الدستور
7-1-2009
تعتعة
“غزة”، والبشرُ خلايا المخ العالمى الجديد!!
حمدت الله أنه بمناسبة رأس السنة، تأجل نشر التعتعة الأسبوع الماضى، وكنت كتبتها قبل أحداث مجزرة غزة وما تلاها، كانت تطويرا لفكرة طرأت لى حول ما أسميته “المخ العالمى الجديد” تصورت من خلالها أن شبكة الإنترنت العالمية، وهى تحاول أن تستقل عن سلطات المال والاستغلال والاستهلاك المركزية، هى بمثابة مخ عالمى جديد يتشكل ويتبرمج بما يناسب مرحلة الإنسان المعاصر، حمدت الله أن هذه التعتعة تأجل نشرها فقد بدا لى أنه من غير اللائق أن يكتب أى كاتب بعيدا عن هذه البشاعة التى تجرى.
طيب ماذا أكتب، ولماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ ثم ماذا ؟ لقد كتبوا كل شىء فى كل اتجاه، بكل أسلوب، كتبوا غاضبين محرضين مهيَجين ساخطين، كما كتبوا مبررين، مؤجليين، متعقّـلين، متفرجين، جبناء. تحول مؤشرالغضب بعيدا عن إسرائيل وكشف دور أمريكا والمال، إلى اتهام إيران والفرس والشهداء !!، أوعلى الجانب الآخر: سباب مصر وتخوينها، واستمر التراشق بين الفريقين “بالألفاظ”، حتى كادت تتوارى أشلاء الضحايا الشهداء وأنهار الدم الطاهر بين ثنايا الكلمات، فماذا أكتب، ولماذا؟ أليس الأوْلى أن يتواصل جهد كل الناس كل الوقت للسعى لاستعادة عقل البشرية معا فى تشكيل شبكى جديد يمثل أنواعا أرقى من التواصل البشرى تصحح خلل التعصب، وجلطات الحروب، ونزيف استغلال البشر للبشر؟
الذى يجرى عبر العالم الآن تواصلا إلكترونيا، يعلن كيف أن الناس قد امتلكوا أداة تبدو قادرة على مواجهة الحكومات الخائبة والأموال القاتلة، كاد الإعلام التقنى الشعبى التواصلى التلقائى الأحدث أن يؤكد لامركزيته وقدراته. تتضاءل سطوة الدولة والشركات على وعى الناس باضطراد حتى يبدو أن ثم تحولا نوعيا يحدث للبشر.
خطر لى أن الذى يجرى فى غزة، والعراق، وأفغانستان، وكل العالم المظلوم، والمُستَغل، هو خلل جسيم فى تآلف المخ العالمى الحالى، وأنه لم يعد من الممكن أن ينصلح هذا الخلل بمجرد رأب صدع القهر بأنواعه، أو وقف نزيف حروب الإبادة، تصورت أن الجارى ليس مجرد احتلال لأرض الغير، أو قتل للأبرياء، بقدر ما هو تهديد لمسار البشرية جمعاء، وما لم يتكاتف كل البشر لصده، فنحن نهدر دم الشهداء الأطهر.
تصادف حدوث عطل كابلات الإنترنت منذ أسبوعين وأنا أعايش محاولات مخ أخى الأكبر لإعادة التربيط لتجاوز أثار جلطة مفترسة، كانت نيورونات مخه تحاول الالتفاف حول التلف بكل قوة الحياة، تجلى ذلك أكثر بعد أن غادر المستشفى إلى بيته حيث كان يفيق لحظات، ليغيب من جديد، كنت أقرأ فى عينيه جهود إعادة برمجة مخه، كنت أقرأ فيهما ألمه، ومحاولاته للتعرف على وجهى حين أقترب منه، كانت عيناه تبرقان بالرضا وأنا أملّس على رأسه، وحين أنحنى لأقبل يده السليمة كان يسحبها منى كما كان يفعل فى صحته. ذات
صباح، فتحت لى ابنته مهللة: “بابا قاللى ازيك يا عزة”!، أخذت أتعجب من قدرة المخ البشرى أن يقبل التحدى هكذا، ولم ينطق بعدها إلا بضع كلمات منها ما قاله لى “أيمن” ابنه فى المعزى يطمئننى على جمال نهايته، أنه حين سأله “إزيك يا بابا” أجاب “زى الفل”، ثم رحل راضيا مرضيا.
بالقياس: بدا لى أن شبكة الانترنت أصبحت هى المخ الأحدث للعالم البشرى، وأن أفراد البشر عبر العالم قد أصبحوا نيورونات هذا المخ الذى يعاد تشكيله فى مرحلة برمجة جديدة، استعدادا للنقلة القادمة فى تطور البشرية، تصورت أن عطب الكابلات الستة كان بمثابة جلطة إلكترونية، وأن إعادة التربيط – عبر تونس- من خلال الشبكة العربية للعلوم النفسية، قد سمحت للنشرة اليومية “الإنسان والتطور”، التى كنت أنشرها فى موقعى الخاص قبل العطب الكابلاتى، أن تواصل صدورها (بفضل الإبن الصديق د.جمال التركى)، كانت المقابلة بين ما يحاوله مخ أخى، وما يجرى لمحاولة تجاوز العطب الإلكترونى الكابلاتى شديدة الوضوح.
مع امتداد القياس خيل إلى أن كل فرد عبر العالم قد أصبح خلية إنسانية مفردة فى المخ البشرى العالمى الجديد؟، وأن البشر “معا” على وشك أن يتجاوزوا – الجلطات- والأنزفة التى سببتها القوى التدهورية المفترسة. هل نحن، “الناس الخلايا”، قادرون على تجاوز هذا التخثر الإنقراضى الناتج عن انسداد قنوات تواصلنا بجلطات أكوام النقود المتعفنة المغتربة، والأفكار المنغلقة!؟
ثم شاءت إرادة الله أن تفشل محاولات مخ أخى، لكن زاد أملى أن ينجح المخ العالمى الجديد فى ترتيب برامجه الأحدث لتذيب الجلطة الإسرائيلية وما شابهها من كل أنواع نزيف الاستغلال والإبادة عبر العالم.
وإلى أن يحدث ذلك، فليتواصل الاستشهاد لمن يختاره، ولنقدس التضحيات، ولندفع الثمن طاهرا غاليا، بالحرب، والإبداع، والألم، والصبر، والتواصل للتغيير.