نشرت فى الأهرام
6-3-2006
فحص الطفل “محمد” أم فحص العبارة ؟
حين يحضر لى مريض من رشيد، وهم قلة بالمقارنة بمرضاى من دمياط أو من المنيا، أو سوهاج، أبدأ فى التعرف عليه وعلى أهله بصعوبة، أنا أمارس المهنة منذ نصف قرن إلا عاما واحدا، عرفت مرضاى المصريين بعشرات الألوف، ومرضاى العرب بمئات العشرات، وبرغم ذلك، فإننى احتاج لأتعرف على أى مريض من بيئة لم آلفها بأن أتعلم من مرضاى المنتمين إليها حقيقة نبضها ونسيج ثقافتها. بالنسبة لرشيد، – مثلا – رجحت بعد لقاء عدد مناسب من مرضاها وبعد أن زرت نخلها، وقابلت بعض ناسها بعيدا عن العيادة، رجحت أن أغلب أهل رشيد “أنصح” من أن يمرضوا نفسيا. استجابتهم للضغوط فى الصحة والمرض غير استجابة أهل الإسكندرية، غير استجابة ناس أم جمص مركز ملوى، غير أولئك الآتين من نجع حمادى، كما أن استجابة مرضاى من الزمالك لنفس الضغوط غير استجابة مرضاى من حارة السكر والليمون أو الدرب الأحمر. فلاحوا الفيوم جعلونى لا أصدق أن الفيوم من الصعيد.
فائدة هذه المقدمة الطويلة هى التأكيد على أهمية فروق الثقافات فى الصياغة والعلاج والتأهيل النفسى، ثقافة الطبيب النفسى شخصيا الممتدة من نشأته الممتزجة بمجتمعه. تؤثر فى استقباله ثقافة الآخرين. هذا بالنسبة للثقافات المحلية الفرعية، ثم تحت الفرعية، فما بالك بالنسبة للثقافات الاجنبية؟ هذا التنبيه ألزم وأكثر أهمية بالنسبة للأطفال!
تعالوا نقرأ بعد ذلك بعض هذا الخبر فى الصفحة الأولى فى الأهرام يوم 16 فبراير 2006، العنوان: “لجنة طبية (فى مجال التأهيل النفسى) لرعاية الناجين من حادث العبارة”، ينتهى الخبر كالتالى، “… ويقوم الخبير الفرنسى – الذى وصل إلى القاهرة – بمناظرة الطفل محمد حسين، وذلك فى بداية لقائه مع الناجين”!!!!. كدت لا أصدق، لكن فى اليوم التالى الجمعة (17 فبراير) تأكد الخبر فى الصفحة الأخيرة. وأنه (الخبير الفرنسى) فحص الطفل محمد بالسلامة، زاد عجبى وتصورت أن هناك تفاصيل عند المسئولين قد تبرر هذا العمل الغريب، لكن ما يصل إلى القارئ العادى مما نشر. هو ما نشر!!! أليس كذلك؟
ثم أن هذا الاهتمام الزائد بنجاة طفل دون أهله يكاد يختزل حادث العبارة المريع والمرعب والمؤلم إلى دغدغة مشاعر إنسانية طيبة، وخلاص. لعبة اختزال المصائب الكبرى الى مثل هذه الهوامش، هى لعبة شائعة، بقصد أو بغير قصد. حين ركز الإعلام المحلى والعالمى على مقتل الطفل محمد الدرة حلت حكاية الدرة محل كل القضية الفلسطينية. يحذق العالم الغربى القادر كيف يمارس هذه اللعبة، سواء بالتركيز على طفل قتل، أم طفل نجا، أم قط وقع فى بئر ويصعب إنقاذه … الخ. خشيت أن تختزل آلامنا تجاه كارثة العبارة الى حكاية الطفل محمد أحمد حسين، الاختزال، والإزاحة والتقريب، واستثارة العطف المحدود، هو من ألعاب: السياسة والدعاية والتزييف الاعلامى وتسطيح الوعى، مرة أخرى: بقصد أو بغير قصد، فوجب التنويه.
ثم ها نحن نكمل هذا الاختزال بحكاية الخبير الفرنسى الذى جاء لفحص الناجيين وأولهم الطفل محمد: إيش عرّف هذا الخبير بالنبض الظاهر والخفى لثقافة أهلنا؟، إيش عرّفه معنى الموت عند أهلنا الصعايدة منذ قدماء المصريين؟ إيش عرّفه معنى الطفولة المصرية جدا؟ إيش عرفه بخيال أطفالنا وألعابهم؟ إيش عرّفه معنى هذا الغرق مع سبق الإصرار؟ إيش عرّفه معنى اليُتْم فى أدياننا الشعبية والرسمية؟ إيش عرفه بعلاقة أطفالنا بأجدادهم وجيرانهم؟
الطفل محمد هو نتاج كل هذه الثقافة يا سيدى الضيف الكريم.
وبعـد
هل نحن بحاجة إلى خبير أجنبى لفحص الطفل محمد؟ أم لفحص العبارة الغارقة؟ أم لفحص كرامتنا، وجهلنا، وشعورنا بالنقص؟
عذراً يا سادة ليس هكذا!!
والله مع الصابرين.