“يوميا” الإنسان والتطور
25 – 11 – 2007
… عن الفصام (2)
(من أرشيف ما لم ينشر: جنون صبى تَنَـاثَرَ، فتجمَّد، فتجّمع)
أصل الحكاية:
… فى يوم من ذات الأيام حضر لى الابن “محمد هانى” مدير تحرير روز اليوسف، وطلب منى أن أكتب فى صحيفة يومية، سوف تصدر قريبا!! اسمها أيضا روز اليوسف، أن أكتب صفحة أسبوعيا، تذكرت ما سمعت حين كانت الروزا يومية لفترة رائعة أيام منشئتها السيدة روزا شخصيا، أقول: بعد فرحة تاريخية، وتحفظ مستقبلىّ، سألته: هل يعنى عامودا، قال: صفحة، قلت له: ما حجم هذه الصفحة، قال: مثل صفحة الأهرام، قلت: تريد منى أن أكتب صفحة بأكملها أسبوعيا بحجم صفحة الأهرام وباستمرار؟ قال نعم، وسوف تنشر كل يوم جمعة قلت: ويوم الجمعة؟ قال: نعم!!،
عدت أسأله: فى أى المواضيع تريد منى أن أكتب؟ أنا عادة لا أكتب فى الصحافة العامة فى تخصصى إلا من خلال القضايا العامة، قال: أنت وما ترى، نحن نعرف ماذا تكتب. قلت له: هل هى صحيفة “قومية”، بصراحة أنا أخاف عليكم، أنا أحب روز اليوسف (كنت أعنى روزا الروزا، روزا إحسان، وروزا جاهين، وروزا غانم وروزا الروزا) قال، لا تخشى شيئا، نحن سوف نتحرك فى مساحة رحبة من حرية حقيقة.
وكعادتى حين لا أفهم شيئا، ولا أرفض جديدا، وافقت، وقلت لنفسى: فلتكن التجربة هى المحك وافترحت عنوانا لهذه الصفحة “الإنسان” حتى لا التزم بالسجن فى تخصصى (تماما مثل الإنسان والتطور، وهذه النشرة).
وبدأت،
بدأت وأنا مطمئن أنهم سيستغنون عن خدماتى حين أتخطى السقف،
وقد كان، ولكن أكثر الله خيرهم، فلم يحدث ذلك إلا بعد عشرة أشهر إلا أسبوعا.
وحتى أوضح لقارئ (زائر) هذا الموقع موقفى من هذا القبول، سوف استسمحه أن أثبت هنا استسهلال، وبعض مقدمة، أول مقال نشر فى 19-8-2005
استهلال المقال الأول:
نشأتُ – مثل جيلى – فى رحاب مقالات إحسان عبد القدوس السياسية فى روز اليوسف فى الأربعينات وحتى قامت الثورة. كنا نستنشق من خلالها عبير تلك السيدة العظيمة التى لم تعد كيانا بشريا له ولد ومجلة ، بل كانت وما زالت معنى متجددا دائما. طمأننى الجيل الذى تولى القيادة مؤخرا أن روزاليوسف هى روزاليوسف، وأنها تتجدد أبدا، فقبلت الدعوة.
أولا: “الإنسان العادى، و…المعرفة”
هى محاولة لنتعرف على ما هو “إنسان” بعد كل الذى كان ويكون.
الإنسان (كل إنسان) دون سائر الأحياء، لا يكون كذلك إلا إذا تميز بالوعى، وأيضا تميز بجدل محاولة عمل علاقة بآخر من نفس جنسه، علاقة تتجاوز مجرد “الاستعمال” و”الكر والفر”.
كل واحد منا ، على هذا الأساس، مهيأ – دون وصاية معقدة- أن يفعلها ، أن يعرف من هو.. لا يمكن أن نفعل ذلك إلا إذا بدأنا من إنساننا نحن، وتحديدا من واقع ثقافتنا الراهنة.
من نحن؟ ماذا الإنسان؟ من هو؟ كيف هو؟ ماذا يستطيع؟ وكيف يضيع؟
لا نملك إجابات جاهزة، لكننا نحاول تحمل مسئولية السؤال وكل تركيزنا على الشخص العادى، متلقيا ومحاورا وناقدا ومبدعا.
نحن نقدر منذ البداية خطورة الطموح، وصعوبة التواصل، إلا أن الصعوبة لا تعنى الاستحالة على أية حال.
وقع بعض العلم، أو أغلبه، فى مأزق حقيقى حين تصور أنه يستطيع أن يحل محل المعرفة والخبرة المباشرة، ، تماما مثل مأزق بعض الفقه الرسمى حين تصور أنه يمكن أن يحل تماما محل الإيمان الفطرى،
العلم المؤسساتى أصبح باهظ التكلفة، فاحتكره أو كاد يحتكره من يملك تكلفته،
العلم أخطر وأنبل وأهم من أن يـُـترك للعلماء
المعرفة أكبر من العلم وأشمل، لكن العلم أنصع وأدق.
والوعى أوسع من العقل وأرحب، لكنه لا يلغيه ولا يحل محله!
يقول أينشتاين:
العلم ليس سوى إعادة ترتيب لتفكيرك اليومى.
كما يقول:
لا يمكننا حل مشكلة باستخدام العقلية نفسها التى أنشأتها.
***
وبعد واليوم يا أهل موقعنا هذا:
ألا ترون معى كم كانت النية حسنة،
المهم ظللت أنشر أسبوعيا بانتظام، وكنت أحصل على العدد يوم الجمعة بطلوع الروح، لم يكن متاحاً عند أغلب باعة الصحف حتى فى القاهرة، فما بالك فى الأقاليم!! حتى حسبت أنها صحيفة سرية بشكل أو بآخر، ومع ذلك أخذت المسألة جدا وكأنى أنشر فى الحياة اللندنية أو الأهرام (أيام كان أهراما بحق).
بدأت بهذا المقال الذى أثبت مقدمته هنا، وكان آخر مقال نشر لى يوم 7-4-2006، وحين استغنوا عن خدماتى، ولم يخطرونى قبلاً، ولم يعتذروا لى، ولم يشكرونى،(وطبعا كانت الكتابة بدون مقابل)، هذا هو نفس ما حدث مع الأهرام بعد كتابة منتظمة لعدة سنوات، كانت النهاية بنفس الطريقة، ربما لنفس السبب، الله أعلم.
وهم وما يرونه مناسبا
“وأم الأعمى أدرى برقاد الأعمى” (مثل لا يعرفه كثيرون والحمد لله، وبالتالى لن أشرحه).
ولكن
ما علاقة هذه المقدمة الطويلة بموضوع اليوم عن الفصام؟
أكتشفت أن آخر مقال أرسلته وكان المفروض أن ينشر فى 11-5-2006 لم ينشر حتى الآن، كان مقالا عن الفصام، يا خبر!! كيف تسحب هذا الموضوع الجوهرى فى فكرى إلى هذه الصحيفة السرية اليومية هكذا؟ كيف استدرجتُهم لينشروا – للقارئ العادى – عن الفصام بهذه التفاصيل الدقيقة، … كم أنا لئيم!!.
قرأت المقال، ووجدت أننى لا أميل إلى نشره كما هو، لأنه كان رقم (14) فى سلسلة المقالات التى سبقته، والتى كانت تقدم للقارئ العادى مفهوماً اعتبرته شديد الأهمية بالنسبة للتركيب البشر، وهو أننا ذوات كثيرة فى “واحد“، ولسنا مجرد أجزاء مركبة من شعور ولا شعور وكلام من هذا، كانت السلسلة بعنوان “أنا واحد ولا كتير”، فتصورت أن نشر هذا المقال رقم (14) الآن كما هو فى الموقع دون الإشارة إلى المقالات الثلاثة عشر السابقة هو أمر غير مناسب.
ولكن الوقت أزف، ولم يكن عندى غيره ليومية الغد، فقلت لنفسى: إلى متى تظل وصيا على المتلقى هكذا؟
هذا مقال لم ينشر أصلا فى أى مكان،
وهو للقارئ العادى
وهو تقدمهُ لصلب ما هو فصام كما تريد أن تقدمه.
كفى وصاية لو سمحت.
وافقت على مضض مع احتفاظى بالحق فى مناقشته مستقبلاً إذا لزم الأمر
ها هو المقال، أنشره بنفس صورته التى كنت أعدد لكل مقالات هذه “الصحيفة السرية” الكريمة.
أما قبل
(مقدمة قبل عرض الحالة)
(الأسماء غير حقيقية، وكذلك الصور ليس لها علاقة مباشرة بالحالة)
حين انفتح علىّ ملف “الجنون”، وجدت أننى فى بيتى أكثر دفئا وأقرب ائتناسا، أنا أحب أن أعلن أننى طبيب مجانين، أفضل ذلك عن الاختباء وراء الاسم الحركى “طبيب أمراض نفسية”، برغم أن المرضى وأهاليهم يريدوننى متخفيا وراء هذا الاسم حسن السمعة، وهذا يعطلنى أحيانا.
المنظور الذى أعمل من خلاله هو أن الجنون موجود بداخلنا كامن ينتظر أن ينقض إذا نحن لم نحسن التصالح مع كل “من” هو، منْ هم “نحن”، ولو بدرجة نسبية، لكن متحركة.
الاعتراف بالـ”كتير فينا” ليس نزهة عقلية، أو معلومة طريفة، هو أساس حركية الوجود لبناء الفرد فالمجتمع.
نحن نقى أنفسنا من الجنون بأن نسمح بمكوناته أن تشترك جميعا فى لحن واحد.
إذا توقفنا واختبأنا وراء أغطية “العادية”، فالحال قد يمشى، وربنا يستر.
نعم: الحال يمشى ولكن لو استمر مَشْيُهُ على نفس النمط الساكن فعلينا أن نعرف أن ثم خطأ ما.
كلما هددنا الـ”كتير” بداخلنا بالخروج عشوائيا (الجنون) سارعنا بزيادة عدد من الأغطية والألحفة والحواجز والأسوار والأثقال.
إذا زادت هذه الأحمال بلا توقف على حساب حركية الداخل أُصِبْنا بما يسمى الأمراض النفسية الحقيقة (العصاب) التى هى محاولة لتغطية وضبط الجنون الذى يتقلقل داخلنا من فرط كتم أنفاسه.
من هنا صار موقفى العلاجى (والشخصى، والوقائى) هو أن أتعامل مع الجنون فى الداخل حتى لو كان ما زال كامنا بعيدا عن التناول.
نعم، حين يطمئن المريض النفسى العصابى (هو لم يجن بعد) من أن الجنون بداخله ليس غريبا عنه، (عنَّا) وأنه لن ينقض عليه إلا إذا أنكرنا حقه فى التعبير بطرق غير مجنونة، حين نتصالح على جنوننا فى الداخل، لا نمرض نفسيا (عصابيا) من فرط الضبط، ولا عقليا (جنونا) بكسر الحواجز ورفع الأغطية واقتحام الأسوار.
تعاملى هو مع الجنون فى كل الأحوال:
إن كان كامنا يتغطى بصورة المرض النفسى العصابى، فعلينا أن “نُهَوِّى” عليه ونتفهم أسباب قلقلته أنها إنكارنا حق حركته،
وإن ظهر يفرض نفسه على السطح تناثرا أو شطحا أو بعدا عن الواقع (جنونا) فهى المواجهة وإعادة التنظيم.
أول خطوات الوقاية من الجنون الصريح، هى احترام “الكثير فى داخلنا”، وإعطائهم الفرصة للتناوب والتعبير من خلال الأحلام أو اللعب أو الإبداع،
بل كل ذلك معاً.
الحالة:
جنون صبى: تَنَـاثَرَ فتجمّد، ثم تجمّـع
هو صبى فى مستهل المراهقة (15سنة)، واحد من ناسنا الطيبين، عينة من عمق ما هو نحن شعبا مجتهدا مثابرا طول الوقت.
تفكك الصبى وتناثر حتى أصبح نموذجا لما يسمى الفصام (اسمه الجنون الباكر أو جنون المراهقة، تاريخا) ….
اسمه: علاء محمود (اسم مستعار مثل كل الأسماء)، عمره خمسة عشر عاما، يسكن فى حى فقير بالقاهرة الفقيرة ، يعمل “صبى مطبعجى” ترك المدرسة فى سن العاشرة ليعمل أعمالا متفرقة متقطعة،
تاريخه العائلى إيجابى للمرض العقلى (إبنة الخالة)،
وهو الأخ قبل الأخير لخمسة من والد قهوجى فى نفس الحى،
الأب غيور بعيد ضعيف،
والأم قوية حاضرة أنانية ثائرة محتجة بطريقتها،
كان الأب المشغول البارد يشك فى أن ثمة علاقة بين الأم وجارهم، انتهى هذا الشك بالطلاق منذ ثمان سنوات، (كان عمر علاء 7 سنوات) و تزوجت الأم من نفس الجار!!! بعد الطلاق مباشرة، ولم تر أبناءها – دون أن يمنعها أحد من ذلك- لمدة عام ونصف عام، ثم عادت الزيارات المتباعدة حتى توفت إثر إصابتها، بعد أن شجت رأسها فى مشاجرة مع زوجها الجديد حين دفعها فاصطدمت فى عامود سرير حديد، مع أنهم زعموا أنها توفت بورم فى المخ، ولم يحدث تحقيق.
حين دخل علاء على الطبيبة للكشف لأول مرة بادرها بقوله:
“عندى خمس سنين، أنا عندى خمس سنين، عندى خمس سنين”.
وحين سألته الطبيبة عن شكواه قال: مفيش حاجة تعبانى يا دكتورة”.
بعد يومين من دخوله المستشفى كان قد نجح أن ينام ليلتين ببعض العقاقير النيورولبتاتmeurolepties (ليست منومة أساسا)، عاودت الطبيبة سؤاله، فأجاب بما يلى:
“مفيش حاجة تعبانى ، ماشى ياعين أمك، أصل احنا كنا بنهزر شوية مع بعض أنا والدكتورة “س”، أصل أنا كنت بذاكر شوية فى الحمّام، وقابلتنى واحدة، وآدى كل اللى حصل، حبينا إحنا الاثنين، واتقفنا نتجوز أول ما نعيش – فيه واحد بيسحبنى ورايا كل يوم، باسمع أصوات بتقولى ووى ووى ووى، كان فيه واحد قاعد جنبى بيأكّلنى بس مش عارف جه منين، إنتِ بتحسبى إنى أنا اللى لبستهولــِـك؟ طب يالا قوم يا حبيبى، تعبت من أول امبارح، هش يا واد قوم من قدامى، إنت اللى بتعمل فىَّ كده.”
اعتاد الأطباء أن يقولوا إن مثل هذه الشكوى هى منتهى الخلط وهم يصفونها أحيانا بأنها “سلطة كلام”، وهذا صحيح، علاء لا يكاد يكمل جملة واحدة على بعضها، النقلات سريعة ، والصور متلاحقة بدرجة تبرر مثل هذا الحكم المبدئى، سلطة كلام لكن من منطلق مسألة “أنا واحد ولا كتير“، تعالوا معنا (وأغلبنا ليسوا أطباء والحمد لله) نعدد كم واحد ظهر فى هذه الأسطر
(1) طفل عنده خمس سنوات (هذا ما قاله ابتداء)
(2) واحدة قابلته فى الحمام
(3) واحد يسحبنى ورايا كل يوم
(4) أصحاب الأصوات التى تقول له ووى ووى ووى
(5) واحد يجلس بجواره يؤكله وهو لا يعرف من أين أتى
(6) واحد يحسسه أنه هو الذى لبسه لها (لبّس ماذا ليس مهما)
(7) واحد راح يهشه حين ظهر أمامه وهو ينهره “إنت بتعمل كده ليه”.(؟)
إن إعلان ظهور الطفل الذى بداخله هكذا على سطح الوعى (أنا عندى 5 سنين) كان هو كل ما قاله فى أول مقابلة ابتداء دون سؤال،
ثم تظهر بقية الشخوص مُسقطين إلى الخارج وهو يستقبلهم “معا فى نفس الوقت” تقريبا.
كما نلاحظ أيضا أن هؤلاء الشخوص الذين خرجوا من داخله (حسب “الفرض” الذى نعمل من خلاله) لا يتخذون نفس الموقف،
فواحد منهم يسحبه،
والأخر يقابله،
وواحد وراءه،
ثم واحدة قابلها فى الحمام،
وواحد يهشه وواحد ينهره.
لو ترجمنا كل هؤلاء إلى مجرد “أفكار خاطئة”، كما نفعل نحن الأطباء عادة، لضاع منا الخيط.
نستمع إلى جانب آخر من حكايته تحكيه أخته (20 سنة) المخطوبة:
“من 3 شهور علاء كان يحب بنت معاه فى الشغل، هيه اللى كانت بتعمل حاجات عشان يحبها، هيه كبيرة عندها 26 سنة، وكانت قايلاله إنها مِن سنُّه، وكانت دايما تقعد تتكلم معاه وتاكل معاه،
وفى عيد الحب جابت له طقم هدوم، وهوه كان ابتدى يتعلق بيها أوى وكان ابتدى يحكى لاخواته عنها، ولما سابت الشغل فجأة كان ده بداية تعب علاء، هيه كانت بتعامله كويس وبتعطف عليه زى أخوها الصغير بس هوه تقريبا أخدها حاجة تانية. ولما سابت الشغل جه يوميها شكله حزين وبيعيط وأما تكلميه ما يردش عليكى، ويبص للحيطان زى ما يكون خايف أو مرعوب من حاجة….، وماكنش ينام ولا بالليل ولا بالنهار ويقوم الليل يصحينا يقولنا
قوموا اتكلموا أنا ربنا بيحبنى، فيه حاجة بتجيلى وأنا نايم بتخلينى أعمل الصح، إنتوا مش حتحسوا بيها،
ويقول لأخويا
أنت مش بتصلى ليه أنت مش بتحب ربنا، ……، ويقول:
إنتوا ليه كلكوا بتقولوا علىّ إنى وحش وحرامى؟ أنا كويس، إنت أختى، أنا مش هأذيكى،”
لا ينبغى للناس أو الدراما أو حتى الأطباء أن يختزلوا كل هذا الموقف إلى حكاية “اللى حب ولا طالشى،”، هذا التفكك هكذا لا يحدث إلا لمن تهيأ له، هى مجرد قشة قصمت ظهره، فتراجع ضعيفا، مكشوفا، عاريا، يستنجد بأى دعم، ويستند إلى كل داعم وهو يعلن براءته من ذنب لم يرتكبه، تطورت الحالة بسرعة مخيفة إلى درجة من التدهورر جمعت بين النكوص والتصلب (الكاتاتونى).
تكمل أخته:
من أسبوعين كلامه قل وساب الشغل ولما يروح يشترى حاجة يقف ساكت قدام الراجل، ينسى هوه المفروض يقول إيه، وكل ما ياكل حاجة يرجّعها، باطنه مش قابلة أى حاجة وبطل نوم ويبص للحيطان ويقول يا ماما، زى ما يكون بيشوف حاجات تخّوفه، ولما نسأله يقول لنا “بس”، بصوت واطى زى ما يكون خايف حد يسمع، وفضل واقف على رجله يوم بحاله من 9 صباحا – 10 مساء جنب باب الشقة حتى عمل حمام بول وبراز فى البنطلون، ويبقى واقف ساكت ما يتحركشى، وما يكلمش حد، وكل ما نحركه ونشده لجوه يزقنا ويرجع تانى لنفس المكان، وخرج بره البيت وقف جنب الجامع برضه بنفس الشكل بتاع ساعتين
هذه المظاهر تعلن ما وصلت إليه الحالة بهذه السرعة المخيفة، وبرغم أنها مرحلة خطيرة فعلاً، فإن التعامل معها برفض، أو تجنب، أو حتى بشفقة ماسخة مفرطة ، هو من أخطأ الخطا. النكوص هنا تخطى مرحلة الطفولة إلى مرحلة التجمد كالمادة قبل الحياة،
هذا الشاب حين تفسخ بعيدا عن بعضه البعض بهذه السرعة، بهذه الجسامة، أصبحت كل حركة منه، من جسده، تهدده بالتلاشى.
الجمود هنا يوقف الحياة الفاعلة بقدر ما يوقف حركية التناثر، وكأنه دفاع ضد مزيد من التناثر (عكس ما يعتقده كثير من الأطباء ويعتبرونه هوة التدهور).
مفاجأة التحسن
برغم كل هذا التدهور، فقد تحسن الصبى بالعقاقير المهدَْئة الجسيمة وبعض جلسات تنظيم إيقاع الدماغ (ما كانت تسمى للأسف صدمات كهربائية) و تحت مظلة علاقة هادئة بناءة مع الطبيبة ومجتمع المستشفى، تمت المقابلة مرة أخرى مع الأستاذ (الكاتب) بعد ذلك ، وهى المقابلة التى نقتطف منها ما يلى:
– إزيك يا علاء
– الحمد لله ، قرّبت أخف
– أنا أحب الكلمة دى، “قرّبت”، أحسن من خفّيت
– متشكر يا د. يحيى
– إنت مش كنت نسيت إسمى فى أول المقابلة
– أنا آسف
– هوا اللى ينسى اسم حد، يبقى غلطان لدرجة إنه يعتذر
– يعنى
لا أحد يمكن أن يصدق أنه نفس الشخص الذى أوردنا مقتطفا من شكواه فى البداية. أليس ذلك دليلا على أن المرض إذا لحقناه باكرا، وأمكن التعامل معه بسرعة ضامّة، يمكن تجميعه هكذا، ثم إن فرط التناثر حتى درجة التدهور (التى جعلته يصل إلى درجة ألا يتحكم فى إخراجه)، ثبت أنه ليس علامة سيئة جدا كما تبدو لأول وهلة، وبالرغم من هشاشة تركيبه التى سمحت بهذا التناثر بمثل هذه السهولة، إلا أن التزامه السابق، وتماسكه فى عمله من سن مبكرة، ربما تكون من أهم العوامل التى أرجعته بسرعة إلى هذا التجمّع “فى واحد” من جديد
انتقلت نفس المقابلة بعد ذلك إلى تناول الحدث المرسب (حب زميلته) على الوجه التالى:
– إنت إيه علاقتك دلوقتى بالدكتورة نور (الطبيبة المقيمة المسؤولة عنه).
– دكتورة حلوة وطيبة
– ما تقولها كده يا أخى، ينوبك ثواب
(ينظر إليها بود حقيقى، فيكمل الطبيب):
– يا لهوى على نظرتك دى، إنت ابن حلال.
(يطأطئ علاء رأسه)
– ممكن يا علاء توصف لنا مشاعرك دلوقتى نحو الدكتورة نور ؟ (مكمِّلا) زى ما انت متأسف إنك نسيت إسمى، أنا متأسف برضه إنى باسألك كده زى ما يكون تحقيق.
– مشاعرى نحوها كويسة
– يعنى إيه كويسة؟
– باعزّها زى اختى
– يالله عِزّها قدامنا
– إزاى يعنى؟
– ما اعرفشى
(يطأطئ رأسه وهو يبتسم)
– طيب نرجع لحكايتك من الأول، إنت فى الأول قلت كلام مفكوك بشكل ! أقولهولك؟
– قول
– مثلا كنت بتقول “يسحبنى ورايا”، يعنى إيه يسحبنى ورايا؟ إللى يسحب يسحب قدام؟
– مين هوا ده؟
– أنا عارف؟ دا انت قلت برضه “الواحد إللى قاعد جنبى يأكلّنى”
– مش فاكر
– بصراحة ، أول ما دخلت المستشفى ، كان فيه حاجات كتير مع بعض، إنت جواك كله كان ملخبط على بعضه، أصوات على تحركات على دربكة
– مش فاكر
أحسن، باقولك إيه يا واد يا علاء، عارف وصل بيك الحال لحد إيه؟
– لحد إيه؟
– بصراحة حاجة مش كويسة، بس لازم أشاور لك عليها عشان تعرف كان فيه إيه
– …..
– إنت وصلت لدرجة ما كنتش بتتحكم فى البول والحاجات التانية
– لا
– حد ينسى حاجة زى كده يا شيخ؟
– طيب نرجع للدكتورة نور (….: كان انتباهه بدأ يضعف عندما حاولنا تذكرته بما كان) ، صَحْصَـحْ شوية زى أول ما دخلت علينا النهارده يا علاء
– ما انا مصحصح
– لا إنت غطست ساعة ما جبنا سيرة الفركشة، طيب هى الدكتورة نور بتحبك، ولا إيه؟
– أيوه بتحبنى، زى اخوها
– حد قالك زى مين، هوّه انت مش خايف إنها تحبك، وبعدين فجأة تسيبك؟ تنساك؟
– مش عارف
– إنت فاكر زميلتك فى الشغل إلى كانت بتحبك
– أيوه
– مش هى برضه كانت بتحبك زى اخوها
– لأ، دى ما كانتشى بتحبنى زى اخوها، دى كانت بتحبنى حب حقيقى، كانت بتحبنى وتعطف علىّ.
– هى اسمها إيه؟
– مش فاكر
– ولاّ خايف تفتكر اسمها؟
– لا، أنا نسيتها خالص
– يا شيخ !! نسيت إسمها ونسيتها كمان؟ بقى بعد العِشرة واللى كان، تنسى بالبساطة دى
(د. نور ) – أول حرف فى اسمها “هـ”
– مش فاكر
– اشتغلت معاها قد إيه؟
– شهر شهرين ، مش فاكر
– شهرين وتنسى إسمها يا مؤمن، هى عندها كام سنة
– عشرين
– إنت عارف عندك كام سنة ؟
– خمستاشر
– بس هى كان عندها ستة وعشرين سنة
– لأه
– إنت كنت عايزتتجوزها ؟
– هى كانت مخطوبة
– إيش عرفك
– خطيبها كان بييجى ياخدها من الشغل
– شفت خطيبها؟
– أيوه
– أسمر ولا ابيض
– أبيضانى
– وشعره ؟
– أسود
– كان مسبسبه ؟
– مش عارف (يتراجع إنتباهه أكثر)
– إنت رحت فين يا علاء؟ عايزتنام ولاّ إيه؟
– لأه
عايزتمشى؟ كفاية كده؟
– لأه
عايز تقعد معايا ليه؟
– مش عارف؟
إنت بتحبنى؟
– أيوه
– طب وانا؟ باحبَّك؟
– حضرتك بتعزّنى
– إيش عرّفك؟
– أكيد بتعزنى.
تعقيب أخير:
أولا: الفرق ظاهر بين فرط التناثر فى البداية، ودرجة التماسك فى المقابلة.
ثانيا: بالإضافة إلى الاستعداد الوراثى (الاستعداد للتناثر أساسا بدليل تاريخ الأسرة) فإن هذا الصبى لم تصله رسائل ضامّة من والديه، أعنى رسائل تكفى لضمه إلى بعضه فى “واحد صحيح”، واحد قادر على استيعاب “الكثير” الذين بداخله على مسار النمو.
والده مهزوز مهزوم، شاك فى زوجته القوية الذاتوية (التى ليست لها إلا ذاتها)، ليتبين بعد ذلك أن شكه كان له مايبرره (فقد تزوجت الذى كان يشك فيه)،
الأم بعيدة عن أولادها، جافة المشاعر، على النقيض من فرط اندفاعها لنفسها ورغباتها لذاتها.
ثالثا: حاول الصبى أن يعوض غياب أمه الواقعى، وغياب أبيه الفعلى (برغم تواجده الشكلى) بأى تعويض مدرسى أو علاقاتى، فلم ينجح فى المدرسة، وتنقل سريعا بين أعمال متعددة، كانت تجمعه إلى نفسه، بقدر ما ترحمه من فرص الطلاقة الطفلية، والحركية والمبادأة على مسار النمو.
رابعا: وجد علاء فى زميلته التى تكبره بتسع سنوات ما يشبع جوعه بشكل ما. لعلها لم تقصد إيذاءه واعية، لعلها وجدت فى احتياجه الشديد لها، ما كانت هى بدورها محتاجة له سواء أمام نفسها، أو لافتقارها مثل ذلك من خطيبها (ربما) أو أنها كانت تستطْيبة، فالتقطت طفولته الجائعة، وراحت تلعب معه للتسلية، دون استبعاد جرعة من حنان صادق.
تأكيد علاء على التفرقة بين “حبها الحقيقى”، وحب الدكتورة نورله “زى اخوها”، يشير إلى أن الذى تحرك فيه لم يكن الحاجة إلى أم خالصة (اللهم إلا إذا تبنينا وجهة نظر فرويدية، باعتبار خطيبها هو الأب المنافس، بشكل ما).
ومهما التمسنا العذر لزميلته تلك فقد ترتب على عواطفها ما لم يكن فى حسبانها. يقول المثل الصينى: تقذف الأطفال الضفادع بالحجارة وهم يلعبون، لكن الضفادع تموت جدا لا هزلاً.
الخلاصة
إن ما يَجْمَعُ الكثيرين (الكتير) داخلنا هو تماسك ما هو خارجنا وانتظام إيقاعة وسلامة رسائله، “خارجنا هذا” يبدأ بالأسرة بالأم والأب،
علاء هنا لم يصله طفلاً إلا فراغ الأب، ودوران الأم حول نفسها لنفسها فى المحل،
كيف إذن يمكن أن تتناغم مستويات وعى علاء (شخوصه) على درب النمو.
إن ذلك النشاز من حولنا لا يسمح لأى منا أن يؤلف لحنه الخاص المنساب إلى اللحن الأكبر يتناغم مع الوجود البسيط الحقيقى.
إن التغطية الخارجية للهشاشة المتراكمة، بالضبط والربط والعمل والإنجاز فقط، قد تؤجل التناثر، ولكنها قد تخمد الحركية الداخلية حتى يتوقف النمو برغم ظاهر السلامة.
إن مثل هذا الجنون الذى يشتهر باسم “الفصام” إنما يعلن خيبتنا فى استيعاب “الكثير فينا”،
كما أن التغطية بأثقال الكبت والدفاعات طول الوقت إنما تعلن خيبتنا فى استيعاب الحركة داخلنا.
لا مفر من اتاحة الفرصة للحركة المتنامية بين الداخل والخارج طول الوقت على كل المستويات الممتدة.
وإلى حديث لاحق – ربما عن نفس الحالة – أرجو أن يكون غداً.