نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 10-6-2015
السنة الثامنة
العدد: 2840
فضلُ الكهولة، وهل يورّث الوعى النقدى؟!(1)
من أفضل مزايا الكهولة أن تنسى ما لا تحتاج أن تتذكره جدا، وأيضا أن تستعمل ادعاء النسيان لما تريد أن توهم الناس أنك نسيته، الكهولة تسمح لك أن تدعى أنك تنام مبكرا حتى لا تنتظر من سيزورك فى وقت متأخر وأنت تعرف أنه ليس عنده جديد، ثم إنك تستطيع أن تعتذر عن حضور مؤتمر سخيف تعرف توصياته قبل أن يبدا، وأن تمارس الحب باختيار أصدق، وأن تكف عن مشاهدة هذا الفيض الهائل من رطان محطات التليفزيون ونشازاته وكذبه، وقد تجد نفسك سعيدا لأنك لا تسمع – نتيجة للصمم الطبيعى مع إضافات إرادية أو لاإرادية – ما يدور فى اجتماع رسمى لا معنى لمتابعة ما يدور فيه، حتى لو كان سمعك 100% .
حين أصيب والدى بصعوبة فى البصر، ثم صعوبة فى السمع، ولم يكن قد بلغ سنى (رحل رحمه الله فى الثامنة والستين)، لم يعد عنده ما يتمكن من أن يفعله بانتظام يومى، وهو الذى لم يكف عن النشاط أبدا، ثقلت عليه الساعات الأربع والعشرين، كل يوم أربع وعشرون ساعة، واليوم التالى أربع وعشرون أيضا، ولا يوجد يوم بعدهما يلوح بـ “بشرة خير” فيتنازل عن ساعة واحدة (هكذا كان يمازحنى أبى بدلا من أن يشكو من تثاقل الوقت)، كل ما بقى له فى تلك الأيام هو حدة تفكيره وموقفه النقدى الذى لم يهمد، والدى ظل يؤجل أداء فريضة الحج رفضا للقب “يا حاج”، لكنه كلفنى قبل وفاته مباشرة بأن أتخذ الإجراءات لحجه فورا، وبدأت فعلا، وحين سألته: وماذا عن اللقب؟ ابتسم وأشار إلى أذنيه، ففهمت أن الصمم رحمه من سماع اللقب إياه، ومات دون أن يحقق حجته، فكتبها الله له.
منذ وعيت وأنا أراه يتلو وردا يستغرق منه ساعات بأكملها يوميا، حتى وهو يباشر العمال فى الحقل، ثم إننى حين سألته عن سبب عدم انتظامه فى صلاة الجمعة وهو الذى يقوم الليل بضع ساعات كل ليلة، احتج بفتوى للإمام أبى حنيفة تقول “لا تجب الجمعة إلا فى مصر”، وحين دهشت، أفهمنى أن “المصر” ليست هى جمهورية مصر العربية، وإنما لكلمة “مصر” فى هذا النص الفقهى تفسيران اختلف حولهما تلميذا أبى حنيفة (محمد وأبو يوسف) وفهمت من كلا التفسيرين أن ذلك لوقاية المسلمين من الإبادة إذا جمعتهم صلاة الجمعة، وهم أقلية جدا فى بلد لا يستحق لقب “مصر” فقهيا، وقبل أن أحتج بأن هذا لا ينطبق علينا ونحن بكل هذه الأغلبية، ابتسم صامتا، وعرفت أن عنده تفسيرا آخر لعزوفه، قاله لى فيما بعد، ولست فى حل أن أذكره.
حين أصيب بما أصيب به واقتربت النهاية، نادانى وقال لى: لقد كنت أعمل عندكم موظفا بلا أجر، أرعى أرضكم، وأستثمر بعض مالكم، الآن لم تعد لى وظيفة أو فائدة، فلماذا الاستمرار؟ فزعت، ونظرت فى وجهه فإذا به هو هو المحب للحياة، فأكمل يجيب نفسه قائلا: لعل الله قد مدّ فى عمرى برغم ما أصابنى، لأنه عرف أنكم أحوج لدعواتى، ففرَّغنى للدعاء لكم حتى يأذن فى أمرى.
والدى هذا هو الذى نادانى بعد سقوط طائرة داج همرشولد سكرتير الأمم المتحدة فى الخمسينات، وقال لى: بالله عليك، هل هذا الرجل الطيب المتحضر سوف يدخل النار؟ تعجبت لسؤاله، المفروض أننى أنا الذى أسأله هذا السؤال بثقافته الفقهية التى أعرفها، قلت له: إيش عرفنى؟ وأرجعت له السؤال، فأكد لى ثقته برحمة الله وعدله.
والدى هذا زار فلسطين سنة 1924 حين كان طالبا فى دار العلوم، وحين كنت أناقشه ملتاعا بعد هزيمة يونيو الفادحة (قبل وفاته بشهور)، قال لى أنه كان يعرف نتيجة هذه الحرب منذ تلك الزيارة الباكرة حين قارن بين “تل أبيب” و”يافا” وسكانهما، وأن ما حدث مؤخرا هو إعلان الهزيمة بشكل يستحيل إنكاره، وعلينا أن نتعلم: ما هى الحرب، ومتى نبدأها، وكيف ننتصر.
محمد إبنى لا يعرف كل هذه التفاصيل عن جده، تذكرت مقاله فى مجلة سطور مايو 2005، بعنوان “رسالة مفتوحة إلى صديقى مينا غرباوى”، يقول فيها تقدمة لنقاشاتهما حين تزاملا مهاجرين فى نيوزيلندا “.. كنت أريد أن أقابله فى الجنة، ومن المحتمل أنه كان يريد أن يرانى هناك أيضاً ..”.
سألت نفسى : هل الوعى النقدى يورّث؟
وبعد:
ليست المسألة تسامحا من أعلى، ولا وحدة وطنية، ولا قبلات احتفالية، ولكنها ألعاب ذاكرتى فى هذه السن، أستعملها انتقائيا، ربما من باب الاقتصاد، فيتجلى المنطق الأبسط من البداهة، ونسأل الله التعتعة.
[1] – نشرت هذه التعتعة فى جريدة الدستور بتاريخ: 26-8-2009