نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 16-12-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5950
مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(4) [1]
عبر ديوان “أغوار النفس”
الكتاب الرابع:
“قراءة فى نقد النص البشرى.. للمُعـَالِج”
الفصل الرابع
عن “ماهية الحياة” لدى المعالج، فالمتعالج (2)
…………….
…………….
ثلاثة أبعاد للحركية:
أهم الأبعاد التى ينبغى التركيز عليها، وهى التى تتجلى لنا فى رحلة العلاج النفسى (الجمعى خاصة) هى:
(1) حركية “برنامج الدخول والخروج” In and Out program، وهو البعد الذى يسمح بالتواصل البشرى على مسافات متنوعة من الوعى، ويتم النمو طالما يرجح ضلع التقدم/الخروج باستمرار مع كل دورة، إلى أبعد من رجوعه، وأورد بعض أمثلة لهذا البعد كما يلى:
* الدخول إلى الرحم النفسى والخروج إلى الآخـَـر (الموضوع/ الناس).
* الدخول إلى النوم (الواقع الداخلى) والخروج إلى اليقظة (الواقع الخارجى).
* الدخول إلى الحلم والخروج إلى النوم غير الحالم.
* الدخول إلى حضـَّـانة المجتمع والخروج إلى رحابة المطلق.
ولعل هذا هو ما يميز العلاقة الحية، والمقاومة المتناوبة فى العلاج النفسى، وخاصة العلالج الجمعى.
(2) ثم حركية الملء ↔ البسط = Filling–Unfolding (الإيقاع الحيوى Biorhythm)، حيث دورات هذا الايقاع تمتد من أول التفاعل الكيميائى حتى إطلاق تيار النبض العصبى، كما تتجلى فى:
* دورات النوم واليقظة.
* ثم دورات النوم الحالم واللاحالم.
* ثم دورات تناوب الذوات.
* ثم دورات الملء والبسط الإبداعى.
وفى العلاج يتم التعامل مع هذه الحركية بمواكبة جرعة النوم والأحلام (وليس تفسيرها)، مع ضبط جرعات النشاط والتلقى طول الوقت، وذلك باستعمال كل الوسائل بما فى ذلك التعامل الانتقائى المتغير مع بعض العقاقير المتميزة.
(3) وأخيرا حركية الجدل الولافى Synthesis، وهى الأساس فى النمو والتطور والإبداع، هى حركية أعمق من أن تُخْتَصَر فى تعبير “التوليف بين أضداد”، حيث هى جماع كل حركية الحياة بكل البرامج السابقة وغيرها لتخليق الخطوة التالية التى يعلنها تغير نوعِىُّ، إلى مواصلة مسيرة الحياة متجددة متخلقة دون تحديد أى نهاية لها.
وفى العلاج عموما والعلاج الجمعى وعلاج الوسط خصوصا نرى نتاج هذه الحركية أكثر من أننا نرصد تفاصيلها، وتظهر النتائج فى صورة التغيير النوعى الذى يمنع النكسة، أو يرحب بها بشروطه، فيتواصل النمو.
الوعى بحركية الحياة:
الوعى بحركية الحياة ليس ضروريا لإقرارها، بل إنه قد يعيقها (بس انت لو بصيت لرجليك، تقع)، لكن فرط نشاط الوعى البشرى لا يتركنا نسير بتلقائية طبيعية راقصين مع الدنيا (هى الشابّة وانت الجدع([2])، حركية الحياة لا ترتبط بأية وصلة مباشرة مع أى من: “إلى أين؟”، أو “حاسب”، أو “أسرع”، أو”ماذ بعد؟”، أو أى شىء من هذا القبيل!!.
الحركة الزائفة:
حين يحتد الوعى بحركية الحياة، على أى مستوى نـُـرعب من أية حركة كانت، بغض النظر عن نوعها أو اتجاهها أو النظر فى مآلها، الرعب من الحركة يكون فى أشد صوره حين يكون الجمود جاثما وغير ناجح فى نفس الوقت، العلاج النفسى، من منظور النمو، يتواصل كما يلى:
* تحريك الراكد
* وكسر الغلاف
* وربما: نقب الجدار
* ثم تعديل الاتجاه
* فإطلاق الطاقة
* فدفع النمو فى الحياة بتنشيط كل الحركيات السالفة الذكر مهما خفنا منها:
باترجف من خطوتى الجايَّةْ، ولكنْ:
باترعب أكتر لو انى فضلت ساكنْ
الخوف من الحركة:
إذا زاد الخوف من الحركة حتى أشلّ، فإنه يصبح مـُـعـَـوِّقا بالغ الإعاقة.
هذا ما عبرت عنه فى قصيدة سابقة بالفصحى ([3]) قائلا:
أخاف من تموّج الأحشاءِ،
من نثْـرة الأجنّةْ،
من دوْرةِ الدماءِ،
ومن حَـفِـيفِ ثْـوبىَ الخَـشِـنْ
أخافُ من نساِئم الصباحْ
من خَـيْـطِ فجرٍ كاذبٍ،
أو صَـاِدقٍ
من زَحْـفِ ليلٍ صامت
أو صاخبِ
أخافُ من تَـنَـاثُـرِ الذَّرَّات فى مَـدَارِها
أخافُ مِـنْ سَـكوِنَها
هذا الهلع من أية حركة هو الذى يعوق الحركية الإيجابية لدفع الحياة، الخوف من الحركة فى ذاتها يكون أشد فى الحالات التى استقر فيها السكون حتى تجمد السطح، وأيضا فى الحالات التى أزمنت الحركة الزائفة مثل “إعادة النص”، أو “محلك سر”، ومن الحالات التى أصبحت فيها الحركة “دائرية مغلقة”.
قبول المخاطرة مهما كانت مرعبة، وضرورة ضبط الجرعة:
التحدى الملقى على المعالج والمريض هو ضرورة قبول فمواجهة هذا الرعب الضرورى والهائل من أية حركة، ثم القدرة على ضبط الجرعة فى كل مرحلة بما يناسبها.
سر نجاح العلاج النفسى هو الاعتراف بحتم الحركة وفى نفس الوقت احترام إرعابها، إذا نجح العلاج النفسى أن يتعتع هذا السكون بجرعة مناسبة، فهو يخلـّق أزمة نمو علاجية، تحتاج للزمن والاستمرار لاستيعابها.
تحدث هذه التعتعة تلقائيا فى أزمات النمو، ومع إرهاصات بدايات عملية الإبداع.
يترتب على الوعى بأى من هذا التحريك (العلاج) أو هذه الحركة (أزمة نمو طبيعية) رعب الخطو إلى المجهول (مهما بدا معلوما من بعيد، أو واعدًا بشكل ما)، يترتب أيضا على هذا التهديد المرعب دعوة إلى التراجع عن هذه الخطوة والرضا بالسكون القائم (واللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش)، يسرى هذا على المريض وعلى المعالج على حد سواء.
لكن الكائن النامى، معالجا أو مريضا، لا ينخدع بهذا الإغراء الذى يلوّح بأمن هذا السكون، فهو يرعب منه أكثر من خوفه السابق من الحركة، رعب السكون هو رعب الموت/العدم، وهو رعب أخطر وأعمق.
باترجف من خطوتى الجايَّةْ، ولكنْ:
باترعب أكتر لو انى فضلت ساكنْ
الرعب من السكون وارد حين يلتقط الوعى من بـُعـْدٍ أعمق أنه سكون يحتوى حركة مكتومة جاهزة للتفجر، ربما كما جاء فى نص قصيدة لى بالفصحى([4]):
تفجّر السكونُ فى قوالبِ الجليد،
ولم تدوِّ الفرقعة.
تحرّكتْ أشلائِـىَ المجمَّدة،
تفتـَّت الجبلْ،
فطارت العَرَائسْ،
تكسّرت حواجزُ الأصواتْ،
تخلـّقتْ. .. تطاولتْ،
فأجـْهِضـَتْ،
وضجّت السكينة.
أين حركية المعالج من كل ذلك؟
ماذا لو كان المعالج هو الذى سكن إلى ما هو فيه واستقر؟
هل يستطيع مثل هذا المعالج أن يحرك المريض المتجمد دون أن يتحرك هو نفسه بنفسه لنفسه؟
السكون/التوقف وارد أكثر بالنسبة للمعالج منه بالنسبة للمريض، المريض الذى يسكن إلى آليات مرضه – باستثناء المرض العضوى التشريحى – هو غالبا سكن إلى حلِّ مرضىّ يتجلى عادة فيما هو: “اضطراب شخصية” بما في ذلك “فرط العادية” Hypernomality، أو “بارانويا مزمنة“، أو ربما المآل السلبى المرضى لأى ذهان نشط، وخاصة الفصام، هذه الحالات جميعا، إذا ما أخذت فرصة علاج مكثف، يمكن تحريكها بدرجة ما، مع أنها من حيث المبدأ شديدة الصلابة عصية على التحريك.
أما المعالج الذى سكن إلى ما هو فيه فما الذى يضطره أن يتنازل عن آليات تسكينه (ميكانزماته)، خاصة إذا انتمى إلى نظرية (أيديولوجية–حتى لو اعتبرها علمية) متماسكة وشائعة وقوية؟
رعب المعالج من الحركة قد يكون أكبر من رعب المريض.
الرعب من الحركة هو رعب من الحياة، والرعب من السكون هو الرعب من اللاعودة: العدم.
ومن المتن الأقدم بالفصحى:
أخاف أن أموتَ إن حييتْ
أخاف إن حييتُ لا أموتْ،
إذا كانت الحياة لا تكون حياة إلا فى حالة حركية: متعددة القوانين، متنوعة البرامج، متصاعدة المستويات، ضامة التوجه إلى المجهول الأرقى، فإن ذلك يسرى على المريض وعلى المعالج على حد سواء، وهنا يبدأ التحدى، وتتأكد ضرورة الإشراف على العلاج النفسى بكل مستوياته، وباستمرار.
رفض الزيف وحتم المثابرة:
الحركة الحقيقية مرعبة لأنه يصاحبها – أيضا – قدر من الشك الشائك حول مسارها ومصيرها، هو شك معرفى أكثر منه شك متذبذب عاجز، فى هذه القصيدة يقفز الشك المعرفى يؤكد أن المراجعة بالالتفات إلى الوراء مسموح بها لتكتمل الحركة للتقدم للأمام.
كل ما أشكّ فْ خطايَا،
ألتفت ما لقاش ورايَا
إلا إنى:
وسط كل الناس باغَنِّي
يعنى بَابْنِى،
أنا وابْـنِي.
النظر إيجابيا إلى الوراء يؤكد الاطمئنان إلى اتجاه السهم النشط على طريق الحياة الممتد أبدا.
هكذا يؤكد المتن أن: الغناء (التناغم مع) وسط الناس، مع البناء، مع تواصل الأجيال، هو الضمان أننا نغنى للحياة فعلا إذ نتناغم مع دوائر الكون عرضا فطولا، (هل يا ترى هذا هو ما كانت تقوم به أغانى العمل التى تراجعت حتى كادت تختفى تماما؟).
ضرورة الزمن لتواصل مسيرة حركية الحياة:
استمرار الحياة ليست قضيتنا أفرادا، وربما هى ليست قضيتنا أجيالا، الأحياء التى نجحت أن تبقى حتى الآن (واحد فى الألف) نجحت دون أن تطرح على نفسها أى سؤال مما طرحناه هنا والآن، هى فعلت ذلك باحترام فاستيعاب فتفعيل قوانين وبرامج البقاء للاستمرار عبر الأجيال، هذا اليقين باستمرار الحياة هو سر النمو، ودفع العلاج، وأساس الإبداع، مع الاستمرار.
واللى مش ممكن حايخلص بــيه وبـيّا.
يبقى غيرنا يكمله.
هذا اليقين باستمرار الحياة هو سر النمو، ودفع العلاج، ودعم الإبداع، تعلمت هذا المبدأ من “عم على” السباك، وقد حكيت عن هذا الحادث (وربما كتبته) مرارا.
هو صديق “سباك” عرفته منذ أوائل الستينات، كان يعمل بيده غالبا، ويكاد يرفض أى صبى يساعده ضمانا للإتقان (كما أخبرنى)، (وقد استلهمت من عم على شخصية “عم محفوظ” فى الجزء الأول لثلاثيتى فى رواية “الواقعة”([5])
كان عم على مستغرقا فى عمله فى الحمام، ودخلت أستعجله المرة تلو المرة، نظر إلىّ باسما معترضا ولم يصرح لى بأن هذا الاستعجال قد يفسد ما ألزم به نفسه من إتقان عمله، نظر عم على فى وجهى فوجدنى مكفهرا قلقا على ما يبدو، فنصحنى ألا أتعجله، وأن ما لا ننجزه الآن سوف ننجزه بعد قليل، وما لا ننجزه اليوم سوف يـُـنجز غدا، وما لا يُنجز غدا سوف يُنجز الأسبوع القادم، وما لا ينجز هذا العام سوف ينجز العام القادم، وما لا ننجزه نحن، فسوف ينجزه أولادنا، وما لا ينجزه أولادنا، فلا داعى لإنجازه أصلا (وضحك).
أشعر أن الفصحى قد أبعدت الرسالة التى أريد توصيلها، فلأنقل الرواية التى عمرها خمس وأربعين سنة بألفاظ “عم على”
“. . إيه فيه إيه؟ مالك يا دكتور؟ هدّى روحك، إللى ما نخلّصوش دلوقتى نخلصه بعد شوية، واللى ما نخلصوش النهارده نخلصه بكره، واللى ما نخلصوش بكره نخلصه الجمعة الجاية، واللى ما يخلصشى السنه دى يخلص السنة الجاية، واللى ما نخلصوش احنا يخلصوه أولادنا، واللى ما يخلصهوش أولادنا إن شالله ما خِلص..!!”
لم يصلنى من هذه الرسالة أى تأجيل سلبى، بل ما وصلنى منها هو الحرص على الإتقان، والإقلال من اللهفة على النتائج، ما دام العمل يجرى بأصوله، فقفز منى هذا النص فى هذه القصيدة.
(2)
يعنى بَابْنِى،
أنا وابْـنِي.
واللى مش ممكن حايخلص بــيه وبـيّا.
يبقى غيرنا يكمله.
الحياة : الاغتراب = اللاحياة:
(3)
الحياة دى مش كلام مرصوص على صفحات جرايد،
أو حكاوى فى القهاوى والدواوير والمقاعد،([6])
أو شـلـل مرصوصة تعرف فى الصياعة واللكــــاعة،
أو برامج فى الإذاعة.
ثم يواصل النص تعرية “ما ليس حياة”، أو ما هو تشويه للحياة، أو تزييف لها، أو تجميد لحركتها، أو ما لا يستحق أن يوصف بأنه “حياة” أصلا، وهو ما يسمى أحيانا “الاغتراب”.
وبقدر ما يبدو فى المتن من شجب ورفض وتحذير من صور الاغتراب المختلفة، ينبغى الحذر من تصور أننا لا نحتاج إلى بعضٍ من كل هذا حتى يمكن أن نستمر بأى درجة فيما يسمى الحياة العادية أو الواقعية، صحيح أن الكلام والحكاوى وكثيرا من الندوات والحوارات مغتربة، لكن صحيح أيضا أن الكلام لا يمكن أن يقاس بالمسطرة كما يقول صلاح جاهين([7]). المصيبة فى صور الاغتراب المعاصر هو المبالغة فيها وكأنها قيمة مطلوبة لذاتها، وليست اضطرارا مرحليا على درب النمو، وأيضا تكمن خطورتها فى أنها شائعة ولحوح، وأنها متنوعة، وخادعة، ومتميزة أحيانا وبراقة.
عندى تحفظ فى مجال العلاج النفسى، أن يغلب على المعالج مثل هذا الموقف الذى يعرى هذا الاغتراب هكذا، حتى يبدو ما أقدمه له وكأنها دعوة مثالية للتخلى عن أى درجة من ذلك تماما، وهذا خطأ. ماذا يفعل الناس بدون الكلام الذى يطل عليهم يوميا على صفحات الصحف حتى لو كان أغلبه لغواً، ومعظمه كذبا؟ ونفس الشىء بالنسبة لوسائل الإعلام الأخرى درامية أو إخبارية أو حوارية، ماذا يفعلون إن لم “يدردشوا” و”يدشوا” من هنا وهناك، ثم يفوتوّن ويتغافلون عن هذا أو ذاك شعوريا أو لاشعوريا حتى يواصلوا حياتهم الصعبة بما يمكن؟ (وأحيانا: ما لا يمكن)
صحيح أن هذا ليس هو غاية المراد حين نتكلم عن “الحياة التى هى الحياة” أو التى هى “أغنية عمل حى”، أو التى هى تواصل شائك رائع جميل مهدد مستمر، لكن علينا أن ننتبه طول الوقت أننا نحتاج جرعة مهمة من هذا الاغتراب العادى الذى تنقده هذه الفقرة بحدة وسخرية.
العلاج الجمعى الذى يركز طول الوقت، تقريبا، على المواجهة الآنية حالا، (أنا–أنت / هنا والآن)، هو النموذج الأمثل للتدريب على مواجهة هذه العينات من الاغتراب للتخفيف منها واحتمال حسن توقيتها.
لا بأس من أن ننبه مكررا أن هذه القاعدة (“أنا–أنت” “هنا والآن”) هى فقط للتفاعل أثناء العلاج الجمعى، وأنه يستحيل تعميمها، بل إنه ينصح بعدم تعميمها فى الحياة العادية.
الحياة العادية هى خلفية ضرورية تكاد تملأ كل الصفحة يمينا ويسارا حتى نستطيع أن نقرأ المتن الضيق – غير المغترب – فى وسطها بالجرعة المناسبة.
الأمر يختلف فى العلاج النفسى الفردى، إذ أن الكلام عادة هو أساس للحوار أثناء هذا العلاج بما يحوى من كل احتمالات الاغتراب عن “هنا والآن”، ولكن بالتدريج يمكن أن تقل جرعة الاغتراب بشكل أو بآخر، ورويدا رويدا يصبح الكلام قادرا على التفعيل الممكن فى مسيرة تعديل السلوك وإعادة تشكيل النص البشرى.
ينتقل المتن بعد ذلك إلى نقد معاد لانفصال كثير ممن يسمون المثقفين حين يقول:
الحياة دى مش ثقافة عليا جدا” فـَـوْقَ هامات البشر”.
أو جوايز يمنحوها للى فاز لما انتشر.
حين ينفصل المثقف بمعنى الصفوة المطلعة العارفة الفاهمة المبدعة أحيانا عن القاعدة العريضة لجموع الناس، تصبح له وظيفة أخرى لا مانع أن تكون إيجابية غير تمثيل وعى عموم ناسه والدفع بهم إلى ما يمكن من فرص لائقة بالجنس البشرى من تطور ونمو وإبداع، المثقف من الصفوة، التى يمثلها مثلا المجلس الأعلى للثقافة عندنا، هو إنسان نافع ويساهم فى الحفاظ على ما يميز فكر ناسه، بل والفكر عامة فى مرحلة تاريخية بذاتها، وربط ذلك بما سبق فى التاريخ، وأحيانا التخطيط لما يمكن مستقبلا، لكن هذا كله لا يمثل العينة المـُـثلى لما نسميه الحياة، فالحياة هى الحياة بذلك، وبدون ذلك، صحيح أن هؤلاء النفر من البشر قد امتلكوا وسائل أرقى وأنفع بكثير من سائر الناس، لكن الصحيح أكثر أن الحياة هى الحياة قبل ذلك وبعد ذلك، “إن الجائزة أية جائزة هى إعلان لتناسب دالّ بين مانحها والحاصل عليها فى فترة تاريخية معينة”([8]).
وبشكل عام، فإنها عادة ما تـُـعطى لمن يستحقها، فلا يصح أن نأخذ حكاية “اللى فاز لما انتشر” على أنها القاعدة، ومع ذلك فالخطأ وارد، والانتشار أحيانا يعمل نوعا من “تأثير الهالة” ليحل محل “تقدير العمل أو الشخص”.
قرأت حذر بهاء طاهر من حكاية “أكثر المبيعات انتشارا من الكتب” Best Seller وذلك قبيل ترجمته كتاب كويلهو “السيميائى” ثم حين تخطى هذا الحذر واطمأن إلى قيمة الكتاب قام بترجمته بحب شديد ومدحه مدحا لم أجد له مبررا فى نقدى له مقارنة برحلة ابن فطومة لنجيب محفوظ([9]). المهم أن الإشارة هنا تـُـنـَبـِّه إلى أن الانتشار، والثللية قد يشاركان فى ذهاب بعض الجوائز إلى غير أهلها، لكن هذه ليست هى القاعدة([10]).
علاقة هذه الفقرة فيما يخص العلاج النفسى هى أن شهرة المعالج ونتائجه المعلنة قد تعطيه “هالة” تؤثر على العلاج النفسى إيجابا وسلبا، فمن ناحية هى تجعل المريض جاهزا قبل العلاج لاحترام التعاقد والأمل فى الشفاء، مثلما سمع وشاع عن هذا المعالج وقدراته أو حتى “كاريزمته”، ولكن على الناحية الأخرى فإن هذه الشهرة قد تأتى من مصادر غير مهنية، بمعنى أنها ليست بالضرورة نتيجة حذقه الحقيقى لمهنته، ولا لنتائج تقاس نوعيا بما نريد أن نروج له ونحن نتكلم عن “الحياة الحياة”، وإنما هى قد تكون نتيجة لنجوميته الإعلامية، أو قد ترجع إلى سماته الشخصية المرتبطة بما يسمى “الذكاء الاجتماعى” وهذا أيضا له وعليه.
ننتقل بعد ذلك إلى الفقرة التالية:
–4–
الحياة هى الحياة
الحياةْ مش هيصهْ سايبه منعكشهْ
الحياهْ حركة جميلةْ مُدهـِشـَه.
بس بتخوّف ساعاتْ
لما بنْعرِّى الحاجاتْ
تشير هذه الفقرة إلى عدة أبعاد معا يمكن تعدادها كالتالى:
إن الحياة ليست بلا نظام، مهما بدت كذلك.
ونحن ننسب “اللانظام” أحيانا للقضاء والقدر، وللمصادفة أو للحظ، والأمر ليس كذلك غالبا، الحياة هى مجموعة برامج بيولوجية وجودية مرتبة ومتداخلة ومتكاملة طولا وعرضا، حتى لو لم تبدُ كذلك فى ظاهرها.
الحياة نظام مضطرد لبرامج منظمة (بما فى ذلك النظام الذى فى اللانظام (العشوائية أو الفوضى، أو الشواش)([11]).
البرنامج الحيوى البيولوجى لا يظهر منه إلا ظاهره حتى لو كان فى واقع الأمر ليس معروفا كله.
الحياةْ مش هيصهْ سايبه منعكشهْ
إن الحياة حركة (وقد سبق الكلام على بعد الحركة منفصلا) لكن الإضافة هنا هى أنها كذلك بما تنتمى به إلى منظومة جمالية فى جماع تناسقها المرتبط بالحركة الإيقاعية غالبا.
الحياة حركة جميلة مدهشة
وطالما أن الحياة حركة: فثمة دهشة، وثـَمَّ خوف، وما دامت الحركة صادقة ومضطردة، فهى تقتحم المعلوم، كما تفتح آفاق المجهول متى لزم الأمر، لأنها حركة إلى مجهول أيضا (بس بتخوف ساعات).
هذه الحركة تؤدى إلى، وتتضمن، اتساع مساحة الوعى، ومن ثم تعميق البصيرة (لمـَّا بنعرى الحاجات).
– 5 –
الحياة هِيَّا الحياة
الحياة مش حلم ليلة صيف، ولا إحساس يكركع
متـل قــلـّه مايله تدلق مية المحاياة فى صحرا مولعة،
لا الزرع يطلع فيها ولانارها فى يوم راح تنطفي.
كما أن الحياة “حركة جميلة مدهشة“، مهما بدا ظاهرها يجرى كيفما اتفق، فإنها أيضا “حركة هادفة مستمرة“، مهما التوى طريقها أو بدا متراجعا بعض الوقت، الصدفة هى من قوانين الحياة أيضا، لكنها حين تـُـضـَـمّ إلى مجمل المسيرة لا تعود صدفة، وحين تصبح الحياة مجموعة من التشنجات غير المترابطة، والتسكينات المؤقتة، يتقطع خيطها، وينفرط عقدها، ويتخثر قوامها، ولا تعود “حياة”.
المرض النفسى، هو وقفة مزعجة على هذا الطريق الهادف فى مجمله، لكنه فى ذاته يعلن اهتزاز للهدف، وخطورة في زاوية الانحراف، ونشاز عن اللحن الأساسى فهو من حيث المبدأ وقفة منذرة وهو ليس حتما بديلا تدهوريا متماديا من البداية للنهاية، وبالتالى فالتعامل معه ينبغى أن يكون فى حدود الاستماع إلى النذير لمعاودة المسير مع تصحيح الاتجاه.
النظر إلى الحياة على أنها مجموعة سلوكيات متقطعة، والتعامل مع المرض فالعلاج على أنه مجموعة عثرات فتسكينات مؤقتة، يجعل الممارسة الطبية العلاجية ممارسة إسعافية محدودة، وهذا النوع من الممارسة قد نحتاجه فى بعض الأحيان، لكن لا ينبغى أن يكون هو القاعدة ما أمكن ذلك، الإسعاف والتسكين شىء، والعلاج لإعادة التشكيل شىء آخر، التسكين قد يهدئ السطح الملىء بسحابة دخان بشعة مزعجة عامِيَهْ، لكنه لا يطفى النار وراء هذا الدخان، وإذا لم نتذكر هذه الحقائق فإن النار مع مرور الزمن تتحول إلى رماد لا إلى طاقة.
العلاج النفسى (المفروض يعنى!) ينتقل بطبيعته:
من مرحلة التسكين المحدود، إلى التغيير الممكن.
من مرحلة اختراق الدخان وإزاحته، إلى مرحلة احتواء النار لتنقلب طاقة مغيّرة.
وإلا يصبح العلاج أقرب إلى تبرير الوقفة، منه إلى تحريك المسيرة.
……………….
…………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال قراءة الفصل الرابع: عن “ماهية الحياة”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (4) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج“، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.
[2] – الاستعارة من رباعيات صلاح جاهين:
غمض عينيك وارقص بخفة ودلع
الدنيا هىّ الشابّة وأنت الجدع
تشوف رشاقة خطوتك تعبدك
لكن أنت لو بصيت لرجليك .. تقع
[3] – قصيدة “خوف” من ديوان “شظايا المرايا”
[4] – قصيدة “خوف” من ديوان “شظايا المرايا”
[5] – الجزء الأول من ثلاثية المشى على الصراط، وهو باسم الواقعة ، الطبعة الأولى 1977 ، الطبعة الثانية 2008، الرواية حائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980
[6] – المقاعد هنا لا تعنى الكراسى التى نجلس عليها، ولكنها تشير إلى حجرة فى بيوت الفلاحين فى بلدنا لاستقبال مجالس الائتناس والشاى، وأحيانا تعنى حجرة المقعد حجرة أعلى المنزل لنفس الغرض، وربما كان تحديد اسم “المقعد” لمجرد نفس أنها حجرة للنوم.
[7] – وقفت بين شطين على قنطرة
الصدق فين والكذب فين يا ترى
محتار حاموت، الحوت طلع لى وقال:
هوَّ الكلام يتقاس بالمسطره
[8] – يحيى الرخاوى: الاهرام: 11/12/1999 “فى عيد ميلاده نجيب محفوظ : جوائز وجوائز”
[9] – النقد المقارن بين ابن فطومه وكويلهوا، دورية محفوظ ثم كتابى دراسات نقدية أحدث فى نجيب محفوظ، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى 2017.
[10] – وقد أشرت إلى بعض تفاصيل ذلك فى الفصل السابق
[11] – من أحدث العلوم المعاصرة علم الشواش Chaos Science وهو يدرس قوانين الصدفة والشواش…الخ
كيف حالك يامولانا:
المقتطف : تكسّرت حواجزُ الأصواتْ،
تخلـّقتْ. .. تطاولتْ،
فأجـْهِضـَتْ،
وضجّت السكينة
التعليق : اه يا مولانا ،كأنك تعلم وترى وتشعر بما يحدث حين يحهض ماتخلق ،رغم أن الأم التى بداخلك لم تحمل ولم تلد ،لكنها ولدت من رحم حركيتك الدؤؤب ،فعرفت ورأيت وشعرت بما يحدث داخل رحم تخلق فيه ما تخلق ،لكنه لم يصمد ولم ينمو ،فتخثر مجهضا ،ساقطا كغيره من مسوخ الأجنة السابقة ،أما ضجيج السكينة ؟! ،فهو عبقرية لفظك ،ولم ألتقطه بعد ….