“يوميا” الإنسان والتطور
30 – 10 -2007
حالات وأحوال (طب نفسى)
…. عن الفصام
وصلنى من أصدقاء وزملاء أن “جرعة العناصر” والتساؤلات، التى ظهرت أمس كمقدمة لقراءة سيرة وشخصية “هرمان هسّه” من إبداعه، كانت أكبر مما يتحمل زائر الموقع، كذلك كان الحديث عن المنهج، ثم إن طرح كل تلك الفروض بهذه الطريقة ربما تجعل الزائر، خصوصا الكسول أو المتعجل – يعرب عن إكمال الموضوع أو متابعته، خاصة إذا ظهر فى حلقات، وقد قبلت تنبيههم الكريم، فوجب الاعتذار.
هذا كله صحيح، ومهم، ولابد أن أضعه فى الاعتبار، خاصة وأن هذا الأسلوب قد تكرر منى، منذ بداية كتابة هذه النشرة اليومية: مرة وأنا أكتب عناصر (ومصادر) ماذا حدث للمصريين ، ومرة وأنا أكتب عن إعادة النظر فى إشكالة القيم والأخلاق ، النتيجة أنه بدلا من أن تتزايد التعقيبات والمداخلات على ما كتبت وأكتب، تراجعتْ، إلا من هؤلاء الأصدقاء القلائل الذين أتصور أنهم مستمرون لمجرد أنهم يصبرون على العبد لله حتى “يرسى له على بر”.
ستون يوماً مضت على ظهور هذه النشرة، ولم أستطع أن أحدد موقعها بين كل ما أكتب، ولم أتعرف على الفئة الأوْلَى بالخطاب من خلالها، ولم أستقر على جدول ثابت لأيام الأسبوع – كما حاولت “ذات يومية” – حتى ينتقى كل زائر ما يهمه فى يوم كذا، ولا يشغل باله بسائر الأيام، ستون يوما بالتمام والكمال، وأنا مازلت محتارا مترددا لم أستقر، حتى وصلتُ إلى حالة ليست جيدة فعلاً، وأفضل ألا أصفها لو سمحتم.
هربا مؤقتا من هذا المأزق، قررت أن أؤجل كل شئ آخر، بما فى ذلك دراستى النقدية عن هرمان هسة، وخاصة بعد أن حصلت على كتب أخرى له، ومزيد من المعلومات عن بعض سيرته فتغير رأيى فى سيرته الذاتية من خلال إبداعه بما يحتاج لمزيد من الفحص والتأنى، أقول أؤجل، ولا أعزف عن هذه الدراسة، وحتى أضعها – فى دورها – فى اليوم الذى خصصته للنقد الأدبى (يوم الأحد).
مازلت اقترح، وأطلب النصيحة فى نفس الوقت.
الأقتراح وقد سبقت الإشارة إليه: هو تنظيم أيام الأسبوع بدءاً بيومى الخميس:(نجيب محفوظ) والجمعة:(بريد / حوار الزوار) ثم أخصص السبت: حالات وأحوال (طب نفسى بدءاً بالفصام) والأحد: “لسر اللعبة”، (ألعاب علاجية وكشفية)،والاثنين: “للإدمان” (المعنى والتحدى) والثلاثاء: “للنقد الأدبى والإبداع”، ثم الأربعاء: (لما ليس كذلك).
ربما يكون أوضح لو قدّمت هذا الاقتراح فى جدول كالتالى:
أقتراح أسبوعى
السبت | إدمان (حالات أو تنظير) |
الأحد | نقد أدبى (وإبداع) |
الاثنين | سر اللعبة ( ألعاب علاجية وكشفية) |
الثلاثاء | طب نفسى (بدءاً بالفصام) |
الأربعاء | يوم حر (ما ليس كذلك) |
الخميس | نجيب محفوظ |
الجمعة | بريد / حوار |
ما رأيكم؟
لا، بصحيح! ما رأيكم؟
أعلم أننى أضجرتكم بكل هذا التردد، لكن لابد أنكم اكتشفتم أن هذا طبعى، ولعله من أساسيات وجودى، وأنا لا أرفضه، بل أعيد اكتشافه باستمرار، وهو قد يشير إلى جانب إيجابى مثل استعدادى الدائم للمراجعة، ثم إن هذه الحيرة لم تحل أبداً دون أن أواصل طريقى طول الوقت، لأقوم بعد كل عثرة أو وقفة أكثر حماسا وتصميما، أو قل: بعد كل موت، أنشط بعثا، وهذا بعض ما سوف أهديه لنفسى غداً بمناسبة خاصة: أكتفى منها الآن باقتطاف ما يطمئنكم ويطمئنى إلى احترام أى وقفة، وعدم الخوف من أى احتمال تراجع:
يا سادتى هذا أنا، لمَّا أَزَلْ
سيفى خشب؟!
لكن لؤلؤة الحياة بداخلى لا تنْكسِرْ
وبرغم واقعنا الغَبى
ينمو البشر
فى ملعبى
ومن قصيدة أخرى (محدثة):
“وكل صباحْ…
يزيح الجنيُن، ظلامَ الهروبِ الجبانْ
ينادى الوليد العنيد على الشمس .. هَيَّا
هيّا اتبعينى.
نهارٌ جديد”
عثرت على القصيدتين اللتين منهما هذين المقطعين، بينما كنت أقلب صفحات كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” لأبدأ موضوع الفصام فى هذه النشرة اليومية، فى محاولة الالتزام بالجدول المقترح، أليس اليوم هو الأثنين، وغداً الثلاثاء يوم الطب النفسى بدءاً بالفصام؟!!
…عن الفصام
الفضل فى العودة إلى الكتابة فى هذا الموضوع الأساسى الذى يمثل لى الفكرة المحورية فى كل ما هو طب نفسى يرجع إلى ابنتى “د. أمانى الرشيدى”، تلك الصعيدية الرائعة التى شرفت بتلمذتها على يدى هنا منذ سنوات، لتكمل –هى وشطارتها- هناك فى فرنسا كل ما تعد به وتقدر عليه، كانت أمانى –ومازالت- كلما عادت فى الإجازة السنوية تسألنى هل كتبت كتاب الفصام، فأجيبها (وهى لا تنتظر الإجابة لأنها تعرفها) بالنفى، فتنظر إلىّ نظرة الأم الممتلئة بالعتاب دون قسوة، وحين خطر ببالى أن أخصص يوماً فى هذه اليومية لما هو حالات وأحوال، وبدأت بالإدمان، تذكّرتُها، وحضرنى اقتراح أن أخصص يوما آخر أثبته للطب النفسى بدءاً بالفصام، وقلت: هكذا أتخلص من إلحاح ابنتى الأم، وحين تحضر هذا العام، ستجدنى إن شاء الله قد بدأت فى عمل الواجب لعلها ترضى.
كيف أكتب فى هذا الموضوع الجوهرى، وهو يكاد يمثل “كل حياتى” بوجهيها الطبى والإبداعى، بما فى ذلك إبداع ذاتى؟
قلت أبدأ بما سجلته فى كتابى الأساسى دراسة فى علم السيكوباثولوجى موضوع الفصام يشغل فيه 122صفحة (من ص 321حتى ص 443 شاملاً الموجز)، وخاصة وقد كنت عزمت أن أصدر طبعة جديدة من هذا الكتاب الأساسى بعد أن مضى على صدور الطبعة الأولى ثلاثين عاماً، حاضر يا أمانى، ولكن يا ترى هل أنتِ تريدين –وقد أصبحت فرنسية، بالإضافة لخلفيتك الإنجليزية وأصلك الصعيدى طيبتك المصرية- هل تريدين منى أن أكتب كتابى عن الفصام بطريقة أقرب إلى الطريقة التقليدية، حتى إذا تُرجم، وَصَل لمن تعاشرينهم الآن، ويهمك، كما فهمت يوماً، أن توصلى لهم فكراً آخر لعل وعسى؟ انت تعرفين أننى لا أنتظر إجابة، وحتى لو أجبت فأنت تعرفين أننى لن أوافقك، وإن كنت سأضع رأيك فى الاعتبار حتما.
أقول لك يا أمانى ماذا أنوى أن أفعل؟ وأرجو أن تساعدينى فى القرار المبدئى، وأن تعدلينى أنت ورفيق ومن يهمه الأمر، أثناء سيرنا على الطريق.
أولا: التزم بالفكرة الأساسية التى وردت فى كتاب السيكوباثولوجى، طبعا بعد ما طرأ عليها من تحديث خلال ثلاثين عاماً.
ثانيا: أعيد تنظيم المادة العلمية بحيث لا ترتبط إرتباطاً مباشرا بالمتن الشعرى (ديوان سر اللعبة)، كما كان الحال فى الطبعة الأولى.
ثالثا: أنقل المتن الشعرى إلى الهوامش إن كان ذلك لازما، ربما دون إشارة مباشرة إليه.
رابعا: أحاول أن أقدم “أحوال حالات” عن الفصام، إما أولا بأولا، وإما منفصلة، ثم أعود إليها حين نجمع المادة التى نشرت، ونعيد تحريرها فى كتاب ورقىّ يصلح للترجمة إن شئت.
خامسا: أؤجّل مرحلة الاستعانة بالمراجع، والاستشهاد بالتاريخ سواء بالموافقة أو المعارضة، وربما أترك هذه المهمة لك تحديدا، وليسرية (د. يسرية أمين يعنى)، ومحمد يحيى و”كل من يهمه الأمر”.
سادسا: قد أرجع – كما تعلمين – فى كلامى فى كل هذا.
والآن دعينا ندخل فى الجد.
وأبدأً بأحوال هذه الحالة:
بعض أحوال: حالة عصام
(أعنى: حالة فصام)
عصام
هو شاب (عمره 23 سنة) سوف نطلق عليه اسم “عصام” وهو الرابع من ستة أشقاء حاصل على ليسانسٍ ما، أعزب، من الوجه البحرى، لوالد بالمعاش من أوسط الطبقة المتوسطة، وجه بحرى، أمه ربة منزل.
المقتطف من شكوى المريض
فى ثانية ثانوى ، ماكنتش بذاكر كويس ، وربنا عدّاها ، وأنا اعتبرته وحى .. ليه، لأن مين يقول كلام فى نافوخك غير ربنا هو أنت تملك حاجة….؟!”
الذى قاله عصام ليس هو هو كل ما حدث بالضرورة، إذ يمكن أن يقوله المريض هكذا، وهو يعلن حقيقة داخلية لم يكتشفها إلا بعد الكسرة ، أى بأثر رجعى، عصام سوف يحكى عن ما حدث آنذاك “حين عّداها ربنا” بطريقة أعمق، وأخطر من اعتبار المسألة مجرد توفيق من عنده تعالى. ذلك التوفيق العادى يمكن أن يشعر به أى طالب حسن الحظ، أما أن يكتشف عصام بعد الكسر أن المسألة لها عمق أبعد، بلغةٍ أصعب مثل: أن ربنا قال كلام فى دماغه، فهو ربما يشير إلى أن إجاباته التى أنجحته كانت نتيجة ذلك، ثم تفلت المسألة منه.
إن هذا التأويل –بما استتبعه- الذى نسميه مرضا لم يؤلفه المريض من فراغ، وخذ مثلا تفسيرى لهذه الجزئية “فرضاً”:
إن هذا المريض قد تلقى لحظتها دلالة هذا التوفيق بأن الله سبحانه – بما يعرفه بفطرته – هو الذى جعل اعتمال المعلومات information processing يترتب منتظما بنجاح وهو جاهز لذلك، فتخرج ، علينا إجابات فى الامتحان سليمة، إذن فهى ليست معجزة ولا وحيا، هى مجرد تفسير طبيعى،
ابتداءً علينا أن نحترم كلام المريض (الامر الذى سيكون أسلوبنا هنا طول الوقت) هذا التفسير برغم اختلاف لغة المريض لا ينفى الخبرة التى وراءه
إن هذا الاختلاف إنما يرجع إلى: (أ) نقص الفروض (ب) اختلاف اللغة، “ربنا قال فى نافوخه” بمعنى أنه هو الذى أنجحه، وبالتالى فهو ليس تخريفا بقدر ما أنه التعبير الذى أستطاع به عصام أن يترجم الفرض الذى ذهبنا إليه.
يظل هذا التعامل مع هذا الحادث كامنا:
الظاهر يحمد الله على التوفيق الذى لم يكن ينتظره،
والداخل: يشعر بالفطرة التى تنظمت وتعاملت مع المعلوات وحفظتها وأجابت بها بفضل الله، وبفضل قوة حقيقية أكبر من تصوره لقدراته وتحصيله،
أما ما تلى ذلك، فلا يمكن أن نعترف بمشروعيته بما أنه قد ترتب عليه كل أو أغلب الشطح التالى حتى المرض العقلى الصريح.
ذلك أن عصام يكمل دون فاصل وهو يحكى حادثا حدث له بعد حوالى سنة، يكمل
“بعدين استمر الوحى فى قلبى اسمعه بقلبى… اللى يأمرنى بيه أنفذّه، يقوللى إدّن (الأذان) أأدِّن.
(أنظر بعد)، ولكن دعونا نأخذ المقتطف كله على بعضه من أوله:
فى اجازة ثانية ثانوى، بابا كلفنى بترتيبات احتفال مناسبة لأختى، فرحت للمسئول بتاع الحفلات قعد يحيرنى ويقترح ويغير رأيه، فاتنرفزت عليه، بابا قاللى بتتنرفز عليه ليه، وطلع يكلم الراجل، قام الرجل اتنرفز على بابا، وكان حايضربه، فأنا طلعت عشان أضربه… بابا مسك إيدى عشان يهدّى، وضربى بالقلم،… أنا ساعتها مافهمتش بابا ضربنى ليه ، استمر الوحى فى قلبى اسمعه بقلبى… اللى يؤمر بيه أنفذه…. وفى البيت قالو هوّا بيدن ليه؟ طيب يا جماعة دى حاجة طبيعية، انتو مش كلكم مسلمين؟ الوحى ده كان قوة دامغة إنى أعمل حاجات كتير، ساعات تقوللى قلّد صوت الديك، أقلد صوت الديك البلدى، وده معناه : حان وقت الانتصار..الخ
ثم أخذ المريض يصف الأعراض الجسمية بدون أى فاصل زمنى بين الحادث المرسَّب وظهور المرض بهذه الجسامة.
الحادث من وجهة نظر الوالد:
يحكى الوالد فى موضع آخر، ليس ضمن شكواه من ابنه أو وصفه لحالة المريض ، وإنما عند سؤاله عن “علاقته بالمريض يقول”
“أعزه أكثر مما يتصور، أعزه أكثر من أى شئ، أى شئ فى حياتى .. بس مره ضربته قلم فى وضع غير مناسب (ورفض الوالد ذكر أى تفاصيل عن هذا الوضع، ولم يعلم أن المريض ذكر لنا الحادث تفصيلا) فِضل بعدها سنة زعلان منى،
نلاحظ هنا:
(أ) –الفرق الزمنى بين الحادث كما ذكره المريض، وبين ظهور الأعراض، حيث تكلم كلاما متصلا رابطا –ربطا فوريا- بين الحادث والشطح (ظهور الأعراض الخطيرة وكأنها ظهرت فورا بعد الصفعة) فى حين أن كلام الوالد يشير إلى مرور عام زمنى على الأقل من الزعل والاحتياج.
(ب) نلاحظ أيضا الفرق بين وصف المريض الحادث تفصيلاً، وبين وصف الأب له بأنه ” ضربته قلم فى وضع غير مناسب” مع رفضه ذكر أية تفاصيل
إنه بالرغم من فداحة خطأ الأب إلا أن الحادث فى ذاته، يصعب أن يترتب عليه كل ذلك مما يدفعنا إلى النظر فى خلفية العلاقة بينهما وإلا فلا سبيل لفهم، هذه الكسرة بهذه الفظاعة هكذا، ومن ثم لابد أن ننتبه إلى كلٍّ من:
* تكليف الأب لهذا الابن بالذات يدل على ثقة مبدئية، واعتمادية متبادلة (من حيث المبدأ) (له أخوان أكبر).
* اختلاف الابن مع منظم الحفلات يدل على درجة من التلقائية والثقة بالنفس عند الابن.
* ثم إن الابن تقدم ليدافع عن أبيه أساسا بشهامة ورجولة
* لكن الأب – بدلا من شكره لأنه وقف فى جانبه ضد المتعهد المتجاوز حدود اللياقة-، صفعه أمام نفس هذا الشخص الغريب المختلف معه الذى تطاول عليه.
كل ذلك حدث على ثلاث خلفيات :
الأولى : علاقة قديمة بين الابن والأب ظهرت مبادئ فسادها باكرا منذ المرحلة الابتدائية حين شكى الابن من صداع غريب (أنظر بعد)
الثانية: علاقة اعتمادية، متضاربة الوجدان بين الابن والأب.
الثالثة : تنشيط لمستوى وعى داخلى اعتمد على تنظيم فطرة داخلية، عزاها الابن لتوفيق الله سبحانه خالق هذه الفطرة، حتى نجح ضد حساباته الظاهرة لكن، المسألة شطحت منه – فى مواجهة هذه الإهانة الكسر- حتى قفزت الأعراض إلى أبعد من كل تصور.
قبل أن نرجع إلى الحالة نود أن ننبه – تربويا- إلى خطورة مثل هذا التصرف بالذات
(1) الصفع المفاجئ من على مسافة هو من أكثر أنواع الضرب إهانه
(2) والصفع علانية هكذا أمام آخر هو أبشع
(3) والصفع بلا ذنب آنىّ يستأهل العقاب فوراً أكثر وأكثر بشاعة
(4) ثم حين يتم الصفع فى اللحظة التى يتوقع فيها الابن مكافأة، ما تصبح الكارثة بلا حدود
(5) وحين يأتى الصفع من نفس الشخص (الوالدى) الذى كان الولد يعتمد عليه، ويتقمصه وهو يدافع عنه، فلا حدود للإضرار
(6) وأخيراً وليس أخراً تتم الجريمة البشعة حين يكون الصفع أمام غريب، فما بالك لو كان خصماً.
نرجع للحالة :
فى هذه اللحظة بالذات حدث كسر فى التركيبه الأساسية الداخلية لكيان عصام (دون ظهور أعراض صريحة بعد) مع أن عصام ربطها زمنياً بكلام مباشر يبدأ بالصفع مباشرة هكذا: مافهمتش بابا ضربنى ليه استمر الوحى فى قلبى اسمعه بقلبى.. الخ، وسنرجع إلى ذلك
عودة إلى تفاصيل علاقة الابن بالأب، يقول الأب :
كان عصام يطلب حد ينام معاه عشان خايف ، فأنا أنام معاه، يقوم يزنق نفسه بعيد عشان يحترمنى، ويخاف يلمسنى ويسيب لى أكثرية الغطاء
يعقب المريض على ذلك بالتالى
“…. حايستهبل حاستهبل ، مش حِنَيّن معايا، اشمعنى، عصام ياخد الدوا والباقى مايخدش، احنا كلنا مرضى، كان حنين علىّ لما كنت صغيّر، هوّا جاب لى قلم وكراسة فى ابتدائى وقالى اكتب لى همّا (إخوته) بيصّلوا ولا لأ ، بيقروا قرآن ولا لأ، وخدبالك همّا بيصلوا صح ولا لأ، ويقروا صح ولا لأ، وكان يجيبلى تفاح، لذلك اخواتى كانوا بيكرهونى، وقررت أن ألعب الدور ده لحدّ ما أذّنت (أحد أعراض المرض الحالى الأذان بناء عن أوامر هلوسية) بعد كده هانية (الأخت الصغرى 13 سنة) خدت الدور ده، بقت السكرتير العام لابوها بتنقله الكلام)
نلاحظ هنا كيف أن العلاقة بين عصام وأبيه كانت:
(أ) تفضيلية
(ب) سرية تجسسية
(ج) اعتمادية (بيخاف ينام لوحده)
(د) ابتعادية (الحفاظ على المسافة)
هذه العلاقة هكذا هى من أصعب العلاقات، ففى حين يحضر الأب فى شكل سلطة لها معالم جامدة (قوية) يمثل فى نفس الوقت إشكالاً سلطويا يجمع بين تناقض الوجدان Ambivalence والشك فى عمق الدعم، وغير ذلك.
عصام يعلن رؤيته:
بعد المرض، استطاع عصام أن يعلن الجانب الرافض للوالد بوضوح حين وصف والده كالتالى :
“… كسلان، كداب، نفسيته تعبانه، مش مِتْهَنّى ، عياطه مش عياط يعنى قلبه قاسى، ممكن يزور اخواته لمصلحة فى نفسه واخواته أصلا بيكرهوا بعض…الخ”
تنبيهات بها بعض التكرار
(1) هذه الصفعة – رغم كل الخطورة التى ذكرناها حالا – لا تسبب مرضا فى ذاتها (إعملوا معروفاً كفوا عن هذا التبسيط)، وإن كان لا يمكن أن نقلل من آثارها الداخلية على أى واحد فى هذه السن (ثانية ثانوى 16/17 سنة)، حتى لو لم تظهر هذه الآثار بهذه الصورة الخطيرة مباشرة عقب الحدث.
(2) الذى يجعل لهذه الصفعة دلالة أكبر هو خلو الأسرة – فى حدود المعلومات المتاحة – من أى تاريخ إيجابى للمرض النفسى (أو العقلى)،
(3) إنه لم تظهر الاستجابة لهذه الصفعة – إلا بعد سنة من الخصام أو: فضل بعدها سنة زعلان منى لكن يكلمنى، مع إن عصام بدا فى كلامه، المتصل إعلان الأعراض الخطيرة فور الصفعة.
بعض التاريخ القديم من الطفولة:
يربط الأب بين عرض عابر اشتكى منه عصام فى فترة المدرسة الابتدائية (نذكر أن هذه هى الفترة التى كلفه والده بالتجسس على إخواته) وبين المرض الحالى. يقول الأب.
العيا فى أساسه خالص إنه حصل واشتكى من دماغه وقال دماغى بتوجعنى… الكلام ده كان فى ابتدائى، رحنا لدكتور عيون وكشف عليه وقال مفيش حاجة فضل الموضوع تمام حتى الثانوية العامة، بدأ ينزوى ويقعد كتير منعزل، وماكانشى راضى يخش امتحان الثانوية، لكن أنا دخلته إجباراً ونجح وجاب الدرجات النهائية فى الرياضة وقتها أتطمنت إن موضوع ابتدائى ده ما أثرش عليه، فى أجازة الثانوية رجع يشتكى من “الصداع تانى”.
مع كل أخطاء هذا الأب، إلا أننا نلاحظ حدْسه الدقيق هنا، فقد استطاع (أو حاول على الأقل) أن يربط بين المرض الخطير الحالى، وبين بدايات بعيدة وعادية (مجرد صداع)، ثم هو يعود يربط ظهور الصداع بعد اختفائه سنوات، وقبيل ظهور هذه الأعراض الجسيمة مصاحبة بالانزاوء فى الاجازة، وهذه أمور قد لا ينتبه إليها حتى كثير من الأطباء.
نلاحظ أيضاً أن الإنجاز تحت ضغط، وهو جيد فى ذاته، لا يدل بالضرورة على حلّ أى إشكال حلا جذرياً فى الداخل، وإن كان قد يساعد فى تأجيل الكسرة، إلى أجل غير مسمى.
حتى هذه المرحلة، وبرغم الحادث الخطير السالف الذكر ظل عصام يواصل دراسته.
ثم ظهرت أعراض وسواسية على الوجه التالى كما يصفها الوالد:
“.. وبعدين كان فيه وسوسة، يعنى يمسك الكباية أو الطبق بفوطة عشان خايف ليكون وسخ، وما يستحماش غير بصابونته الخاصة”.
فى كثير من الأحيان تكون هذه الأعراض (التى تسمى عصابية– يعنى دون الجنون أو عكس الجنون أى ضد الجنون) بمثابة ميكانزمات دفاعية تحول لفترة ما (ربما بصفة دائمة) دون الكسر الأخطر فالتفسخ، وقد تنجح هذه الدفاعات المرحلية فى بعض الحالات فتحول دون ظهور الذُّهَان، وقد تفشل هذه الدفاعات نتيجة لشدة الضغط من الداخل، وفى نفس الوقت نتيجة لفقر الدعم الحقيقى من الخارج، وقد عولج هذا الوسواس. بحدس طبى ومهارة من زميل يبدو أنه استشعر ما وراء ظهور هذه الوساوس فى هذه المرحلة هكذا، فأعطى فى نفس الوقت مضادات الذهان، لكن المريض توقف عن تعاطى العقاقير دون إذن الطبيب بعد تحسن نسبى، فظهرت الأعراض الجسيمة:
يقول الأب:
…. تعب تانى وانعزل وبقى ما يستحماش، ويكلم حد هو سامعه، وبدأ يطلع فوق السرير ويدّن (يؤدى الأذان) ويمثل الديك الرومى فى صوته ويتبول نواحى السرير لكن عمره ما اتبول فوق السرير ولا قدام حد…
نتوقف هنا لأننى أشعر أن الحالة أصبحت شديدة التعقيد وأقدم الفرض التركيبى الذى يمكن أن نكمل به فهم حالة الفصام هذه، بعد أن نقدم فى الحلقة القادمة (الثلاثاء) بعض المعلومات الإضافية عن الأم، وتركيب الاسرة وزخم الأعراض.
الفرض:
شاب نشأ فى أسرة مزدحمة شكلا، مُفرْغة موضوعاً، تفتقد إلى أى دفء حقيقى يضم أفرادها إلى بعضهم البعض، لايوجد بها تاريخ عائلى إيجابى لمرض نفسى أو عقلى خطير، الوالد حاضر حضوراً جافا ملتويا، يعلمّ الأقرب إليه من الأولاد التجسس على الباقين، “عصام” ثم لاحقا “أخته الأصغر”،
الأم كما سيرد وصفها فى الحلقة القادمة ضعيفة سلبية متنحية مقهورة ، جافة “متلصمة”.
عصام –مثل أى واحد- داخل طبيعى سليم هو الفطرة (كما خلقنا الله) لكن أحداً لم يتعهدها، لا الأهل ولا المجتمع، هذه الفطرة تغطت بقشرة تربوية لامعة، لكنها –الفطرة- ظلت تتعامل من وراء القشرة مع مايصلها من برمجة بطريقتها البسيطة الصحيحة.
القشرة تنجح وتتمم صفقاتها مع الوالد
والفطرة “تعرف” وتدرك، وتتعامل مع المعلومات باستيعاب سليم
تتصادم الفطرة مع القشرة فى مرحلة باكرة (الابتدائية)
يظهر الصداع، ثم يختفى ربما بالبعد بينهما (بين القشرة والفطرة) مع استمرار نشاط كل منهما.
تستمر القشرة فى النجاح الظاهر، والصفقات الداعمة الخبيثة (بين الابن و الأب: التمييز والتجسس) وتستمر الفطرة فى النشاط والتماسك والمعرفة السليمة والادراك الداخلى.
تنجح الفطرة حتى فى برمجة المعلومات والإسهام فى أداء الامتحانات، فيفسرها الابن حامدا فضل الله، لكن يبدو أن الداخل تجاور هذا المستوى سرا، وفى نفس الوقت أجّل إعلانه.
حادث دال خطير يحدث بالصدفة يهز هذه التركيبة برمتها،
يفسد الصفقة الخبيثة الجارية،
فتختل صورة الأب ليظهر على حقيقته بلا رجعه
فتفسد الصفقة،
فيحدث التباعد بين الابن والأب (الزعل: سنة) دون ظهور الأعراض بعد،
يجتنب الابن أباه، لكن الكسرة قد حدثت فى الداخل ، فطالت الفطرة التى انفصلت، وارتدت، وانطلقت لحسابها البدائى مخترقة القشرة منفصلة..
الفطرة وحدها لايمكن أن تواصل انجازاً واقعياً ظاهراً إلا إذا تكاملت مع أجهزة الأداء السلوكى .
لكن الرسالة تصل أن القوة الفطرية الداخلية قد انطلقت بين شقوق الكسرة
تتعملق قوة الدفع ولا تتوقف عند حد استعادة تلقائية الفطرة وأحقيتها، بل تتفاقم حتى تنقلب الفطرة إلى تسليم قدرى أعمى،
ومن ثَمَّ تفقد الذات أبعادها تماما،
يتضاعف التمادى فى الانفصال وتتجلى سلبية مطلقة لقوى لم تعد هى القوى الضامة المساعدة، ولكنها أصبحت قوى شكلية هابطة من المجهول وإن لم تفقد فى شكلها الظاهرى معالم الوصلة وتظل فى نفس الوقت تتعامل بنفس الألفاظ “الأذان، واللغة الدينية المسطحة”
تشوهت الفطرة على أنقاض القشرة وظهر الفصام.
(وللحديث بقية طبعا)