الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / السيرة الذاتية والإبداع: هرمان هِسـّهْ تجليات التعدد إلى التكامل (إليه..) (2)

السيرة الذاتية والإبداع: هرمان هِسـّهْ تجليات التعدد إلى التكامل (إليه..) (2)

“يوميا” الإنسان والتطور

29 – 10 -2007

السيرة الذاتية والإبداع: هرمان هِسـّهْ

تجليات التعدد إلى التكامل (إليه..) (2)

رفض نجيب محفوظ أن يكتب سيرته الذاتية، وفى رأيى أن هذا من أفضل ما استن من سنن. من الذى يستطيع، أو يجرؤ، أو يعرف ما هى “سيرته الذاتية”؟  لن أدخل فى تفاصيل هذه القضية قفد تناولتها بقدر كاف فى ثلاثية ترحالاتى [الترحال الأول: الناس والطريق، الترحال الثانى: الموت والحنين، الترحال الثالث:ذكر ما لا ينقال] كما ناقشتها فى مقدمة نقدى لأصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ،، وبرغم أن الكثيرين اعتبروا  ثلاثية  “الترحالات” سيرة ذاتيه لشخصى، إلا أننى فضلت أن أتعامل معها باعتبارها  أقرب  إلى أدب الرحلات،  بما فى ذلك ما أسميته “رحلات الداخل والخارج، وبالعكس.

لكننى أذهب إلى أقصى الطرف الآخر حين  أعتبر أى مبدع حقيقى لا يكتب (يرصد/يسجل/image002يشكل) إلا نفسه، إذ لا بد أن نعثر على المبدع فى أعماله دون استثناء، وقد بلغ بى الاقتناع بهذا الفرض مؤخرا أن جعلته يشمل كل أنواع الإبداع بما فى ذلك الإبداع العلمى. هل يمكن أن يعنى ذلك أننا يمكن أن نتعرف على شخص أينشتاين فى نظريته النسبية؟ إجابتى  (أرجوك لا تندهش) أن “نعم” يمكن  (تصوّر!)، هذه قضية تحتاج إلى  عشرات بل مئات الصفحات لشرح بعض مداخلها، فلنؤجلها .

تأكد لى هذا الاحتمال الغريب (أن الكاتب المبدع لا يكتب إلا نفسه) أكثر وأنا أقرأ الأعمال الثلاثة التى أشرت إليها أمس لهرمان هِسـّهْ: “أيام من حياتى” (ترجمة أحمد عمر هاشم طبعة 1999 الناشر دار سندباد للنشر والتوزيع)،  ثم دميان (ترجمة عبده الريس، الناشر الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة آفاق عالمية) ثم سد هارتا” (ترجمة جيزلا فالور حجّار، الناشر دارالمدى للثقافة والنشر) ، قرأت هذه الأعمال مضطرا معا فى الظروف التى ذكرتها أمس، وحضرتنى عدة فروض تتعلق بهذا الشأن، وأولها ما ذكرته حالا من: أن إبداع المبدع الحقيقى لا يمكن أن يخلو من سيرته الذتية على مستوى ما، وهذا شديد الارتباط بما أسميته “الواقع الإبداعى“، وبالنسبة لهيرمان هسّـه، فإننى تصورت أنه يمكن من خلال قراءة من هو هو، وإلى أين، أن نحقق جانبا هاما مما يشغلنى بشأن طبيعة النفس البشرية ومسارها، من حيث البدء بـ: تعدد مستويات الوعى (الذوات داخلنا وخارجنا) فى سعيها الدائب نحو التكامل الممتد، والذى تسمى بأسماء مختلفة، لعل ما نبدأ به هنا هو اسم “التفرد” Individuation   الذى استعمله كارل يونج، خاصة وأن هرمان هِسـّهْ الذى غامر بأن يدخل خبرة التحليل النفسى شخصيا، وقد تم له ذلك من منطلق مدرسة كارل يونج المسماة بعلم النفس  التحليلىanalytic psychology .وليس التحليل النفسى psychoanalysis  ليس المهم – فى هذه المرحلة من التقديم- أن نناقش إلى أى مدى تأثر هرمان هِسـّهْ بما خَبَره شُخصيا أثناء التحليل، فاقتنع به، أو عاشه (لا يمكن الجزم) فَنَضحَ فى إنتاجه.  ليس هذا هو المهم الآن (وسوف نعود إليه فى دميان، وإلى درجة أقل فىسيدهارتا)، المهم هو أن هِسـّهْ نفسه قد عاش بذاته، وفى إبداعه، بما يدعم فرض التعدد للنمو، بما حفزنى أن أعيد تقديم هذا الفرض من خلال الجمع بين بعض سيرته الذتية (أيام من حياتى)، وهذين العملين الهامين، فى هذه الأطروحة.

تعريف موجز جدا

  • ولد هرمان هسّـه فى2يوليو سنة  1877 وهو يصف ذلك بقوله ” فى يوم حار من أيام شهر يوليو 1877، ثم يضيف “… وحرارة تلك الساعة التى ولدت فيها، هى التى أحببتها بلا وعى”، ثم يفسر بذلك تفضيله للجو الحار وحنينه المتصل إلى الجنوب (الهند خاصة).
  • يُصنف هِسـّهْ على أنه شاعر، وروائى، (ورسام تشكيلى أحيانا)
  • حصل على جائزة نوبل فى الآداب سنة 1946
  • هرب – طفلا – من التعليم العام
  • ظل رافضا (ثائرا/محتجا/منسحبا/مبدعا) للواقع الخامد، والسلطات المغتربة.
  • تزوج ثلاث مرات وأنجب ثلاثة أولاد من زوجته الأولى.
  • مرض ابنه الأصغر مرضا شديدا ظهر فى أعماله.
  • مرضت زوجته مرضا عقليا ودخلت مستشفى أمراض عقلية ، وماتت
  • كانت له مواقفه، ومشاركته ، وإسهاماته فى مجريات عصره، وخاصة بالنسبة للحرب العالمية الأولى وما حولها
  • ذاع صيته وانتشرت أعماله وترجمت إلى 54 لغة (على الأقل) حتى الآن
  • بقية المعلومات وقائمة بأعماله يمكن الحصول عليها من أى موقع أو موسوعة

عودة إلى مسألة السيرة الذاتية والإبداع

ليست المسألة أننا بصدد دراسة مبدع بهذا الحجم لنصفق له، أو لنعريه، أو لنشخّصه!، لكن الهدف من هذه الأطروحة التى قد تمتد مناقشتها لأسابيع أن نتعلم من مبدع بهذا الصدق، وهذا الحدس، نتعلم منه ما هو السحر، وما هو الشعر، نتعلم ما هى الطفولة وما هو النمو، نتعلم ما هو الخيال الأوقع من الواقع ، وما هو الواقع الأكثر زيفا من أى حقيقة، نتعلم كيف تتجلى نفس الطاقة الفطرية بكل حركيتها النابضة التشكيلية  فى إبداع فائق، وكيف تصدم فتتناثر أو تتشتت، ثم تتجمع ، نتعلم كيف ينحرف المسار بتلك الطاقة حتى يصل الأمر إلى جريمة لا يمكن تصورها –إلا خيالا- من مثل هذا الإنسان الصادق الرائع الجميل، وكيف يتقبل هو كل ذلك  ولا يكف عن إبداعه وعطائه طول الوقت.

لا أطمع فى أن أغطى كل هذه المناطق بما تستحق، كما لن أطيع هاجسا يغرينى بالاختزال أو التقريب، فلنتفق على المنهج إزاء هذه المغامرة.

¨  ابتداء سوف أقدم فرض (أو فروض الدراسة) بشكل عام (قابل للتعديل والتطوير لاحقا)

¨  سوف أقصر بحثى (فى المرحلة الحالية)على هذه الأعمال الثلاثة السالفة الذكر

¨ أنصح الزائر (القارئ) الذى سوف يتابعنا أن يقرأ الأعمال الثلاثة بنفسه لنفسه بطريقته، (حتى قبل استكمال النقد) ، وان يصل إليه ما يصله بطريقته أيضا

¨ أرجو من المتابع أن يتحمل عدم الانتظام فى النشر خوفا من التشويه أو التعسف (لو أرغمت نفسى على الانتظام جدا)

¨ أرجو أيضا من المتابع أن يعود إلى الحلقات السابقة، وهو يتلقى الحلقة الجديدة ما أمكن ذلك، ويا حبذا لو طبعها أولا بأول.

¨  آمل أن ينبهنا من يشاء إلى ما نخطئ فيه، أو نتجاوزه، (كلما عَنّ له ذلك)

¨ أعلم أنها مغامرة أن يُكْتب عمل نقدى بهذا الحجم (لا أعرف حجمه تحديدا الآن) بهذه الصورة المتقطعة، لكننى، وبمنتهى الصراحة، ورّطت – كالعادة – نفسى حتى أنجزه، ولعلى أتبع نفس النهج فى معظم الأعمال النقدية التى لم أتمها أو أنشرها بعد، وإن كنت على يقين أنه بعد نشر هذه الحلقات، سوف يحتاج الامر إلى إعادة كتابة، وإعادة تحرير، قبل أن يصدر العمل مكتملا.

وسوف نكون معا غالبا (إن كان فى العمر بقية)

تحذير

أرجو من المختصين فيما هو نفس، وبالذات الطب النفسى والتحليل النفسى، ألا ينتظروا من هذه الدراسة تشخيصا، أو ترجمة سلوك إلى أعراض، أو اختزال النمو إلى عقد شائعة، أو أيّا مما شاع عند من يتبع أو يتصور انه يتبع ما يسمى النقد الأدبى النفسى (يمكن الرجوع إلى أطروحتى عن العلوم النفسية والنقد الأدبى مباشرة أو فى كتاب تبادل الأقنعة (

تساؤلات الأطروحة

  1. نحن لا نعرف الطفولة، فهل يعرفها هِسـّهْ؟ يعرف ماذا؟ إلى أى مدى ؟
  2. هل عاش هِسـّهْ طفولته رغما عنهم، وهل ظليحتفظ بها حتى نهاية حياته؟
  3. كيف تجلت الطفولة فى ما نتناول من هذه الأعمال الثلاثة؟
  4. نحن لا نعرف ما هو الشعر، وكيف يكون الإنسان شاعرا إذا أراد، أم أن هناك احتمالات أخرى؟وهل نجح هسّـه أن يكون شاعرا، وهل استطاع إلا أن يكون شاعرا؟
  5. نحن لا نعرف الخيال، ذلك الواقع الآخر، أو الواقع الأول، ويبدو أن هِسـّهْ يعرفه بما يتيح لنا أن نعيد التعرف عليه، ولكن إلى أى مدى يمكن أن يكون هذا الخيال (الواقع) بديلا، أو دعما، أو إبداعا؟
  6. نحن لا نعرف علاقة السحر الأبيض بما هو إبداع، ولا السحر الأسود بما هو إجرام، وهل يمكن أن يكون الإجرام إبداعا؟
  7. ثم هل من إضافة دالة فيما يتعلق بعلاقة المرض النفسى/العقلى بالإبداع؟، وبالعكس: ما هى علاقة الإبداع بالمرض النفسى (ويستحسن ألا نعتبر ذلك تكرارا)؟
  8. ثم كيف نقبل تعدد ذواتنا (مستويات وعينا)الذى تجلى فى سيرة هِسـّهْ وأعماله بهذه الصور المتعددة، لنتكامل به (بتعددنا) لا لنتناثر بسببه، أو لنهرب فيه؟ (كما يتجلى كل ذلك فيما نحن بصدده)؟
  9. ثم هل ثمَّ احتمال أن يساعدنا كل ذلك على مواصلة كدحنا إلى تكامل أعلى فأعلى، متجهيننحو وجه الحق سبحانه وتعالى، بلا توقف، ولا نهاية ؟
  10. ثم كيف يساعدنا ذلك أفرادا وجماعات ونوعا فى مواجهة أزمة الإنسان المعاصر؟

أكتفى بهذا القدر من التساؤلات، التى لا أعد طبعا بالإجابة عليها، اللهم إلا بما تيسر فى حدود قراءة هذه الأعمال الثلاثة دون غيرها.

الفرض

(1) الإنسان كائن له تاريخ، وهو يحمل كل تاريخه “هنا والآن”، وتاريخه مفتوح إلى ما لا نعلم.

(2) الإنسان المعاصر متورط فى إنجازاته الرائعة المغتربة، ومن أخطرها سيطرة المستوى الأحدث طول الوقت، على حساب الأسطورة والخيال والإبداع والتكامل

(3) الإنسان كائن مركب، متعددةٌ مستويات وجوده، وعيه، دماغه، ذاته، وهذا التركيب يتحرك بآليات نابضة نحو تكامل ممتد (فى الظروف الطبيعية)

(4) الإبداع، خاصة الإبداع الروائى يعرى بعض تلك الحقائق، كما يضع لنا أسهما فى الاتجاه الصحيح

(5) المرض النفسى/العقلى هو الوجه الآخر السلبى لهذا التعدد، ومن ثم هو يمثل احتمال فشل المسيرة أو انتكاسها، لكنه يعلن حركيتها وتحدياتها أيضا.

(6) التبادل بين المرض، والشذوذ، والشطح، والجريمة والإبداع وارد باستمرار.

العناصر (المحتملة مبدئيا)

  1. الطفولة والخيال والواقع
  2. السحر والدين والأسطورة والإبداع
  3. تعدد المستويات (الذوات)والمرض النفسى
  4. حركية الحياة وما هية الشعر
  5. الحوار مع الطبيعة إلى المطلق
  6. إبداع الذاتوالإيمان

استطرادات مثيرة

حتى لا تكون هذه اليومية اليوم مجرد عناصر وأسئلة وفروض، فضلت أن أنهيها بإشارة مبدئية إلى بعض الأحداث التى توقفت عندها، وسوف أعود إليها لاحقا، لكنها قد تحتاج من القارئ منذ الآن بعض الانتباه الخاص قبل أن نصل إلى مناقشتها، ومن ذلك:

o      إن هرمان هسّـه حاول الانتحار حول سن الخامسة عشرة

o      إنه دخل مستشفى للأمراض العقلية آنذاك

o      إنه عولج بالتحليل النفسى (مدرسة كارل يونج) عددا من السنين فى سن 39 & 44

o      إن زوجته الأولى أصيبت بمرض عقلى

o  إنه بعد أن بلغ السبعين، ونال كل ذلك التكريم بما فى ذلك نوبل، وكذا  دكتوراة فخرية من هنا وهناك، استعمل – كما يقول- السحر الأسود لغواية طفلة، وحوكم، وسجن.

وقفة خاصة

هذه المعلومة الأخيرة –بالذات- لم أستطع أن أستوعبها فى سياق ما وصلنى منه وعنه،  وقد رحت أبحث عن تفاصيل أكثر مما ذكرها الكاتب نفسه فى “أيام من حياتى” فى كل المتاح من مصادر على النت وغيره، فلم أجد أكثر مما ذكر، كما لم أجد أحدا من نقاده أو مهاجميه قد توقف عندها كما توقفت، وسوف أحاول أن أثبتها كما ذكرها بالنص ص 102

“…….. قد ولدت ساحراً، وعن طريق لاوتسى وآى تشنج عرفت منذ فترة طويلة وبشكل أكيد طبيعة ما يسمى بالواقع الطارئ أو المتغير، ومن خلال السحر عالجت هذا الواقع حسب رغباتى، وشعرت بسعادة  كبيرة وأنا أفعل ذلك وأعترف أنى لم أقتصر على الحديقة المبجلة المعروفة بالسحر الأبيض، بل جرتنى تلك الشعلة الصغيرة الحية داخلى، من حين لآخر، إلى ذلك الجانب الأسود من السحر.

وبعد أن تجاوزت السبعين من العمر، ومباشرة بعد أن اختارتنى جامعتان لمنحى الدكتوراه الفخرية، قدمت للمحاكمة بتهمة غواية طفلة صغيرة باستخدام السحر. فى السجن، رجوتهم أن يسمحوا لى بقضاء وقتى فى الرسم، ووافقوا على ذلك، وأحضر لى الأصدقاء عدة الرسم والألوان، ورسمت منظراً طبيعيا على حائط الزنزانة، وهكذا عدت ثانية إلى الفن، ومع كل ما عانيته وتحطم كثير من الآمال، إلا أن ذلك لم يمنعنى من استحلاب المتعة مرة أخرى من كؤوس الفن النبيلة، ومن إقامة عالم صغير جميل كالطفل الذى يلعب، ومن التمتع من كل قلبى بهذا العالم والتخلى عن كل الحكمة والمجردات الإنسانية والعودة إلى شهوة الخلق البدائية.

…………….

…………….

… وكنت سأختنق وأصبح هباء فى جهنم الأوراق هذه لولا رسوماتى التى أنعشتنى وأراحتنى، وتلك اللوحة المنظر الجميل الصغير الذى جدد لى الهواء والحياة. كنت أقف يوماً أمام لوحتى حين جاء الحراس مهرولين بطلب الاستدعاء الممل، وحاولوا انتزاعى من استمتاعى، شعرت فى تلك اللحظة بالإرهاق والنفور من هذا الاستعجال، ومن هذا الواقع الخالى من الروح، واستغرقت وقتاً طويلا لأضع حدا لحزنى، ولو لم يسمح لى بأن ألعب لعبة الفنان البريئة دون إزعاج، لاستنجدت بتلك الفنون الأشد صرامة والتى كرست لها سنوات كثيرة من حياتى، فبدون سحر سيصبح العالم مكاناً لا يطاق.

استدعيت إلى ذهنى التركيبة الصينية، ووقفت لدقيقة أكتم نفسى، وحررت نفسى من وهم الواقع، ثم رجوت الحراس بدماثة، أن يصبروا لحظات، لأنى أريد أن أصعد إلى المشهد الذى رسمته لأبحث عن شئ فى القطار، ضحكوا بطريقتهم المعتادة، فقد اعتبرونى مجنوناً.

ثم بدأت أصفر وأصفر، وخطوت إلى الصورة، وصعدت إلى القطار الصغير الذى سار حتى النفق المظلم، ولبرهة ظل الدخان الأسود الذى يخرج من النفق مرئياً، يخرج مندفعاً من الثقب الدائرى، ثم اختفى الدخان، واختفت الصورة وأنا معها

وظل الحراس واقفين تغمرهم حيرة كبيرة”.

ما هذا؟

أين الخط الفاصل بين الواقع والخيال؟

 حين انتقل هسـّه فجأة وهو يحكى بعض سيرته الذاتية من ذكر التهمة إلى التواجد فى السجن بهذه السلاسة، دون أى تعقيب أو نفى للتهمة، ولا هُوَ ذكر أية تفاصيل أخرى إلا خبرته فى السجن، لم أستطع أن اقبل أيًّا من ذلك بنفس البساطة، وحين بحثت عن هذه الواقعة التى حسبت تاريخها فوجدتها بعد نوبل مباشرة تقريبا (… بعد أن تجاوز السبعين)  ولم أجد عنها فى المصادر المتاحة أية تفاصيل أخرى، لم أرتح لقبولها هكذا كما هى، حتى أننى فضلت فى هذه المرحلة من الدراسة أن أضعها بين قوسين، وخاصة أن موقف الحكى (سيرة ذاتية!!) انتهى بهذه النهاية التى جسدت له لوحته على الحائط حتى اختفت اللوحة واختفى هسّه معها وظل الحراس واقفين تغمرهم حيرة كبيرة.

إن لم يكن الأمر كله خيالا محضا فكيف نتصور هذا المبدع الجميل الرائع يغوى طفلة بسحر أسود، ويحاكم، ويدان، وهو حائز على نوبل، وهو فى السبعين من عمره، وكل ما يحكيه حول هذا الحادث وما أحاط به من محاكمات هو سخف الإجراءات وغباء المكتبيين، ثم هذا الخيال الجامع الذى يمحو الواقع بكل هذا اليقين.

هو يسترسل وهو يصف كيف تواصل خياله مع الصورة التى رسمها على الحائط، والتى تجسدت له حتى صعد وركب القطار واختفى هو والصورة عبر الحائط؟

كان من الممكن أن أؤجل طرح هذه التساؤلات  حتى أتحقق من  مصداقية الحدث، بما فى ذلك الرجوع إلى الثقاة المختصين فى تاريخ مثل هؤلاء المبدعين، إلى أننى فضلت أن أستغل هذه الطريقة المسلسلاتية فى النشر الإلكترونى هكذا، لأشرك الزوار والقراء معى فى بحث هذه المسألة، فأطلب ممن يهمه الأمر أن يفيدنى بأى تفاصيل تتعلق بهذا الغواية لتلك الطفلة، ثم هذه المحاكمة اللاحقة.

ما استفدته من هذه الحيرة المؤقتة، هو أن هذا المبدع فرض علىّ موقفه من الخيال الواقع، والواقع الزائف، حتى أوصلنى إلى هذه الاحتمالات العجيبة.

هذه مجرد عينة من تحديات النقد المطروح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *