“يومياً” الإنسان والتطور
19-3-2008
العدد: 201
عن الإبداع والعدوان
الفروض الأساسية (1 من 3)
استهلال:
نشرت الفروض الأساسية لهذه الأطروحة فى مجلة الإنسان والتطور (العدد الثالث: السنة الأولى سنة 1980) ثم أكملت بعد ذلك وعدلت ونشرت كاملة فى مجلة فصول (المجلد العاشر العددان 3-4 سنة 1992)، وهى رؤية باكرة تطورت بتحديث محدود، وقد ألحق بصورتها الأخيرة محاولة مراجعة ونقد وتوليف مع ما تلاها من تنظير وفروض.
الذى دفعنى أن أنشر تحديثها فى هذه النشرة اليومية أمران، الأول: أن القضية أعيدت إثارتها، كما بلغنى – على مستوى النقد السينمائى -، مما قد يحتاج إلى تفصيل متخصص غيرى، والثانى: أن إهمال تناول الجانب الإيجابى لهذه الغريزة الحيوية بدا لى أنه عامل جوهرى يكمن وراء انطلاقها سلبيا وجماعيا وعلانية فيما يسمى بالحروب الاستباقية، والتطهير العرقى، والإبادة الجماعية الأمر الذى لم يعد يتناسب حتى مع ما يسمى “الإرهاب” الرسمى والسلطوى المَّدعى الشرعية، الأصعب من ذلك هو انطلاق سلبيات هذه الغريزة فى أشكال من العدوان السلبى الناتج من افتقاد العدل وتمادى الاستغراق فى الاستهلاك المتوحش، والاغتراب العدمى.
وأخيرا، فلابد أن أعترف أن نشر الجزء الأول من الأطروحة مع أول ظهور المجلة الأم لهذه النشرة “الإنسان والتطور” قد أثار رفضا صريحا من أغلب من ناقشوها معى شخصيا وإعلاميا، وهو الفريق الذى لا يتصور العدوان إلا نوعا من التحطيم والأذى، وأنه لا يمكن أن يكون أبداً خطوة على طريق إعادة البناء إبداعاً.
لى أمل شديد يكون فى هذا النشر اللاحق بعد ثمان وعشرين سنة ما يفتح ملف هذه الفروض من جديد، فأتلقى تعقيبات وآراء ربما تفتح حوارا أكثر امتدادا يتحمله بريد الجمعة يجرى فى مساحة أوسع، أو يشمل تصنيفات أكثر تنوعا، من متلقين أكثر تحملا.
ملحوظة: فضلت ألا أضم هذا الفرض إلى فروضى التى شملها كتابى “حركية الوجود وتجليات الإبداع”، الذى نشر مؤخرا حيث أننى كنت قو انتويت جمعه مع آرائى وفروضى فى كتاب عن الغرائز عامة، وبالذات”الغريزة الجنسية من التكاثر إلى التواصل“، و“غريزة المعرفة“، وأخيرا “غريزة التناسق الممتد من الذوات فى حركية الواحدية إلى المطلق (غريزة الإيمان بيولوجيا)”. لو بقى فى العمر ما يسمح، لنا بعودة.
مقدمة:
يمر إنسان عالمنا المعاصر بأخطر مراحل تطوره، فقد أصبح تحت يديه من وسائل الدمار ما لا يبدو للوهلة الأولى أنه قادر على السيطرة عليه، ولابد أن قانونا – لا نعرفه فى الأغلب – يقوم بالمحافظة على استمرار بقاء الحياة على الأرض حتى الآن على الرغم من وجود كل هذه القوة المدمرة بين أيدى من لا يستعمل بقية خلايا مخه بنفس الكفاءة، ذلك أن طريقة تفكير الساسة على الجانبين، وسلوكهم الشخصى الدال على وفرة الدفاعات (الميكانزمات) التى تتحكم فيهم دون وعى منهم لا تطمئن الشخص العادى بأبسط حسابات المنطق السليم، ناهيك عن العالم اليقظ.
من واجب العلماء البحث عن هذا القانون الخفى إن كان موجودا أصلا، ثم تقويم فاعليته واستثـماره وتطويره إن احتاج الأمر، فإذا ثبت (أو صور لنا جهلنا) أن الحياة مستمرة بالصدفة، تحت زعم أن ليس ثم قانون خفى أو ظاهرا يوجهها فالواجب يصبح أكثر إلحاحا فى العمل على إنشاء ذلك القانون الذى يساعد فى استمرارها بوعى لائق، ومسئولية مناسبة وحساب علمى قويم، وفاء بأمانة ما نحمله بشرا !!.
من أولى المناطق بالتنقيب لتحديد طبيعة مخاطر الدمار الذى يتعرض لها الإنسان بجرعات متزايدة هو ما يتعلق بغريزة حيوية أساسية، وهى “العدوان”، ذلك لأنها تمثل القوة التى إذا عجزنا عن دراسة قوانينها وتوجيه مسارها، قد تنطلق - وفى يدها كل أدوات الدمار الجاهزة حاليا- فتقضى على البشر بلا تردد، وقد تقضى على الحياة كلها بلا وعى، خاصة وأن الإنسان – كما يقول تينبرجن أولدنر- دون كثير من الحيوانات- لم ينم لديه جهاز للضبط والتوازن والتحكم فى نزعاته العدوانية، وهذا النقص قد يكون مسئولا عن تماديه فى الفعل العدوانى حتى أقصى نهايته وهى القتل.
ذهب لورنز (1)إلى اعتبار أن الإنسان- دون كثير من الحيوانات المفترسة- ليس عنده كف غريزى للقتل بوصفه مفتقدا أية جوارح قاتلة (مخالب وأنياب)، بالتالى، فى رأى لورنز، هو ليس محتاجا لهذا الكف الغريزى، وهذا أمر يتطلب مراجعة بعد التدهور التدميرى الذى يعيشه إنسان العصر الحديث الذى خلق لنفسه مخالب وأنياب أمضى وأشمل تدميرا للحياة برمتها وليس فقط لعدوه من جنسه أو غير جنسه. ثم إن الإنسان هو الحيوان القادر على قتل أفراد من نفس جنسه، فهو يقتل:
(أ) بشرا لا يعرفهم “شخصيا”
(ب) وعن بعد دون أن يراهم
(جـ) وفى مجموعات.
بل لقد أصبح هذا الفعل الشائن فى ذاته من المنجزات الجديرة بالفخر، كما يقول روبرت جاى ليفتون “…إن كمية القتل قد أصبحت مقياس الإنجاز”. وفى ظل هذه الظروف، فإن مصيبة الدمار الفنائى قد باتت شديدة القرب بحيث لو حدثت هذه المصيبة فقد تكون إثباتا مروعا لزعم قائل: إن التركيب الانسانى فيه ما يشير إلى خطإ تطورى (2) لا يمكن أن يستمر مالم يعدل.
لا يمكن أن ننساق وراء هذه المخاوف الانطباعية فى تشاؤم عدمى إلا أننا أيضا لا يمكن أن ننكرها لمجرد أنها بعيدة الاحتمال.
نبدأ البحث بتساؤلات محددة نحاول من خلال الإجابة عليها أن نحدد أبعاد المشكلة، ومن ثم إمكان الخروج منها:
1- هل العدوان غريزة أصيلة لها صور تعبيرية مختلفة مع اختلاف الأزمان والأجناس، أم أن العدوان مجرد سلوك مكتسب طارئ، نتوقع له أن يزول بزوال مستدعياته؟
2- ما هى وظيفة العدوان البقائية، وما هى فرص التعبير عنه فى حياتنا المعاصرة وخاصة بالمقارنة بغريزة الجنس التى تتعلق أساسا ببقاء النوع؟
3- ما هى الاحتمالات المطروحة لمواجهة هذه الطاقة الغريزية تعليما أو ترويضا، أو تحويرا، أو إدماجا؟
محاولة تعريف مبدئى
لا يحتوى لفظ “العدوان” مضمونا واحدا (جامعا مانعا) متفقا عليه بالقدر الذى يطمئن إلى تناوله من نفس المنظور من كل الأطراف، فالتعريف السلوكى يصوغه “تينبرجن” كالتالى:
”العدوان- باعتبار السلوك الفعلي- يتضمن الإقدام تجاه خصم، وإذا كان فى متناوله فإنه يتضمن دفعه بعيدا وإصابته ببعض الأضرار بشكل ما، أو على الأقل إرغامه بمؤثرات تكفى لإخضاعه”.
نلاحظ هنا منذ البداية، ذلك التحفظ الذى وضعه تينبرجن، من حيث تحديد التعريف بنص اعتراضـى (يبدو أساسا) بقوله - باعتبار السلوك الفعلى- ذلك أن الخلط بين السلوك الفعلى وبين الموقف التهيئى دون فعل ظاهر، ثم بين هذا وذاك وبين غريزة العدوان- فى كمونها ونشاطها-، هذا الخلط هو ما يترتب عليه إغفال الأصل، وبالتالى مضاعفات الجهل والتشويه؟
لتوضيح قصور مثل هذ التعريف المؤكدِّ على الإقدام والإضرار دون غيرهما نطرح بعض التساؤلات مثل:
هل يمكن أن نقسم سلوكَىْ الكر والفر، باعتبارهما سلوكين متضادين ظاهرا، ونقصر كلمة العدوان على سلوك الكر fight دون سلوك الفر flight على الرغـم من أنه يصاحبهما نفس المتغيرات الفسيولوجية تماما (مـثل زيادة نشـاط الجـهاز العصبى السمبثاوى)، كما أن سـلوك الفر قد يكـون تمهيدا لسلوك الكر أو جزءا منه أو تناوبا معه لتحقيق نفس الغرض؟
وهل يمكن أن نتناسى صور العدوان السلبى: بالانسحاب أو الإلغاء أو المحو؟
الإجابة على مثل هذه الأسئلة هى بالنفى، وبالتالى فالمراجعة واجبة.
تعريف مبدئى:
”العدوان هو الدافع أو السلوك (أو كلاهما) الذى يهدف للحفاظ على الفرد وجودا وذاتا - على حساب الآخر (من غير النوع عادة(3) أو من نفس النوع، مؤقتا) وهو يشمل فى صورته البدائية: السلوك المقاتل المهاجم حتى الطرد أو القتل، ولكنه يتحور – مسلكا وموضوعا – بتحور مراحل نمو الفرد والمجتمع جميعا” وذلك من خلال تداخلاته مع مستويات الوجود الأخرى فى جدل ولا فى متصاعد.
لن أبدأ بالدفاع عن هذا التعريف لأنه فى واقع الأمر غاية هذا البحث أكثر منه مسلمة ابتدائية.
نظرية الغرائز: موقعها الآن
أصاب الغرور الإنسانى “نظرية الغرائز” فى مقتل دون وجه حق، فقد ثارث نزعة مضادة ضد نظرية الغرائز وخاصة بعد مغالاة ماكدوجال فى تقديمها وتقسيمها، وقد توالت الضربات على نظرية الغرائز هذه من مصدرين أساسين: وهما الاتجاه السلوكى من ناحية، والاتجاه الاجتماعى من ناحية أخرى، وحتى فرويد لم يستطع أن يمتد تأثير موقفه بالنسبة لغريزة الجنس أساسا إلى ما يسمح بالدفاع المناسب.(4) فقد هوجم من خصومه، كما هوجم من أتباعه على حد سواء، ذلك أن كثيرا من الفرويديين المحدثين قد هاجموا بيولوجيته لحساب ما أسموه نظرية العلاقة بالموضوع Object relation أو العلاقات البينشخصية Interpersonal، فى حين أن السلوكيين قد ركزوا على التعـلم ونظرياته وآثاره فى إحداث المرض وإزالته على حد سواء، مستبعدين بإصرار أى غرائز ثابتة أوجاهزة، أوموروثة (من حيث التفاصيل على الأقل). ورغم زعم علماء النفس الإنسانيين (أمثال أبراهام ماسلو) بتغليب الخير فى أصول الإنسان البيولوجية (الشبغريزيةInstinctoid )، إلا أن لغتهم الأقرب إلى “الشعر الحالم” لم تدعم نظرية الغرائز بقدر ما غيمت الجو حولها، الأمر الذى تفاقم أكثر فأكثر من جراء (النظريات البعشخصية والعبرشخصية Transpersonal) مما أفضل أن أسميه “علم النفس التجاوزى”، ذلك أن هذه النظريات أفرطت فى التجاوزية الغائية (شبه الدينية) حتى كادت تنفصل عن جذورها البيولوجية الغريزية.
إن مواقف اتجاهات علم النفس المعاصر، فى أغلبها، لم تدعم نظرية الغرائز بقدر ما حطت من قدرها أو أهملتها، وحتى غريزة الجنس (وهى أظهر وألمع من العدوان) كما هى، أو كما قدمها فرويد، لم تأخذ حقها فى الاستيعاب البيولوجى/الوجودى المناسب، بل لعل بعض المشتغلين بالتحليل النفسى قد أساء إليها، وأضاف إلى تشويهها. إن فرويد نفسه لم يعطها حقها على الرغم مما شاع عن فكره، بل جعل كبتها والتسامى فوقها (فيما هو ” خلـق” أو حضارة) هو السبيل إلى التحكم فيها، ثم إنه بالغ فى عقلنتها (فيما هو نظرية) على حساب إحيائها باعتبارها لغة تواصل أرقى وأشمل، حتى ليمكن أن نأخذ قول لورانس مأخذ الجد إذ يقول… “إن تناول فرويد للعمليات الغريزية فى الإنسان كان محملا بثقل الشعور بالذات لدرجة خليقة بأن تكتفى بإعلان الميل الشبقى بعيدا عن (فعل) الحياة، لتطيح باحتمال أن يحقق الانسان براءته التلقائية وانبعاثه الخلاق بحق”، ثم يمضى فيقول “… إن نظرية التحليل النفسى قد أعدت لتصيبنا بحالة من “الجنس فى الرأس”Sex in the head (الدماغ)، ولا أحسب أن هذا هو المكان اللائق به”.
الأرجح أن المبرر وراء كل هذه المحاولات لتهميش الغرائز هو مبرر أخلاقى على مستوى ما من لاشعور أغلب هؤلاء المفكرين، بمعنى أنهم تصوروا أن التسليم بوجود غريزة مسبقة (أية غريزة كانت) يبدو تقييدا لحركة تطور الإنسان بشكل أو بآخر، والنتيجة المنطقية، والاستسهالية لهذه المسلمة الخطأ هو أن ننكر الغريزة ابتداء، أو على الأقل أن نتنكر لها، متصورين أننا بذلك نفتح الآفاق، إذ يحدونا الأمل أن يحل التغير البيئى والتطور الثقافى محل التغيير البيولوجى المستحيل (من وجهة نظرهم).
وقد دعم هذا المبرر الأخلاقى موقف الدارونيين المحدثين من علماء الوراثة الأقدم (فايتسمان ومندل أساسا) بتأكيدهم على استحالة وراثة العادات المكتسبة.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن الغرائز مثلها مثل أى حقيقة صعبة، لا تختفى بالإجماع على تخطيها أو الخوف منها، أو نتيجة العجز عن تفسير مظاهرها السلوكية فى الوجود الانسانى المعـقـد. فكـان لابـد من إعادة النظـر فيها من مـدخل آخر، ومن عـجب أن يكون هذا المـدخل الجديـد هو من علم الإثـولوجى Ethology وبواسطة علماء الحـيوان Zoologists أسـاسا. وقد كـان لإسـهام لـورنز وتينـبرجـن فى دراسـة ظـواهـر مـثـل البـصـم Imprinting والطاقة الخاصة الفعالةAction Specific Energy وإزاحة النشاط of Activity Displacement. كان لكل ذلك أكبر الأثر فى فتح ملفات نظرية الغرائز بشجاعة مضاعفة، وكذلك إعادة النظر فى آراء الدارونيين المحدثين. وخاصة بعد تلاحق الأبحاث المهتمة بالتأكيد على إمكان وراثة العادات المكتسبة.
العدوان غريزة أم اكتساب:
يمثل لورنز الرأى القائل بأن العدوان دافع أولى (غريزة) ويؤيده فى ذلك تينبرجن (رغم اختلافهما فى تفاصيل أخري) إذ يقول الأخير عن الأول معترضا جزئيا “… إن لورنز يفترض أن العدوان هو دافع أولى موروث، وإنه مثله مثل الدوافع الأولية- فى تصوره- يسعى إلى الإطلاق (الإشباع)”.
ويعارض مونتاجو فى مناقشته مقولة تينبرجن منكرا أن يكون العدوان غريزة ويعدد إثباتا لرأيه هذا أجناسا وقبائل مثل الإسكيمو(5 والأستراليين البدائيين الذين لا يحارب بعضهم بعضا، وينتهى بالتساؤل التقريرى قائلا ” ألا يجوز أن الرغبة فى القتال هى شكل من أشكال السلوك المكتسبة”(6).
ولا سبيل إلى الفصل فى هذا الموقف دون التعرض للموقف الأخلاقى سابق الذكر الذى يبرر الهجوم على نظرية الغرائز عامة، ونظرية العدوان كغريزة بشكل أكثر تحديدا، ليبدو الإنسان كائنا بعيدا عن التوحش.
ثمة محاولات للخروج من هذا المأزق من خلال تبنى منظور: أن الغرائز - تطوريا على الأقل – هى سلوك سبق طبعه imprinted عبر تاريخ تطور الحياة. حتى على فرض أنه كان مكتسبا فى يوم من الأيام، فقد أصبح بلغة علمية أخرى: غريزة تورث، ذلك لأن التعلم بالبصم (غير التعلم الشرطي) يختص بالسلوك اللازم للبقاء فى مرحلة ما، وقد كان السلوك العدوانى من ألزم أنواع السلوك اللازم للبقاء فى معظم مراحل التاريخ الحيوى.
حتى باعتبار ما ذهب إليه إريك فروم معتمدا على آخرين فى أن العدوان قد اكتسب اكتسابا لاحقا فى العصر الحجرى الحديث مع تغير الإنسان من كائن صائد جامع إلى كائن منتج خازن مع بداية الزراعة (حوالى تسعين قرنا قبل الميلاد) فإن مرور آلاف السنين، ومتطلبات الوضع الجديد للإنسان كمنتج منافس لا يمكن أن نعتبرها مجرد اكتساب مؤقت، وبدءا من حدس هربرت سبنسر القائل “إن عادات اليوم هى غرائز المستقبل” حتى دراسات علم الهندسة الوراثية الأحدث تتزايد الحقائق الدالة على ربط المكتسب بالغريزى، وخاصة فيما يتعلق بالبقاء والتطور.
لكل ذلك لا ينبغى أن يغرينا التلويح بموقف أخلاقى سطحى لمجرد رغبتنا أن نتميز عن الحيوانات التى نصفها بالتوحش عن الإنسان، بل إن الاعتراف بهذا الأصل التكوينى يدفعنا إلى البحث الأمين فى تصور فائدة هذه الغريزة ليس فقط فى تاريخها الحيوانى، وإنما فى تجلياتها البشرية، مع العلم بأن ما نصفه بالحيوانية لا ينبغى أن يكون بمثابة الوشم بالدونية أو النكوصية كما يلمح وليام كورنينج متسائلا: “..وما هو النفع المنتظر إذا كان تحت السطح، رائحة بيولوجية كريهة”.(7) وإنما علينا أن نتذكر أن إنكار الحقائق ادعاء أو استسهالا يزيد من عجزنا عن التحكم فى الجانب السلبى منها، أو بتعبير أدق: فى توظيفها توظيفا سلبيا ضد النوع، أو ضد الحياة.
وظيفة العدوان وفرص التعبير عنه:
1- إن العدوان قد حفظ أجناسا (8)بأكملها فى صراعها ضد أجناس أخرى، وذلك فى إطار قانون “البقاء للأقوى”.
2- إن سيطرة الذكر الأقوى على قطيع الإناث واستبعاد الذكر الأضعف قد ضمن البقاء للسلالة الأقوى، نتيجة استبعاد الذكر الأضعف من القطيع بالعدوان الذى ينتهى بالقتل أو بالطرد أو بالإذعان.
3- إن العدوان يعتبر جزءا متضمنا فى كل الوسائل المسئولة عن الحياة، بل وعن تطويرها.
4- إن العدوان يحدد معالم الذات(9): فالذات إذ تنفصل عن الآخرين فى الولادة النفسية، فى المراهقة خاصة ، وفى كل أزمات النمو عامة، إنما تحقق ذلك حين يضطر “الفرد” أن يدفع “الآخر” فى عملية الانسلاخ منه، تحديدا لذاته الخاصة، الأمر الذى يتبعه بعد ذلك ومع ذلك جدل الآخر الموضوعى من خلال تحمل الاختلاف وبرنامج الدخول والخروج in-and -out program هذا ما ذهب إليه الكاتب فى دراسة سابقة(10) إذ يقول: “إذا كان الحيوان يحافظ على وجوده ككيان فيزيائى بالعدوان، فإن الإنسان يحافظ على وجوده ككيان مستقل واع (أى على فرديته) بالعدوان كذلك، ففى حين يستعمل الحيوان عدوانيته ضد احتمال افتراسه (ولافتراس الآخرين) فإن الإنسان يستعمل عدوانيته (دفاعا) ضد احتمال سحق ذاته وسط الآخرين”.
كل هذه الجوانب المهمة فى وظيفة العدوان لابد أن تؤكد ضرورة إعادة النظر، فيما ذهب إليه فرويد (على الأقل فى بداية تنظيره) من استقطاب الجنس فى مقابل العدوان، باعتبار ترادف العدوان Aggression مع التحطيم Destructivenessلدرجة جعلته يرادف بعد ذلك بين العدوان (التحطيم) وما أسماه غريزة الموت Thanatos (11).
العدوان فى السلوك الإنسانى المعاصر:
إذا قبلنا فرض أن العدوان غريزة بهذه القوة، وأنها ضرورية للحفاظ على الحياة والذات كخطوة سابقة لـ (ومتبادلة مع) غريزة الجنس (وليست نقيضة له كما صورها فرويد فى أواسط أعماله متبعا النظرة الاستقطابية التى غمرت فكره حينذاك)، فما هى المظاهر المعاصرة الإيجابية المباشرة والمحــورة التى تظهر فيها غريزة العدوان بالمقارنة بغريزة الجنس؟
لقد نالت غريزة الجنس من الانتباه والدراسة ما جعلها تتصدر باقى الغرائز، فضلا عن أنها كانت وما زالت بؤرة يدور حولها تنظير التحليل النفسى وتطبيقاته، ربما من خلال ذلك، ونظرا لطبيعة الجنس اللذية فى معظم الأحيان كانت فرص التعبير المباشر وغير المباشر عن هذه الغريزة متواترة ومتنوعة (خصوصا إذا قورنت بفرص التعبير عن غريزة سيئة السمعة مثل العدوان. خذ مثلا بعض الأمثلة:
1- الجنس يجد مخرجا شرعيا واجتماعيا ودينيا مباشرا فى الزواج (قبل وبعد فرويد).
2- الجنس يجد مخرجا اجتماعيا ( ومدنيا أحيانا) فى صورة العلاقات التلقائية قبل وخارج منظمات الأسرة فى كثير من المجتمعات شديدة البدائية وفى المجتمعات المتقدمة على حد سواء.
3- الحديث عن الميل الجنسى بما يحمل من فرص التنفيث والإرضاء الجزئى يعتبر حديثا مقبولا ومحببا وأحيانا فخرا وزهوا (للرجال على الأقل)، وذلك فى الإطار والمجال الذى يحدده كل فرد لنفسه، فمن المألوف السهل أن يتحدث الرجل عن رغبته الجنسية سواء تحققت أم لم تتحقق، أو حتى عن قدرته الجنسية، ولدرجة أقل تفعل المرأة نفس الشئ ولو مع قريناتها فى المجتمعات المحافظة.
4- الجنس له حضور كاف، وأحيانا غالب فى صورته الصريحة أو المحورة، فى كثير من الأعمال الأدبية والفنية وحتى فى بعض مظاهر التدين (العشق الإلهى والغزل فى الأنبياء والأولياء… الخ).
5- يصاحب ذلك، أو لعله نتيجة له أن الجنس قد يجد بسهولة مخرجا مناسبا ومتواترا فى الخيالات والأحلام على حد سواء.
العدوان يُعَامَلُ كأنه ليس غريزة بقائية
هل للعدوان نفس الفرص للتعبير المباشر أو غير المباشر؟ الإجابة بالنفى، وتفصيل ذلك:
1- إنه لا توجد صورة اجتماعية أو شرعية يمارس فيها الإنسان المعاصرعدوانه بشكل مباشر ومعترف به، اللهم إلا فى بعض أنواع الرياضة البدنية الالتحامية (فى المصارعة والملاكمة مثلا) التى يثار ضدها هذه الأيام اعتراضات متزايدة، ثم إنها ليست ممارسة شائعة أصلا يمكن أن نزعم أنها مجال عام يصلح لاستيعاب العدوان عند كل الناس.
2- لا يوجد أى تقدير أو تقبل طبيعى يسمح للفرد بالحديث عن رغباته العدوانية أوميوله العدوانية ، بغض النظر عما إذا كانت هذه الرغبات قابلة للتنفيذ أم لا (فى حين أن ذلك مقبول بالنسبة للجنس بترحيب خاص -من الرجال أكثر- كما ذكرنا).
3- لا توجد صور أدبية أو فنية تعلى من قدر العدوان، اللهم إلا صور البطولة (والفَتْوَنَة) التى تعلى من قدر عدوانية فوقية من الجانب المسيطر دون التابع.
4- يبدو أن كل هذا القهر والكبت الساحقين قد أثرا حتى على الأحلام والخيالات، فمن واقع خبرتى الكلينيكية، نجد أن حكايات المرضى عن أحلام (أو خيالات) القتل أو حتى القتال، هى أكثر ندرة من أحلام المطاردة والاضطهاد مثلا.
صور العدوان البديل (مكافئات العدوان).
إذا كانت غريزة العدوان بصورتها الصريحة لا تجد الفرصة الإيجابية للتعبير عن نفسها بشكل مباشر مقبول ، فهل يوجد شكل غير مباشر يمكن أن يحقق التعبير عن غريزة العدوان بأى صورة محورة؟
بالنظرة الأعمق يمكن أن نستنتج خطوطا عامة تبدو وكأنها تؤدى هذا الغرض، ومنها:
1- التنافس الدراسى والأكاديمى(12). كما يرى من كل من انتونى ستور Storr وألفرد أدلد.
2- التنافس الرياضى (الذى يظهر بشكل مباشر فى الرياضات الالتحامية فى المصارعة والملاكمة كما هو متضمن بشكل غير مباشر فى معظم الرياضيات التنافسية).
3- السيطرة الطبقية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. مع تذكر أن السيطرة الطبقية قد أصبحت مؤخرا تتم فى الخفاء وبأساليب سرية مغلفة، أو بشعارات أخلاقية أو دينية أو أيديولوجية مناسبة، وهى وسيلة القلة على كل حال.
وعلى كل حال، فقد اتجهت التربية الحديثة، ومحاولات المساواة الممكنة وغير الممكنة إلى تغيير القيم إزاء فكرة التنافس أصلا، حتى كاد التنافس أن يصبح غير كاف لامتصاص طاقة العدوان، فضلا عن احتمال الضرر من الإفراط فى تقديسه. فالتنافس الرياضى مثلا لا يشمل إلا نسبة ضئيلة من الناس، ثم هو يحاط بالترويض المستمر للعدوان المغلف به فى شكل تنمية ما يسمى بالروح الرياضية، ولا يشارك عامة الناس فى إطلاق غريزة العدوان التنافسية اللهم إلا بتقمص المتنافسين مشاهدة من الوضع جلوسا مصفقين على أحسن الفروض (!!) وهذا غير كاف فضلا عن احتمال الخداع والتشويه.
إذن: فالأمر يبدو وكأنه لا يوجد فعلا فى عالمنا المعاصر أية فرصة حقيقية لإطلاق غريزة العدوان ولا للتنفيس عنها أو حتى لمجرد الاعتراف بها على مستوى العقل.
وكأننا يمكننا إعلان أن درجة الكبت والمنع والإنكار لغريزة العدوان قد وصلت -بإجماع تقريبا- إلى أضعاف ما أزعج فرويد بالنسبة لغريزة الجنس وآثار كبتها.
وإذا كان ما لحق من كبت لغريزة الجنس إنما تظهر آثاره السلبية أساسا فى مجال المرض النفسى المسمى قديما “العصاب”، كما يقول فرويد، فإن كبت غريزة العدوان إنما يظهر فى مجال الأمراض الأخطر، الأمراض الذهانية خاصة الفصام، ثم هو يتعدى الخطر على الفرد إلى ما هو أخطر على الجماعة والمجتمع.
نتائج كبت العدوان
يمكن استقصاء بعض جوانب النتيجة الطبيعية لكبت العدوان كما يلى:
أولا: تراكمت هذه الغريزة كطاقة مقهورة تستنزف الطاقة البشرية فى محاولة إبقائها فى حالة كامنة خفية.
ثانيا: تداخل العدوان مع غرائز أخرى للتعبير عن نفسه كالتالى (كأمثلة):
(أ) غريزة الجنس: فى كثير من الأحيان يختلط الجنس بالعدوان، ليس فقط بمعنى السادية، وإنما أصبح السلوك الجنسى فى بعض الأحيان تعبيرا عن العدوان، رغم مظهره الجنسى (حالات الاغتصاب المتزايدة، على الرغم من وجود الاستكفاء الجنسى عند بعض المغتصبين).
(ب) غريزة الجوع: أحيانا لا يتوقف الالتهام عند الشبع (إرواء حاجة الجوع) بل يتمادى حتى ليعبر فى بعض الأحيان على نوع من العدوان على الذات والآخرين معا، مما يذكرنا ببعض أنواع العدوان بالالتهام عند بعض أنواع الزواحف والعناكب.
(جـ) غريزة التملك: ثمة نوع من التملك يتزايد حتى يصبح عدوانا، مثل سلوك التخزين Hoarding (باعتبار أن التخزين دافع أولى)، بما فى ذلك من العدوان على الذات (اغترابا) وعلى الآخرين (حرمانا).
ثالثا: أسقطت ظاهرة العدوان فى أشكال فنية أو شبه فنية فى شكل أفلام العنف والإجرام والكاراتيه، وقد تقوم هذه الأشكال بالسماح بالتقمص الذى يمتص طاقة العدوان عند المشاهد، أو هو يفجرها فى الخفاء عادة.
مظاهر العدوانية (الضارة) الصريحة
حين يفشل كبت العدوان يظهر صريحا فى صور متعددة، وقد يتخذ ذرائع تبريرية، كما قد يكون مباشرا تسلطيا ظالما، وعادة ما تستعمل كلمة “العدوانية” Aggressiveness لتميز الصورة السلبية للعدوان ومن أمثلة تجلياتها ما يلى:
أولا: تتفجر العدوانية بين الحين والحين فى شكل حروب محلية أو عالمية، عادة غير مشروعة ولا مبررة.
ثانيا: تتفجر الصراعات الطبقية، والعنصرية، بكل ما تحمل من حقد وانتقام واستغلال من كل جانب للآخر الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى (باعتبار هذا الأخير هو الوجه السلبى لـعدوان “العبد على السيد” فى ديالكتيك هيجل).
ثالثا: قد تأخذ العدوانية شكلا لفظيا مباشرا مثل الهجاء، والسخرية، والأحكام الفوقية.
رابعا: تتعدد صور العدوانية السلبى مثل العدوان بالإهمال أو بالتخلى (حتى ولو كان هذا التخلى تحت الشعار الأحدث: “أنت حر” مثلا) وفى شكل “الرقة المتفرجة” مما لا مجال لتفصيله هنا.
خامسا: هذا فضلا عن العدوان المباشر والمجرَّم فى صور جرائم العنف خاصة.
الأهمية البقائية للعدوان:
إذا كان العدوان بهذه القوة وهذا الإلحاح، فى نفس الوقت ليس له إلا أقل قدر من فرص التعبير الإيجابى والمسار البنـاء، ثم كانت صوره المحورة والخفية، وأيضا الصريحة العارية، هى من أخطر ما يمكن تصوره على مسيرة الإنسان عامة، فما هو الموقف المسئول تجاه كل هذا؟
مواجهة طبيعة العدوان
تمنى المهتمون بالأمر (من الإثولوجيين خاصة) أن نعود نستلهم الحيوانات، نسألهم ماذا فعلوا هم وعجزنا عنه نحن بورطتنا المرعبة، ذلك أن العدوان بين نفس النوع Intraspecies هو أمر شديد الخطر على نوع بذاته، بحيث حاولت أغلب الحيوانات تحقيق غايتها دون ممارسته الى نهايته، وهى القتل، وقد أثار إريك فروم تساؤلا مزعجا يقول: هل الإنسان نوع واحد؟ حيث عرض احتمال أنه نظرا لاختلاف اللغات والألوان والأوطان ، فإنه قد يكون استقبالنا لبعضنا البعض قد وصل إلى اعتبارنا أجناسا متعددة، لا جنسا واحدا كما أن تينبرجن شرح ذلك نصا فى قوله: “… إن القاعدة أن كل الأنواع قد نجحت فى تحقيق النصر دون أن يقتل أفرادها الآخر، وفى الحقيقة أنه حتى مجرد إسالة الدماء يعتبر حدثا نادرا فيما بينها، والإنسان هو النوع الوحيد الذى يمارس القتل الجماعى، الوحيد ذو الوضع الناشز فى مجتمعه”. إن الحيوانات قد حذقت فيما بين أفراد نوعها لعبة الإنذارات والتهديد (فيما يشبه الحرب الباردة) بدرجة أعفتها من القتال الفعلى أساسا ، فضلا عن قتل أفرادها من نفس الجنس…، وقد درس علماء الحيوان وعلماء الإثولوجى هذه الإنذارات وتمنى بعضهم أن يحذق الإنسان مثل هذه الإنذارات، وأن يتعلم ترويض العدوان لإحلال التهديد محل القتل، حتى ضربوا مثلا سطحيا لذلك، وهو الضرب بقبضة اليد على المائدة بدلا من ضرب الخصم، وشبه بعضهم توجيه المسار هذا بعملية التسامى (أو الإعلاء) التى قال بها فرويد بالنسبة للجنس.
لكن الإعلاء والتسامى – أمل هؤلاء الباحثين- لا يمكن أن يـقبل إلا كمرحلة من مراحل النمو، وحتى فرويد، الذى أعلى من شأن “التسامى” خصوصا بالنسبة للجنس، قد هوجم بشدة لما لحق بالغرائز على يديه ثم على يدى أغلب أتباعه من “عقلنة” بسبب نقلها إلى موضوع رموز ونقاش دون استيعابها جدلا مشتملا.
وعلى الجانب الآخر بالغ البعض فى قيمة إعادة التعليم كحل ترويضى (حضارى) يستنكر العدوان ويحل محله أساليب أخرى أكثر إنسانية ورقيا مما يليق بالإنسان. وإن كان هذا الحل يعد بترويض العدوان وإبداله ، فإنه يتجاهل قيمته البقائية الأساسية. إن مثل هذا الحل الذى يقلبها حربا داخلية يمكن أن يكون الأساس المرضى لكثير من الاضطرابات النفسية على اختلاف أنواعها.
ومع التسامح تجاه هذه التمنيات الطيبة !!!، والحذر من أن ينقلب الإنسان على نفسه لمجرد الخوف من الاعتراف بالحقيقة، فإننا نجد فى مجالى علم النفس والطب النفسى صورا لمضاعفات التمادى فى الاقتصار على هذا الحل البادى السلامة.
احتواء الغرائر والفروض الأساسية:
علينا – إذن – ألا نمل من مواجهة هذين السؤالين:
أولا: ما هو الموقف الحالى تجاه غرائزنا البدائية التى كانت فى صورتها الفجة لازمة لحفظ البقاء الفردى والنوعى معا؟
ثانيا: كيف يتم احتواء مثل هذه الغرائز واستيعابها وتحويرها مع تطور الحياة والأحياء، وكيف يسهم الوعى بذلك كله فى توجيه المسيرة؟
أبدأ بوضع تصورى للإجابة على هذين السؤالين فى صورة الافتراضات الأساسية للمداخلة الحالية، على الوجه التالى:
1- إن الغريزة، باعتبارها سلوكا أوليا مطبوعا، ومن ثم موروثا للنوع كافة، وموروثا للفرد، مع بعض التفاصيل المختلفة بين الأفراد، هى تنظيم برنامج “خلوى نيورني” قائم فى ذاته، كما أنه تنظيم قائم ضمن ارتباطات وتنظيمات أكبر فى نفس الوقت، وهو قابل للبسط unfolding بقدر ما هو قابل للتكامل integration فى الكل الأكبر.
2- إن لكل غريزة تعبير بدائى مباشر، كما أن لها فى نفس الوقت، من خلال ارتباطات تنظيمها النيورونى والخلوى، تعبيرات محورة تخدم أيضا المستويات الأعلى من الوجود الحيوى للنوع أو الفرد على حد سواء.
3- إن الغريزة لا تظهر فى صورتها البدائية الأولية الفجة تماما إلا إذا انفصلت عن سائرالغرائز من ناحية، وكذلك إذا انفصلت عن سائر الوظائف من ناحية أخرى.
4- إذا عجزت الغريزة عن التكامل فى الارتباطات الأعلى والأشمل قامت بدورها الدافعى لوظائف أرقي- وحتى دون الالتحام بها- مما قد يخفف من احتمال ظهورها بمظهرها البدائى مباشرة، ويعتبر هذا الحل تسوية ناجحة كمرحلة، ولكن استمراره كحل دائم، لابد وأن يعوق النمو، حيث يفصل الطاقة عن الأداة فى حين أن تكاملهما حتمى فى المستوى الأعلى من النمو.
5- يمر نمو الغريزة على مستوى تطور النوع والفرد معا فى خطوات متتالية تصاحب اتساع دائرتها وشمول ارتباطاتها، بما يشمل الوعى بها حتى فى صورتها البدائية، و بما يشمل القدرة على تأجيلها وتنظيمها.
6- تتعرض هذه الارتباطات الأشمل للتفكيك المرحلى فى الحلم، أو أزمات النمو، تمهيدا لولاف أعلى وأشمل، فهى لا تمحى أبدا بصورتها البدائية إلا فى مرحلة نظرية تماما هى مرحلة “التكامل القصوى” التى تعتبر هدفا دائما فى تطور الإنسان الحالى (لكنه هدف غير محقق فى الحاضر وإلا كنا نتعامل مع الإنسان القادم على سلم التطور).
7- يستمر نمو الغريزة وتتسع ترابطاتها حتى تصبح قادرة على الالتحام الولافى فى حركية التكامل الجدلى، سواء كان ذلك مع ما يبدو نقيضها، أو مع صور تجاوزاتها، أو مع الواقع المكتسب من تحويرها.
من خلال هذه الافترضات المبدئية يمكن إعادة النظر فى التصورات والمعلومات والمظاهر المتعلقة بغريزة الجنس بوصفها نموذجا نال حظا وافرا من الدراسة، وكذلك بوصفها معرضة لاتهامات أقل بأنها مجرد تعلم مكتسب !!
ترتيب المُعطيات
أولا: بالنسبة لغريزة الجنس:
1- إن الغريزة الجنسية، بكل صورها البدائية والتالية، موجودة فى التركيب البشرى بتاريخه الحيوى كله، وكمثال: فإن مضاجعة المحارم هى من صلب السلوك البقائى للحيوانات وللإنسان حتى عهد قريب، فظهور مثل هذا السلوك على مستوى الحلم أو غيره (الجنون) لا يحتاج إلى تبريرات “أوديبية” أو افتراض عقد تثبيتية، لأنه أصل فى التكوين البشرى، ولعل التأكيد على هذه التفاصيل الدرامية الذكرياتية الفردية قد تضاعف للتخفيف من صعوبة مواجهة الطبيعة البشرية بتاريخها الصعب.
2- إن وظيفة الغريزة الجنسية البدائية هى حفظ النوع أساسا، وذلك بالتناسل، كما أن شكلها هو التلاحم الجسدى المتداخل، أما وظيفتها الأرقى لحفظ النوعية (نوعية الإنسان بما هو إنسان) فهى التواصل (العلاقة بالموضوع كما يسمونه) لإعطاء الإنسان ميزاته الاجتماعية وامتداد وجوده إلى الآخرين ومنهم، تعاونا ورقيا (الغريزة الجنسية من التكاثر إلى التواصل).
3- إن أشهر أشكال التعبير المعاصر لغزيرة الجنس هو ” الغرام” بمعنى الحب الثنائى بما يشمل معانى العشق والشوق والحنين وما إليها.
4- إن الميكانزم الإبدالى السليم، فى حالة العجز (النسبى أو المطلق) لغريزة الجنس عن التعبير المباشر هو “التسامي” الذى اعتبره فرويد بشكل ما أساسا لكثير من مظاهر الحضارة.
5- إن الكبت المفرط لغريزة الجنس إنما ينتج عنه استــنفاذ الطاقة التى تستعمل فى الكبت وكذلك الحرمان من طاقة الجنس ذاتها، مما يترتب عليه اضطراب فى النمو، فضلا عن اضطرابات نفسية معينة تكاد تشمل معظم أنواع العصاب ، وكثيرا من اضطراب سمات الشخصية Personality Trait Disorder هو الأقرب إلى هذه المقابلة، وكان هذا هو اهتمام فرويد الأول، وهو ما يفسر اهتمامه بالعصاب – أكثر من الذهان- بشكل خاص.
6- إن نوع الإبداع الذى يمكن أن يستوعب الطاقة الجنسية الداخلية هو ما أسميه هنا الإبداع التواصلى الذى يبلغ من تناسقه وجماله أن يخلق لغة جميلة تواصلية بين المبدع والمستمتع.
7- إن التطور الأرقى لهذه الغريزة هو طاقة الحب (وليس مجرد الغرام)، بما يشمل معانى الرعاية و المسئولية والرؤية (مع تحمل التناقض) والتواصل لتحقيق حفظ النوعية (ماهو إنسان) وليس فقط النوع.
8-إن الهدف الأعلى هو الولاف بين النقائض الأولية (الجنس مع العدوان) ثم الولاف الأعلى فالأعلى (الوظائف الدوافعية مع الوظائف الترابطية “مثل التفكير”)، وهى مرحلة مازالت نسبية، ونظرية جزئيا، فى مرحلة تطور الإنسان الحالية.
ثانيا: بالنسبة لغريزة العدوان
1- إن غريزة العدوان فى صورتها البدائية (القتل والالتهام) موجودة فى التركيب البشرى بتاريخه الحيوي. وقتل الأكبر سنا (مثلا: الوالد) لتوفير الطعام وإعطاء فرصة للاستمرار الحيوى قد لا يحتاج بالتالى إلى تفسيرات درامية ذكرياتية فرودية أوديبية تثبيتية خاصة.
2- إن وظيفة غريزة العدوان ( البدائية) الرئيسة هى حفظ الحياة (الاستمرار الفيزيائى) وذلك بالقتل أساسا، أما وظيفتها الأرقى مرحليا وتعويضيا فهى السيطرة للتنظيم الطبقى التمييزى المرحلى بالضرورة.
3- إن التعبير المعاصر عن هذه الغريزة هو “تأكيد الذات” فى مواجهة الآخرين.
4- إن الميكانزم الإبدالى فى حالة عجز هذه الغريزة (النسبى أو المطلق) عن التعبير المباشر وغير المباشر هو التعويض التفوقى بالنجاح والمكسب والسيطرة والانتصار بكل صوره، ومثال ذلك ما يتم فى التنافس الرياضى إما على حساب الفريق الآخر وإما فى مواجهة الرقم القياسى السابق “كسر الرقم القياسى”.. (لاحظ تعبير “كسر”).
5- إن الكبت المفرط لغريزة العدوان إنما ينتج عنه استنفاذ طاقة أكبر لازمة لهذا الكبت بالإضافة إلى قمع طاقة العدوان ذاته، مما يترتب عنه توقف النمو، وفى بعض الأحيان يسبب ارتداد هذه الطاقة إلى الداخل فى شكل تمزيق ذات للأخرى ثم تناثر الاثنان معا هذا وبرغم دعم لورنز لفكرة فرويد عن وجود غريزة خاصة بالعدوان إلا أنه ذهب- كما نحاول التأكيد هنا- إلى أنها غريزة تحترم الحياة بشكل ما، فى حين ذهب فرويد خاصة فى مراحل تطور فكره الوسطى إلى أنها أقرب إلى التحطيم والموت.
6- إن الإبداع الذى يستوعب الطاقة العدوانية هو ما اسميه هنا “الإبداع الخالقى” الذى تتضمن إحدى مراحله تحطيم الكل القديم إلى مكوناته وجزئياته لإعادة صياغته مع أجزاء كل آخر تم (أو جار) تحطيمه بدوره، ثم صناعة ولاف أعلى من كل ذلك، وهو ليس إبداعا تواصليا إبتداء بل لعله يكون تنفيريا فى البداية (كما سيأتى).
7- إن التطور الأرقى لهذه الغريزة هو الإبداع الخالقى على مستوى عالم الواقع (وليس عالم الفن كبديل)، ويشمل ذلك الثورة الاجتماعية والسياسية الحقيقية (خاصة غير الدموية).
8- إن الهدف الأعلى هو الولاف بين النقائض ظاهريا (الجنس مع العدوان) ثم الولاف الأعلى فالأعلى (الوظائف الدوافعية مع الوظائف الترابطية تحقيقا للتكامل الأقصى)، وهذه المرحلة حاليا هى مرحلة نظرية بالضرورة(13).
هذا الحل الصحى الذى يتم على مراحل قد تناول مرحلته الوسطى ألفريد أدلر كما نوهتُ قبلا، وذلك بالنسبة لحديثه عن الميل إلى السيطرة، وعما أسماه (خطأ) “التأكيد الذكرى”، وهى المرحلة المقابلة للتسامى بالنسبة لحل غريزة الجنس، على أن هذا الحل وذاك - كما أشرنا قبلا- هما حلان إبداليان، والإبداع فى صورتيه ( التواصلى والخالقى) هو المرحلة الأولى بالدراسة.
وفى هذه الأطروحة سوف أركز على الإبداع الخالقى أكثر من الإبداع التواصلى لأنه هو الذى يستوعب العدوان أساسا، على الرغم من أن فصل نوعى الإبداع عن بعضهما هو فصل تعسفى لأن علاقتهما جد وثيقة، حيث أن الغريزتين (الجنس والعدوان) فى هذه المرحلة الأعلى من النشاط الإبداعى تقتربان من بعضها البعض فى الإعداد للولاف الأعلى من خلال تلاحم تناقضهما الظاهرى، على الرغم من هذا التقارب الحتمى، فإن تمييزا بين نوعى الإبداع قد يكون مفيدا للتوضيح، مع الاعتراف ابتداء بأنه تفسير تعسفى بشكل أو بآخر، وفى ذلك نقول:
الإبداع الخالقى
يتميز “الإبداع الخالقى” ما أسميناه (المستوعب للعدوان) بما يلى:
1- تحطيم القديم فى مغامرة فردية صعبة تتصل بعامل الأصالة وتأكيد الذات أساسا.
2- إعادة خلق الجديد من جزيئات القديم المحطم، بما يشمل المخاطرة بالوحدة والرفض.
3- يتم هذا التحطيم وإعادة البناء عادة على حساب الآخرين- فى البداية وظاهر الأمر- ذلك أنه يهزهم ويقلقل استقرارهم ويشكك فى معتقداتهم ويهدد سكينتهم.
4- يلاقى المبدع من جراء إبداعه الخلاق من الرفض والنبذ والقسوة والاضطهاد ما يجعله فى معركة حقيقية.
5- يقاوم المبدع كل هذا بالوحدة والإصرار والاستمرار، مما يحتاج إلى كل طاقة عدوانه تجاه الآخر (الآخرين)(14). وبديهى أن هذه الوحدة ليست عزلة بقدر ما هى مواجهة تحمل فى طياتها فرصة أن تصب فى النهاية فيما رفضته، وهذا هو الفرق الأعظم بين العدوان فى صورته البدائية والعدوان فى صورته الإبداعية.
هذا، ولابد من توضيح أن ما أعنيه بالإبداع الخالقى لا يقتصر على الإنتاج الإبداعى فى مجال الفن أو الأدب خاصة، وإنما هو أعمق وأشمل تماما، فهو إنما يشمل:
ا- المتلقى الناقد المبدع الذى يعيد صياغة ما يتلقى بنفس القدر من الهجوم ، فإعادة الصياغة.
ب- التغيير الذاتى الإبداعى المشتمل على مغامرة طرق باب المجهول ثم إلى الجديد حتما.
جـ – الإنشاء العلمى أو الأدبى أو الفنى الإبداعى المغير.
د- الموقف الإبداعى الحياتى المتجدد.
هـ- الثورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المغيـرة الحقيقية المسئولة.
وكل ذلك فيه - بلا استثناء – ما فيه من تحطيم القديم وتحديه، ومن صناعة الجديد ومخاطره، بما يتفق مع المعالم الأولية لوظيفة غريزة العدوان كما أوضحناها.
أما الإبداع التواصلى فقد يكون مرحلة سابقة أو تالية أو بديلة عن الإبداع الخالقى، ( وهو ليس بعيدا عنه أو مناقضا له) فالتواصل مع الآخر ( وليس مواجهته بالوحدة فالاقتحام) هو الأصل فى هذا النوع من الإبداع التواصلى، حيث يثابر المبدع ويستمر حتى يثير التنظيم المقابل الجديد فى المتلقى، وهذا يمكن أن يقاس بالتواصل الجنسى. فأحيانا ما يكون مستقلا ومباشرا، وأحيانا ما يكون الجنس لاحقا للعدوان فى بعض الأنشطة البدائية (دون حاجة إلى افتراضات سادية شاذة)، وأحيانا ما يحل الجنس محل العدوان.
الإبداع “التواصلى”
يتميز ما أسميناه “الإبداع التواصلى” (المستوعب للجنس) بما يلى:
1- لا يلزم تحطيم القديم حتى النخاع، وقد يكتفى بتحسينه حتى القبول.
2- ولا يشترط إعادة خلق جديد من جزئيات قديمة بقدر ما يشترط تناسق الجزئيات القادرة على التناغم مع نفس المستوى عند المتلقى.
3- ولا تتم هذه العملية على حساب (وفى مواجهة ) الآخر – كخطوة حتمية- وإنما تتم لحساب ، وسعيا إلى الآخر منذ البداية.
4- ولا يعانى مثل هذا المبدع رفضا وتهديدا حتميين، وإنما عادة ما يجد تقبلا واستحسانا من البداية.
5- والمبدع هنا لا يؤكد وحدته بنفس الحدة المطلقة – كخطوة أيضا- وإنما هو يأتنس بمن يتحدث – ويتلقى – على نفس موجته بشكل نسبى على الأقل، ومنذ البداية أيضا.
وقد يكون الإبداع التواصلى أقرب شئ إلى الفن الموهبة وهو فن تنمية القدرات الفنية الخاصة ، وبالتالى فهو يشمل أغلب الإنتاج الفنى والأدبى بصوره المتميزة والمألوفة، دون القفزات الطفرية التى تغير مسار صوره وأشكاله، بل ومسار الحياة برمتها وقد اقتطف سيلفانو أريتى فى كتابه “الإبداع” رأى ناثانيل هرش فى كتابه الذكاء الخلاق حيث فرق بين “الموهوب” والمبدع الخلاق الذى أسماه “العبقري” تفرقة هامة تختلط على الكثيرين حتى كاد يعتبرهما نقيضين: “ففى حين أن الموهوب Talented يحسن الأداء فإن العبقرى يصنع الجديد، والموهوب يتقن التحليل الجزئى فى حين أن العبقرى يعتمد على حدسه، والموهوب يتكيف ويحقق المكاسب فى حين أن العبقرى يعطى حياته كلها لهدف الخلق الإبداعى”.
هذه التفرقة رغم فائدتها ووجاهتها، ورغم موافقتى عليها من حيث المبدأ، إلا أنها تشير إلى استقطاب لا أوافق عليه، وما يهمنى هنا هو أن هذا النوع من الإبداع التواصلى ليس بديلا عن الجنس (وإلا كان الأولى أن يسمى تساميا) ولكنه ينطلق من الجنس ليحتويه.
كذلك فإن الإبداع الخالقى ليس بديلا عن العدوان ولكنه ينطلق من العدوان ويحتويه فيحقق وظيفته الأصلية فى أرقى مراحل تطوره قبل الاندماج فى الولاف التكاملى الجديد.
وبعـد
نظر لطول وتشعب الفروض، وأملا فى حوار مثمر، اضطررت أن أؤجل جزأين مكملين للفرض إلى نشرتىْ يوم الأحد والاثنين القادمين (حيث ستنشغل النشرة بالأبواب الثابتة أيام الخميس والجمعة والسبت) وسوف يشمل الجزء الثانى إضافاتعن “الذكورة الأنوثة والإبداع والعدوان” وكذلك “متابعات نقدية“، من واقع مختارات من ملاحظات اكلينيكية ومواجهات علاجية، وأخيرا “متابعات نقدية محدودة من الأدب (والإبداع الشخصى).
أما الجزء الأخير (نشرة الأثنين) فهو نقد محدود للفرض نفسه نعرض فيه المأزق الذى يمكن أن نجد أنفسنا فى بؤرته ونحن نتصدى لتبنى أو تطبيق الفرض الأساسى له إذا تبنيناه ومن ثم مواجهة هذا المأزق بالبحث عن “مخرج” ومن ثم فإن عنوانه هو “المأزق – المواجهة – المخرج”.
[1] – لورنز وتينبرجن Tenbergen فى كتاب Comprehensive يمكن 1967
[2] – يقول آرثر كوستلر Arthur Koestler ..إننا لو تتبعنا الخط المجنون الذى سار عليه تاريخ الإنسان فإنه قد يظهر أن هناك احتمالا كبيرا أن هذا الكائن العاقل Homo Sapien ليس سوى مخلوق بيولوجى شاذ, ناتج من خطأ واضح فى عملية التطور’ ويقول فى موضع آخر: إن ظهور القشرة المخية الجديدة Neocortex (فى الإنسان) هى المثال الوحيد فى التطور الذى أعطى نوعا من الأحياء عضوا لا يعرف كيف يستفيد من استعماله.
[3] – يختص هذا البحث أساسا بالعدوان بين أفراد نفس الجنس Intraspecies دون سواه.
الحب = العشق = البقاء
[4] – وكان الموقف أضعف بالنسبة لغريزتى الموت Thanatos والحياةEros (الحب العشق البقاء…). حتى أن فرويد لم يتمادى فى شرحها, أو الدفاع عنها, ولم تنتشر أفكاره حولها إلا بعد وقاته.
[5] – عدد إريك فروم أربع عشرة من القبائل غير إسكيمو الأرض الخضراء (مثل قبائل الإنكاس والباشيجاس.. وغيرها) ممن اعتبرهم مجتمعات لا تتصف بالعدوان التحطيمى أصلا.
[6] – يذهب بعض السلوكيين (مثل ج.دولارد وزملائه) إلى اعتبار العدوان ببساطة أحد مظاهر التفاعل للإحباط أساسا.
[7] – نعلن تحفظنا ضد استعماله كلمة كريهة offensive لأى أثر بيولوجي, حيث العيب الذى جعله كريها ليس فى وجوده وإنما فى انفصاله عن الكل.
[8] – ولعل هذا ما حاول أليسون فيتزسيمون تأكيده فى حديثه عن الغضب والعدوان (وهو يستعملهما كمترادفين) فى قوله: ‘إن الغضب.. هو جزء لا يتجزأ من الحب ومن كل الدفاعات والتحفظات ضد الموت والقوى المهددة, وبالإضافة فإن هناك شيئا صحيا ومفيدا فى العدوان : هو أنه جزء من كل الأساليب الإبداعية’. (وهو لم يذكر كيف كان ذلك, وهذا ما سنحاول الوصول إليه فى نهاية البحث).
[9] - فى حديث إريك فروم عن العدوان كتأكيد للذات Self Assertion حاول أن يدعم العدوان كخطوة أمامية (ضد النكوص كخطوة رجوعية).
[10] – يحيى الرخاوى : دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979 (شرح سر اللعبة)
[11] – كما يمكن الرجوع إلى عرض إريك فروم (المحلل النفسى الحديث فى كت ابه ‘تشريح عدوانية الإنسان’) لتطور وجهة نظر فرويد فى نظرية العدوانية والتحطيم Freud’s Theory of Aggressiveness and Destructivenes فى تسلسل رائع منذ اعتبرها أولا (ثلاث مقالات فى الجنس 1905) جزءا من المكونات الغرائزية Component instincts لغريزة الجنس, ثم أخذ يشك فى وجودها كغريزة مستقلة (حالة هانز الصغير سنة 1909) حتى أعلنها مستقلة فى ‘مافوق مبدأ اللذة 1920’ دون اقتناع كامل, وكيف قرنها ابتداء بما أسماه غريزة الموت, أى أنه نظر إلى فاعليتها السلبية والتحطيمية أساسا, وظل فروم يستعرض التطورات التالية حتى قرب وفاته (1938) حيث أكد أخيرا ‘…إن العدوانية بصفة عامة هى ظاهرة غير صحية وتؤدى إلى المرض’ (لاحظ استعمال عدوانية Aggressiveness وليس عدوانا Aggression التى نادرا ما كان يشير إليها والتى هى موضوع بحثنا هذا).
[12] – كلا من ستور Storr, A. (1970) (أنظر القراءات) وألفرد أدلر.
[13] – هذه المرحلة تحتاج إلى تفصيل لا يمكن أن يستوعبه هذا البحث, رغم أن ما يهم فى هذا البحث فى المقام الأول هو عرض الحل الصحى المنطقى لانطلاق العدوان وليس الصورة المرضية لمضاعفات كبته.
[14] – قد يكون موقف سارتر من جحيم الآخر موقفا مبدعا بالضرورة, من هذا المنطلق بالذات.