الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: “”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”” اللوحة السادسة عشرة “المِعــلـِّم “(2)

“فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: “”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”” اللوحة السادسة عشرة “المِعــلـِّم “(2)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 14-10-2023

السنة السابعة عشر

العدد: 5887

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(4) [1] 

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الرابع:

“قراءة فى نقد النص البشرى.. للمُعـَالِج”

الفصل الأول:  

 اللوحة السادسة عشر: قراءة فى عيون:

المِعــلـِّم (2)

……………………

…………………..

فيبدأ هو شخصيا البحث عن جواب وفى عينيه “كلام كثير” وتنتقل السيرة إلى مواجهة الذات في صورة أسئلة متلاحقة وفروض متولدّة، واحتمالات متعددة:

(3)

 ‏يا‏ ‏هلترى ‏عمال‏ ‏باشوف‏ ‏الناس‏ ‏عشان‏ ‏أهرب ‏‏ما‏ ‏شوفشى ‏مين‏ ‏أنا‏؟ ‏ ‏

ولا‏ ‏باشوفـْنـِى ‏الناس‏؟‏؟

نـِفـْسى ‏أشوفْنِى ‏من‏ ‏بعيد

من‏ ‏تحت‏ ‏جلدي‏. ‏

من‏ ‏وسط‏ ‏قضبان‏ ‏الحديد‏. ‏

من‏ ‏غير‏ ‏كلام‏ ‏ولا‏ ‏سلام‏.‏

أحيانا‏ ‏تكون‏ ‏رؤية‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى – ‏والفنان‏ وربما أى مبدع  – ‏للآخرين‏،‏ ‏ثم تصنيفهم‏ ‏وحتى ‏علاجهم‏ ‏ونقدهم، ‏وتصويرهم‏، ‏هى ‏مهرب‏ ‏من‏ ‏رؤيته‏ ‏ذاته‏، ليس بمعنى الاستبطان كما أشرنا مرارا، وإنما بمعنى البصيرة كما تمنينا، ‏وإذا‏ ‏لم‏ ‏يمارس‏ ‏الطبيب‏ ‏رحلة‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏نفسه‏، ‏وبالعكس،‏ ‏فإنه‏ ‏خليق‏ ‏أن‏ ‏يكتشف، ولو لاحقا‏ ‏إعاقة‏ ‏نموه‏ ‏هو‏ ‏شخصيا،‏‏ ثم إنه حين‏ ‏يرى ‏نفسه‏ ‏فى الناس دون نفسه فإنه لا يرى نفسه،‏ ‏أو‏ ‏كما‏ ‏قال‏ ‏لى ‏أحد‏ ‏الأصدقاء (المرضى)‏ ‏مرة‏: “‏أنا‏ ‏لست‏ ‏امتدادك‏ ‏الجغرافى‏”.. ‏فأيقظنى ‏على يقظتى، (‏علما بأن‏ ‏هذا‏ ‏الصديق‏ ‏قال‏ ‏هذا‏ ‏التعليق‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏كنت قد‏ ‏كتبت‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ ‏بسنوات‏) ‏وفى ‏محاولة‏ ‏الرؤية‏ ‏الصادقة، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يقف‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏نفسه‏ ‏موقفا‏ ‏تجاوزيا‏ (‏من‏ ‏بعيد‏)، حتى ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يحكم،‏ ‏على ‏ماهية‏ ‏وجوده‏، ‏ومن ثمَّ يعدل‏ ‏من‏ ‏مسيرته‏ ‏باستمرار‏ ما أمكن ذلك.

“نِفْسى ‏أشوفنى ‏من‏ ‏بعيد”

‏ هذا المستوى من ‏الرؤية‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏تقييم‏ ‏للسلوك‏، ‏ولكنه – ‏حتى ‏ينفع‏ – ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏رؤية‏ تقترب من ‏حقيقة‏ ‏الوجود‏، أو بعض ذلك على الأقل، وهى تحتاج أن نبتعد ونقترب مما نريد أن نراه، فما بالك برؤية الذات، الرؤية هنا استلزمت هذه النقلة إلى مدى – على مسافة- يسمح أن يكتمل المنظر.

“نـِفـْسـِى أشوفـْنـِى من بعيد: من تحت جلدى”

‏لامفر من مغامرة ‏الغوص‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏تحت‏ ‏السطح‏ ‏بصدق‏ ‏ومعاناة، ومرة أخرى أؤكد أن هذه ليست محاولة استبطان (Introspection)، وأيضا يحتاج الأمر إلى التخلص من سجن تقديس المهنة وجاهزية الأحكام المسبقة:

“مـِـن‏ ‏وِسط‏ ‏قضبان‏ ‏الحديد‏”

قيود‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏الظاهرة‏ ‏كثيرة‏ ‏وصعبة‏، ‏ومنها تواصل‏ ‏اتصاله‏ ‏بالمجتمع‏، ‏وحكم المجتمع عليه بما هو ليس هو، وانتظار المجتمع منه ما ليس عنده، وممارسته‏ ‏اليومية‏،‏ ‏فى ‏مجاله‏‏ ‏وخارج‏ ‏مجاله‏… إلخ‏، ‏أما‏ ‏قيوده‏ ‏الداخلية‏ ‏فهى ‏أشد‏ ‏وأصلب‏ ‏فهى آلياته (ميكانزماته) التى ‏تحميه‏ ‏من‏ ‏جرعة‏ ‏رؤية‏ ‏لا‏ ‏يقدر‏ ‏عليها‏، ‏ومن‏ ‏مفاجآت‏ ‏معرفة‏ ‏تفوق‏ ‏مسيرته‏ ‏أو‏ ‏تغير‏ ‏مجراها‏، دون إذنه، ودون ضمانات المآل، وهذه القيود أصلب وأخطر لأنه لا يعرفها عادة.

ولكن كيف نضمن أن الرؤية ليست استبطانا معقلنا؟

أعتقد أن ذلك يتحقق حين نفاجأ بنتائج البصيرة النافذة أكثر مما يتم من خلال جهد تفكيرىّ قصدى، نعم: لا يوجد قرار يسمح بهذا الكشف البصيرى، وإنما يوجد قرار للتعرض لاحتمال ذلك، ربما هذا هو ما أشار إليه النص، وهو يستبعد أن تكون الرؤية كلمات مرصوصة أو تحتاج إلى تمهيد معين.

“من‏ ‏غير‏ ‏كلام‏ ‏ولا‏ ‏سلام‏”

ثم يبدأ المتن فى سرد محاولات شحذ البصيرة خطوة بعد خطوة بشكل مباشر، أى بتدرُّجِ حتمىّ.

أقلب‏ ‏عيونى ‏ولا‏ ‏ابص‏ ‏فى ‏المرايه‏؟ ‏ ‏

نبدأ بالخطوة الأولى وهى: النظر لصورة الذات فى مرآة الذات بدرجات مختلفة من البصيرة.

 تعلمنا من قديم ما يسمى “وهْل المرآة” Mirror Illusion وهو يشير إلى أن الشخص حين ينظر فى المرآة يرى نفسه على مسافة كأنه واقف خلف المرآة، وحقيقة الأمر أن الصورة ليست إلا منعكسا ضوئيا!

‏ ‏أنا‏ ‏لو‏ ‏ابص‏ ‏فى ‏المرايه‏ ‏حاشوف‏ “‏خيال‏”.‏

يبدو أن هذا النص فى المتن يدعم التأكيد على أن المسألة ليست مجرد النظر إلى الداخل، فقد ينتج عن ذلك أن نرى أنفسنا كما ينبهنا “وَهْل المرآة” وليس كما هى، الشخص وهو يحاول ذلك إنما ينقسم إلى “مـُـشاهِد راصـِـد” بالعقل عادة، و”مشاهَد تحت الفحص”، وهكذا يجرى ما يمكن أن يسمى “تشيؤ الذات”، وهو أمر يقلل أو حتى ينفى أنها رؤية الذات أصلا.

هكذا: تنكشف الصورة باعتبارها صورة، وليست “أنا” الحقيقى بتكثيف طبقاته المتداخلة، تتأكد صورة الذات: أنها ليست إلا خيالا، قد يكون فى حقيقته “عكس” أو “مقلوب” ما هو “أنا”.

أنا لو حابصّ فى المراية حاشوف خيالْ

إيدو‏ ‏اليمين‏ ‏إيدى ‏الشمالْ‏.‏

                                   واقف‏ ‏بعيد‏ ‏ورا‏ ‏الإزاز‏. ‏

واجى ‏أَقـَرَّب‏ ‏للمرايهْ‏ ‏ألتقى ‏بـَرْد‏ ‏الجماد‏. ‏

وِشِّى ‏يبطط‏، ‏والنـَّفـَسْ‏ ‏بيغطـى ‏تقاسيمه‏ ‏كما‏ ‏جبل‏ ‏السحاب

‏ ‏قـُدَّام‏ ‏قمر‏ ‏مظلم‏ ‏حزين‏. ‏

هذه الصورة استعرتها من بيتىْ شعر حكاهما لى والدى، وهو معجب بالصورة التى استطاع الشاعر أن يرسمها لتصوير منظر البدر فى يوم غائم، (نصف نصف) حين يظهر من بين سحب متقطعة، ثم تختفى، ثم تظهر إلا قليلا وهكذا، صوّر الشاعر هذا المنظر، وكأن البدر هو وجه فتاة جميلة تنظر فى المرآة، وهى تتحسر على جمالها الذى لم يقدره أحد كما يستحق، فلم يتقدم لها أحد حتى تاريخه، تشاهد الجميلة وجهها فى المرآة، فتـُبـْهر بجمالها، وفى نفس الوقت تتحسر على أنها لم تتزوج حتى الآن، فتتنهد أسفا، فينطلق من تنهيدتها بخار ماء نَفَسِها، فيغطى سطح المرآة بشكل متقطع، هكذا بدا البدر للشاعر وهو يظهر ويختفى من وراء السحاب الخفيف المتحرك، وهو ما يقابل بخار ماء تنفس الجميله أمام المرآة وهو يتكثف ويخف ويتفرق بغير انتظام، فتبدو ملامح وجهها الجميل جزئيا أو كليا ويتواصل التنهيد…!!!

والبدر منتقبٌ بغيم أسود       هو فيه بين تفرُّج وتـَبـَلُّجِ

كـَتـَنـَفُّسِ الحسناءِ فى المرآةِ     إذْ كـَمُلـَت محاسنها ولم تتزوج

ربما كانت هذه الصورة فى خلفية وعيى وأنا أحاول أن أنظر فى مرآة نفسى، فى مقابل تبلج البدر وتفرجه من وراء هذا الغيم النقاب، فيتكشف لى حزن غائر يكاد يخفينى عنى.

علاقتى بالحزن شديدة القوة، أنا لا أرحب به ولا أرفضه، أعيش زخمه وأنطلق منه، الحزن الذى بدا فى هذه الصورة ليس هو الحزن الذى أدافع عن حقى فيه، لكنه حزن مرّ مظلم يعلن قتامة صخور القمر دون ضوئه الفضى الساحر، أو شاعريته الساحرة.

وامّا‏ ‏قلبت‏ ‏عيونى ‏جـُوَّه‏ ‏عـْمـِيتْ‏.‏

وحاولت‏ ‏ابُصّ‏:

حاولت‏ ‏اقرا‏ ‏فى ‏الضلام

مالقيت كلام

إذا‏ ‏كان‏ ‏لابد‏ ‏للطبيب النفسى‏ أن ‏يرى ‏نفسه‏ ‏فعليه‏ ‏أن‏ ‏يغامر بتنشيط عينه الداخلية، وبدون أن نعود للتأكيد على الفرق بين “الإدراك” و”التفكير”، وعن طبيعة العين الداخلية، لابد من إعادة التأكيد أن كل هذه العمليات تجرى بعيدا عن بؤرة الوعى الظاهر، وأننا عادة لا نعرفها إلا بأثر رجعى ومن خلال فروض عاملة.

فرض العين الداخلية internal eye طرحتـُه مؤخرا فى سياق احترام “واقع الداخل” internal reality وذلك لتفسير الهلاوس الحقيقية ([2])، وأيضا للمشاركة فى فروض تفسير نوم حركة العين السريعة ([3])

المتن هنا لا يشير إلى هذه العين الداخلية مباشره وإنما ينبه إلى أننا إذا حاولنا رؤيه الداخل بنفس العين التى ترى الخارج، وبنفس قواعدها، فغالبا لن نرى شيئا أصلا.

‏عادة‏ ‏يـُشترط‏ ‏فى ‏ممارسة‏ ‏التحليل النفسى ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏المعالج‏ ‏ذاته‏ ‏بخبرة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى، ‏وهذه‏ ‏نصيحة‏ ‏طيبة‏ ‏تهدف‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏الهدف‏ ‏الذى ‏أعرضه‏ ‏هنا‏، ‏إلا‏ ‏أنى ‏أختلف‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏التفاصيل‏ ‏نتيجة تصورى أن‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى – عادة – ‏ ‏بطريقته‏ ‏التقليدية‏ ‏ سرعان ما يلحق تعميق الرؤية بتفسير نظرى مرتبط بالماضى، مُحْكم الحبكة. ‏

أعود فأشير ‏هنا‏‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏طائفة‏ ‏من‏ ‏أطباء‏ ‏النفس‏ ‏والمعالجين‏ ‏يتقنون‏ ‏الاستبصار‏ Introspection ‏لذواتهم‏ ‏حتى تفسير‏ ‏أحلامهم،‏ ‏ولكنها‏ ‏”عملية”‏ ‏عادة‏ ‏تبدأ‏ ‏بالكلام‏ ‏والملاحظات‏ ‏وتنتهى ‏بالكلام‏ ‏والملاحظات‏ (‏الكلام‏ ‏المسموع‏، ‏أو‏ ‏المكتوب،‏ ‏أو‏ ‏الصامت‏) وعادة ما تنقلب الألفاظ‏  إلى رموز ‏معطـِّلـَة للرؤية‏ ‏الحقيقية‏ ‏الموضوعية‏ ‏والدافعة‏ ‏للتغيير،‏ ‏ويتوقف‏ ‏الطبيب‏ (المعالج) ‏حيث‏ ‏يظن‏ ‏أنه‏ ‏يتقدم‏ ‏ويعرف‏، فى حين أنه متوقف داخل سجن ألفاظه ورموزه.

أكرر التحذير ‏من‏ ‏الاستبصار Introspection‏ بلا تردد، الاستبصار‏ ‏قد‏ ‏يـُـظـْـهر ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏انعكاس‏ ‏للحقيقة‏ ‏ وليست‏ ‏الحقيقة‏ ‏ذاتها‏، قد ‏يكشف ‏صورة‏ ‏فكرية‏ ‏عن‏ ‏الذات، ‏وليست‏ ‏الذات‏ ‏نفسها،‏ ‏وفى ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏خدعة‏ ‏وتقريب‏ ‏قد يصل غالبا إلى درجة من التشويه، إذْ قد يُظهر لنا ‏صورة‏ ‏باردة‏ ‏أو محرفة‏، ‏وهى عادة ليست‏ ‏الحقيقة‏‏ ‏الحية‏ ‏الثائرة‏ ‏الخائفة‏ ‏المتحفزة‏ ‏المتحدية‏ ‏معا‏.

‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏الذات‏ ‏قد‏ ‏يشوهها‏ (‏وشى ‏يبطط‏) إذا كان اقترابا يستعمل أداة لا تصلح لها، ‏ثم إن مزيدا‏ ‏من‏ ‏الاقتراب‏ ‏قد‏ ‏يخفى ‏معالمها‏.

وحاولت أقرا فى الظلام مالقيت كلام

‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏الألفاظ‏ ‏عاجزة‏ ‏عن‏ ‏وصف‏ ‏ما‏ ‏بالداخل‏ ‏أو‏ ‏شرحه‏، ‏وإذا‏ ‏كانت‏ ‏صورة‏ ‏النفس‏ فى مرآة الفكر ‏ما‏ ‏هى ‏إلا خيال‏ ‏معقلن ‏قد‏ ‏يقترب من‏ ‏الحقيقة‏ ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏الحقيقة‏، بل أحيانا يكون عكس الحقيقة، أو مسخ للحقيقة، ‏فهل‏ ‏يمكن‏ ‏مواجهة‏ ‏الداخل‏ ‏دون‏ ‏رموز‏ ‏الفكر‏، ‏ودون‏ ‏تصوير‏ ‏النفس‏، ‏مواجهة‏ ‏حسية‏ إدراكية ‏مباشرة؟‏ ‏ربما يمكن بعض ذلك من خلال رؤية الغـَـيـْـر:

هذا ما يحاول أن يشير إليه المتن هنا دون أى ضمان لنجاح المحاولة.

ورْجـِـعـْـت‏ ‏أبصِّـلْـكم‏ ‏هناك‏، ‏فى ‏عيونكمْ ‏انتمْ. ‏

أنا‏ ‏أبـْـقـَـى ‏مين‏ ‏؟

أن ترى نفسك من خلال رأى، أو رؤية، الآخر (أو كليهما)، شىء مهم، لكنه لا يمثل إلا بعض الحقيقة أيضا، هذه الظاهرة تحدث فى العلاج الجمعى بشكل خاص، قد يحدث أن تكون المجموعة فى حاجة أن تحكم على أحد أفرادها بصفةٍ مـَـا، فى موقف معين، سواء بناء عن مبادرته أو فى تفاعل يحتاج رأى الجماعة، وهذا ما يسمى عادة “المصداقية بالاتفاق”([4])، لكن حقيقة الممكن تعلن أنه مهما كان الاتفاق فإن الاختلاف وارد ومهم، والآراء يكمل بعضها بعضا.

حين حاولت أن أشاهد صورتى كيف تتجلى فى عيونهم وصلتنى هذه الصور المتلاحقة كالتالى:

وألاقى ‏صورتى ‏زى ‏ما‏ ‏انتم‏ ‏محتاجين‏:

‏بصفة عامة فإننا نرى – عادة، أو غالبا – الآخرين من خلال احتياجنا إليهم (أو عكس ذلك)، وهذا ما حاولت أن أعدده وأنا أتقمص بعض الرؤى التى تصورتُ أنها تمثل بعض (أو أغلب) رؤية المشاركين فى هذه الجماعة، على الوجه التالى:

(1) ‏اللى ‏شايفنى ‏كما‏ ‏النبى

أحدهم‏ ‏يرانى “‏صاحب‏ ‏رسالة”‏ ‏فى ‏الحياة، ‏تسير‏ ‏على ‏أرجل‏ ‏رغم‏ ‏ضخامتها‏ ‏وثقلها‏، ‏رسالة تتجاوز آمال وطموحات مهنته، يحاول نشرها حتى ‏ترجح‏ ‏الحياة‏ ‏على ‏الموت‏، ‏والتطور‏ ‏على ‏الجمود‏، ‏حتى يكاد يبدو نبيا غير مرسل.

 ‏وبرغم ما يبدو في هذه الرؤيه من ظاهر التقدير حتى التقديس، إلا أننى أعرف، وأمارس (بالتدريج طبعا) كيف أنها كانت ومازالت رؤية معوِّقة لأن فيها ما فيها‏ ‏من‏ ‏اعتمادية‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الرائى، ‏وإلغاء‏ ‏لحقيقة‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏القاصر الذى يتصف به الطبيب مهما بلغ تقديس مهمته فى ثقافة مثل ثقافتنا، وأيضا هي تحرم الطبيب مهما كان قائدا أو معلما أو “أسطى” من حقه الانسانى البسيط فى الضعف والأخذ والانتماء والاحتياج.

(2) واللى ‏شايفنى ‏ربـنـا‏

قد يتمادى التقدير فالتقديس لدرجة قصوى تبلغ التأليه‏، فيراه ‏آخرٌ قادرا‏ ‏على ‏كل‏ ‏شيء،‏ ‏هذا‏ ‏موقف‏ ‏ألعن‏ ‏من‏ ‏الموقف‏ ‏السابق‏، ‏لأنه‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏يـُـلغى ‏ضعفه‏ ‏البشرى ‏مثل‏ ‏الموقف‏ ‏السابق‏ وأكثر (النبى)، فهو يضع‏ ‏عليه‏ ‏مسئوليات‏ ‏الألوهية‏، ‏وبالتالى ‏يتخلى مثل هذا “التابع” عن حمل‏ ‏عبء‏ ‏حياته‏ ‏ومرارتها‏ ‏وصراعاتها‏ ‏بعبادة‏ ‏هذا‏ ‏الإله‏ ‏البشرى ‏القادر‏، ‏هذه الآلية الدفاعية هى من الدفاعات‏ ‏التى ‏تصنع‏ ‏”فراعين الحكام‏”، ولو‏ ‏علم‏ ‏هؤلاء‏ ‏الحكام‏ ‏كم‏ ‏يظلمهم‏ ‏من‏ ‏يُلغى ‏ضعفهم‏ ‏ويؤكد‏ ‏وحدتهم‏، ‏لكانو‏ ‏أول‏ ‏الثوار‏ ‏على ‏زعامتهم وفرعنتهم‏ ‏إذا وصلت بتابعيهم (وبهم) إلى هذا العـَمـَى الذى ‏ينكر‏ ‏عجزهم‏ ‏الإنسانى، ‏ويحرمهم‏ ‏من‏ ‏حقهم‏ ‏فى ‏الخطأ‏‏ ‏وفى ‏الضعف‏ ‏وفى ‏الأخذ‏.‏

فى موقف العلاج النفسى الجمعى، تبدأ مثل هذه الآليه الدفاعية من الموضع الذى وصفه “بيرلز” وأسماه آلية: “يالروعة أدائك يا أستاذنا الجليل“Gee professor you are wonderful!، حتى التقديس المطلق أو القدرة المعْجِزة!! وإذا كان هذا الميكانزم واردا فى ثقافة الغرب فهو أكثر تواترا وإعاقة فى ثقافتنا عدة مرات.

(3) واللى ‏شايفنى ‏واد‏ ‏بُرَمْ

‏أما‏ ‏الرؤية‏ ‏الثالثة‏ ‏فإنها‏ ‏نقيض‏ ‏وجهتـَـى ‏النظر‏ ‏السابقتين‏، ‏فهى ‏لا‏ ‏تـَرَى ‏إلا‏ ‏قشرة‏ ‏الشطارة‏ (‏والحداقة‏ ‏والفهلوة‏ وحذق الصَّنعة… إلخ‏) الطبيب‏ ‏النفسى ‏غير‏ ‏الأديب‏ ‏والفنان‏ ‏والفيلسوف‏ ‏وعالم‏ ‏المعمل‏، ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏يديه‏ ‏غائصتان‏ ‏فى ‏أمعاء‏ ‏المجتمع‏ ‏ورجليه‏ ‏فى ‏طين‏ ‏الواقع‏، ‏وهو حتى ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏ فى أداء مهمته، فى ثقافة ناسه الخاصة جداً، ‏فإنه‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يحذق‏ ‏اللغة‏ ‏السائدة‏ ‏بدرجة‏ ‏قد‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏سواها‏ (‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏غاية المراد عند بعض الزملاء، ويسمى أحيانا “الذكاء الاجتماعى”‏)!!! ‏الطبيب (النفسى، وغير النفسى)‏ ‏مطالب‏ ‏بالنجاح‏ ‏بلغة الواقع وعلى أرضه‏، ‏وإلا‏ ‏أصبح‏ ‏مثلا‏ ‏فاشلا‏ ‏أمام‏ ‏مرضاه، ‏وأغلبهم‏ ‏يحتاجون‏ ‏إلى ‏جرعة‏ ‏الواقع‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يحتاجون‏ ‏إلى ‏المهارة اللامعة على حساب النمو الحقيقى‏.‏

وإذْ‏ ‏أيقنتُ‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الطريق‏، ‏كان علىّ ‏أن‏ ‏أدفع ‏ثمن‏ ‏الصبر‏ ‏عليه‏، ‏وأن أتحمّل الاتهامات‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يرضيها‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يقترن‏ ‏الذكاء‏ ‏الاجتماعى ‏والنجاح‏ ‏المادى ‏بالشر‏، ‏وهى هى التى تقرن‏ ‏الخير‏ ‏المثالى ‏بالطيبة‏ ‏أو‏ ‏الخيبة‏، سبق أن شرحت هذه الحيلة التى أتصور أننى كنت واعيا بها معظم الوقت، ورضيت أن أمارسها مسئولا عنها، حتى أتحكم في جرعتها، وأستطيع باستمرار أن أميز بين الغاية والوسيلة، وأن أمارس النقد الموضوعى دون إعاقه ما أمكن ذلك.

هذا ما كتبته شعرا بالفصحى، مرة بشكل مباشر فى ديوانى “سر اللعبة”([5])

وبعقل‏ ‏الفلاح‏ ‏المصرى ‏أو‏ ‏قل‏ ‏لؤمه‏ ‏

دُرْتُ‏ ‏الدورة‏ ‏حول‏ ‏الجسر‏:

حتى ‏لا‏ ‏تخدعنى ‏كلمات‏ ‏الشعر، ‏

أو‏ ‏يضحكَ‏ ‏منى ‏من‏ ‏جمعوا‏ ‏أحجار‏ ‏القصر‏ ‏القبر، ‏

أو‏ ‏يسحقَ‏ ‏عظمى ‏وقع‏ ‏الأقدام‏ ‏المتسابقة‏ ‏العجلى ‏

أقسمت‏ ‏بليلٍ‏ ‏ألا‏ ‏أضعف‏… ‏ألا‏ ‏أنسي‏

‏–2–‏

وأخذت‏ ‏العهد، ‏

غاصت‏ ‏قدماىَ ‏بطين‏ ‏الأرض‏ ‏

وامتدت‏ ‏عنقى ‏فوق‏ ‏سحاب‏ ‏الغد‏

وأعتقد أن خطابى إلى ابنى شعرا أيضا فى قصيدة أخرى باسم “الحاجة والقربان”([6])، فى ديوان آخر (من باريس إلى الطائف) كانت فيه إشارة إلى مثل ذلك وفى قصيدة “الحاجة والقربان” مخاطبا ابنى (محمد) كاشفا نفسى مُصالِحاً مُعاتبا نفسى كيف ابتعدت عنه كل هذه الأميال:

……….

هل‏ ‏تعرفنى ‏من‏ ‏خلف‏ ‏الأقنعة‏ ‏السبعة‏:‏

وأنا‏ ‏أتكلم‏ ‏مثل‏ ‏السادة؟

وأنا‏ ‏أمشى ‏بينهمو‏ ‏كالعاده؟

وأنا‏ ‏أُدْهـَـشُ‏ ‏وكأنى ‏لا‏ ‏أعلم؟

وأنا‏ ‏أُفتى ‏وكأنى ‏أعلم؟

وأنا‏ ‏أضحك‏ ‏وكأنى ‏أفرح؟

وأنا‏ ‏أحسب‏ ‏وكأنى ‏أجمع؟

وأنا‏ ‏أرنو‏ ‏وكأنى ‏أسمع؟

كل هذا يعطى الذى: “شايفنى واد مِرَقـَّع أو حِدِق”، الحق فى أن يرانى كما يستطيع، لكن أظن أن عليه أن يواصل الرؤية كما وردت فى القصيدتين إذا أراد تكملة الحكاية.

التمست العذر لهذه‏ ‏المجموعة التى تصورت أنها ترانى بهذا المنظار وهى ‏تصُدر‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأحكام‏ “واد مرقـَّـعْ أو حـِـدِقْ” حيث تصورت أن رؤيتها لى بهذه الصورة‏ ‏ربما ساعدها فى أن تؤجل معركة مواصلة النمو على أرض الواقع تحت هذه الظروف الصعبة،‏ ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الفئة‏ ‏التى ‏تدمغ‏ ‏أى ‏نجاح‏ كمـِّى لامع وتصفه بالفهلوة، كما تصف من يحققه بأنه “مرقع أو حدق” ‏هى ‏فئة‏ ‏قد ‏تؤدى ‏دورا‏ ‏إيجابيا فى التحذير من التمادى فى مثل هذا النجاح، لكنها قد تتمادى فى هذا الاتجاه حتى تعوق الرؤيه ليس فقط لمسيرة النجاح اللامع وإنما لمسيرة أى نجاح وأى إنجاز ضرورى لمواصلة الحياة والنمو.

‏ثم إن‏ ‏الدور السلبى لهذا الموقف‏ ‏قد يمتد حتى يفرض نموذجا مطابقاً لحركة الثائر المغامر طول الوقت، الذى لا يخرج عن مثاليته، وبالتالى لا يحقق ثورته فى نفس الوقت، وقد يكتفى بدوره بأن‏ ‏يصدر‏ ‏الأحكام‏ ‏ويرفض‏ ‏اكتساب‏ أسباب ‏القوة خوفا من النقد، وهو يرفض أن يدفع ثمن ذلك، ‏فيترك مقاليد القوة ‏لمن‏ ‏يسىء‏ ‏استعمالها‏ على طول الخط من البداية للنهايه، ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏يشجع‏ ‏قسمة‏ ‏ضيزى ‏يرضى ‏بها‏ ‏أهل‏ ‏الشر‏ ‏ودعاة‏ ‏الجمود‏، ‏تلك‏ ‏القسمة‏ ‏التى ‏تقول‏ ‏على ‏لسان‏ ‏أهل‏ ‏الواقع البشع المستمرّ:‏ ‏لكم‏ ‏المـُثـُل‏ ‏الطيبة‏ ‏والذكر‏ ‏الحسن‏، ‏ولنا‏ ‏القوة‏ ‏والقدرة‏ ‏والسلاح‏ ‏والفعل‏ ‏القاهر‏. ‏وما‏ ‏أغبى ‏من‏ ‏يقبل‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏القسمة‏ ‏وأعجزه!

(4) واللى ‏شايفنى ‏قـِـفـْـل‏ ‏ومـْـتـَـرْبـِـسْ‏ ‏حزين‏

واجهتُ أيضا في هذه الخبره أحكاما أقسى وأصعب عانيت أيضا منها وهى تحول بين تواصل مستويات الوعى بما نرجو منه، فقد كان واضحا طوال مراحل هذه الخبرة الطويلة أننى ارفض النكوص للنكوص، أو ربما أخافه حتى لا ينتهى بنا إلى التسيب والانفلات، وبما أن أية تجربة حقيقية لابد أن تمر بهذا الاحتمال، فربما كنت أمثل عند هذا الفريق الرابع (وكانوا كُثْر) السقف الذى يمنع التجاوز، وكانت تـُوجـَّه إلىّ الاتهامات المختلفة الرافضة لهذا الموقف من أول اتهامى بالكبت، إلى اتهامى بالجبن، مرورا بنزع الثورية عنى، وأحيانا اتهامى بما يشبه منظرة الفنان الذى يرسم الواقع دون أن يخوضه، وقد كنت أتألم ليس لأنى فقط لست كذلك، ولكن أيضا لاحتمال أن أكون كذلك، فى الطبعة الأولى كان النص هكذا: “واللى شايفنى قفل مقفول من سنين“،  لست أدرى ما الذى جعلنى أغير النص فى المتن بعد ذلك إلى “قفل ومتربس حزين”، ربما لاحتمال التنبيه إلى الربط بين الكبت والحزن، أو لما شاع عنى أننى أقلبها غما، لحظة احتمال “السـَّيـَبـَان” نكوصاً.

موقف‏ ‏آخر‏ ‏كنت‏ ‏أراه‏ ‏وأنا‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏نفسى ‏فى ‏عيونهم، ‏فالطبيب‏ ‏النفسى – ‏كما‏ ‏قلت‏ ‏وكررت‏ – ‏ملتزم‏ ‏بالواقع‏ ‏أشد‏ ‏الالتزام‏، ‏ومن‏ ‏هنا‏ ‏يأتى ‏رفضه‏ ‏الواضح الجاهز:‏ ‏لأى ‏نكوص‏ ‏غير‏ ‏مسئول‏، ‏ولأية ‏حرية‏ ‏لمجرد‏ ‏اللذة‏، ‏وأى ‏رفض‏ ‏لمجرد‏ ‏العناد.

ولقد تحملت من جراء هذه الرؤية أو هذا الاتهام ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏الرفض‏ ‏والهجوم، ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏ساعدنى ‏على ‏رؤيتى ‏لنفسى، ‏حيث وضعت‏ ‏هذا‏ ‏الاحتمال أنى أمثل لهم سقف القهر‏، ‏وعايشت هذا الموقف وهذا الاحتمال ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أستطيع‏، ‏وتقمصت‏ ‏من يرمينى به محترِمـًـا رؤيته حتى انتهيت‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏وجود هؤلاء النقاد هو أقرب إلى “الوجود الفنى الحر”، وهو فى ذلك قريب من الوجود المثالى النظرى السابق، ولكنى فى النهاية، ومع مرور الوقت ‏أيقنت‏ ‏أن مثل هذا الدور/الاتهام ‏لا‏ ‏يصلح‏ أن يكون صفتى الغالبة فى هذه الخبرة على الأقل.

‏كما رجحت‏ ‏أن‏ ‏هجومهم‏ ‏هو ليس‏ ‏من‏ ‏أجلى، ‏بل‏ ‏ربما كان تجسيداً لصعوبة المسار، واعتبار أننى‏ ‏أتمسك‏ ‏بالالتزام‏ ‏بالواقع‏ ‏إلى ‏قاع مرارته‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏أصر‏ ‏فيه‏ ‏على ‏التطور‏ ‏إلى ‏غاية‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏.‏

فى العلاج النفسى قد يصل للمريض صورة المعالج باعتباره والداً قاهرا، أو سلطة كابتة تمثل نفس هذا السقف الذى رأيته فى عيونهم، وتصبح هذه الصورة معطـِّلة للعلاج حين تتداخل الأدوار، فيغلب على العلاج شكل الضبط والربط، وأيضا تأثير السلطة الوصِيـَّة، وكثيرا ما يقوم الطبيب أو المعالج بهذا الدور بشكل لا شعورى (أو شعورى) حين تتحكم فيه منظومته القـِيمِيـَّة الخاصة، أو نواهى دينه، أو قهر مجتمعه، فينتقل ذلك إلى المريض بشكل معطـِّـلِ غالبا.

(5) واللى ‏شايفنى ‏حرامى ‏أصلى ‏معـتـبـر‏.

‏لا يتوقف تشويه صورة القائد أو المعالج ‏فى ‏عيون‏ ‏البعض عند رفض المهارة القصوى و”الفلهوة”، وإنما تمتد للاتهام بأنه شخصية ‏ملوثة‏ ‏فى ‏قيمها الأخلاقية‏، حتى السرقة أو النصب.

 ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏أمامى ‏أن‏ ‏أرد‏، ‏بل‏ ‏كان علىّ ‏أن‏ ‏أواصل‏ ‏مسيرتى ‏فى ‏صبر‏ ‏عنيد‏، ‏محاولا‏ ‏إعادة النظر، ‏ومنتظرا حكم‏ ‏الزمن‏، ‏وفاعلية‏ ‏ما‏ ‏أقدر‏ ‏عليه لخيرى وخير‏ ‏الناس‏، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏أقسى ‏التجارب‏ ‏التى ‏مررت‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏يأتى ‏هذا‏ ‏الاتهام‏ ‏من الأقربين جدًّا، ‏ويتأكد ذلك حين‏ ‏كنت‏ ‏أرفض‏ ‏أن‏ ‏أحملهم‏ – ‏بسلبياتهم‏ ‏ومثاليتهم‏ – ‏على ‏محفة‏ ‏نجاحى ‏الذى ‏دفعت‏ ‏فيه‏ ‏ما‏ ‏دفعت‏.

قبول ورفض واحترام ومراجعة:

أقر وأعترف مرة أخرى أن هذه الموجات من‏ ‏ ‏النقد‏ حتى الشجب كانت ‏مُوقِظـَة‏ ‏لى ‏فى ‏كل‏ ‏حين‏، ‏فكنت‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أعتبرها آراء‏ ‏صحيحة ‏ما‏ ‏أمكن ذلك، ‏حتى ‏أظل‏ ‏منتبها‏ ‏إلى ‏احتمال انحرافى‏،

يمكن‏ ‏أكون‏ ‏أنا‏ ‏كل‏ ‏ده‏.‏

‏لكنى ‏أبدا‏ ‏مش‏ ‏كده‏. ‏

 ‏فأشكرهم‏ ‏فى ‏قرارة‏ ‏نفسى ‏على ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ – ‏رغم‏ ‏عنف‏ ‏الألم‏  –  وقد استمرت‏ ‏معى ‏هذه‏ ‏المعاناه‏ ‏مدة‏ ‏طويلة، ‏فلا‏ ‏أنا‏ ‏أرفض‏ ‏رؤيتهم‏، ‏ولا‏ ‏أنا‏ ‏أستسلم‏ ‏لها‏، ‏ومع حرصى طول الوقت ألا ‏تعوقنى هذه الرؤى ‏متحملا نصيبى من‏ ‏المعاناة‏ ‏الخفية‏، ‏‏كان‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أستمر‏ ‏فى ‏الحصول‏ ‏على ‏مقاليد‏ ‏القدرة‏ ‏تساعدنى ‏على ‏تحقيق‏ ‏رؤيتى ‏التى ‏أُلقـِـيـَـتْ‏ ‏على ‏وجدانى ‏وفكرى ‏قولا‏ ‏ثقيلا‏، ‏وما‏ ‏أصعب‏ ‏كل‏ ‏هذا‏!

‏كنت – وما زلت – على يقين من أن ‏من‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏نفسه‏ عليه ‏ألا‏ ‏يرفض‏ ‏رؤية‏ ‏غيره‏ ‏له‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏دوافعها‏، ‏ومهما‏ ‏بدت بعيدة عن الحقيقة‏، ‏ومهما‏ ‏كان‏ ‏الألم‏ ‏المترتب‏ ‏على ‏تبنى ‏هذه‏ ‏الرؤى ‏المشوهة‏ ‏والمزعجة‏، ‏فإن‏ ‏وظيفة‏ ‏وجهات‏ ‏نظر‏ ‏الآخرين‏ ‏لا‏ ‏بديل‏ ‏لها‏ ‏إلا‏ ‏أوهام‏ ‏الوجود‏ ‏المعصوم‏،‏ وهكذا فإن الذى حدث – غالبا– هو أنه فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏كنت‏ ‏أتقبل‏‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏تماما‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏رفضتها‏ ‏ظاهريا، كنت ‏أعلم‏ ‏فى ‏آخر‏ ‏طبقات‏ ‏وجودى ‏أننى ‏لست‏ ‏مجرد ما يظهر منى لهم، لكننى أيضا هو ما يصلهم، ‏فالرؤية‏ ‏الجزئية‏ ‏المنحازة‏ ‏هى – ‏فى ‏النهاية‏ – ‏ورغم‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أفيد‏ ‏منها‏ – هى ‏رؤية‏ ‏جزئية‏ ‏منحازة، لكنها فى نفس الوقت رؤية محتملة، إذن ‏لا يجوز التوقف عند اتهامهم أنهم لا‏ ‏يرون‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يحتاجون‏، ‏أو أنهم‏ ‏لا‏ ‏يريدون‏ ‏أن‏ ‏يروا‏ ‏بقية‏ ‏ما هو أنا، فأعود أتقمصهم وألتمس لهم العذر، وأرفضه فى نفس الوقت، حتى أنى عدت أراجع مواقفهم لأفهم أكثر ما وراءها مما قد يفسرلى بعض ما حيرنى وآلمنى (بينى وبين نفسى غالبا) كما يلى:

شوفوا‏ ‏كويس‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏

(1) واحد‏ ‏يقول‏: ‏خايف‏ ‏أشوفك‏ ‏لسـَّـه‏ ‏حـَـبـَّـه‏

‏أحدهم‏ ‏يؤجل‏ ‏الرؤية‏ ‏باستمرار، ‏ويساورنى ‏الشك‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التأجيل‏ ‏هو‏ مجرد عجز عن الاتهام، وفى نفس الوقت هو خوف من التبعية، وقد يستمر هذا الموقف ‏إلى ‏ما لا‏‏ نهاية‏.‏

(2) والتانيهْ ‏بتقول‏: ‏يا‏ ‏حرامْ‏!! ‏طبْ‏ ‏حبـَّـه‏ ‏ حبـَّـه

هذه الثانية‏ ‏تشفق‏ ‏(‏على ‏نفسها‏ ‏فى ‏الأغلب‏) من‏ ‏الرؤية  ‏وتعلل‏ ‏ذلك‏ ‏بأنها‏ ‏ترى ‏بقدر ما تستطيع، وقد كنت أرعب من هذه الشفقة بقدر ما أرفضها دون أن أنكر على نفسى حاجتى إليها.

 (3) والتالت‏ ‏إلمسطول‏ ‏لو‏ ‏الكرباج‏ ‏يطرقع‏ ‏جوا‏ ‏مخه يشوف‏ ‏دقيقة‏،

بس‏ ‏فينه‏ ‏من‏ ‏الحقيقة‏

هذا الثالث الغائص فى‏ ‏ذاته‏ ‏قد‏ ‏يرى ‏عقليا‏ ‏فقط‏، ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يجرؤ أن يواصل الرؤية ، ويختبرها، هذا الثالث بالذات كانت رؤيته مخترقة فعلاً: مرة اتهمنى بأنى أكبر “شيزيدى” (انطوائى منغلق على ذاته) فى الجماعة، ففزعت لأننى كنت تصورت ذلك عن نفسى فى لحظات سابقة، أما أننى كذلك طول الوقت فهذا ما اكتشفت خطأه بالتدريج: “بس فينه من الحقيقة”.

(4) والرابع‏ ‏اللى ‏خوفه‏ ‏عازلــه‏ ‏جوا‏ ‏سجن‏ ‏المزه‏، ‏أو‏ ‏جبل‏ ‏الجيوشى،

الوِدّ ‏وِدّهُ‏ ‏يشوف‏ ‏ضلام‏ ‏القبر‏، ولا‏ ‏إنه‏ ‏يدوق‏ ‏الصبر،

الصبر‏ ‏مـر‏ ‏والشوف‏ ‏يضر‏.

هذا الرابع‏: كان يرفض‏ ‏أن‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏قوقعته‏ ‏التى ‏تحميه‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏رؤية‏ ‏عادلة‏، ‏فيها‏ ‏أدنى ‏تفاعل‏ ‏موضوعى ‏يحمل‏ ‏تهديد‏ ‏الخروج‏ ‏إلى ‏مواجهة‏ ‏الحياة‏، ‏وتـَـحـَـمـُّـل‏ ‏مسئوليتها‏، وعلينا أن نتذكر تلك الحقيقة البسيطة التى تـُنـَبـِّهنـُا إلى أنه:

 أن ترى الآخر كما هو، إنما يعرضك أنت أيضا أن ترى نفسك،

ثم الأخطر : هو أنه يعرضك أن تغامر بعلاقة حقيقية معه… إلخ.

……………………

…………………..

ونواصل الأسبوع القادم لاستكمال قراءة اللوحة السادسة عشر “المعلم”

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (4) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) قراءة فى نقد النص البشرى  للمُعـَالِج، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – نشرة الإنسان والتطور اليومية  2-6-2009 “بعض معالم المناقشة”  www.rakhawy.net

[3] –  نشرة الإنسان والتطور اليومية 28-4-2009 “مستويات وتشكيلات “الحقيقة”، والعين الداخلية”  www.rakhawy.net

[4] – Consensual Validity

[5] –  يحيى الرخاوى:  ديوان “سر اللعبة” الطبعة الثالثة –  قصيدة “جبل الرحمات” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى،  2017.

[6] – يحيى الرخاوى “البيت الزجاجى والثعبان”، الطبعة الأولى 1983، قصيدة “الحاجة والقربان”،  الطبعة الثانية بعنوان: “من باريس للطائف (وبالعكس)”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2017

 

تعليق واحد

  1. ياليت نرى الآخر كما هو ونرى أنفسنا كما هى واين يذهب المرتزقة والمنافقون للأسف عندهم قدر من الذكاء وعدم الأمانة يؤهلهم لإقناع النصف أنه واحد صحيح. وفقكم الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *