومات البيولوجى، فهو النمو المتمادى.
فى العلاج النفسى: المعالج والد، خصوصا فى ثقافتنا، والأمر لا يحتاج إلى تصوير العلاقة العلاجية على أنها إعادة، أو تكرار، أو استعادة علاقة والدية قديمة وهو ما يسميه التحليل النفسى التقليدى “طرح” المشاعر السابقة على المعالج، وإنما هى علاقة نمائية طبيعية تتجدد، وتتكرر، مع اختلافات فى التفاصيل والمآل، مع كل أزمة نمو، بل ومع كل نبضة إيقاع حيوى، وعلى قدر قبول المعالج لدور الأب، ثم قدرته على التخلى عن هذا الدور لصالح نمو المريض، وقدرة المريض على قبول الاعتمادية الإيجابية المتبادلة (وليست الرضيعية) مرحليا، يكون التقدم على مسار العلاج، بعد قبول التماثل مع الوالد (أشوفنى أبويا صُحْ) يبدأ تبين الاختلافات الضرورية لصالح النمو دون تكرار النص الوالدى حرفيا.
كانت لوالدى علاقة خاصة جدا بالطبيعة، بخيوط الفجر، بهسهسة الليل، بلوزة القطن المتفتحة، وأيضا بلوزة القطن “المبندقة” (المغلقة كالبندقة)، بصوت “الحلزونة” وهى تدور، بأنفاس خفير الحظيرة وهو نائم يحرسها.
كان يُعبد اللوزْة وطين الأرض والوِرد الطويل،
كان يستطيع أن يميز صوت مكنة الرى مـِـلـْـكـِـنا بالذات، كان يميزها من بين سائر الماكينات على بعد عدة كيلومترات، كان يسمع خبطاتها وهو جالس فى شرفة “الدور الثالث” فى بيتنا بالقرية، وهو يردد ورده بعد قيام الليل.
استيقظت – طفلا – ذات ليلة، وأثناء مرورى بالردهة إلى دورة المياه، نادانى والدى من الشرفة حيث كان جالسا يتهجد، وكلفنى أن أنادى الغفير من الحظيرة ليكلفه أن يذهب إلى الحقل البعيد (العورة) حيث كان والدى يعلم أننا نروى أرضنا تلك الليلة “بالمكنة” هناك، وحين سألته لماذا؟ قال لى لأنه لم يعد يسمع صوت ماكينتنا، ويريد أن يرسله ليطمئنه، توقفت، فأرهفتُ السمع، وسمعت أصوات مكائن كثيرة، فأخبرته أن ثمة أصوات لماكينات كثيرة تأتى من نفس اتجاه حقلنا المعنى، فقال لى إنه ليس من بينها مكنتنا، فهو يعرف صوتها، أيقظت الخفير، وذهب، واستفسرت منه فى الصباح، وصدق أبى، وصلتنى هذه الذكرى الغامضة فخرج هذا البيت من الشعر:
مزيكته كانت مكنة الرى تغنى تحت جميزه كبيرة مضللة،
كانت روح والدى (توفى 1968) تحضرنى (يحضرنا) أحيانا ونحن نمارس هذه الخبرة التى أفرزت هذا الديوان “أغوار النفس” (1978) ومن ثم هذا الشرح “فقه العلاقات البشرية”، كان يحضرنا ونحن نسرح بخيالنا متصورين أن اجتماعاتنا تلك سوف تطلق قدراتنا معا، وبالتالى سوف تمكننا من إصلاح الكون وهداية البشر وإبلاغ رسالة الوجود، شعرا، أو طِبٌّا، أو فلسفة، أو بالعلم الجديد، أو بالفن الجميل، كان يحضرنى فقط: لا محتجا، ولا رافضا، وكنت أعتذر له حيث لا يراه غيرى طبعا، وأقارن بين ما نفعل جلوسا نتبادل ما تيسر، وبين علاقته الوثيقة بالطين، والزرع، واللغة، والله.
واسأل فى نفسى:
أنهو اللى أصلح للتاريخ؟
الكلمه، والحب السعيد، فى أوده ضلمة منعكشه؟
أو لوزه حلوه مفتّحه؟؟
علاقة هذه الفقرة بالعلاج النفسى هى أنها ربما تنفى الإشاعة القائلة “إنه علاج بالكلام”، صحيح أن الكلام هو الوسيلة الأولى للتواصل فى العلاج وغير العلاج، لكن ينبغى أن يظل الكلام مجرد “حامل رسالة” لابد أن تُختبر على أرض الواقع وفى نبض العلاقات، الكلام، فى العلاج النفسى وغيره، إن لم يستوعبه فعل الواقع: فى شكل العمل والعلاقات خارج إطار العلاج والإنتاج اليومى البسيط، وغير البسيط، واستعادة حيوية نبض الإيقاع الحيوى، يمكن أن يؤدى إلى عقلنة معيقة Intellectualization، أو حتى إلى لفظنة مغتربة Verbalism.
التطور كله، قبل ظهور الكائن البشرى العاقل Homo Sapiens (الناطق) تم بدون كلام، فإذا جاءت هذه الإضافات (الكلام، والوعى بالوعى، والعقل المنطقى) لتضيف إلى مسيرة التطور إمكانيات التخطيط، والتنظيم، واقتصاديات الوقت، والتكافل: فبها ونعمت، أما إذا حلت محل قوانين التطور الطبيعية الأسبق حتى تضمر، فهى معيقة إعاقة قد تصل إلى التهديد بالانقراض. (ولهذا حديث آخر).
(7)
وساعات أشوفنى طفل، طفل،
إنتو نسيتوه،
واهله سابوه،
ولا هوّا قادر يبقى أبوه،
ولا انْتو قادرين تلحقوه،
يا ناس ياهوه:
يا تلحقوه،.،
يا تموّتوه.
ثم بدا لى وأنا انظر فى نفسى أنه وراء كل هذه الشطارة، والحكمة، والحذق، والصدق، والمحاولة، والتجربة، والخطأ، والدهشة، والرفض، والأبوّه، والاحتمالية، بدا لى أنه وراء كل ذلك: يكمن كيان صغير ضعيف بريء، لا قوة له حالا، إلا أنه يملك كل قوى الحياة المتمثله فى الوعد القادر!
حين نظر “المعلم” فى نفسه لمح ذلك الكيان وهو يحاول الظهور وسط كل هذه الزحمة، ولا أحد فى الداخل أو الخارج منتبه إلى وجوده أو معترف به
“انتو نسيتوه”.
نادرا ما تهف نسمات شوق إلى أمانٍ آخر للحظات، وما أن تصل رؤيتى لذاتى إلى هذه المنطقة الأصلية فى الوجود البشرى، وهى تصلنى أيضا من بعض من يحبنى حين يرى هذا الطفل “هكذا”: أستطيع أن أرى طفلى وراء كل ما سبق يقظا منتظرا، لكن عادة لا يدرى به أحدٌ وسط مظاهر القوة والنجاح والشطارة، وهو لا يقبل – ولم يعد يستطيع – أن يكرر وجودا قديما معاداً.
“ولا هو قادر يبقى أبوه”!
كان يبدو لى أحيانا أنه لا مغيث، مادام هذا الجانب من وجودى غير مرئى، وما أشق هذا!
وحين يبلغ الألم أقصاه يكاد هذا الطفل يتمنى الموت إن لم يدرك أحد وجوده بما هو، وكان الجوع يحتد أكثر حين ينتظر المعلم بعض ذلك من أحد الذين أعطاهم ما عنده، فهو يأمل أن يقدر بعضهم على الاعتراف بهذا الطفل يوما، ربما ليواصل متكاملا إلى خطوات نموه الثابته القادرة المطمئنة بالفعل المتجدد.
وحين يحتد الألم، أكثر فأكثر يستغيث:
يا تلحقوه، يا تموّتوهْ
لست متأكدا من مدى جدية هذه الاستغاثة، صحيح أن ألم الإنكار أو التنكر لا يطاق، لكننى لا أحسب أننى تمنيت أيه نهاية لأية بداية بشكل حقيقى، ذلك أننى على يقين أنه لا توجد نهاية لأية حياة حقيقية، يبدو أن الحياة كلها بدايات، بل إن الموت([6]) هذه الصرخة “ياتموّتوه” انطلقت قبل بصيرتى فى الموت وأنه نقلة وعى، وأزمة نمو، فهل يا ترى كان وراءها فرض ببعث محتمل؟
أما بالنسبة لعلاقة كل ذلك بالعلاج النفسى فأنا لا أستطيع أن أجزم أين موقع طفلى هذا بالنسبة للمريض؟
فى ثقافتنا، وهو ما يجرى على لسانى كثيرا جدا، أن “الطبيب والد” بما يستتبع ذلك التأكيد على السماح للمريض بمرحلة من “الاعتمادية الرشيدة”، وهذا غير الوسواس اللحوح على استقلالية الذات، وإثباتها، وتفرّدها طول الوقت (وهو الغالب فى الغرب).
فما هو دور “طفل المعالج” فى العلاج؟
العلاج “شراكة” و“مواكبة” بقدر ما هو “رعاية” و“مسئولية“، والعلاج الذى أمارسه وأدعو له هو محاولة استعادة حقنا فى مواصلة النمو، والطفل – فينا – هو الأحق بذلك، وهو لا يواصل النمو السليم على حساب سائر الكيانات المكوّنة للذات البشرية، وإنما هو يفعل ذلك من واقع الجدل الحيوى مع سائر الكيانات (الذوات) فى النفس الإنسانية.
هذا العلاج النمائى يتطلب استيعاب المريض من جانب المعالج “بكل ما هو”، فهو يشمل قدرا غير قليل من التقمص، بقدر ما يتطلب قدرا مناسبا من الفهم والمنطق.
المريض يحضر للعلاج عادة بطفله – الداخلى – مهزوما أو مشوها، أو طفيليا أو معاقا، والعلاج يحتاج أن ينطلق من محاولة تصحيح كل ذلك أو أغلب ذلك، لإطلاق خطوات النمو من جديد، ولا يتم هذا من خلال سماح السلطة الأبوية (الطبيب الوالد) أو قدرتها على الرعاية والحماية فحسب، وإنما يتواصل من عمق آخر – يا حبذا فى نفس الوقت – من خلال المشاركة والمواكبة والمعية([7])، وهذا قد يحتاج – كما أفترض – إلى تحريك “طفل المعالج” فعلا.
ثم إن المعالج – المفروض يعنى – تتاح له نفس الفرصة للنمو بكل ما هو، وهذا ما يـُطـَمـْئِنُ المريض إلى أنه وَجَـدَ والدا (طفلا) من نوع جديد، يسير “معه” بقدر ما يحيط “به”.
فإذا عدتُ بعد هذا التصور الفرضى المبدئى أراجع حقيقة ما هو طفلى الخاص، الذى قفز منى فى هذا المتن هكذا، فإننى أحتاج إلى إعلان الاعتراف بما جاء فى النص وأكثر، فهى فرصة أن أراجع صداقتى للأطفال (حتى الثامنة عادة وأصغر) لأجد أننى أصاحبهم سنّا بسن، فأعيد اكتشاف حضور طفلى وحيويته.
وإليكم عينة من حادث عابر:
كنت أحدث زوجتى فى الهاتف، وإذا بصغرى حفيداتى (4سنوات) تطلب منها أن تحدثنى “عايزة أكلم جِدّى” وفرحت، وشكرتها، وأعدت عليها عرض حبى لها: إنتى عارفة يا “نور” أنا باحبك قد إيه” قالت: “عارفة”، قلت: “وأنتِ؟” قالت: “أنا ما بابحبكشى” قلت: “طيب ليه طلبتى تكلمينى فى التليفون بقى؟” قالت: “كده” قلت: “طيب ليه مابتحبنيش” قالت: أنا باحب “أمى بس” (تعنى جدتها، فهى تناديها بـ “أمى”، مثلما يفعل أبوها وسائر أبنائى وبناتى فهم لا يقولون “بابا” و”ماما” وإنما أمى وأبويا) قلت لها: “طز فيكى” قالت لى: طيب.
بعد يومين وجدتها مساءً عند جدتها وبجوارها عمتها (ابنتى “منى” التى لم تكبر داخلى أبدا فهى فى عمر نور طول الوقت) قلت لها: “لسه مابتحبنيش” يا نور قالت: “أيوه” قلت: “لكن أنا باحبك برضه” قالت: “وأنا ما باحبكش”، وكان وجهها يشرق بالبهجة برغم ذلك، قلت لها: “ولو، حافضل أحبك برضه”، قالت: “وأنا حافضل ماحبكش”، قلت لها: “أما نشوف مين اللى حايغلب”.
ثم بعد فترة صمت قالت لى: “جدى، إنت ليه ما قلتش أنا زعلان منِّك عشان ما بتحبنيش” قلت لها: هوه انتى عايزانى أقول لك أنا زعلان منك ليه”؟ قالت لى فوراً: “عشان أقولك لك “إزعل”، وضحكتْ، وضحكتُ، وأخذتها فى حضنى وأحسست أنها أيضا تأخذنى فى حضنها، وكان موعد نومى قد أزف فقلت: “أنا رايح أنام تعالى غطّينى” فتبعتنى دون تردد، ونمتُ وجذبتُ الغطاء على جسدى فأكملتْ “نور” حبكته حول كتفىّ، وكأنى عروستها اللعبة، ثم انصرفتْ دون أن تقبلّنى!!
(فضلت أن أعرض هذا الحدث بأقل قدر من التعليق لعل هذا الطفل الذى ظهر فى صحبة “نور”، يظهر نشطا حاضرا قريبا، وهو يقوم بدورٍ ما فى العلاج دون أن يعلن وجوده لا ظاهرا ولا مستقلا، نحن نعالج المرضى بما هو “نحن” “كل ما هو نحن”، وحين يتعرف المعالج على هذا الجانب من وجوده (دون حاجة إلى تسميته طفلا أو خلافه) يستطيع مطمئنا أن يمارس سلطة أبوته بثقة أكبر، وكلا النشاطين يصلان معاً إلى المريض، فهو العلاج.
ثم يعود “المعلم” يكتشف جانبا آخر من وجوده يبدو عكس ذلك تماما حين يقول المتن:
(9)
وساعات أشوفنى وحش كاسر.
إلـلى يخالف أدبحه من غير فصال.
ولا أقبل المنطق ولا أقبل جدال.
وأشك فى النـِّسمهْ، وفى الوردهْ، وفى الطفل الرضيعْ،
لو مـَيـِّلـُوا كده أو كده،
أحسن يكونوا بيعملوا خطة متينهْ مُحكمهْ ضد “الحياه” !!
وكأنها معمولهْ مخصوص لجْل خاطرى،
” تبقى المؤامرة عليها ضدى”!!،
وكأنى مبعوث العناية، منقذ البشرية فى مركب تخاريفى
اللى راح ترحم: عزيزى “إبن آدم” مالطوفان!!!!.
……………………
…………………..
ونواصل الأسبوع القادم لاستكمال ما تبقى من قراءة اللوحة السادسة عشر “المعلم”
ـــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (4) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج“، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – من قصيدة “رقصة الكون” ديوان “سر اللعبة”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الثانية، 2018 ، وعلى الرغم من أن هذه القصيدة كانت بداية لوصف طور الهوس فروض الهوس الإكتئاب إلا أننى اقتطفت الجزء الأول منها قبل أن تطير الأفكار وتتسابق، وتتدفق الطاقة بلا إبداع ولا تشكيل أي قبل أن تصبح مرضاً صريحا.
[3] – يحيى الرخاوى: الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”، الفصل الثالث (ص 73 – 102)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى – سنة 2000.
[4] – هكذا أعايش المعنى التمثيلى النمائى للأحلام دون تفسير، أنظر “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول – المجلد الخامس-العدد الثانى. سنة 1985
[5] – Evolutionary Biorhythmic نظرية الكاتب
[6] – خاصة بعد رؤيتى الأخيرة للموت، 2008 – 2010، هو بداية أقوى وأعمق (نقلة الوعى – أزمة نمو)، نشرة الإنسان والتطور اليومية “الموت أزمة نمو” 2/12/2005 www.rakhawy.net
-[7] انظر مقتطف عن العلاج الجمعى (نشرة الإنسان والتطور اليومية 1-6-2010 “نصوص” و”ألعاب” من العلاج الجمعى “2”) والتأكيد به على ما هو “مَعَ”. www.rakhawy.net