الغريزة الجنسية
من التكاثر إلى التواصل
د. يحيى الرخاوى
2007
الفصل الأول
الغريزة الجنسية
من التكاثر إلى التواصل(1)
المسودة الثانية
كتب د. أحمد شوقى (زميلنا فى لجنة الثقافة العلمية)
فى مجلة سطور العدد سبتمبر 1998
(من الطبيعى ونحن نعيش فى ظل ثقافة التكنولوجيا أن تنعكس ثورة العلم والتكنولوجيا على موضوع الجنس دراسة وممارسة!!!،)
إن دراسة موضوع الجنس من هذا المنظور قد تساعد على التعرف بشكل أفضل على تاريخه وتاريخانيته،
وهذا التعرف قد يساعد على تصحيح مفاهيمنا عنه.
ثم نقل عن لين مارجوليس ودوريون ساجان
“الجنس عند العامة يعنى رجالا ونساء عراة فى وضع الممارسة،
وعند الأطباء يعنى الإيدز،
وعند الداعية الأخلاقى المتشدد لا يعنى الجنس إلا بديلين
ذكر وأنثى.
******
المحتوى
أولا: المتن
1 أسئلة مبدئية (وحرج شخصى)
2 المنهج، ومصادر المعرفة عن الجنس
3 الجنس واللغة & الجنس لغة
4 التحدى البشرى هو فى التواصل أساسا.
5 الجنس والموت والدين
6 الجنس والحب
ثانيا: الملاحق
(1) الانحراف الجنسى
(قراءة مصطلح: من مجلة الإنسان والتطور عدد أكتوبر- ديسمبر 1998)
1 حدود السواء (وعموما) فى الجنس
2 توظيف الجنس
3 تبرير الجنسية المثلية
4 مخاوف واحتمالات
(2) المرأة أحرص من الرجل على الجنس التواصلى وليس على الجنس التفريغى أو اللذة المنفصلة (تحرير المرأة: بالحرمان)
(مقتطف وموقف: من مجلة الإنسان والتطور عدد أكتوبر-ديسمبر 1998)
(3) دروس فى الجنس من الإبداع الأدبى
(من نقد: بيع نفس بشرية: محمد المنسى قنديل، رسم آخر للظل: حسنى حسن، يقين العطش: إدوارد الخراط)
******
تمهيد:
الفرق بين الثقافة العلمية، والمعلومات العلمية ؟!!
هذا اللقاء هو بعض نشاط منتدى أبو شادى الروبى لأصدقاء الثقافة العلمية (فاللجنة هى: لجنة الثقافة العلمية)، وهذه محاضرة فى المجلس الأعلى للثقافة، عن الجنس وما إليه، وما آل إليه، فما هو الفرق بين ما يجوز أن يلقى هنا والآن، وبين ما يمكن أن يلقى فى نفس الموضوع فى المجمع العلمى، أو مركز الأبحاث، أو فى كلية الطب، أو الآداب، أو لطلبة الثانوية العامة، أو الثانية إعدادى؟
ظللت طوال السنوات الخمس الماضية (وأنا أشرف بعضويتى لهذه اللجنة)، وأنا ألح إلحاحا متصلا لأفهم أولا، ثم لأحاور ثانيا، ثم لأسوق ثالثا ما هو “ثقافة علمية”، وقد وضعت لذلك تعريفات كثيرة، ونشرت رأيى فى أماكن كثيرة، وخلاصته تبدأ بنفى يقول: إن الثقافة العلمية ليست هى العلم، وليست هى المعلومات، وليست هى تبسيط العلوم، وليست هى تسويق العلوم، وإن كان كل ذلك من أدواتها(2)
وأضيف بهذه المناسبة عرض لموقفى بألفاظ أخرى يقول:
إن الثقافة العلمية هى:
(1) تفعيل المعلومة العلمية لتصبح فى متناول الوعى العام لغالبية الناس المنتمين إلى ثقافتنا الخاصة فى موقعنا المتميز،
(2) ومن ثم هى الإسهام فى تشكيل هذا الوعى
(3) وهى ترويج لاتباع منهج فرضى إستناجى فى التفكير، وهومنهج مفتوح النهاية بالضرورة،
(4) وهى تسعى لتدعيم الموقف النقدى الموضوعى فى معظم أمور الحياة فى الفعل اليومى
ومن هنا كنت كلما حضرت محاضرة “علمية” رائعة فى هذا المنتدى أتساءل:
1- هل هناك فرق يميز هذا اللقاء عن لقاءات “علمية” أخرى
2- هل استطاع اللقاء (أوالمحاضرة) أن يوصل المعلومة بطريقة مختلفة بحيث تكون “فعلا ” مسئولا، يمتزج بالوعى ويغير السلوك، وليست مجرد إضافة معقلنة تحفظ وتنسى أو لا تنسي
3- هل كان المخاطب فى المقام الأول هو:الوعى ليتشكل، أم العقل ليتمنطق؟ (باعتبار أن الثقافة العلمية تخاطب الوعى من خلال العقل ولا تكتفى باستعمال الوعى خلفية يقظة لتشحذ به العقل سيد الموقف أبدا)
4- وما تبقى بعد هذا اللقاء -إن تبقى شئ- هل تبقى فى وعى الحضور أم فى ذاكرتهم؟ وما الفرق؟
5- وهل سينتقل ما تبقى- تلقائيا ما أمكن- إلى أصحاب المصلحة ؟عامة الناس؟
وكنت أجد الإجابات على كل ذلك مشكلة وغير حاسمة، وأحيانا قاسية، ومؤلمة، وأحيانا أخرى متواضعة وآملة.
وحين جاء دورى، وقدمت محاضرتى الأولى فى هذا المنتدى عن الصحة النفسية والتطور، والإيقاع الحيوى، لم أستطع أن أحسن الإجابة على هذه الأسئلة إجابات تبرر إصرارى على تميز ما هو ثقافة علمية عن أى نشاطات “علمية أخرى” لا تذكر كلمة ثقافة (3) قبلها. بل إننى حين ربطت بين رقصة التنورة، وبين الذكر، وبين ضربات القلب، وبين دورات الجنون ودورات الكون ودورات العبادة، قوبلت باستهجان شديد من المنهجيين التقليديين من حيث اعتراضهم على خلط “العلم” “بالميتافيزيقا(4)
كل هذا أعاقنى وأنا أحضر لهذه المحاضرة التى أعترف أننى السبب فى تورطى فيها:ذلك أننى تابعت حدثين هامين على مدار الستة أشهر الماضية، حدثين ليس لأى منهما علاقة مباشرة بالآخر، الأول طبى علمى، والثانى سياسى فضائحى (إعلامى)، الأول هو اكتشاف عقار الفياجرا، والثانى هو مسلسل “كلينتون/مونيكا”، وقد لاحظت أن استقبال ناسنا لهذين الحدثين يختلف اختلافات جذريا عن استقبال ثقافة أخرى، سواء فى بلد المنشأ (منشأ الحدثين: الولايات المتحدة) أو حتى عبر الأطلنطى، إذن فكل ثقافة من الثقافات قد عايشت (قرأت، وانتقدت، وشجبت، وحبذت، وتفرجت علي..إلخ) الحدثين معايشة مختلفة، فتساءلت: أى المواقف أكثر موضوعية؟، أكثر علمية؟ وأى الثقافات أقرب إلى ما ندعو إليه مما يسمى الثقافة العلمية؟ وبما أن الحدثين يربطهما موضوع “الجنس”، فماذا يعلم ناسنا عن هذا الذى إسمه “الجنس”؟ أين يقع فى إطار معارفنا النظرية، ثم أين يقع ما نعرف عنه - صوابا أم خطأ- من ممارساتنا اليومية وسألت زملائى فى اللجنة عن دورنا فى كل هذا، فكان ما كان من ورطة ترتب عليها موقفى هنا بينكم هكذا.
كيف المحاضرة؟
لهذا سوف أحاول هذه المرة أن أحدد ابتداء المنهج الذى سوف أتبعه فى تقديم هذا الموضوع الشائع الـمشكل معا، كنوع من التجربب لما يمكن أن تكون عليه مهمة محاضرة يطلق عليها “ثقافة علمية “وليس فقط “علمية”، وقد اجتهدت فى هذا السبيل على الوجه التالى:
1- ألا ألزم نفسى بتقديم إجابات محددة، ذلك لأننى من ناحية لا أعرف أغلب الإجابات، ومن ناحية أخرى لأن مهمة الثقافة العليمة أن تحفز التفكير فالتساؤل، لا أن تكتفى بتقديم المعلومات .
2- ألا أزحم المتن باستطرادات إستشهادية من أدبيات الموضوع، وماأكثرها
3- أن ألحق بالمتن ما تيسر من هوامش شارحة أو داعمة أو متحفظة
4- أن أحاول أن أخاطب الحضور بصفتهم عينة ممثلة لثقافة فرعية محدودة Subculture يمكن أن يتشكل وعيها من خلال إضافة أو إثارة معرفية(5)
أسئلة مبدئية (وحرج شخصى):
أطرح فى البداية عدة أسئلة، على سبيل المثال لا الحصر، كمدخل إلى الموضوع،
1) هل “علم الجنس” هو علم بكل المقاييس التقليدية والحديثة، أم لا؟
2) وهل يدرج تحت العلوم الإنسانية، أم العلوم البيولوجية؟
3) وما هو منهج علم الجنس هذا؟ وما مدى تنوعه؟ ومدى مصداقيته؟ حتى يمكن أن نحدد موقفنا من معطياته، بمعنى أن نقرأ ما يقول قراءة نقدية من واقع منهجه (هم، ومهمة الثقافة العلمية أساسا)
4) ألا يتناول علم الجنس واحدا من أكثرالسلوكيات شمولا وجذرية (إذ يشمل كل الناس،ويلمس عمق الوجود(فردا و نوعا)؟
5) ألا يمكن أن يكون اختبارنا -هنا والآن- لعلاقة ما هو علم الجنس، بما هو ممارسة الجنس، بما هو ثقافة (تشكيل الوعى) هو فرصة لاختبارنا لموقعنا من مهمتنا الأولى فى هذا التخصص وهو “تفعيل المعلومة فى الوعى الخاص فالعام”؟
6) وهل يؤثر موقفنا من المعلومات والمعارف عن ماهية الجنس وتوظيفه فى سلوكيات أخرى بعيدا عن منطقة الممارسة الجنسية.(مثلا موقفنا من التطور، ومن التواصل، ومن الحرية، ومن الجسد، ومن الإبداع، ومن ثم من العلاقة بالآخر، ونوعية الوجود البشرى وغير ذلك؟)
ثم أنتقل، وأنا أدعى الحرج لأقصى درجة، من هذه الأسئلة العامة إلى أسئلة خاصة، لا أطلب الإجابة عليها أصلا، بل إننى أنصح الحضور ابتداء ألا يحاولوا الإجابة عليها إلا أن تأتيهم وحدها، الآن أو فيما بعد، أو لا تأتى أبدا.
وعلى الرغم من يقينى من سخف موقفى هذا، إلا أننى لكى أكون أمينا مع نفسى، ومعكم، مضطر أن أثير ما أضمن به أننى أخاطب وعى الحضور من خلال حضور وعيى شخصيا، وبذلك أتصور أننى أحاول أن أتجنب ما أخذته على غيرى، بأن أعمق قصدا الفرق بين خطاب العلم، وخطاب الثقافة العلمية، .
لكل هذا فضلت أن أبدأ بتوجيه الخطاب لنفسى دونكم، بحيث يكون تغيير ضمير المخاطب هو على مسئولية من يفعل ذلك إذا أما أراد أن يلحق بى، ولم يكتف بأن يتفرج على:
1- من أين استقيت معلوماتى عن الجنس؟ فى الطفولة(6)، ثم وأنا مراهق، ثم وأنا ممارس، ثم وأنا ناضج ثم الآن وأنا هكذا الآن؟
2- وهل تغيرت نظرتى للجنس، وللحياة، بتغير مصدر، ونوع المعلومات
وبصياغة أخرى: ما هى علاقة هذه “المعلومات” التى وصلتنى (من أى مصدر)، بممارسة الحياة بكل تجلياتها فى الجسد والجنس والحرية والمعرفة والإبداع؟
3- وبالنسبة لهذه المحاضرة، هل يمكن أن تساهم فى إعادة تشكيل وعيى (باعتبارى مواطنا من المواطنين المستهدفين لنشاط لجنتنا الموقرة)؟ سواء فى ذلك وأنا ألقيها أو وأنا متقمص أحد أو إحدى الحضور
4- وهل ثمة أسئلة حول المسألة الجنسية ما زالت متبقية تشغلنى بلا حل حتى تاريخه؟
5- وهل يمكن اختبار أى من هذا، فى مجتمعنا هذا، والمؤسسة الزواجية لها وعليها، ما لها وما عليها؟
وبديهى أننى لن أجيب، بل إننى أكاد أعترف أن الإجابات التى راودتنى لم تكن إجابات بالمعنى المباشر.
وربما كان من السخف أن أكرراعتذارى عن هذا المنهج الذى اخترته، فلأبرره إذن:
إن ما اضطرنى إلى مثل ذلك هو أننى رأيت أن لهذه الأسئلة جانب تطبيقى مباشر من حيث علاقة ذلك بقضية تدريس الثقافة الجنسية فى المدارس الإعدادية والثانو ية، وربما فى الجامعة، بل وقبل كل ذلك فى المرحلة الإبتدائية، ذلك أننى تصورت أنه إذا لم يسأل المدرس نفسه مثل هذه الأسئلة، التى سألتها لنفسى الآن، وإذا لم يحاول الإجابة عنها ولو جزئيا، فما الذى سوف يقوم بتدريسه بالله عليكم؟ تشريح الجهاز التناسلى لكل من الذكروالأنثي؟ الأضرار الوهمية للعادة السرية؟ فإذا كنا نطالب المدرس (وكل تربوى) أن يضع ذلك فى الاعتبار، ألا نتقمصهم لنرى هذا الذى نطلبه منهم على مستوى أصعب وأشمل: هل هو ممكن أم لا بالنسبة لمن يتصدى لنفس المسألة على هذا المستوى المحدود مع الخاصة هكذا؟
ولا بد أن أعترف أن هذه المواجهة بهذه الأسئلة كان أعاقت انطلاقى فى محاولة جمع المعلومات الأساسية، بقدر ما أشعرتنى بالأسف وأنا أفكر فى محاولة التراجع. ثم إنها نبهتنى إلى خطورة وصعوبة ما يسمى الثقافة العلمية .
2- المنهج ومصادر المعرفة عن الجنس
أولا: إستحالة فصل المعلومة عن منهجها
إذا كان همنا – فيما هو ثقافة علمية- أن نرسى قواعد المنهج أكثرمن (أوعلى الأقل: جنبا إلى جنب مع) تقديم المعلومة، فقد وجدته مناسبا، حتى لو لم أقدم أى معلومة ذات قيمة فى ذاتها، أن أحدد المنهج الذى من خلاله يمكن أن نـتواصل بدرجة مناسبة من الصدق والنفع.
تأتى المعلومات عن الجنس، سواء ارتقى ذلك حتى سمى “علم الجنس”، أم ظل فى حدود النظرية، أو كان مازال فى مرحلة الفرض أو أنه لم يتجاوز تأملات الانطباع، تأتى من مصادر متعددة، وبالتالى فلا بد أن تـقرأ كل معلومة على حدة، فى حدود مصداقية منهجها، وفى هذه المحاضرة -كمثال- سوف تكون المعلومات التى سأقدمها من مصادر متنوعة، أرجو أن تكون متكاملة فيما بينها حتى لو بدا ظاهرها متناقضا، ومن ذلك:
1): معلومات تاريخية: (مثلا تاريخ الدافع الجنسى لـ كولن ولسون، وتاريخ الجنسانية لفوكو(7) …. الخ) وهى مثل كل المعلومات التاريخية، عليها كل مآخذ مناهج دراسة التاريخ، الذى يتراوح بين خيالات خصبة، ووقائع ناقصة، وتحيزات عفوية أومقصودة إلخ، وبالتالى فلا بد أن تؤخذ بحذر مناسب.
إلا أن هناك تاريخ حاضر بيننا هنا والآن بشكل مباشر، وهو تاريخ الجنس فى تطور الأحياء، وهو من أثرى المصادر،لكنه للأسف مبنى على نظرية مازالت قيد النقاش والمراجعة، وهى نظرية النشوء والارتقاء، ومع أن أغلب الهجوم عليها هو من غير أهلها، إلا أن بعض المراجعات التى جرت عليها مؤخرا تحتاج نظرة جادة قبل رفضها، وبمجرد أن نأخذ هذه النظرية كأساس للتفكير فى التاريخ حاضرا، فإننا سوف نفاجأ بثروة هائلة من سلسلة الأحياء التى يمكن أن تقدم لنا التاريخ الحيوى(8)- بما فى ذلك تاريخ الجنس- ماثلا أمامنا (مرة أخرى: هنا والآن)
ثانيا:معلومات إنتشارية إحصائية عن السلوك الجنسى فى السواء والمرض(9) وتأتى هذه المعلومات بواسطة منهج محكم ذى مصداقية وثبات عالـيين، لكننا، فى بعد أن تسجل المطبعة الأرقام وتصبح فى متناولنا، لا بد من أن نتساءل كيف نقرأ هذه الأرقام، ولا بد فى هذا الصدد من الإقرار بأنه ينبغى أن ننظر إلى كل رقم يصلنا فى سياق عينة البحث الذى صدرت عنه، وطريقة الحصول على المعلومات (مثلا: هل العينة ممثلة فعلا لمن فحصتهم؟ وهل تم الحصول على المعلومات بالهاتف، أم بالبريد، أم بالمقابلة الشخصية؟ …إلخ) بل ويـمتد الأمر -حديثا- إلى ضرورة السؤال عن مصدر تمويل مثل هذه الأبحاث، وأيضا عن ضمانات مصداقية عملية ملء استمارة جمع المعلومات إلخ (مثلا: إذا سألت نساء مجتمع -ثقافة- معينة عن نسبة وصولهن إلى ذروة الشهوة فى الممارسات الجنسية)، فكم منهن يعرف حقيقة وفعلا ما هى ذروة الشهوة (10)؟ وهل توجد ذروة واحدة، أم أنواع متصاعدة، فإذا أضفنا إلى ذلك الظروف الخاصة بمجتمعات مغلقة مكبوتة مثل مجتمعنا، إذن لزادت الصعوبة، وبالتالى زاد التنبيه للحذر من التعميم واحتمالات التحيز، لأسباب حقيقية وزائفة، شعورية ولا شعورية.
ثالثا: معلومات نظرية (تنظيرية)، وهى المعلومات التى تقدم وجهة نظر أو نظرية، وهى عادة لا تنبع من فراغ، وإنما تستند على “أولا، أو “ثانيا” أو كليهما أ وغيرهما (أنظر بعد) وقد تصل إلى مستوى النظرية، أو تقف عند مستوى الفرض، أو حتى الانطباع،وهذه المعلومات ليست أقل فائدة أو أضعف دلالة، فكل نظريات فرويد فى الجنس حتى الآن مازالت فى هذا المستوى، وتختلف هذه المعلومات إذ تصدر من مجرد منظر (قد يصل حدسه إلى عمق صادق رائع) عنها حين تصدر من ممارس إكلينكيى قادر على تعديل موقفه وتنظيره باستمرار من خلال ما يمارس مع بشر حى فى اختلاف أنواع ما هم وما يمثلونه.
رابعا: معلومات خبراتية، (وهى غير المعلومات الذاتية الصرف، أنظر بعد) وهى تبدو لأول وهلة من أضعف المصادر، إلا أن النظرة الأحدث للتطوارات التى حدثت للمنهج، والتى تؤكد تراجع المغالاة فى مسألة الموضوعية فى مقابل الذاتية، وتنامى وصقل المنهج الفينومينولوجى، كل ذلك يعطى لمثل هذه المعلومات الخبراتية مصداقية يعتد بها، حيث أنه لكى تسمى كذلك (خبراتية وليست ذاتية صرفا) لا بد وأن يكون صاحبها فى حالة جدل مستمر مع الواقع من خلال ذاته و تقمصاته وإبداعاته لنفسه وخارجها.
خامسا: “معلومات عبر الإبداع” (القص خاصة)، وقد أنشأت هذا التعبير إنشاء لأنبه أن المعلومات التى تصلنا من خلال الإبداع ليست بالضرورة معلومات مسقطة، ولا هى مجرد خيال، كما أنها ليست واقعا عيانيا بالضرورة، وإنما هى نتاج حدس بشرى ملتزم فى سياق إبداع خاص، وفى خبرتى النقدية والعلمية على حد سواء، وجدت أن مصداقية هذه المعلومات تصل أحيانا لدرجة عالية تماما، سواء كان المبدع قد مارسها،أم تقمص من تصور أنه يمارسها، والأغلب أن تكون نتاج عمليات متداخلة متضفرة ذاتية وموضوعية معا، بحيث يصبح ما تصل إليه وتصفه إضافة معرفية فيها إثراء حقيقى لأهم مشاكل وتحديات السلوك البشرى، سواء فى مجال التواصل أو فى مجال الجنس.
(أنظر الملحق 3(11))
والفرق بين هذه المعلومات الواردة فى الإبداع الحقيقى، وبين المعلومات الخبراتية المباشرة هو نوع القصدية، وطبيعة الناتج، ففى الحالة الأولى تكون الخبرة هى الإبداع الذاتى فى حضور “الموضوع”، ويكون الناتج تغير ذاتى قابل للترجمة إلى معلومات عملية أو قولية، أما فى الحالة الثانية (المعرفة بالإبداع) فإن الإبداع يكون هو المقصد الأول محتويا كلا من الخبرة والمعلومات والخيال والحدس وغير ذلك من أدواته، ويكون الناتج نسيجا إبداعيا يكشف ويضيف دون أى قصد معرفى مباشر، ومن هنا كانت التفرقة بين ما يسمى الأدب الجنسى أو أدب الإثارة الجنسية، والأدب المحتوى لما هو جنس فى سياق لا يمكن فصله عن سياق العمل المبدع عامة.
وهذه المعلومات قد تصل فى مصداقيتها إلى أن تكون أصلا يعتد به فى كل من العلم والنقد الأدبى (والثقافة العلمية!)، مثلما كانت ملحمة أوديب (وهاملت) أصل فى فهم فرويد للجنس،وهكذا. سادسا: معلومات ذاتية صرف، وهى أضعف الأنواع مصداقية، وخاصة إذا كانت لم تختبر إلا من واقع الخبرات الذاتية المحدودة بالذات دون إبداع جدلى يضمن تجاوز مجرد الإسقاط، جدل مع كل أنواع المعلومات والخبرات المعاشة والمتقمصة بما يسمح بتجاوز الذات إلى ناتج الجدل مع الموضوع فى سياق واقعى (واقع الداخل والخارج معا).
وبالنسبة لهذه المحاضرة بوجه خاص، فأغلب المعلومات الواردة فيها،، هى من النوع “ثالثا”، و”رابعا” و”خامسا.
منهج التلـقـى
فى مثل موقفنا هذا لا يصح أن نكتفى بأن نتحدث عن منهج المـلقى دون أن نعرج إلى منهج المتلقى، لأنه يبدو (وخاصة فى مسألة توظيف العلم لتشكيل الوعى = الثقافة العلمية) أن منهج المتلقى لا يقل أهمية، إن لم يزد عن منهج الحصول على المعلومة، وعن منهج أسلوب تقديمها، بمعنى أن أيا من الحاضرين هنا، أو حتى ممن تتاح له قراءة هذه الورقة، فيما بعد، سوف يتلقى ما ورد فيها، بطريقة تحددها عوامل لا بد أن تؤثر على تشكيل وعيه بشكل متفرد إن كان لنا أن نأمل فى ذلك، ويصح هذا سواء كانت المعلومة أرقام إحصاء أم تنظير عالم أم فرض ممارس أم وعى مبدع؟
والأسئلة التى تطرح نفسها فى هذا المقام تتساءل عن مصير المعلومة التى تصل إلى وعى المتلقى، وأحسب أننا لو وضعنا المسألة فى شكل أسئلة محددة لكان ذلك أكثر اتساقا مع منطلقنا فى هذا اللقاء، ولنحاول أن نـتساءل حول معلومة تصل إلى السامع (أوالقارئ)، معلومة تشير إلى: دلالة، أو ضرورة، أو مغزى ممارسة جنسية بعينها، سواء كانت فى تفسير النشاط الجنسى نفسه، أو ما يمثله من تواصل أو وداد أو حب أو ما شابه، فماذا سيكون منهج المتلقى لهذه المعلومة:
(1) هل سيكتفى بأن يقيسها بما سبق أن عرفه من معلومات حول نفس المسألة؟ (12)
(2) وهل معلوماته السابقة هذه – سوآء اتفقت مع ما سمع أم اختلفت - هى نابعة من مسلمات دينية، أم أحلام يقظة، أم أيديولوجيات ثابتة، أم خبرة ذاتية.
(3) فإذا كانت الأخيرة، فهل سيغامر بأن يراجع ممارسته
(4) فإذاحدث اختلاف بين ما سمع وما يمارس، هل سيسارع برفض المعلومة حتى لا يقلق نفسه أو شريكه (فيكون الرفض دفاعا مشروعا)
(5) ثم هل سيذهب بما وصله ليتحقق منه من مراجع أخرى، أو خبرات أخرى؟ وأين المجال والفرص؟
هذه كلها تحديات أمام من يتصدى لتقديم يهدف إلى توظيفها فى تشكيل ما هو ثقافة .
إشكالة التواصل البشرى:
عنوان المحاضرة يقول الوظيفة الجنسية من التكاثر إلى التواصل، ويبدو لأول وهله إنه لا ينقصنا فهم علمى لما هو “جنس”، ودوره فى التكاثر، إذ أن هذا من أبسط مستويات ما انتهى منه العلم، لكن الإشكال فى فهم التواصل، لأننا-فى واقع الحال- لا نعرف ما هو التواصل الذى انتقل الجنس إلى تأدية الواجب بشأن تحقيقه، فتعريف التواصل بين البشر بالمعنى الإنسانى الموضوعى، لتحقيق الوجود الإبداعى القادر على تخليق كيانات مستقلة متفاعلة متولدة من خلال التقائها طول الوقت هو التحدى الحقيقى الذى يلقى فى وجه العلم والممارسة على حد سواء
وقد حاولت مدارس نفسية كثيرة أهمها مدرسة أو “مدارس” العلاقة بالموضوع، أن تحدد مراحل التواصل بين البشر أثناء رحلة النمو، وأن تحاول أن تؤكد على أنه بغير موضوع حقيقى (لا موضوع ذاتى: أى موضوع مسقط، أى موضوع ليس بموضوع) لا يمكن أن نعتبر أننا بشر بحق، وبما أن التعامل مع موضوع “موضوعى” تماما هو أمر أقرب إلى اليوتوبيا، فإن غاية المراد أن يكون تطور البشر يسير فى هذا الاتجاه على الأقل، أى أن يرتقى الإنسان باستمرار من استعمال الآخرين كما يراهم، إلى التفاعل معهم كما هم، وهذا لا يعنى بحال الاستسلام الشيزيدى تحت عنوان الحرية أو الديمقراطية أو الاعتراف بالخلاف وادعاء التحاور، وإنما هو يعنى فى المقام الأول التفاعل الخلاق الذى يترتب عليه إعادة النظر بعد كل جولة التحام، سواء كان التحاما جنسيا أم التحاما عدوانيا، ولكنه أبدا ليس ادعاء تحرريا، أو الاكتفاء بتصور حوار لفظى. ومن كل المناهج التى عرضتها سابقا، وعلى وفرة تناول هذا الموضوع فى مداس علم النفس التحليلى وغيرها، فإن الإبداع الأدبى خاصة هو الذى أسهم إسهامات فائقة فى تعرية هذه الإشكالية البشرية بحق.
وفى الحياة العامة تظهر مشاكل التواصل على أكثر من مستوى: من أول إشكالات الحب والخيالات التى تدورحوله، حتى مزاعم الديمقراطية (والرأى الآخر) مارين بالصراع بين الأجيال وتحديات الاختلافات الفردية مما لا مجال للاستطراد فيه بعيدا عن موضوعنا الأصلى(13)
الجنس واللغة – الجنس لغة
أولا: انفصال الجنس عن اللغة الجنسية (بأى لغة نتحدث عن الجنس؟):
ولاأعنى بداهة العربية أم الأجنبية، الفصحى أم العامية، وإنما أنا أتكلم عن الاختيار بين اللغة الصريحة المباشرة التى تسمى الأشياء بأسمائها، فى مقابل اللغة المنافقة المغتربة (المسماة المحتشمة)، ناهيك عن وضع وضع نقط فى الكتابة محل ما يسمى الألفاظ الخارجة (خارجة عن ماذا بالله عليكم؟) أو إصدار أصوات مهمهمة فى الخطاب الشفاهى.
إن مجرد عزوف العـلم عن الحديث عن أمرمثل الجنس بلغة جنسية مباشرة هو ضد العلم، بل ويكاد يكون ضد مصداقية المتحدث، وهذا التراجع المنافق عن استعمال اللغة الصريحة، لايسأل عنه الدين ولا الأخلاق الحميدة، فلا يوجد أصرح فى الدين من فقه النكاح، ولا يوجد أصرح فى التراث من المراجع التى تناولت هذا الأمر بكل جسارة، ليس فقط فى كتب مجهولة المؤلف مثل رجوع الشيخ إلى صباه، وإنما فى كتب معروفة ومتداولة مثل نزهة الخاطر(14) وقد اعتبر فوكوه أن هذا الاحتشام الزائف الذى ساد حتى طغى فى القرن التاسع عشر بالمقارنة بالصراحة والمباشرة التى كانت منذ القرن السابع عشر، هو من أهم السمات التى تميز قهر العصر الفكتورى، وأحسب أننا نمر هنا فى مصر، وما أشبه، بمثل هذه النكسة الدالة، وهأنذا، وعلى الرغم من كل هذه المقدمة الحذرة، إلاأننى لا أملك إلا أن أجارى النفاق الاحتشامى فى حديثى اليوم، وغاية ما آمل فيه هو أن أستطيع أن أتجاوزه بأى قدر مهما ضؤل فى بعض الهوامش أو الملاحق.
ومناقشة هذا التحول الذى طرأ على خطابنا بشأن الجنس هو فى ذاته مفتاح ما آلت إليه وظيفة الجنس من إحاطة بالصمت (الرهيب) وخاصة بالنسبة للأطفال، أو من إنكار كامل حتى داخل حجرات النوم الشرعية، ولو أن بحثا أجرى على تواتر إطفاء الأنوار، وإغماض العيون ودلالة هذا وذاك فيما هو ممارسة جنسية، فى المؤسسة الزواجية أو غيرها، لا بد أن تفيدنا إلى أى مدى ننكر على وعينا ما نفعل، ونحن ندعى تقاربنا مع الآخر، وقد تظهر لنا نتائج هذه الأبحاث أننا نمارس الجنس وكأننا لا نمارسه، أو كأننا نمارسه مع مجهول، أو وكأننا نسرقه من ورائنا(وليس فقط من ورائهم).
وثمة اقتراح ببحث آخر يستقصى ماهية اللغة التى يستعملها أطفالنا – من مختلف الطقبات والثقافات الفرعية- لتسمية الأعضاء الجنسية (البوبو، الكلمة العيب…الخ) وسوف نكتشف كيف ننكر، أو نتكر لكل ما هو جنسى منذ البداية .
إن تعبير أن هذا اللفظ أوذاك “يخدش الحياء” يحتاج إلى وقفة يمكن أن تأخذ وقت المحاضرة كلها، لأنه تعبير يدل على أن النفاق عندنا قد أزاح الحياء الحقيقى، ليحل محله حياء زائف سابق التجهيز، ولابد أن يكون هذا الحياء الزائف هش أو زجاجى القوام، وأن يكون، اللفظ الجنسى الصريح، ماسى الجوهر قادر على الخدش بمجرد أن نتلفظه، وإلا فما معنى هذا التعبير!!!!
لقد حدث انشقاق بين الكلام ومضمونه الحقيقى فى هذا المجال خاصة، بين اللغة الحقيقية، والمتولدة والمباشرة وهى لغة الناس (الذين يسمون بيئه، وهى أقرب كلمة لمعنى الثقافة الحقيقية) ولغة الطبقة المحتشمة (أو الملتبسة بالاحتشام) وهى اللغة التى تكاد أن تصبح “لا لغة” لتفريغها من وظيفتها الدالة، وكان نتيجة ذلك، هو ما لحق بموقفنا من الجنس، بل إن هذاالانشقاق نفسه يمكن أن يصبح دلالة على موقفنا من الجنس بقدر ما هو تدعيم لهذا الموقف وإبقاء على استمراريته.
وأورد هنا بعض مظاهر دلالات استعمال اللغة الجنسية بصورها المختلفة فى حالتنا الآن:
1) أصبح الحديث عن الجنس بلغة جنسية يصنف المتحدث فى موقع طبقى بذاته فهو إما فى أدنى الشرائح، أو أعلاها، وإن كانت الشرائح الأعلى قد تلعب لعبة أكثر خفاء فتتحدث عن الجنس بلغة جنسية صريحة لكنها أجنبية وهو نوع من “الصراحة المستورة” (إن صح التعبير) وهى أكثر كذبا لا تجملا ..
2) حلت الأفلام الجنسية محل الحديث الجنسى المباشر،(ربما كما حل التليفزيون محل الحوارالأسرى)
3) أيضا حلت النكت الجنسية محل الأحاديث الجنسية (وربما محل الممارسات الجنسية)
4) أصبحت القصص المطعمة باللغة الجنسية (وليس بالخبرات الإبداعية ذات البعد الجنسى) من المحظورات أى من المطلوبات، ربما أيضا لتعوض النقص.
5) أصبح العلم، وربما التدريس، ومنه هذه المحاضرة، يدرس بلغة باردة باهتة، وكأنك تصف رائحة زهرة بعدد من معادلات على كمبيوتر ملون.
6) أصبح التراث الأكثر صراحة وجرأة ليس فى المتناول أصلا.، حتى ألف ليلة وليلة، أو الأغانى، بل إن الأيدى امتدت إلى التراث المعاصر، ليس فقط بواسطة الرقابة والسلطات الرسمية، وإنما بواسطة الناشرين أنفسهم(حكاية السحار وعبد القدوس).
الخلاصة: إن انفصال لغة الجنس عن الجنس، سواء فى الحديث عنه، أو تعليمه، أو حتى ممارسته، هى من علامات انفصال الجنس نفسه عن تكاملية الوجود مع الجسد من ناحية، ومع اللغة ككيان فينومينولوجى غائر من ناحية أخرى، وعن اللغة / الكلام كوسيلة للتعبير من ناحية ثالثة.
ثانيا: الجنس لغة فى ذاته
لن أدخل فى تعريف اللغة كثيرا، لكننى سوف أكتفى بالإشارة إلى أن اللغة هى من ناحية كيان غائر جاهز منظم، لها تجليات دلالاتية تفيد فى التعبير والتواصل، والجنس فى ذاته وبذاته يوفى بكل ما تعنيه اللغة من تركيب ووظيفة.
ويقوم الجنس بذاته فى تحقيق الحوار الواجب تفهمه لمعرفة طبيعة الصعوبات ودلالات اللقاء، على أى مستوى فى السواء والمرض، وهو يستعمل كل الأدوات المتكاملة التى تحقق له فكرة الحوار فالتواصل، أو اللاتواصل، بمعنى أنه يستعمل اللغة الفظية (أنظر قبلا) واللغة غير اللفظية من أول نظرة العين حتى رائحة العرق مارا بكل خـلجات ونبضات واستجابات الجسد. ومثل أى حوار ولغة توجد إشارات نداء، وعلامات استجابة، ودلالات، وتطور اقتراب، وسياقات جدل، وتوجه نحو غاية، واستيعاب ورد، فـ: نداء، وهكذا، ولامجال لتفصيل أى من ذلك اللهم إلا من حيث موضوعنا عن توظيف الجنس لـلتواصل،وكيف يعبر الجنس عن نجاح أو فشل أو تجاوز أو صعوبة عمل علاقة مع آخر، ومن خبرتى أستطيع أن أزعم أنه من الممكن أن نترجم كل الصعوبات الجنسية إلى ما يقابلها فى اضطرابات اللغة، فخذ مثلا العـقلة (فى الكلام)، وما يقابلها فى الجنس من العجز عن المبادأة أصلا، وبما أن المبادأة (لا النداء) يبدأ عادة من الرجل، فإن هذهالعقلة الجنسية تظهر فى الرجل دون المرأة حيث تعلن العنة (العجز عن الانتصاب) ما يقابل العقلة، فى حين أن المرأة قد لا تكـتشف عيها الجنسى إلا فى مراحل متأخرة من الحوار (الجنسى)،.
ثم مثال أخر، وهو التهتهة، وهذا ما يصيب الرجل فى الجنس أظهر، كما يصيب المرأة وإن كان بطريقة أخفى حيث تتذبذب الاستجابة حدة وفتورا، وكأن الخطاب الجنسى بعد بدايته يجد من المعوقات الداخلية والخارجية، الحقيقية والمتخيلة، ما يعرقله بانتظام وتكرار، وهكذا
ودون الإطالة فى تعداد أنواع أخرى من الاضطرابات الجنسية وترجمتها إلى ما يقابلها من اضطرابات اللغة، دعونا نتساءل عن ما هو المضمون الذى تريد اللغة الجنسية أن تعبر عنه، أو تكونه، أو تمارسه، وبالتالى يمكن أن نتصور قصورنا دون تحقيق هذا المضمون أو نجاحنا فى ذلك . وفى هذا أطرح الأمر كالتالي:
إن الجملة المفيدة التى يريد الإنسان أن يقولها بالممارسة الجنسية (بعد تجاوز اقتصارها على التكاثر) وانطلاقها إلى وظيفها الجديدة وهى التواصل إنما تقول:
”إن وجودى لا يتحق إلا بوجودك معى . معى أقرب، أدخل، أكثر التحاما، لا ألغيك وأنا خارج، ولا أتلاشى فيك وأنا داخل، لا أختفى إذ نذوب فى كيان واحد لا نعرفه من قبل، أبتعد لأكون نفسى وأتداخل لأشعر بك، بنا (برنامج الذهاب والعودة (in and out program)، أسمح لك ولا أخشى الانسحاق، وأتركك فلا أخشى اختفاؤك، حتى نتلاشى معا، فينا، لنتخلق من جديد جديدين”
ونلاحظ هنا أن هذه الجملة لم تظهر فيها اللذة لذاتها، ولكن الجملة من بدايتها لنهايتها مغلفة حتما بلذة قادرة على الدفع فالحفاظ على تحمل كل هذه المخاطرة بالتلاشي(أنظر بعد)، فإذا تمت هذه الجمـلة وحققت مضمونها، فإن الجنس يؤدى وظيفته التواصلية كأروع ما يكون الإبداع الذاتى
فإذا صح أن الجنس قد تجاوز دوره التناسلى (التكاثرى) إلى هذا الدور التواصلى الإبداعى، فإن التكاثر البشرى يمكن أن تعاد صياغته من خلال تطور نوعية الوجود البشرى، وليس مجرد الحفاظ على النوع، بمعنى أنه إذا كان التكاثر ينشأ من اندماج خليتين حتى لا يعودا كذلك إذ يتخلق منهما كائن جديد، وأن هذا يتم عن طريق رشاوى الدافع الجنسى، فإن التواصل يحقق نفس الوظيفة ولكن على مستوى الفرد نفسه، بعنى أن الممارسة الجنسية فى صورتها الإبداعية المطلقة إنما تحقق هذا الامحاء فالتجدد (أنظر لاحقا: الجنس والموت والبعث)
وفى نطاق هذه الفقر ةالخاصة بإيضاح المضمون الذى يمكن أن توصله لغة الجنس ينبغى التنبيه على عدة أمور:
الأول: أن هذه الجملة ليست فى بؤرة الوعى بالضرورة، بل إنها غالبا ما تكون بعيدة عن دائرة الوعى أصلا.
الثانى: إن مصاحبات الخبرات الجنسية، ومقدماتها، وبدائلها، وتجلياتها تعبر عن هذه الجملة المفيدة، فى حين أن الممارسة الجنسية ذاتها قد تخلو منها (على مستوى الوعى على الأقل)، وهذا لا يدل على خلوها الحقيقى منها، وإنما يشير إلى صعوبة التحام الجسد مع الوعى فى وجدان كيانى لحظى بشكل مباشر ومتكرر.
الثالث: ومن ثم فإن الوعى بهذه الجملة، وخاصة إذا أصبح وعيا صريحا ماثلا، هو من أكبرمعوقات الممارسة الجنسية السلسلة
لكل ذلك، فإن جملا أخرى، وإن كانت تبدو هامشية، إلا أنها تقوم بوظيفة التدرج، والتيسير، حتى يحقق الجنس هدفه التواصلى الإبداعى، دون مواجهة بصعوبات بدئية، تتزايد حتما حين تطرح سلبيات المشاركين معا، ذلك أنه لكى يتحقق مضمون هذه الجملة، فإنها تحتاج إلى عمل من جانبين لا من جانب واحد، وبديهى أن مستوى الوعى بها، ومستوى التطور البشرى لكل شريك، ومستوى القدرة على تحقيقها يختلف حتما مثل كل الاختلافات الفردية، ومن ثم تقوم الدفاعات النفسية، والاحتياجات الجزئية، والأوهام الغرامية باللازم للتخفيف من وطأة هذا التحدى الصريح الصعب بكل معنى الكلمات
وأورد فيما يلى بعض الجمل الجنسية الجزئية (المفيدة حتما) هى وإن تبدو لأول وهلة بعيدة عن الهدف الإبداعى التواصلى للجنس، فإنها جزء من الجدل الجنسى حتى تبدوضرورة نافعة، شريطة ألا تحل محل الجملة الأكمل، والولاف البعث.
مثلا:
1- أنا خائف أريد أن أرجع لرحم أمى
2ـ أنا خائفة أريد أن أحتمى فى ظل أبى
3- هل تريدنى (أنت تريدنى): إذن أنا موجود
4- هل أرضيك ؟(أنا أرضيك) إذن ثمة من يحتاج وجودى، إن لى معنى
كل هذا أمثلة لحضور “الآخر” فى وعى المشارك، وبقدر ما تكون مثل هذه الجمل التى يقولها الجنس (عادة دون ألفاظ طبعا) يمكننا إذا أحسنا الإنصات أن نستمع إلى جمل أخرى مغتربة، ومجهضة، وهى لغة تعلن بكل تجلياتها غالبية ما يمارس من جنس اغترابى (عمره قصير عادة)، ذلك لأنه مبنى على ما لا يحفظه أو يحافظ عليه، لأنه إذا كان لم يعد بنا حاجة إلى الجنس بهذه الصورة المتواترة للحفاظ على النوع، و فى نفس الوقت هو لم يرق ليقول الجملة المفيدة السالفة الذكر، فإنه يصبح فعلا ممارسة مغتربة، قهرية أحيانا، منفصلة عن الوجود الكلى، عاجزة عن تحقيق وظيفتها الجديدة أصلا.، كل ذلك يمكن رؤيته من خلال الموقف الأساسى لهذا الجنس المغترب (الذى تبرره اللذة من ناحية، والذاتوية من ناحية أخرى) وهو ينيبى على: نفى الآخر من البداية (فلا يعود إلا مسقطا لاحتياجات الذات ووسيلة لتحقيق اللذة الذاتوية)
الاغترابية التى تلغى الآخر، إذن: ثمة لغة أخرى يقولها الجنس، وهى وإن كانت ذاتية صرف، فهى لغة حتما وقد وردت فى الجزء الثانى فى فقرة “سوء استعمال الجنس” لغير ما هو (لا للتكاثر ولا للتناسل)، مثلا فى صورة الآخر كمذبذب (للمرأة) والآخر كوسادة إستمنائية (للرجل)
وبعض هذه الجمل الاغترابية
1- أنا ألتذ، بأن أستعملك منفيا ………………. (فأبقى كما أنا)
2- أنا أسيطر عليك حتى لايبقى غيرى ………………. (هذا أضمن)
3- أنا ألتهمك فلا يبقى منك شيء بعد تمتعى بلذة التهامك………….. (وهكذا أضمن استمرارى، متنازلا عن تطورى)
4- أنا أحتاجك حتى أشبع، على شرط أن أنساك تماما………………. (فلا يهددنى التلاشى فالبعث)
إلى غير ذلك من كل تباديل الحب والغرام، دون ولادة أو بعث.
وعلى النقيض من احتمال ظهور الصعوبات الجنسية إذا وصلت لغة الجنس الأرقى إلى الوعى، فإن الجنس الاغترابى ينجح عادة، ويستمر نجاحه كلما خفى اغترابه.
وبتعبير آخر:
إن الصعوبات الجنسية إنما تظهر وتشتد حين تكون اللغة الجنسية السليمة هى المستعملة، أى حين يكون التواصل الإبداعى هدف.
أما إذا ألغى احتمال التواصل أصلا، وأصبح الجنس مغتربا ذاتويا تماما، فإن الممارسة الجنسية تنجح عادة، وتستمر.
وإليكم بعض الإيضاحات:
(1) تظهر العنة مثلا حين يكون “الموضوع” “موضوعا”، أو ملوحا أن يكون موضوعا، أو واعدا بذلك، أو حين يشترط الشريك ذلك، وكأن العنة تقول:
ا- إختلت إسقاطاتى، فلم أعد أستطيع أن أستعملك ”موضوعا مختلفا” ليس فى مقدورى أن أكذب
أو لعلها تقول:
ب – إن لذتى لا تتحقق إلا بأن أستعملك دون أن أتعرف عليك.
(2) وقد تقول المرأة بالبرود الجنسى:
ا- أعرف كذبك ولا أريد أن أشارك رغم البداية الخادعة معك
أو لعلها تقول:
ب- اكتشفت كذبى، ولم أستطع أن اتمادى فيه
(3) وسرعة القذف تقول:
ا- رجعت فى كلامى، لا أحتمـلك كأخر، لا أطيق الاستمرار، نـنهيها أحسن
أو لعلها تقول:
ب- أخاف من التلاشى. قد أموت بلا عودة، يكفى هذا
أو ربما تقول:
جـ- خفت أن أدخل لا أخرج، أو أن أخرج لا تسمح لى ثانية. سلام.
إعتراضات وردود
الاعتراض:
الأغلب فى الأبحاث الحديثة هو تفسير القصور الجنسى عند الرجل خاصة بخـلل عضوى فى الأجهزة المنوطة بالانتصاب؟ حتى قيل - مؤخرا إن نسبة القصور الناتج عن أسباب عضوية – تصل إلى 90 % من حالات العنة، وهذا الزعم كان مقولة أطباء الذكورة والتناسلية قديما، لكن الحديث هو أن الأطباء النفسيين أصبحوا يوافقون عليه، ويرتاحون.
الرد:
لقد تدهورت تفسيرات الأمراض النفسية عامة وأصبحت تعزى إلى خلل كيميائى فى المقام الأول (والأخير أحيانا)، وذلك حين عزف أطباء النفس عن أن يبذلوا الجهد لفهم لغة المريض، وأن يستعملوا العقاقير بشكل غائى يؤكد إسهامها فى استعادة المريض قدرته على استعمال كل مستويات دماغه فى اتساق صحى، ومنذ ظهور هذا التفسير الكيميائى والعلاج العرضى للاضطرابات النفسية اختفت مقولة”إن فى الجنون لعقلا”.
ولنفس الأسباب التجارية والاستسهالية أصبح الأسهل على الطبيب أن يفسر القصور الجنسى بهذا الخلل أو ذاك فى أجهزة الأداء، ناسيا أن المخ هو العضو الأساسى للوظيفة الجنسية.
إننا لا ننكر أن ثمة خللا كيميائيا فى حالات الاضطراب النفسى، ولكن هل هو خلل مسبب أم خلل مصاحب أم خلل ناتج عن الاضطراب، هذه هى القضية
وبنفس القياس نحن لا ننكر أن ثمة عجزا وظيفيا أصاب الجهاز الطرفى المسئول عن الانتصاب فى كثير من حالات العنة، ولكن هل هذا العجز هو نتيجة لانصراف الدماغ، أو إجهاض التواصل، أو استمرار عدم الاستعمال، أم أنه هو الخلل الأساسى بغض النظر عن ماذا يقول؟ لمن؟
وكما أن العقاقير المضادة للذهان تثبط المخ الأقدم، وتسمح للمخ الأحدث أن يقود وبالتالى يمكن أن يتم تصالح تكاملى بعد ذلك بين المستويات، فإن العقاقير المالئة للجهاز الجنسى الطرفى إنما تسمح للمخ الأعلى -إن شاء- أن يمارس مهمته الجنسية، سواء كانت اغترابية، أم تواصلية مبدعة، ومن ثم فإن فضل الفياجرا هو أنها تعمل بمثابة تأكيد ضمان كفاءة الجهاز الطرفى بما يتيح للجهاز المركزى أن يستعمله كيف شاء متى شاء،
ويظل الجنس لغة بعد كل هذا، لأنه لو مورس الجنس بعد هذا الضخ الطرفى فإنه لا يؤدى وظيفته التواصلية اللهم إلا إذا كان قد نجح فى اختراق حاجزالشيزيدية قسرا، لكن أن تقتصرالعملية على الأداء اللذى، فإن ما يسرى على هذه الممارسة المصنوعة من حيث تصنيفها إلى تواصل وتكامل وبعث، أو اغتراب وإجهاض ومحو للآخر هو هو بلا نقصان.
بل إن الخطر كل الخطر، هو أن تساعد مثل هذه الحبوب على اختزال دور الجنس من لغة للتواصل إلى أداة للتفريغ واللذة وإزالة التوتر لا أكثر، ذلك أن الانتصاب الطبيعى فى حد ذاته يعلن أن المخ وافق على الاقتراب، فأرسل رسائله التى أعلنها هذا النجاح الفسيولوجى ممثلا فى الانتصاب، ومن جهة تلقى المرأة، فإن هذه العملية فى ذاتها هى إعلان أنها مرغوب فيها بدليل (بأمارة) هذا الانتصاب، فإذا نحن فرحنا بتجاوز هذه الخطوة،واستسهلنا استعمال الضخ الكيميائى (الفياجرا)، فإن معنى ذلك أننا نفرح بترديد صوت ببغائى كأنه الكلام، مع أنه خال من مضمون التواصل على الرغم من الإبقاء على مضمون اللذة
إذن فلاستعمال الفياجرا دورين نقيضين، أما الاستعمال الإيجابى، فهو الاستعمال المؤقت، لكسر حلقة التردد واستعادة الثقة، ومن ثم تعود اللغة السليمة تعبر عن القدرة والرغبة فالتواصل.أما الاستعمال السلبى فهو أن يحل هذا التنشيط الميكانيكى محل الاختبار التواصلى بصفة دائمة، فيصبح الكيان البشرى الذكرى مجرد مذبذب مغترب لا أكثر ولا أقل، ونفقد فرصة الإنصات الواعى والدال للغة الجنس أصلا
الجنس والجسد
غيب الجنس حين غيب الجسد، والإنسان المعاصر انفصل عن جسده
(1) حين طغى العقل مستقلا نتيجة فرط الذهننة (Hyper intellectualization)
(2) حين أهملت تدريبات الحواس حتى أصبحت الحواس مجرد مداخل ونوافذ ومحطات إنذار، وليست قرون استشعار، ولبنات تكامل
(3) حين سخــر الجسد كمجرد أداة للاستهواء ومجال للاستهلاك منفصلا عن تكامل الوجود
(4) حين أهمل الجسد كوسيلة معرفية، وحضور وجودى دال
وترتب على كل ذلك أن الجنس المفعلن فى جسد مغترب، أصبح مغتربا بدوره، واقـتصر دورهما(الجنس والجسد) إما على تحقيق لذة منفصلة، وإما على إعلان عجز إنشقاقى دال.
الجنس والموت والبعث
ذكرنا فى الجملة المفيدة السالفة الذكر التى يمكن أن يقولها الجنس التواصلى الإبداعى كيف تكون الممارسة الجنسية هى الوسيلة إلى التكاثر الوجودى بمعنى اختفاء الاثنين المتلاحمين فى سبيل تخليق اثنين آخرين جديدين، وأجد من المناسب أن أعيد الجملة المفيدة هنا من جديد، إن تقول:
”إن وجودى لا يتحق إلا بوجودك معى . معى أقرب، أدخل، أكثر التحاما، لا ألغيك وأنا خارج، ولا أتلاشى فيك وأنا داخل، لا أختفى إذ نذوب فى كيان واحد لا نعرفه من قبل، أبتعد لأكون نفسى وأتداخل لأشعر بك، بنا (برنامج الذهاب والعودة in and out program)، أسمح لك ولا أخشى الانسحاق، وأتركك فلا أخشى اختفاؤك، حتى نتلاشى معا، فينا، لنتخلق من جديد جديدين”
ومعنى الاختفاء هنا هو تلاشى الفرد فى اللقاء كخطوة لازمة لكى يعود جديدا، وهذه الخطوة ليست مجازية فى التناسل البيولوجى، وهى كذلك بالنسبة للجنس التواصلى الإبداعى فإن نفس الخطوات تتم ولكن يحل محل التناسل البيولوجى تخليق الذات (الذاتين) أى التغير النوعى للشريكين، بمعنى إعادة الولادة أو إبداع الذات من خلال لقاء الآخر والاندماج فيه حتى التلاشى
ولو أننا صورنا هذه الجملة المفيدة بالتصوير البطئ، ثم تصورنا توقيف التصوير إذن لضبطنا هول لحظة التلاشى، (العدم / الموت) وكأننا بذلك نكتشف أن الجنس التواصلى الإبداعى لا يتم إلا إذا تحقق الموت (كخطوة) ومن ثم البعث.ولكن من يضمن؟
وقد كنت أرفض قديما بشكل ساخر تعبير”أموت فيك، وتموت فى ثم انتبهت مؤخرا إلى احتمال أن هذا الموت بالجنس هو فى نفس اللحظة إعادة ولادة، وبالتالى فإن فيومينولوجيا الجنس تؤكد على هذه العلاقة الوثيقة بين الجنس الكامل والموت/البعث
ومن ثم فإن الخوف من الجنس حتى العجز، يمكن أن يتتبع معناه من عمق معين، حتى يثبت فى بعض الحالات أنه ليس إلا خوف من الموت، وهو ما أشرنا إليه فى الفقرات السابقة فى جملة الذهاب بلا عودة، أو جملة الدخول بلا خروج.. إلخ
كما أنه قد يكون خوفا من تلاشى الآخر (أى القضاء عليه)، بلا عودة أيضا، أى أن يكون الجنس سببا فى فقد الآخر، وبالتالى الحرمان من مصدر وشريك الجدل الخلاق
الجنس والدين:
علاقة الجنس التواصلى بالدين (والإيمان) علاقة وثيقة تماما، وقديما كانت الأعضاء الجنسية (خاصة القضيب) رموزا تعبد، وكان تفسير الذى قيل فى ذلك هو أن هذا دليل على حرص الانسان من قديم على التكاثر واستمرار النوع، إلا أن هذا التفسير ليس مقنعا بشكل مطلق، ذلك لأن الأولى كان تقديس الرحم (وهذا يحتاج إلى بحث خاص لمعرفة هل المسألة هى تقديس الجنس احتراما للتكاثر أم تقديس الذكورة تمييزا متحيزا لها فى بعض مراحل التاريخ، إذ لو أن التقديس منشؤه الحدس البيولوى لعلاقة الجنس بالتكاثر، لكان الأولى تقديس عضو المرأة التناسلى أو الرحم، لأنه الألزم والأهم لحفظ النوع. وسواء كان تفسير علاقة الجنس بالدين من خلال الحرص على التكاثر واستمرار النوع أو غير ذلك، فإننا نحتاج إلى تفسير مواز لعلاقة الجنس بالدين بعد أن أصبح الجنس وسيلة للتواصل وليس قاصرا على وظيفة التناسل.
وفى هذا أطرح الفروض التالية التى تحتاج إلى تقص خاص ومراجعة:
أولا: إن فى الدين امتداد فى الكون، وفى الجنس امتداد للأخر فى الآخر
ثانيا: إن فى الدين خضوع لله، وفى الجنس خضوع للشريك، والأهم خضوع لما يمثله اللقاء، وما يعد به البعث الجديد
ثالثا: إن فى التصوف ذوبان (تلاش) فى المطلق، وإن فى الجنس تلاش فى الآخر
رابعا: إن فى الدين تأكيد على العلاقة بالآخرين (الناس، الجماعة، الغير)، والجنس لا يكون بشريا تواصليا إلا إذا كان ممتدا فى الاخرين
الجنس والحب:
أين يقع ما يسمى الحب فى هذه الممارسة الجنسية التى أسميناها الجنس التواصلى الإبداعى؟
إن الحب، وعلى الرغم مما طرأ عليه من تشكيلات وتنويعات (على اللحن الأساسى) مازال يشغل أغلب الناس وهما أو حقيقة، وهو يتجلى فى الحياة الواقعية بقدر ما يتجلى فى الخيال والإبداع، وتصانيف الحب وتجلياته من الاتساع والاختلاف بحيث يمكن أن نكتشف من خلالها أنها محاولات لإنكار صعوبات التواصل البشرى كما أشرنا إليها سالفا فى كل من المتن والملحقات (الملحق (3) خاصة).
وتناول الحب هنا، لذاته كأنه تناول لمسألة التواصل البشرى الذى نبهنا من البداية أنها ليست موضوع هذه المحاضرة تحديدا، ومن ثم نكتفى بالإشارة إلى عناوين متواضعة عن علاقة الحب (بأى معنى كان) بالجنس على الوجه التالي
(1) الحب ليس تساميا عن الجنس، ولا هو شرط لممارسة الجنس
(2) الحب من مقدمات الجنس (دائما) لكن الجنس لا يظهر صريحا إلا فى ظروف واقع يسمح بدلك
(3) الحب لا يرتقى بالجنس، وإن كان الجنس التواصلى يحقق بدايات وعمق غاية الحب (التلاشى معا للبعث جديدن معا)، فهو الذى يرتقى بالحب
(4) الحب الخاص جدا(الامتلاكى عادة) هو احتياج مشروع، لكنه ليس هو الأرقى تواصلا وإبداعا
(5) القدرة على الحب (دون تمييز عادة ) هى الأكثر اقترابا من التواصل الجنسى الأرقى، بالمقارنة باحتكارية الحب التى تصبح أقرب للصفقات الاجتماعية المشروعة
(6) الحب، بالتعريف الأحدث (الرعاية والمسئولية وتحمل الاختلاف والاستمرارية) هو أيضا أقرب إلى تحقيق الإبداع الممكن (بالجنس أو بدونه حسب الضرورات المحيطة).
(7) الفصل بين الحب والجنس هو فصل تنظيمى تاريخى نسبى وليس فصلا مشروعا واردا كبديل مناسب للمستوى الأرقى للوجود البشرى
(8) الجنس بغير حب إما أن يكون اغترابا لذيا مؤقتا، أو أن يكون قد احتوى الحب تكاملا حتى لم يعد يمكن التمييز بينهما
(أنظر أيضا الملحق “3”)
*****
ملحق (1)
إعادة قراءة مصطلح قديم
الانحراف الجنسى (15)
لم يعد تعبير “الانحراف الجنسى” يستعمل هكذا فى اللغة العلمية، وخاصة فى التقسيمات الأحدث للاضطرابات النفسية (مثلا فى التقسيم العالمى العاشر1990 ICD 10 أو التقسيم الأمريكى الرابع DSM IV لا يوجد شئ إسمه الانحرافات الجنسية)، ومع ذلك ما زال هذا التعبير هو المستعمـل عند كثير من الأطباء النفسيين وخاصة عندنا هنا فى مصر (وفى البلاد العربية فى الأغلب)، والأهم من ذلك أنه هو هو المستعمـل عند العامة عادة ليشيروا به إلى انحراف ما نحو ما “ليس كذلك” (دون أن يحددوا ما هو “كذلك” لأنهم لم يحددوا أصلا ما هو “ذلك”.)
ويبدو أن تعبير الانحراف هو المشكل الأساسى فى قراءتنا هذه، لذلك يجدر بنا أن نتذكر ابتداء كيف أن تعبير “انحراف” كان ومازال مشكلا ليس فقط فى الاضطرابات الجنسية، ولكنه مشكل بصفة عامة بالنسبة للاضطرابات النفسية جميعا، لأنه ما إن يذكر لفظ “انحراف” حتى يقفز تساؤل يقول: ” انحراف عن ماذا؟” ثم بعد ذلك تلحقه تساؤلات أخرى: ” انحراف فى أى اتجاه: إلى أعلى أم أدنى؟ أم إلى غير ذلك؟”، وأخيرا “إنحراف بأى قدر إلى أى مدى؟”
فمازالت إشكالة تحديد ماهية السواء النفسى قائمة لم تحل حلا نهائيا، فنحن لا نكاد نعرف حدود ما يسمى بالصحة النفسية، ولن ندخل الآن فى نقاش حول الحد الفاصل بين السواء والمرض، وإنما سنكتفى بالتذكرة بأن تعريف الصحة بمفهوم “السواء الإحصائى” قد رفضه أغلب المشتغلين بالقضية، والمقصود بقياس الصحة النفسية بما هو “السواء الإحصائى” هو أن يعتبر الصحيح نفسيا هو الذى يماثل سلوكه سلوك أغلب الناس (أو على الأقل: يقترب كثيرا من ذلك)، فمثل هذا التعريف يكاد يعتبر الأشخاص المتميزين مثل العباقرة، والثوار، والمبدعين، مرضى حيث أنهم كلهم -تقريبا- يخترقون سلوك السواد الغالب ويختلفون مع ما يألفه معظم الناس، حتى يقودونهم إلى التغيير والتطور الإيجابى.
وعلى الرغم من تواضع المفهوم الإحصائى للسواء فإننا يمكن أن نصل إلى درجة تقريبية مساعدة لمثل هذا “النمط النموذجى”، مما يمكن أن يسمى “عادى” أو “فى حدود الطبيعى” أو “فى حدود المقبول”. (فى ثقافة / مجتمع بذاته) فلنأخذ مثلا نمطيا يصلح للوطن المصرى، فالأرجح أن الشخص العادى فى مصر: “هو الشخص الذى يعمل، أويذهب إلى العمل، وله أسرة، ويخرج مع الأصدقاء أحيانا، ويشاهد التليفزيون عادة، وقد يقرأ صحيفة يومية (إن كان يفك الخط!!)
فإذا جئنا للسلوك الجنسى، فإننا حتى نتكلم عن الانحرافات الجنسية لابد أن نحدد ما هو النموذج السوى للممارسة الجنسية، بحيث يمكن أن نعتبر أى ممارسة أخرى انحرافا (عن هذا السواء)، وهنا تواجهنا صعوبة تطبيق النموذج الإحصائى، أكثر مما هو الحال فى تحديد نموذج السواء النفسى عامة، فالحق يقال: إنه لا يوجد نموذج واحد متفق عليه يحدد طبيعة وحدود السواء الجنسى، فثمة بعد أخلاقى، وآخر دينى، وآخر تناسلى، وآخر بيولوجى،وهكذا.
وكما أن الأديان تختلف فى تحديد الممارسة السليمة (المشروعة، الحلال) للجنس، فإن النظريات النفسية أيضا تختلف اختلافا ليس يسيرا.
ثم إن التاريخ يحكى لنا أشكالا وألوانا من الممارسة الجنسية كانت سائدة يوما ما، ومازالت كذلك فى بعض المجتمعات (البدائية أو الخاصة) ثم أصبحت نادرة(أو شاذة).
أما ما طرأ على الممارسة الجنسية فى العصر الحاضر، وخاصة ما أعلن منه فى الدول المتقدمة فإنه زاد، وتنوع، حتى فاق كل ما تركه لنا التاريخ من أشكال وألوان
ومادام تحديد ما هو “عادى” فى الجنس بهذه الصعوبة، فينبغى أن نحذر ونحن نطلق تعبير “انحرافات جنسية”على أى سلوك لا يروق “لنا”، أو لم نتعود عليه، أو لا نستطيع أن نعلنه.
ومن الناحية العلمية البحتة، فقد تمت التفرقة الواضحة بين الاضطرابات الجنسية التى يمكن أن توصف بـ” الإعاقة”، أو “عدم الكفاءة” عند الرجل (مثل اضطرابات الانتصاب عند الرجل impotence، أو اضطرابات صعوبة الإستثارة عند المرأة – والتى كانت تسمى برودا جنسيا frigidity) وبين تلك التى توصف بأنها “انحراف”، بمعنى توفر الكفاءة، مع غرابة أو شذوذ أو عدم ألفة موضوع الجنس أو وسائله أو مثيراته أو أسلوبه.
وكل هذا هو ما نريد فتح ملفه فى هذه القراءة المحدودة.. ولكن دعونا نبدأ من البداية:
ظلت الممارسة الجنسية عند أغلب الحيوانات تمارس بهدف التناسل وحفظ النوع أساسا، فأنثى الحيوان لا تسمح باقتراب الذكر منها إلا لفترة قصيرة جدا (أحيانا ساعات، وأحيانا أياما حتى يتيقين التلقيح)، ذلك أن أنثى الحيوان تتقبل الذكر -فقط- وهى مهيأة تماما (بالتبييض) للحمل بمجرد التلقيح، وما إن يتحقق هذا الغرض (الحمل) حتى ترفض الأنثى الذكر طول العام، أو طول الوقت*.
ومازال بعض غلاة الكاثوليك -مثلا- لا يسمحون بالجنس، أو يسامحون فى الجنس، للبشر، إلا لهذا الغرض أساسا (أو فقط) – غرض التناسل.
لكن الوظيفة الجنسية قد تطورت عند الإنسان بشكل تخطى هذه المحدودية البيولوجية (التكاثر) فأصبح الجنس يمارس لذاته، أو لما يصاحبه ويعنيه.
ومنذ أن أعاد فرويد للجنس موقعه المحورى فى السلوك الإنسانى عاد الانتباه إلى دور آخر للوظيفة الجنسية، وبقدر ما بالغ فرويد فى تأويلاته للسلوك البشرى، وخاصة السلوك الجنسى عند الرضيع والطفل الصغير، فإنه قد أسئ فهمه إساءة بالغة حين قصروا تفسيراته على مفهوم الممارسة الجنسية الحسية، مع أن سيجموند فرويد وسع من مفهوم الطاقة المرتبطة بالجنس لتشمل كل “الطاقة الحيوية الجاذبة البناءة التواصلية” والتى أسماها “الليبيدو”Libido .
ومن نافلة القول أن ننبه أن فرويد لم يختلق هذا التوسع لما أسماه جنسا، وهو لم يكن صاحب دعوة لتوظيف الجنس فى مجال أوسع من التناسل، وإنما هو اكتشف ذلك من واقع الممارسة والاطلاع والمراجعة والإبداع (من قراءة التاريخ والواقع الإكلينيكى وذاته شخصيا)
ولم تأخذ الوظيفة الجنسية حقها فى التنظير الكافى لفهم دورها الإنسانى الجديد، ألا وهو دورها فى توثيق التواصل بين البشر، أساسا بين الجنسين، دورها كدافع تجاوز هدف التكاثر، ودورها كلغة دالة لها ما تفيده وتحققه. هذا على مستوى التظير، أما على مستوى الممارسة فإن الإنسان عبر مراحل تطوره، وحتى وقتنا هذا، راح يمارس هذا الدور وينظمه، ويبرره ويشكله، ويغلفه ويكشفه، ويخفيه ويظهره، فتجلى الجنس فيما يسمى “الحب”، والغرام، والهيام، والزواج، والعلاج، ولكن واقع الحال أن كل هذه التجليات لم تكشف عن وجهها الحقيقى، حيث أنها لم تعلن بلغة مباشرة أنها ليست إلا مظاهر لنشاطات الغريزة الجنسية فى محاولة الإنسان لكى يؤكد وجوده إنسانا من خلال حضور الآخر فى وعيه متغيرا فاعلا، متداخلا، راضيا مرضيا.
وأريد أن أنبه ابتداء أن هذه التجليات التواصلية النابعة من الغريزة الجنسية ليست تساميا بها كما يبدو لأول وهلة، ولكنها توظيف واقعى مباشر لها كما سنرى حالا.
ثم لابد أن نقر ونعترف أن العلاقة بالآخر صعبة إلى درجة الاستحالة أحيانا وقد ظلت الغريزة الجنسية تقوم بدورها الدوافعى، وتحقق لذة شديدة التميز وافرة الجذل، إلا أنه لا الدافعية، ولا الرشوة باللذة يمكن أن يؤديا وظيفتها التواصلية ما لم يتما من خلال لغة حوار عميق، يقول، ويعيد، ليحقق تشكيل وعى الإنسان الفرد من خلال حضوره فى وعى آخر وبالعكس.
نعم، لا يقوم الجنس فى ذاته بوظيفة التواصل إلا إذا أصبح لغة لها أبجديتها القادرة على عزف لحن الإنسان فى سعيه لتأنيس وجوده وهو يضطر لـلتنازل عن دعة وحدته تخلصا من -أو عجزا عن دفع- ثمن آلامها، فيروح يحاور آخر على مستوى يتجاوز التجريد، ولا يسجن فى الرمز إذ يستعمل الجسد فى أرقى تجليات حضوره، وهو الممارسة الجنسية.
قيل وكيف كان ذلك؟
نبدأ من البداية:
إذا نحن عرفنا الجنس عند الإنسان كما هو عند الحيوان باعتباره وظيفة لحفظ النوع لا أكثر، فإن كل ما لا يهدف للتناسل (حفظ النوع) يعتبر انحرافا، والعجيب أن بعض المذاهب فى بعض الأديان (غلاة الكاثوليكيين كما أسلفنا) يمكن أن يتبنى هذا الموقف حتى عند الإنسان، من حيث أنه يستبعد الجنس للجنس كنشاط إنسانى نفسى مستقل عن وظيفته التناسلية.
من كل ذلك يمكن أن نخلص إلى خلاصة تقول:
إن الجنس نشاط، بيولوجى (غريزى)، جعل أساسا فى التاريخ الحيوى لحفظ النوع، وهو مخاطرة قديمة بين الذكور، حين كان التناسل من نصيب الذكر الأقوى دون غيره، لضمان أجيال قادمة أقوى، وكانت اللذة الشبقية الفائقة هى الدافع الذى يبرر للذكر معركة التفوق للحصول عليها، ثم يبرر للأنثى أن تسمح له بالاقتحام لـلتلقيح والتناسل.
ثم إنه لما صار الإنسان إنسانا اختلفت أساليب التنافس، واختلفت أسباب البقاء، واختـلفت وسائل تحقيقه، لكن ظلت البيولوجيا تحافظ على دافعيتها، وعلى رشوتها اللذية فى نفس الوقت، فلماذا تم ذلك؟
فرض فرعى:
لكى يتحمل الإنسان آلام وصعوبة التواصل بينه وبين إنسان آخر، تحولت الغريزة الجنسية، بشكل مباشر، وغير مباشر، لتكون دافعا إلى مواصلة السعى فى اتجاه الآخر، بدءا بفرد من الجنس الآخر، يتواصلان ليحققا نوعية “الوجود معا”، أى ليؤكدا كينونتهما فى حالة وعى تبادلى، يميز الإنسان خاصة، أملا فى أن تمتد هذه المهارة الأعمق- مهارة التواجد معا لهما معا- إلى سائر الأفراد من الجنسين، حسب مختلف السياقات.
وقد وجدت أن هذا الفرض يبرر تعميم فرويد لوظيفة ما هو “ليبيدو”. كما وجدت أنه يمكن أن يثبت ليس بتحقيقه، وإنما بتصور نفيه، بمعنى:
إن لم يكن الأمر كذلك، (أى إن لم يصح هذا الفرض)، فما لزوم هذا الدافع الجنسى طول الحياة، طول الوقت، إذا كانت ممارستان لكل زوجين كافية لاستمرار النوع للحفاظ على هذا العدد الحالى من البشر؟
ثم هاهو التلقيح الصناعى يقوم باللازم وكأنه يذكرنا بإمكان الاستغناء عن الجنس بعد توفر العدد الكافى من بنوك الحيوانات المنوية “السوبر ذكية” “والمبدعة” والتى ربما تصرف (الحيوانات المنوية) مع ضمان يتعدى العمر الافتراضى لإنسان المستقبل فى أحسن أحواله.!!! إلخ، ثم تنجح تجارب الاستنساخ المبدئية فيتحول العرض إلى إمكانية توصيل الأطفال -صورة طبق الأصل ـ إلى المنازل دون حاجة إلى ذكور، وربما دون حاجة إلى إناث حتى مستقبلا!!)، ويتمادى الأمل المرعب الخطير إلى إمكانية إنتاج نوع من البشر “سابق التجهيز”، فما لزوم غريزة الجنس إذن؟
من هذا الموقع الحرج يمكن أن نخرج باستنتاج تال يقول:
إنه إن لم تكن للوظيفة الجنسية هذا الدور التواصلى لحفز الإنسان أن يواصل السعى إلى الآخر، فهى سوف تنقرض، أو ترتد لا محالة.
ثم نخطو خطوة متأنية لننظر للإشكال من بعيد متسائلين:
هل التواصل الحقيقى العميق بين البـشر هو بكل هذه الصعوبة التى تحتاج لكلهذ الدافعية، وهذه الرشاوى اللذية؟
وقبل أن نحاول الرد نقول: لابد من الاعتراف ابتداء، ومكررا، إن الإنسان لا يكون إنسانا لأنه حيوان ناطق أو حيوان ضاحك، أوحيوان اجتماعى أوحيوان مفكر، ولكن يكون الإنسان إنسانا إذا هو مارس وجوده فى رحاب وعى بشرى آخر يمارس نفس المحاولة.
ويحتاج هذا التعبير الأخير إلى إيضاح فنقول:
إن الوجود مع الآخر ليس مجرد امتلاك، أو استعمال ظاهرى، أو سد حاجة عابرة، مع أن كل هذا وارد، ولكنه ليس هو ما يميز الإنسان تحديدا
إن التواجد مع الآخر هو “إعادة التخلق” من خلال احتواء وعى مخالف ثم الانفصال عنه مختلف التشكيل نتيجة لصدق الحوار على مستويات متعددة (مستوى الجسد = الجنس، مستوى الوعى = التواصل، مستوى الامتداد= الإيمان معا، مستوى التشكيل = الإبداع المنجز + التلقى المبدع..إلخ) وواقع الحال يقول إنه يكاد يستحيل، فى حالة “الوعى الفائق” أن نفصل أيا من ذلك عن غيره، وإن غلبت إحدى هذه التجليات عن الأخرى حسب اللحظة والقدرة و السياق
فما أصعب كل ذلك
وما أحوجه لدافعية قصوى، ولمكافأة لذيــة مناسبة، نرى أنها تتمثل فى الوظيفة الجنسية أساسا.
إعادة تعريف الانحراف الجنسى
واضح أن هذه المغامرة بوضع هذا الفرض الذى يحدد تطور الوظيفة الجنسية، يعرضنا لأن نزعم أن أى ممارسة دون ذلك، ما لم تكن تمهيدا لذلك أو طريقا إليه، هى نوع من الانحراف الجنسى بشكل أو بآخر.
ومن البديهى أن هذه مبالغة لا يمكن التسليم لها
ولكن، حتى إذا تنازلنا عن الشكل المطلق لهذه العلاقـة فإن الاعتراف باحتمال صدقها ملزم بالسعى نحوها، أو على الأقل بوضعها فى الاعتبار ونحن نعيد النظر فى ماهية الانحراف الجنسى قائلين:
يعتبر انحرافا جنسيا كل استعمال للجنس، دون الوفاء بمواصفاته الإنسانية الأحدث أو فى غير ما يؤدى وظيفته البشرية
ولنبدأ ببعض صور ما كان يسمى انحرافا من قديم:
(1) فالجنس الذى يكون الألم فيه أكثر من اللذة، بحيث يصبح -فى النهاية- فعلا طاردا لا جاذبا لمن يمارسه هو انحراف. (الماسوشية)
(2) والجنس الذى يحل فيه الجزء أو الرمز محل الشخص كله، مثـلما يحل عشق كعب القدم (أو الحذاء، أو بعض الملابس الداخلية) محل الافتتان بالجسد كله فالشخص كله، يعتبر انحرافا (الفيتيشية أو التوثين)
(3) والجنس الذى يتحقق مع غير البشر (مثل الجنس مع الحيواناتzoophylia، أو الجثث necrophilia، أو مع الأطفال الصغار pediphilia، لا يؤدى وظيفته التواصلية السالف الإشارة إليها، وبالتالى يعتبر انحرافا
(4) والجنس الذى لا يحتمل أن يحقق وظيفة التناسل ويكتفى بوظيفة التواصل يعتبر انحرافا (أنظر بعد: الجنسية المثلية)
(5) والجنس الذى لا يرتبط بآخر إذ يلغيه أو يستعمـله مسقــطا عليه ذاته لا أكثر (أى أنه يصبح نوعا من الاستمناء من خلال آخر) يعتبر انحرافا
(6) والجنس الذى يمارس عن طريق القهر بأنواعه ضد كل مستويات الإرادة يعتبر انحرافا (يشمل ذلك القهر الشرعى بوثيقة زواج، والقهر العضلى والإجرامى بالاغتصاب، والقهر السلطوى والمادى بالرشوة والدعارة، والقهر الشرعى بوثيقة زواج، والقهر العاطفى بالحب (عذرا، لم أستطع أن أشرح كل ذلك وهو يحتاج لعودة تفصيلية).
(7) والجنس الذى يمارس منفصلا عن لغة الجسد، وكأنه مجرد وسيلة ميكانيكية مبرمجة لخفض التوتر يعتبر انحرافا
إعادة النظر فى تطور محاولة تبرير وتشريع الجنسية المثلية:
ظلت مسألة ممارسة الجنس مع نفس النوع (وهو ما يسمى الشذوذ الجنسى) تمثل لى تحديا لا حل له، وأحسب أن ما ذهبت إليه حالا من توظيف الجنس للتواصل أساسا، وليس للتناسل إلا نادرا، هو خليق أن يزيد هذا التحدى حتى أكاد أفقد توازنى، وكأنى أوقعت نفسى بما ذهبت إليه إلى احتمال فهم جديد لمسألة الشذوذ الجنسى، فهم يحمل نوعا من السماح لم أتصور قبوله يوما،
ولكن دعونا ننظر بهدوء فى الجارى عند من تقدموا فى هذا الطريق مراحل صريحة:
فقد وصل الأمر فى الدول الغربية ألا تعتبر هذه الممارسات الجنسية المثلية انحرافا أصلا، تحت زعم يتفق تماما مع ما ذهبنا إليه، زعم يقول (مع شئ من التكرار): إنه مادام الجنس عند الإنسان هو “لغة”، و”دافع”، و”تواصل” أساسا (وتناسل أحيانا) فلماذا يعترض أمثالى على أن يحقق الجنس أغلب وظائفه (فيما عدا التناسل الذى لم يعد الجنس البشرى فى حاجة إلى الحرص عليه طول الوقت لحفظ النوع)، وكأن هذه الممارسة المثلية تؤكد -بشكل أو بآخر- الوظيفة التواصلية للجنس دون اشتراط اختلاف النوع.
ذلك أن التواصل وظيفة بشرية بين إنسان وإنسان أيا كانا] رجل (مع) رجل أو امرأة (مع) امرأة، إمرأة (مع) رجل دون تمييز[، وهى وظيفة صعبة كما أشرنا، لذلك فهى قد تحتاج إلى تلك الدافعية البيولوجية والرشوة اللذية (إلى آخره)، فإذا أضيف إلى ذلك مدى الحرية التى يتمتع بها الفرد فى تلك المجتمعات، فإننا يمكن أن نفهم مدى السماح الذى وصلوا إليه، وبرروا به هذا السلوك (إذا كان هذا هو تبريرهم).
ولكن هل نقبل نحن هذا التبرير هكذا على إطلاقه، أو على علاته؟
لا شك أن الأمر يختلف، ليس نتيجة لغلبة الموقف الدينى والأخلاقى عندنا عنهم، فهذا أمر فيه نقاش، وإنما أساسا احتراما للطبيعة البشرية، بدءا بالنظر فى التركيب البيولوجى (والتشريحى ضمنا). إذ لا يمكن تصور إقرار ممارسة ما، جنسية أو غير جنسية، لا تتفق مع طبيعتنا الجسدية، ذكورا وإناثا، فكل من الرجل والمرأة له تركيب تشريحى نفهم من خلاله، بطبيعته، أنه مهيأ للاقتراب التكاملى مع شريكه من الجنس الآخر، أما الممارسة الجنسية المثلية، فهى تتم من خلال مواضع تشريحية غير مهيأة لذلك، أو هى تستعمل وسائل صناعية تعويضية أو مساعـدة لا يمكن إقرارها على أنها “جزء من تقدم التكنولوجيا”، لأنها تحل محل الفطرة السليمة، وتشوه الطبيعة السوية.
ولوتمادينا فى فهم “معنى” الغاية الأولى (ولوتاريخا) من الجنس، وهى التناسل فالتكاثر، إذن لأدركنا أن هذه الممارسات، إذا عممت وشرعت، هى فى النهاية ضد الحياة لأنها ضد”حفظ النوع”، ولا توجد ممارسة طبيعية تحظى بالسماح لدرجة أن يتصدى الناس للدفاع عنها وتبريرها على الرغم من أنها -بطبيعتها- ضد الحياة وضد استمرار حفظ النوع.
لذلك لابد من الاجتهاد الأعمق لقراءة معنى ظهور هذه الممارسات -على شذوذها- فى تلك المجتمعات – على تقدمها، ونعرض اجتهادنا على الوجه الآتى:
يبدو أن الإنسان بدل أن يرتقى بالوظيفة الجنسية من التكاثر إلى التواصل، فى مسارها الطبيعى، بدءا بالتدريب مع فرد من الجنس الآخر، يبدو أنه انحرف بها (بالوظيفة الجنسية) إذ راح يستعملها استعمالات أدنى من توظيفها للتناسل، وأبعد عن وظيفتها للتواصل. ودعونا نورد هنا بعض الاجتهادات لما آل إليه حال الجنس مما قد يبرر هذا الانحراف المتزايد إلى ما يسمى ” الجنسية المثلية “
وفيما يلى بعض الصور السلبية التى آل إليها تشويه واختزال الوظيفة الجنسية فى حياتنا المعاصرة
1- ممارسة الجنس باعتباره نشاطا يباع ويشترى، بمقابل مادى تحكمه آليات السوق، وبذلك انضم إلى النكسة الكمية الاستهلاكية التى “تعلن نهاية التاريخ”، (بالمعنى السلبى بعد إذنكم) ذلك النظام الذى طغى واكتسب شرعية أكبر من حجم نفعيته وخاصة بعد الفشل المرحلى لسوء تطبيق البديل الاشتراكى (فى المال واالجنس على حد سواء)
2- ممارسة الجنس باعتباره جزءا من صفقة اجتماعية دينية بشكل أو بآخر (بالذات لإنشاء والحفاظ على استمرار المؤسسة الزواجية) صفقة حلت محل الصفقة التناسلية البيولوجية من جهة، ومحل صفقة التواصل البشرى الأرقى المختار المتجدد -بين الجنسين- من ناحية أخري
3- ممارسة الجنس للتناسل دون توظيفه للتواصل (بعض ما أشرت إليه مما بلغنى عن بعض غلاة الكاثولكيين).
4- ممارسة الجنس لـ “خفض التوتر” ليس إلا (يقاس ذلك -ضمنا- بالمسافة بين الشريكين بعد الانتهاء منه، هل هما أقرب أم أبعد، ففى حالة اقتصار وظيفته على خفض التوتر تكون المسافة أبعد عادة)
5- ممارسة الجنس ليؤدى بعض وظائفه النفسية المنفصلة كلية عن التواجد البشرى التواصلى، كأن يستعمل لتأكيد الذات، أو استعادة الثقة، أو الشعور بالتفوق، أو ممارسة الخضوع الاعتمادى، دون أن ينتقل أى من ذلك إلى لغة جسدية حوارية ممتدة مع الآخر
6– ممارسة الجنس كنوع من الطقس الوسواسى القهرى.
7- ممارسة الجنس ثمنا للحفاظ على فرص تربية الأولاد معا، باعتبار أن الأسرة مازالت هى الوحدة الاجتماعية القادرة على إنتاج جيل صحيح (يجرى هذا شعوريا أو لا شعوريا)
8- ممارسة الجنس لأغراض جانبية (ثانوية) مثل تزجية الوقت (بعد انقطاع النور أثناء مسلسل تليفزيونى)، أو بالمصادفة (مثل الأرق الطارئ فى ليلة باردة) أو تحت الوعى (مثل الممارسة قبيل اليقظة استجابة لانتعاظ صباحى فسيولوجى)
9- ممارسة الجنس بالصدفة المختارة، مثل لقاء رجل وامرأة فى صحراء البادية (الأمر الذى مازال يمارس فى بعض صحارى الخليج، حين يتم اللقاء الجنسى إذاالتقى رجل وامرأة فى البادية دون تعارف ودون كلام، والنسخة المتحضرة لهذا الطقس هو ما يجرى فى إيطاليا وفرنسا مثلا، إذ قد تتم الدعوة فالاستجابة فى مطعم، أو على رصيف شارع حين يحدث ما يسمى “التماس” بالنظرات من خلال لغة عيون سريعة ومختصرة وحاسمة، فيقوم الرجل أو المرأة وينتقل إلى جوار من تبادل معه النظرات، أو يغير السائر على الرصيف اتجاهه، ويعود مع شريكه أو شريكته فى نفس الاتجاه، ثم يعودا معا (أو ينطلقا معا من المطعم) وقد تخاصرا ليتم اللقاء الجنسى فى مسكن أحدهما، وقد يفترقان دون أن يعرف أيهما رسم الآخر، ودون مقابل طبعا غير اللقاء. ملحوظة أذكر كيف انتهى فيلم آخر تانجو فى باريس بعد كل ما كان والبطلة تجرى وراء مارلون براندو صائحة: ما اسمك؟).
كل هذه الممارسات وغيرها إنما تعلن بشكل مباشر وغير مباشر أن الوظيفة الجنسية تشوهت وخرجت عن مسارها
وأكاد أتصور أن الجنسيين المثليين قد أدركوا -بوعى حاد أو مضمون- كل هذه التشوهات التى لحقت بالوظيفة الجنسية، وبالتالى عمدوا -بوعى أو بدون وعى أيضا- إلى تأصيل وظيفة الجنس التواصلية بغض النظر عن نوع من يتواصل معه، ذكرا كان أم أنثى.
فإذا كان هذا هو الحل (الجنسية المثلية هى الحل!! – كما يبدو أحيانا أنه كذلك فى قطاع متزايد فى بعض المجتمعات الغربية – أى إذا رجحت كفة التفاهم والتواصل مع نفس الجنس دون الجنس الآخر فنحن أمام الاحتمالات التالية:
(1) إما أن تضمـر الوظيفة الجنسية نتيجة لإساءة استعمالها واختزالها، وتشويهها، وتصادم أدائها مع التركيب التشريحى (تطوريا)
(2) وإما أن يتغير الجنس البشرى إلى نوع لا نعرفه، نوع قد يستغنى تماما (بالتناسخ والهندسة الوراثية مثلا) عن توظيف الغريزة الجنسية فى التناسل، كما قد يتم تحويرها -تطوريا- إلى ما يحقق هدف ووسائل أدائها الجديد، مما لا نعرف
(3) وإما أن ينقرض الإنسان كلية إذ يثبت أنه قد اختلت حساباته - تطوريا- فيتمادى فى نوع من الانحرافات السلوكية المتعارضة مع الطبيعة، والمتناقضة مع مسيرة و قوانين التطور غير المعروفة لنا لا تفصيلا، ولا شمولا ولا تحديدا.
******
ملحق (2)
المرأة أحرص من الرجل على الجنس التواصلى
وليس على الجنس التفريغى أو اللذة المنفصلة
تحرير المرأة بالحرمان …..!!!
المقتطف
“أنا لبوة لكننى لا أرتضى نفسى مناخا طول دهرى من أحد
ولو أننى أختار ذلك لم أجب كلبا، وقد غلــقت سمـعى عن أسد
عائشة القرطبية: نزهة الجلساء للسيوطى
[إبداع: العدد التاسع، سبتمبر 1997، ص49]
الموقف
قضية تحرير المرأة هى من أشهر قضايا التحرير عبر التاريخ، وقد أخذت فى مصر حجما خاصا له دلالاته، ولنا فى هذا الأمر وقفة مبدئية قبل أن نعلن ما أثاره هذا المقتطف من مواقف، ولهذا نبدأ بهذه المقدمة:
(1) إن قضية الحرية (والتحرير) لا تقتصر على امرأة أو رجل بل هى قضية إنسانية أزلية لها تجليات ومظاهر، بعضها صريح وأغلبها خفى، ولا أحد يمكن أن يكون حرا إلا وسط أحرار، وكل نقص من حرية شخص أو فئة هو نقص من حرية كل فرد فى هذا المجموع (ملحوظة أعنى الحرية الحرية وليس مجرد أوهام الاختيار الظاهر)، باختصار لا أحد يتحرر وحده، حتى أننى تصورت مرة أن هؤلاء الأبطال الذين حاولوا تحرير شعوبهم كانوا يطلبون نوعا أرقى من الحرية، فلأن تحرر ناسك هو السبيل الوحيد لكى تحرر نفسك.
(2) إن قضية تحرير المرأة فى مصر قد سلكت سبيلا مخادعا أحيانا وزائفا أحيانا وسطحيا أحيانا، وذلك حين ركزت على مسألة المطالبة بالمساواة بالرجل أساسا. (وهو ليس حرا أصلا، أنظر بعد)
(3) إن المرأة الإنسان التى احتد وعيها فالتقطت وضعها المقهور قد شغلت نفسها بهذا الكفاح أحادى الجانب لتحرير المرأة، وكأن قضية الحرية والتحرير يمكن تجزئتها، وهى لم تركز -بالتالى – على إبداع الحياة الذى هو السبيل الوحيد لتحريرها وتحرير كل الناس.
(4) إذن، فلا لا سبيل لتحرير المرأة إلا بتحرير الإنسان: ولا مفر لتحرير المرأة من تحرير الرجل فى نفس الوقت، وقد يثبت بالنظر الأعمق أن الرجل أكثر عبودية،؟ من المرأة المقهورة المضيعة، ولكن السؤال هو: من أين نبدأ.
(5) إن المجالات التى تنوولت فيها قضية تحرير المرأة دارت أساسا فى فلك الحقوق المدنية، وقانون الأحوال الشخصية، وظروف العمل وما شابه، مع أن إشكالة تحرير المرأة (والرجل) تظهر أكثر ما تظهر فى العلاقات الحميمة التى تصل قمتها فى عمق الالتحام الجسدى (الجنس)، ولو أن المرأة (والرجل) انتبها إلى ممارسة الحرية “معا” أثناء ممارسة الجنس (مثلا)، إذن لاقتربنا من إشكالة العلاقات البشرية أساسا، مع العلم بأن مجال العلاقة بالموضوع (بالآخر) هو الاختبار الحقيقى لأى حرية مزعومة، إذن، فلا مفر من اقتحام هذه الصعوبة باعتبارها السبيل الوحيد، أو الأساسى، لتأنيس الإنسان، فإنما يكون الإنسان إنسانا بأمرين:الأول: أنه يمكن أن يختار (بسائر مستويات اختياره) متحملا نتائج ذلك، والثانى: أن يمارس هذا الاختيار فى “حضور” آخر له اختياراته أيضا، (المختلفة عادة).
والآن، نرجع إلى المقتطف:
تأبى المرأة (على لسان عائشة القرطبية) أن تكون “مناخا” لأحد، (لرجل) كائنا من كان هذا الأحد، والمناخ (بفتح الفاء) هو موضع ينخ فيه الجمل، وهو تعبير شديد الدلالة فى هذا الموقف بالذات، وفى ريف بلدنا لا يسمى مناخا إلا المكان الذى اعتاد أن “ينخ” فيه الجمل، وليس أى مكان ينخ فيه والسلام، أى أن الجمل إذا نخ أثناء سيره هنا ثم هناك لا يعتبر المكان الذى نخ فيه “مناخا”، وإنما يطلق لفظ المناخ عادة على المكان الدائم فى الحظيرة أو خلف الخيمة، المكان الذى اعتاد أن ينخ فيه عند عودته، فتصور معى وضع المرأة فى المنزل، وهى تنتظر جالسة أو مضطجعة، حين يعود بعلها من شقائه، أو من مزاعم شقائه، مثلما يعود الجمل من رحلته، أو بعد أن يحط حمولته، ثم تكون كل مهمتها أن ينخ عليها متعبا مكدودا، وهى تحته يحيط بها ما يحيط المناخ من بقايا وروائح، هذه صورة مقززة منفرة لو وعتها أى امرأة لأبت أن تنطرح أرضا لأى من كان، وحين وصل الشاعرة أن المجتمع أو القيم السائدة أو سوء تفسير الدين يفرضون عليها هذه الوضع، أبت إباء مطلقا، فجعلت هذا الإباء خالدا فى الزمان (طول دهرى)، ثم عممت الرفض على كل الناس (من أحد، أيا كان هذا الأحد).
ونلاحظ أيضا أن إباءها تحدد فى أنها تأبى أن تجعل”نفسها “مناخا، وليس فقط “جسدها”، وهذا من أهم ما يغفله الرجل (والمرأة) حين يفصلون الجسد عن كلية الوجود، وحين يوصف الجسد مستقلا عن صاحبه أو صاحبته، سواء فى قبح لعبة كمال الأجسام أم فى مسابقات جمال النساء، حين يحدث ذلك يتم اختزال الإنسان رجلا أو امرأة إلى جسد عضلى أو متناسق، وفقط.
وموقفنا تجاه هذا المقتطف المختصر جدا لا ينظر إليه من وجهة نظر واحدة، فهو بقدر ما فيه من إباء حقيقى، وثورة كريمة، فيه ميل شديد إلى ما يعرف باسم الشيزيدية أو العزوف عن العلاقة مع الآخر، أيا كان هذا الآخر. ومن إشكالات هذا العزوف الشيزيدى(16).
أن صاحبه هو الذى يدفع ثمنه، ومن هذا الثمن ما يعانيه من آثار الوحدة والجوع العاطفى وربما خدعة الاستكفاء الذاتى، وكلها أثمان باهظة تجعل صاحبها (صاحبتها) تفكر فى التراجع عن هذا القرار الأبى فتعيد النظر، ولكنها هنا فى هذا المقتطف تعتبره اختيارا جديدا (ولو أننى أختار ذلك) وليس تنازلا أو استسلاما، فإذا بها تنتقل إلى نوع آخر من الرفض، فهى تصنف هذا الذى يمكن أن تكون له مناخا، فتراه كلبا، وليس حتى جملا، فتجد مبررا آخر للرفض، وهو أنها “غلقت” نفسها دون من هو أفضل منه، غلقت نفسها عن الأسد شخصيا وهو الأكثر تلاؤما معها وهى اللبؤة الأبية، فكيف ترضى بأن تتفتح لكلب لا يساوى.
وهذا الموقف الرافض قديم عند النساء قدم علاقتهن بالرجال، وإعلانه مؤخرا بالألفاظ، أو بالكتابة، أو من خلال نشاطات تحرير المرأة، لا يعنى أنه بدأ مع بداية هذه الحركات التحريرية الأحدث، فرفض المرأة للرجل أقوى من كل حركة تحرير وأقدم، وقد أشرنا فى باب “إعادة قراءة مصطلح (ص: 39)”،إلى أن الأنثى – بـيولوجيا- ترفض الذكر بصفة دائمة، اللهم إلا وقت الاستعداد للتكاثر، وبالنسبة للمرأة فإن من أهم مجالات الرفض وأقواها وأحيانا أخفاها، أن ترفض المرأة الرجل جنسيا، وقد يكون رفضا صريحا منذ البداية، أو رفضا أثناء الأداء، أو رفضا بتخيل آخر، أو رفضا بعدم التمادى فى اللذة حتى النهاية، وكل هذه الأشكال قد تصل إلى الرجل أو لا تصل، حسب حساسية وعيه ويقظة احتياجه.
ثم إن لنا ملاحظات أخرى على هذا المفتطف ومنها:
(1) إن الشاعرة قد استعملت تعبير غلقت “سمعى” مع أننى استقبلته على أنه غــلقت “نفسى”، وأحسب أن هذا أشمل، وأنها ما أحلت سمعى محل نفسى إلا لتجنب تكرار لفظ “نفس” فى البيتين، ولكن واقع الحال أن الإغلاق الأهم والأصعب هو إغلاق النفس.
(2) نلاحظ أيضا دقة تعبير “غلقت”، وهو أبلغ وأحسن من تعبيرات أخرى مثل: منعت نفسى، صنت نفسى، حجبت نفسى، فالإغلاق هو فعل شديد الدلالة على ما هو شيزيدى، أكثر من كل ما ذكرنا من بدائل، وكثيرا ما يجرى حوار بينى وبين بعض مريضاتى أو طالباتى حين ألومهن على تأخرهن فى الزواج، فترد الواحدة منهن تذكرنى أنها بنت، وهل معقول أن تلام على شئ ليس من حقها أن تبادر به، فأنبهها أننا كى نلتقط إذاعة ما فإننا فى حاجة أن يكون مذياعنا “مفتوحا”، وأن عليها أن تظل تلعب فى أزرار الاستقبال على مختلف الموجات حتى تلتقط الموجة المناسبة، أما أن تغلق المذياع أصلا، ثم تشكو (أو أشكو أنا نيابة عنها) أنها لم تجد من يطلبها، فى حين أنها لم تنصت أصلا إلى إشاراته، فهذا هو المرفوض.
(3) نلاحظ أخيرا أن هذه المرأة رفضت أن تكون مناخا، حتى لأسد، ولم تشر إلى البديل (وفى الأغلب لأنها لم تعرف ما هو رائع)، ذلك أن الوضع الشهير للمرأة كمتلق ليس سلبيا كما يبدو لأول وهلة سواء فى الممارسة الجـنسية، أو فى الحياة العامة، والمرأة (والرجل يساهم فى ذلك) يصعب عليها أن تفرق بين الوعاء الذى يلقى فيه بالأشياء، وبين الرحم الذى يحتوى الجنين النامى، فالمرأة حاوية للحياة، وهى خالقة لها فى هدوء بيقين بيولوجى رائع، لكن هذا الاحتواء الحانى المبدع لا يحترمه الرجل عادة، وبالتالى يجعلها تنفر منه بشكل أو بآخر، حتى يبدو دورها سلبيا، مجرد مكان للإناخة، وهنا تقفز اللا ألف مرة، ويجتد الرفض، دون البحث عن بديل علاقانى أرقى، أو هو يحتد ليعلن العجز عن ذلك تماما كما هو الحال هنا.
(4) كما يبدو لنا أن هذا الرفض “مبدئى” قبل الاختبار، وهو يختلف عن رفض التى تتزوج (قسرا أو بالصدفة أو بزعم حب قصير العمر) ثم إذا بها تكتشف سلبية زوجها أو بلادته أو قسوته أو اعتماديته، فتنفر منه بعد خبرة حقيقية، ذلك الأمر الذى تمثل فى شعر عربية أخرى، حمـلت من مثل هذا الزوج البليد، فراحت تنعى حظها وهى تقوم بعملها المنزلى ناظرة إلى بطنها الممتلئة منشدة
”وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفــراس تحللها بغل
فإن ولدت مهرا فلله درها وإن ولدت بغلا فجاء به البغل*
*كتبت هذين البيتين من الذاكرة ثم عثرت على أصل لهما مختلفين، لعله الأصح لاختلاف القافية، تقول الشاعرة حميدة بنت النعمان بشير:
وهل أنا إلا قمرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى وإن يك إقراف فما أنتج الفحل
كما أن المثل العامى الذى يقول :”قالك إيه يحرر النسا قال بعد الرجال عنهم” إنما يلخص باقتدار ذلك النوع من الحرية الذى يتحقق بالحرمان، وهو حرمان مختار أبى رائع ..إلخ لكنه حرمان على كل حال، ثم إن المرأة قد تكون على حق حين يتخلى الرجال عن أسودتهم، أو يكونوا أسودا ولكنهم يصرون على استعمال المرأة مناخا، فلا يعودون أسودا، فيختفى الرجال كرجال، ويصدق مثل آخر يقول:”قالك إيه عيب الرجال قالت قلتهم
مظاهر معاصرة عن تفاقم الوضع الشيزيدى على الجانبين:
يمكن أن نلاحظ أن رفض العائشات القرطبيات المعاصرات، لا يظهر فى صورة صريحة دالة إلا فى بعض ما يسمى (خطأ) الأدب النسائى، أما فى الحياة العامة فإن رفض النساء وتفضيلهن حياة الأنفة، أو الانسحاب، أو الاستمناء، أوالاستقلال، قد يأخذ أشكالا اجتماعية وسلوكية عديدة، ومن ذلك:
(1) تأخر سن الزواج للمرأة حتى بلغ ما بعد الثلاثين، ليس فقط فى مصر ولكنه امتد ليشمل المثقفات (أو المتعلمات أو الجامعيات)الخليجيات، هذا إذا تزوجن أصلا.
(2) إرتفاع نسبة الطلاق الذى يتم بناء على طلب الزوجة، وخاصة إذا صاحبه تنازلها عن حقوقها المادية، وأحيانا عن حضانة الأولاد.
(3) إرتفاع نسبة من يحاولن ممارسة علاقة فيها قدر أكبر من الاختيار، أو من أوهام الاختيار، وهى التى لا يسمح بها مجتمعنا عادة (إلا سرا،ونادرا) لدرجة لا بد وأن تنقلب معها إلى ما يـدمغ باعتباره فاحشة أو دعارة لا أكثر. ولا أقل (الأمر الذى يتخفى حاليا تحت أسماء مثل زواج المتعة، وزواج المسيار، والزواج العرفى، وما شابه)
(4) ارتفاع نسبة الاستكفاء الذاتى (بالاستمناء مثلا)
(5) ارتفاع نسبة تدريبات الاستغناء (حتى ينقلب المثل الشهير إلى: “ضل حيطة ولا راجل طيطة”)
(6) إرتفاع نسبة الشذوذ الجنسى (نتكلم عنه هنا بين النساء، وخاصة فى المجتمعات الغربية)، وهذا يبدو ردا بليغا، ويحتمل أن يواكب ما ذهبنا إليه من زعم أن المرأة حين تأكدت أن “عيب الرجال قلتهم” راحت تمارس، ولو بالتبادل دورهم لسد العجز فى أعداد الحقيقيين منهم، (كذلك قد يتفق هذا مع بعض ما ذهبنا إليه فى هذا العدد فصل إعادة قراءة فى مصطلح الانحراف الجنسى ص: 37 ومابعدها)
وحتى داخل المؤسسة الزواجية قد نجد أن الزواج أصبح يمر بأطوار نمطية تكاد تنتهى -متى أتيحت الفرصة – إلى أى من مظاهر الرفض السابقة.
وفى تأويل ذلك نقول:
ترتبط المرأة بزوج تتصوره كما تتمناه، أو كما ينبغى (رجلا يأبى أن يستعملها مناخا) ثم تأتى الممارسة فتثبت أنه لا يعدو أن يكون البغل زوج هند (فى المقتطف الثانى)، أو الأسد المغرور بلبوته والمرفوض أصلا طالما هو لا يريد لبوة شريكة، وإنما مناخا ساكنا (حتى لو كان متسخا)، أو يثبت أنه الكلب المرفوض ضمنا لموقعه الأدنى وأيضا لاحتمال لأن يكون مطلبه هو أيضا، حتى وهو الكلب، هو أن يركن فى مناخ، وليس أن يجادل شريكا.
وهذه الصور الثلاث تتبدى فى الزواج الذى تنتهى مدة صلاحيته بعد أجل مسمى
فالزوج الأعمى الذى يستحل زوجته لأنها هى أو وليها قد وقعا ورقة تسمح له بذلك، هو البغل الذى وصفته هند (المقتطف الثانى)
أما الزوج “الحمش” الذى يلغى زوجته أصلا اللهم إلا كمناخ له بعد تعبه (وهو ليس بالضرورة سى السيد)فهذا هو الأسدالذى ترفضه عائشة(لأنه لم يعد إلا أسدا فحلا*)
* بمعنى أن مثل هذا الأسد يفقد حضوره التواصلى، حين يصبح كل همه أن يمارس فحولته، ذلك المعنى الذى ترفضه الشاعرة “أم حكيم”، حين تأبى أن تسلم جرمها(جسدها) لرجل همه أن يضاجعا، تقول:
وأكرم هذا الجرم عن أن يناله تورك فحل همه أن يضاجعا
ثم يتبقى الزوج البليد الذى يعتمد عليها أو على أى مصدر اعتماد آخر (أمه مثلا) فهو الزوج الأدنى الذى يرضى بالأدنى، ومع ذلك قد يمارس دور الحماشة الكاذبة، وهذا هو الكلب الذى ترفضه هند أيضا.
وقديما كان الزواج يستمر لأسباب أخرى لا علاقة. لها بالحرية ولا بالاختيار الذى ذكرته الشاعرة عائشة القرطبية هنا، أما وقد تطور الأمر وأصبح الاختيار واردا، فإن هذه الزيجات جميعا أصبحت تنتهى بمجرد انتهاء عمرها الافتراضى فى الظروف التالية: (ا) حين يتبين للمرأة من هو زوجها على حقيقته وليس كما تخيلته، (ب) حين يعجز الرجل أن يكون رجلا حاضرا محتويا متميزا مجادلا (جـ) حين تأبى المرأة أن تستمر مناخا لغير ذى صفة.
مسئولية المرأة (وهى تتصور تحررها بالعزلة والحرمان):
أغلب ما سبق يوحى بأن المرأة ترفض الرجل لأن الرجل لم يستطع أن يكون رجلا إنسانا يمارس علاقة مع آخر مختلفا، وهذا صحيح، ولكنه صحيح جزئيا فقط، فالمرأة التى تفعل ذلك هى أيضا عاجزة عن أن تمارس دورها إنسانا ودورها أنثى تتكامل مع ذكورتها الكامنة.
وقد بالغ المجتمع الغربى فى إعطاء المرأة حق الرفض حتى لا تصبح “المناخ” الذى وصفته عائشة، فحتى فى المؤسسة الزواجية يمكن للزوجة -عندهم- أن تقيم قضية اغتصاب ضد زوجها إذا أتاها دون رغبة منها، وهذا تماما عكس ما شاع (خطأ فى الأغلب) من أن على الزوجة المسلمة -تدينا- أن تطوف بسرير زوجها سبع مرات قبل أن تنام، تعرض عليه نفسها -ضمنا- حتى تتأكد أنه لا يريدها هذه الليلة وإلا أصبحت آثمة وكذا وكيت، وأحسب أن كلا الصورتين هما درجتان من البشاعة والتسطيح وسوء الفهم.
فبأى أسلوب يمكن أن تعلن المرأة قبولها لرجلها؟ بالألفاظ، أم بالتوقيع على عقد يتجدد كل ليلة؟ أم بالتجاوب المبدئى؟ أم بالتجاوب النهائى؟
وبأى طريقة يمكن للرجل أن يفرق بين الرفض من باب أساليب الدلال والتمنع المبدئى، وبين الرفض الذى قالت به عائشة فى المقتطف (رفض أن تكون “مناخا” حتى لأسد).
وقد بدا لى أن الوعى الشعبى قد حل هذه المشكلة فى أغنية بسيطة، لم أفهمها بحقها إلا بعد حين، حتى أنى استعملتها فى علاج بعض صعوبات الرجال الجنسية خاصة فى خبرة ليلة الزواج الأولى، تقول الأغنية:
ليه يانا يانا، ليه يا غرامى، خايف أقولــك ولا ترضيشى، وان مارضيتيشى لانزل وآيـس، واحط عينى فى وسط راسى، أرضى إنت لك يا سى العريس مارضاش لغيرك.
فرفـض العروس هنا هو رفض الخجل والهيبة، وربما الدلال، وحين يأخذ العريس هذا الرفض الظاهرى باعتباره عزوفا عنه، وتقليلا من شأنه، فإنه يصاب بما يصاب به المتزوجون حديثا ليلة الزفاف، لكن الأغنية (التى تقال عادة مع أغانى الفرح) تعلمه ألا يعتد بهذا الرفض المبدئى، وأن ينزل و”يقايس “(يغامر أو يخاطر)، وأن يغمض عينيه إلا على افتراض أنه الغرام الذى يجمعهما، وليس فقط العقد أو الورقة، (ليه يانا يانا، ليه يا غرامى)، وإذ يصل هذا الاقتحام المحب إلى العروس فإنها سوف تعلن القبول الخاص الذى يؤكد له تفرده بالاختيار (مارضاش لغيرك)
الخلاصة:
إن ما يبدو تحررا وإباء من جهة المرأة هو أمر محمود، وشكل تحررى، لكنه يخفى وراءه عجز إنسانى عن عمل علاقة حقيقية، وهى صعوبة عامة لا تقع مسئوليتها على الرجل وحده، ولا على المرأة وحدها، ولا يوجد حل سهل لها، ولا بد أن توضع الأمور بترتيبها التصعيدى بشكل يسمح بتحديد البدايات الفارقة بين الرجل والمرأة، ومن ثم التدرج فى الممارسة، حتى ينجح الشريكان فى تأنيس وجودهما “معا”.
فبداية المرأة كينونتها وأنوثتها فعلا، وحين تقول عائشة القرطبية “أنا لبوة”، فهذه بداية صحيحة، فهى لم تدع أنها أسد مثلا، وهى لم ترفض الأسد – فى عمق التفسير- لكنها رفضت أن تكون مناخا لأحد (أسدا أو غير أسد). وهذه المرأة المؤكدة لأنوثتها “أنا لبوة ” تريد أسدا يعاشرها لا يستعملها مناخا، أى أنها تريد رجلا يبدأ هو أيضا من رجولته، فالذى تريده المرأة حتى لا تغلق نفسها دونه هو رجل، مجرد رجل (والرجال قليل) وحين لا تجد، أو تقرر أنها لا تجد تبرر الانسحاب أو الحرمان أو الإباء أو الجنسية المثلية، وهكذا تقع المرأة فى مأزق جديد، فتكاملها لا يكون بأن تحل محل الرجل أو تمارس ما عجز هو أن يمارسه، ولكن يكون التكامل أوالتحرر بأن تعمق هى أنوثتها حتى تتفجر رجولتها فتلتحم بها لتصبح إنسانا حرا يحتوى ويبادئ، يقتحم ويخلق، يعطى ويأخذ بوعى عميق وحوار متصل.
ويستحيل ذلك- بداهة -إلا إذا تم مع رجل يمارس نفس الدور، وإن كانت البداية مختلفة، ذلك أن الرجل يبدأ رحلة تحرره بتعميق رجولته أسدا لم يتخل عن أنوثته المبدعة الخلاقة، التى لا ترضى له أن يستعمل أنثاه الخارجية ـاللبؤة- مناخا بل رفيقا مواكبا يتحرر فى رحاب تحرره، وبالعكس.
(3) تنويعات فى لغة الجنس ودلالاته:
الجنس”الفيض”،
والجنس “الصفقة”،
والجنس “اليأس”
فى “بيع نفس بشرية ‘ محمد المنسى قنديل
(ملحوظة: أوردت كل النقد،دون اقتطاف، الخاص بهذه المجموعة حيث أنه وثيق الصلة -كله – بموضع المحاضرة)
……………………..
الجنس والأدب:
لاحظت أن تناول الأدب – عندنا- لموضوع الجنس يواكب غالبا مفاهيم شائعة، لا هى صحيحة ملـتزمة، ولا هى عميقة مكتشفة (هذا بعد إستبعاد تفاهات إستعمال الجنس بقصد الإثارة، أو إدعاء الجسارة، أو تزيين الحكى، أو دغدغة القارئ.. فكل هذا ليس أدبا أصلا) لكننى أقصد هنا المستوى الأكثر جدا واجتهادا فى تناول المسألة الجنسية من خلال فن القصة:
1- فالجنس عندنا قد يقع فى منطقة “الأخلاق”، وفى هذه الحال، قد يتناوله القاص وهو يدور حول محور القيود والسماح، أو الكبت والأباحة، أو الإلتزام والتخطى إلى آخر هذه الاستقطابات الخلقية أساسا، التى يصاحبها الذنب أو اللذة المستباحة حسب السياق ومقتضى الحال.
2- أو قد يقع ما هو جنس فى منطقة “الغرام”، حيث يظهر مواكبا، أو مـكـمـلا، أو دافعا لموضوع عاطفى، حيث تجرى العلاقة على محور الجذب أو المطاردة، أو كليهما مع مصاحباتهما من أشواق وهجر والتحاق وانفصال، دون أن يستثنى الكاتب من ذلك ما هو جنسى، يقدمه بشكل صريح أو خفى حسب أداة الكاتب ومساحة حركته.
3- كما قد يطل الجنس من شرفة التحليل النفسى، سواء نبع ذلك من حدس الكاتب الأعمق (الموصى عليه ضمنا بمفاهيم التحليل النفسى)، أو استلهمه من قراءاته أو ثقافته، فييبدو هذا البعد وكأنه أعمق وأكثر دلالة حين يتعرض لعقد مثل ما يسمى عقدة أوديب، أو عقدة الخصاء.. الخ.
لكننا نادرا ما نلقى الجنس باعتباره لغة وجودية، بدنية، لها أبجديتها الخاصة، وعطاؤها الجوهرى الغائر، بحيث يمثل فيضا يغمر الكيان البشرى فى مختلف جوانب علاقاته، ولا أعنى بذلك أن يكون الجنس مفسرا خفيا أو وحيدا للسلوك البشرى (مقولة فرويد كما شاعت)، و إنما أشير إلى الجانب الكيانى فى الحضور البدنى والجنسى فى وعى البشر بصوره المختلفة، وهذا هو مدخل دراستى هذه، ذلك أن كاتبنا فى هذه المجموعة قد تقدم لنا من هذا المدخل الرائع إلى ما هو “فيض الجنس” كما أسميته، وفى نفس الوقت فقد تناول الجنس على مستويات أخرى كما سنرى حالا:
1- فالجنس فى القصة الأولى (بيع نفس بشرية) قد ظهر فى شكل فيض أو طوفان طبيعى، وإن “حضر” هذا الطوفان فى صورتين هما وجهان لعملة واحدة (أ) الأولى هى صورة ذلك الجسد الصغير، كأنه عينة خام من طبيعة نقية، سمحة، ينتح الشهوة فى انسياب تلقائى، ويتأرجح مع نبض الكون دون عوائق أو شروط، فكأنه صلاة الطبيعة وتسبيحها فى شكل طل ندى يغمر الكل بلا تمييز، أو يتجمع فى نهر دائم الجريان، لا يوقف تدفقه ما يلقى به من قاذورات، أو ما يمكن أن يروى من نباتات سامة تتغذى منه بالرغم منه (ب) أما الصورة الثانية فهى هذا الطوفان الطبيعى حين يظهر فى شكل فيضان مخترق ملاحق، يشعل الحياة فى الكل دون استئذان، حتى لو لم يجد من يستوعب دفق لهيبها بما هو.
2- أما الجنس فى القصة الثانية “الوداعة والرعب”. فقد ظهر لنا فى صورة صفقة لحم نئ، صفقة جسدية محسوبة وفجة وعارية، ومنفصلة عن بقية المكونات الكلية للوجود البشرى الشامل، وكأن الجنس فيها جسم غريب، حى وشبق، لكنه بلا بعد، ولا حتى قبل إلا لما هو جنس فى جنس، ثم هو يعرض “هكذا” ثمنا لما هو أبشع منه.
3- وفى القصة الثالثة “اتجاه واحد للشمس”، لا نجد خطا واحدا يمكن أن يلضم خرزات الجنس المتناثرة طول القصة، لكننا نلحظ جليا علاقته بالجوع واليأس، وأنه يستعمل للتعبير الجسدى البديل، التعبير عن الضياع أحيانا واليأس دائما، والصفقات الجانبية الجزئية هنا وهناك، لكنه بدا لى فى هذه القصة الأخيرة كأنه: تصادم جسدين بفعل الجوع واليأس، ليطلقا صيحة يأس شهية ومرعبة، محدودة ومجهضة.
هامش (17)حول نقد متزامن:
حين صنفت فى الصفحات السابقة كيف يتناول القاص عندنا المسألة الجنسية- عادة وليس دائما- لم أعرج إلى موقف النقد من ذلك، أولا لأننى غير ملم بالحركة النقدية بالدرجة الكافية، وثانيا لأنى أتصور أن النقد – عندنا- إما أن يغفلها، أو هو يخضع لوصاية التحليل النفسى تحت تأثير ما يسمى بالنقد النفسى التحليلى، ثم إنى فوجئت بما اضطرنى إلى زيادة هذا الهامش فى صلب المتن:
1- فقد صدر عدد ديسمبر (1987) من مجلة إبداع، وفيه دراسة عن نفس المجموعة، ولم أكد أقرأ كيف قرأ الناقد الخط الجنسى فى القصص الثلاث حتى شككت فى نفسى ورؤيتى، فرحت أعيد قراءة ما كتبت، مع الرجوع للأصل مرة ومرات حتى لا أكون قد اقتطفت ما لا يتفق مع السياق، فتأكدت مما ذهبت إليه حتى أصررت عليه، وسوف أكتفى بأن أنقل هنا الفقرات الخاصة بالجنس لأضعها أمام القارئ مباشرة دون تعليق، وحتى يرى منذ البداية مدى التباين – لعله تباين ذو دلالة- كما يمكن أن نقف سويا لمراجعة دور النقد فى هذه المسألة يحجمها الموضوعى، يقول الناقد:
”ولا أظن المؤلف لا يزال يعتبر الجنس، بل والعلاقة الجنسية والمرأة عموما، إثما وجريمة يعاقب مرتكبوها حتى لو كانوا شبابا قليلى الخبرة”(18)، ثم يمضى قائلا:
”وهكذا نرى الجنس فى القصة الأولى يسجل على شريط الفيديو بكل أسراره ليصبح فضيحة كبرى، ويقف البطل وهو مدرس أطفال مهانا أمام أولياء أمور تلاميذه” وفى القصة الثانية تنتهى العلاقة الجنسية بين الفتى والفتاة بجريمة القتل المروعة، وكأن هذه لم تكن علاقة حب، حيث انقلبت- كما يقول ابن الرومي- إلى غابة من البغضاء (!!) وفى القصة الثالثة يعقب الحب بين العامل وزميلته فى مصنع النسيج تجمهر كل العمال وصاحب المصنع وكانوا على وشك أن يقتلوا هذا العامل النجس (!!).
وللأسف، فإن الناقد لم يكتف بعرض رؤيته تلك، بل إنه أردف بما يوحى أن الكاتب لم يوفق فى هذه النقطة بالذات، إذ مضى الناقد يقول:
ولكن هذه الملاحظة الصغيرة (عن موقف الكاتب من الجنس) لا تقلل من قيمة وأهمية هذه المجموعة… الخ.
وأحسب أن القارئ لا بد أن يشاركنى جزعى من الاختلاف ومخافة الخطأ، لأنى قد بنيت دراستى كلها على ما هو عكس هذه “الملاحظة الصغيرة”، وللقارئ الرأى فى النهاية.
2- ثم أقرأ لأستاذنا الدكتور على الراعى ما هو أرق وأرحم، لكننى أيضا أظل مندهشا للاختلاف الشديد، يقول د. الراعى(19)
ريشة قادرة وملهمة تصور قصر الشيخ ومن فيه وما فيه الدخان والخمر وعروض الفيديو الداعرة وجسد ما تيلدا العارى يتحرك على شاشة كبيرة يحمل آثما اللحم المحترق، والريشة ذاتها تصور ما يقوم بين مصطفى والفتاة من علاقة جسدية هى نقيض الشهوة والرغبة فى الافتراس، غير أن طاغوت الشهوة هو الذى ينتصر وليس التآخى والحب عبر الجسد.
فنرى رغم الإيجاز الضرورى، أن الناقد الكبير قد التقط الفرق، وإن كنا نتحفظ قليلا على حكاية “نقيض الشهوة”، كذلك على أن “طاغوت الشهوة هو الذى انتصر” .. الخ (انظر بعد).
هذا عن القصة الأولى.
أما رؤيته للجنس فى القصة الثانية “الوداعة والرعب” فإن اختلافنا معه أدق، إذ يقول:
”وبالقصة لحظات يرقص فيها كل من طارق والصهيونية رقصا رقيقا متناغما، يوحى – للحظات- بما كان يمكن أن يقوم بين الشباب فى الناحيتين من ود وتفاهم، لو لم تكن إسرائيل دولة عنصرية عدوانية، غير أن هذه اللحظات ما تلبث أن تتبدد”.. الخ.
ورغم أن تعقيب الناقد كان على لحظات الرقص دون الجنس، إلا أنه من الصعب فصل هذه اللحظات عن السياق العام الذى تطورت فيه العلاقة الجنسية بين الشابين بكل هوامشها (انظر بعد).
والآن، نشعر أن الآوان قد آن لنقدم ما قرأناه من تنويعات جنسية فى القصص الثلاث، واحدة فواحدة، بعد أن عرضنا على القارئ وجهات نظر مختلفة مما نتصور معه أنه سيتحفز أكثر، فنتحسب أكثر:
*****
القصة الأولى:
بيع نفس بشرية
الجنس الفيض
(أ) صلاة الطبيعة: فيض نهر جار
(ب) فيضان الشهوة يقتحم
وهذه القصة هى أفضل قصص المجموعة بلا شك، لقد كان المحور الأساسى الذى تدور الأحداث حوله فى هذه القصة هو محور “القهر” بكل تنويعاته، فمصطفى (المدرس المصرى المغترب فى الخليج) مقهور بفقر أهله، وإلحاح حاجته،(20) والخادمة الفلبينية “ماتيلدا” مقهورة بفقر وطنها وأسرتها وبطالتها..، وصديق وزميل مصطفى المدرس الخليجى (المواطن) “صالح” مقهور بطبقته الأدنى، وتاريخ الظلم اللاحق بأسلافه، وحتى الشيخ نفسه- يمكن لمن يريد أن يراه- مقهور باستعباد لذته وشذوذه.
ووسط هذا الجو من القهر من الداخل والخارج، كان للقارئ أن يتوقع أن يظهر الجنس كأحد أبعاد هذا القهر لو أن المؤلف قد تسطح فرسم لنا صورة شيخ سيد فرعون، وجارية مهيضة سلبية، الأول يفرض على الثانية ما يشاء، فلا تملك إلا أن تستسلم رغم إرادتها، أو رغم تعلق قلبها بحبيب شاب تركته فى بلدها، أو حتى رغم أحلامها بالتحرر ضد ضغط أهلها المحتاجين.. الخ، وحين يحدث ما يتوقع القارئ “هكذا” فإننا نكون قد ابتعدنا عما هو إبداع راسخ آمادا بعيدة، لكن هذا، أو مثل هذا لم يحدث إلا قليلا، فماتيلدا ليست خادمة أسئ استعمالها جنسيا ضد ما توقعت، أو غير ما توقعت، فهى لم تأت شغالة ففوجت بنفسها جارية فى حريم السلطان، بل هى واعية طول الوقت بطببيعة العقد وشروطه غير الخفية.
ولعل أول صدمة إبداعية تفيق القارئ من اللاستسلام لتوقعاته هو هذا الاعتراف السهل الذى يعلن وعى ماتيلدا بما يجرى، بل إنه يتضمن إرادة له، ذلك أنها أعلنت – بشكل أو بآخر- رضاها بهذا الدور الذى تقوم به، من حيث المبدأ على الأقل،
يقول مصطفى لها متسائلا (مثل القارئ):
- عندما جئت إلى هنا… ألم تكونى تعرفين أنك ستصبحين عشيقة؟
فترد:
- هذا لايهم، أخ أكبر، أنا أحب ممارسة (الجنس)(21)، هذا أفضل من الأعمال المنزلية.
ثم نتبين بعد قليل أن اعتراضها، ومن ثم هروبها، لم يكن على أنها استعملت جنسيا، بل على أن طريقة الشيخ كانت فى غاية الرعب.
ومن هذا المنطلق نبدأ فى التعرف على الوجه الأول لهذا الفيض الجنسى، إذ نتعرف على هذه الطفلة(22) السهلة القوية فى تسليمها واختراقها معا، ولعل القارئ العربى بوجه خاص لا يستطيع أن يستوعب – بسهولة- هذا النوع من الطفولة الجنسية القوية السهلة، مع أنه كان الأولى بذلك بما يحمل تاريخه من “زواج الطفلات”، وأصناف الجوارى فى أروقة الحريم من كل لون، وسن، وطبع، فهذه الجوارى الأحدث من الفلبين (أو لبنان.. أو مصر !!) لا يفترقن فى كثير أو قليل عن الجوارى الأقدم، اللهم فى ألفاظ العقد، وتحديد المدة، ومشاهرة العقد.. وما إلى ذلك، فقديما كانت الجارية المشتراة تصبح ملكا لسيدها لحين إشعار آخر (البيع أو العتق أو الموت)، أما الآن، فالجارية الأحدث تؤجر بعقد محدد المدة، مقابل جزاء شهرى فى العادة، وما أسهل أن تلفظ أو تستبدل بأقل التكاليف، وأحسب أن هذا النظام الأحدث هو أقسى وأنذل، فليس فيه أمان التسليم من سيد إلى سيد، وليس فيه ضمان ضد سوء الاستعمال، أقول أنه كان أولى بالقارئ العربى أن يفهم، أو على الأقل “يحسن استقبال” هذا النوع من العطاء الجنسى، حيث على المرأة (الجارية) أن تعطى جسدها- بل نفسها أيضا- بلا تمنع أو حرج، ولاتململ من قهر أو أمل فى مقابل أكثرمما ورد فى عقد الشراء أو الإيجار، فلماذا- فى تقديري- صدم الكاتب قارئه بهذا التسليم الاختيارى من ماتيلدا؟ أو قل كيف حدث ذلك؟
خيل إلى أن الجنس قد أصبح عند العربى (أو قل عند المصرى المتوسط كما عاينته من خبرتى المحدودة) قد أصبح علاقة قهرية بالضرورة، فلم يعد واردا على وعى الإنسان المصرى، حتى فى العلاقة الزوجية المدعمة بعقد مكتوب، ودين مشروع، ومجتمع شاهد، حتى فى هذه العلاقة الظاهرة التراضى، فإن الجنس لا يعدو أن يكون قهرا (متبادلا فى الأغلب)، فإذا كان الأمر كذلك، فقد يكون طبيعيا أن يفاجأ القارئ العادى بهذا النوع من العطاء الجنسى السهل، الإرادى والواعى، فى ظروف أبعد ما تكون عن السهولة والإرادة والوعى.
ومن خلال هذا الحضور “الجاهز” لهذه الطفلة الفلبينية “تحت الطلب” حتى لو كان الطالب الشيخ الشاذ نفسه، أقول من خلال ذلك بدأنا نتعرف على وجهى “الجنس الفيض”.
أما الوجه الأول فهو ما أسميناه “النتح السهل النشط” أو “النتح الدافق”: حين يبدو لنا العطاء ليس مرتبطا بمومسية “للتصدير” كما تورط المؤلف ففسره فى البداية، حين ألعن أن هذه الإباحية متعلقة بغربة ما تيلدا (ص 19): “خارج الوطن كل شئ مباح”، ذلك أن ماتيلدا بعد أن أعلنت تفضيلها هذه “الخدمة” عن أعمال المنزل، راحت تؤكد أن هذا هو موقفها المبدئي. “هنا” و “هناك”، فإنها بعودتها إلى الوطن، سوف تسترد “روحالأرز”… (سوف آكل قليلا، وأمارس الحب كثيرا، ولكن مع من أختار، النقود تأتى بعد ذلك)… (ص 33)، وهى لا شك تفضل، بعد هذا الموقف المبدئى المعطاء، تفضل أن يكون شرط عطائها أن يرغبها الشريك رغبة حقيقية، متضمنة بداهة فهما وتقبلا، وربما احتراما، لكل ذلك فهى حين عرضت نفسها على مصطفى، راحت تنفى طبيعة لاصفقة كأساس للتقارب، وإن عرضت نفسها على مصطفى، راحت تنفى طببيعة الصفقة كأساس للتقارب، وإن لم تنفها ضمنا، فراحت تؤكد أن عرض نفسها عليه ليس ثمنا لكرم إجارته، فهى لم تكن أبدا فى حاجة إلى تنبيه الذى أعلنه فى قوله (ص 34) ”لا أريد ثمنا، حياتك ملكك(23)، وجسدك أيضا”، فقد أكدت له أن المسألة ثمنا أو مقابل، بقدر ما كان شرطها الأول (وربما الوحيد) هو أن “يريدها”، أن “يرغب فى ذلك”، وقد تدخل الكاتب بوعى “لاحق”، حين أردف شارحا: “… كانت تريد أن تدفع له، ولم تكن تملك غير هذا الجسد الصغير”، وقد رفضت- قارئا- هذه الوصاية من جانب الكاتب على شخوصه الذين كانوا يستقلون عنه معظم الوقت لكنه كان أحيانا يلاحقهم بتفسير هنا، ووصاية هناك، فأزيحه – قارئا- وأمضى إلى مخلوقاته مباشرة دون خالقهم، ولقد أشرت إلى مثل ذلك فى الهامش الأسبق حين فسر سماحها الجنسى بغربتها خارج الوطن، ولعل هذا بعض ما عنيته بقولى فى التقديم العام أنه مبدع رغم أنفه فى بعض الأحيان.
ثم أعود إلى المخلوقة الضغيرة- دون خالقها- لأؤكد مرة أخرى أنها صاحبة موقف مبدئى قوى بغض النظر عن الشريك أو الثمن اللاحق، وهى لا تهتم بتسمية ما تفعل، لكنها حتما “تفضصلهم راغبين” (..يجب أن ترغب فى حقا، أرجوك كن راغبا فى) (ص 38).
ثم ننتقل إلى مزيد من إيضاح معالم هذا الوجه “النتح الدافق” لهذا “الجنس الفياض” فنشكر المؤلف على تفصيلات المشهد (ص 39 وما بعدها)، حيث أورد تفصيلات هامة ومحددة قد تؤيد ما ذهبنا إليه:
1- فقد أكد على أنه: صلاة:
“… وضعت يدها على رأسها وأخذت تحرك شفتيها كأنها تتلو صلاة جنسية خاصة” (ص 39) . ” …. يتلو من خلال عروقهما المشترك صلاتها الخاصة لإله المتعة” (ص 40).
وهى صلاة فى ذاتها، وكذلك فهى صلاة فى تأليهها للشريك الرجل:
“… أنت إلهي- دع عبدتك تقوم بكل العمل- أنا عبدتك الصغيرة، أنت إلهى الصغير” (ص 39). “… علمتنى أمى أن الرجل إله صغير- تركته ينهض ويمارس الوهيته الصغيرة” (ص 40). “.. ثم كأنها تقوم برقصة وثنية لإله شره، تقبل أصابع قدميه وأطراف شعررأسه فى آن واحد” (ص 40).
(ملحوظة): شعرت أنه لم يكن هنا مبرر لذكر الشراهة بالذات، وكان هذا منبعض ما اعتبرته “الوصاية اللاحقة”، أو “التزيد المخل”، مثل ذلك مثل سؤاله الذى بدا لى جسما غريبا حين قال لها:
“… أنت تقومين بكل شئ، أين متعتك الخاصة” (ص 40) فلم يكن السياق يسمح بذلك: لا حراة الفيض، ولا تلاشى الكيانات، هذا ما خيل إلى، وهو أعلم.
2- ثم هو أوضح فى هذا الجنس حوار الأعماق:
فهو ليس مجرد صفقة “لحم فى لحم” (أنظر بعد: القصة الثانية)، وهو ليس تنويعات على لحن اللذة الخالصة، لكنه تكامل الوجود من خلال لغة جسديةلها حرارة التواصل إلى أعمق طبقات الوعى بالآخر. ” … وكان لسانها داخل فمه… كأنه تحاول النفاذ إلى أعماقه” (ص 39) (قارن المقابل لذلك فى الجنس الصفقة- القصة الثانية حيث كان اللسان هو ذنب ملكة النحل القاتل (ص 99):
“… تدس أنفها فى كل قطعة من الثياب، تدخل رائحته بداخلها حتى تتشبع بها، رغبتها الحارة تنبعث من داخلها مباشرة” (ص 39) (لاحظ أن:
3- ولم تخل هذه الصورة الجنسية من تحقيق حدس فرويدى هام استعمالها داخلها هنا يشير ضمنا إلى نفى عقلنة الرغبة،كذلك إلى تجاوز الغريزة العارية- هذا رأيى).
“… حولت كل خلية من خلايا جسده إلى نقطة بالغة الرهافة تتشرب بالمتعة (ص 40). ” … تتجمع كل أحاسيسه فى نقطة ثم تنفرط على جسده كله” (ص 40).
(هذا، وقد وصف “جانوف”(24) أثناء علاج الصرخة الأولى أن أحد مرضاه من الرجال كان يشعر بذروة الشهوة (الأورجازم) مركزة فى طرف قضيبه ليس إلا، لكنه حين يخترق حراجز جسده بالعلاج (!!!) انتشر الشعور اللذى فى القمة إلى سائر جسده، والمؤلف هنا يحسن التعبير الذى يوحى بأن الجسد ككل، وليس العضو الجنسى كموضع معزول، هو الذى يمارس هذا النوع من التواصل المتكامل).
وهذا الحوار (حوار الأعماق) لا يتوقف عند عمق الداخل، لكنه ينتشر إلى دوائر الخارج:
“عندما قبض على جسدها أحس كأنه قد أوقف النجوم عن حركتها” (ص 40).
ثم أن المؤلف يعلنها صراحة، على مستوى الأجساد، نعم.. الأجساد تتحاور (لا تساوم، ولا تختزل): “… وأصبح الجسدانن يتبادلان حوارهما المشترك” (ص 40). (ملحوظة): أعتقد أن هذا العمق لن يتببين بوضوح كما تبين لى إلا بالمقتورنة بجنس آخر، وخاصة ما ورد فى القصة الثانية، وعندى أمال أن يعود القارئ إلى هذا الوصف- هنا مرة ثانية بعد الإنتهاء من القراءة الأولي.
تخل هذه الصورة الجنسية من تحقيق حدس فرويدى هام ذلك أن الكاتب هنا صور هذا الجسد الصغير،وكأنه فى جملته) العضو الجنسى لاذكرى شخصيا، وهذا بعض ما ذهب إليه فرويد مما لم أفهمه طوال حياتى العلمية والمهنية بهذه الصورة ورلا من هذه القصة “هكذا”
“…. دعنى أتلوى فوقك كالثعبان، وابق أنت ساكنا كالعشب الأخضر” (ص 39). “…. لم يدر أين هى بالضبط، تحته فوقه، أم بداخله” (ص 40). “دخل جسدها النحيف بين أضلاعه” (ص 38-39)، “غاصت فيه” (ص 40).
وفى نفس الوقت لم تمنعه وضوح هذه الصورة الرائعة من أن يتنبه إلى تبادل الأدوار، فيجعل هذا لاجسد (القضيب) هو نفسه رحما حانيا حاميا “…. احتوته فى جسدها” (ص 39).
وقد بدا لى أن أهمية هذا التعبير الشمولى لدور الجسد ككل هو إعلان وعى الكاتب، أو حدسه، بشمولية هذا النوع من الجنس، كما أننا نفينا ابتداء أن هذا الجنس هو صفقة “لحم فى لحم” (انظر بعد) كذلك فإن هذا البعد ينفى تحديدا اختزال الجنس إلى لذة موضعية حيث اللذة هنا تغمر كل الجسد، كل الخلايا، كل الحول والطول، بالالتفاف، والاحتواء، والتداخل، والتمازج الكلى الغائر.
4- وهنا يحتاج الأمر إلى تناول هذه المسألة الأخيرة بقليل من التفاصيل التى لم تغب عن الكاتب أصلا، فقد أشار إلى بعد “الالتحام/ المحو، وبالعكس فى أكثر من موقع، فهما يصيران واحدا جديدا ناميا على حساب التفرد السابق فى واحدية مستقلة، بما يصاحب ذلك من محو لكل ما عدا ذلك، لكل ما قبل ذلك، بل وما بعد ذلك “..كانت تمحو بداخله كل الماضى والحاضر والمستقبل” (ص 40).
“… ومن أجل أن يصل إلى هذه المنتيجة (أنها المرأة الوحيدة التى كان يرغبها طول حياته) كان قد أتلف كل شئ” (ص 41). “التحما فى توقيت نادر” (ص 40). “أصبح لهما نفس الجسد ونفس الرائحة.. الخ” (ص 40).
وقد ذكرنا حالا أن هذا المحور لم يكن تلاشيا، ولكنه كان تخليقا لكل جديد، وهو ما يبدو لنا قانون الديالتيك الأعظم، ذلك القانون الذى أطل علينا فى مجمل العمل، كما ظهرت ملامحه فى بعض تجليات التعابير “.. الحب بارد كحقول الأرز لا سع كنيران التنين” (ص 40)، تقوده فى أناة ومهل دون عهر أو براءة” (ص 40) (لاحظ أن التعبير بالنفى هنا أروع فى إظهار الطبيعة الجدلية).
الوجه الآخر لهذا الفيض الجنسى (فيضان الشهوة يقتحم):
ويشاء الكاتب، بقدرة فائقة، أن يفجعنا مرة أخرى ونحن نعيش هذا الفيض الجنسى الراقى والرائق، فرذا به قرب نهاية القصة، أو قل فى نهايتها، يكشف عنوجه آخر لماتيلدا الفلبينية إذ تظهر على شاشة الفيديو فى صورة طوفان آخر، له توجه آخر يروى جوعا آخر، والكاتب لم يستدرج إلى موقف أخلاقى مسطح فيعرض لنا فسقا علنيا مقززا فى قصر الشيخ لمجرد أن يضيف صورة العهر والعربدة على من يمثل القهر والطغيان، أو ليعرى أكثر فأكثر حياة الرفاهية والفراغ التى يعيشها من يملك بغير عرق، لا .. لم يفعل شيئا من ذلك، إذ أنه لو كان قصد إلى ذلك لما جعل بطلة جنس الفيديو هى هى ماتيلدا، أما وقد جعلها هى، فقد استشعرت أنه قد استطاع أن يخترق الاستقطاب الأخلاقى والايدلوجى الجاهز بهذاالاقتحام المنظم، فبدلا من أن يكتفى برسم ماتيلدا وهى رقيقة معطاء بمحض إرادتها لمن أجارها دون شرط، وبدلا منأن يؤكد على أنها هاربة مقهورة ليس إل، جعلها هى بطلة هذاالفيلم الجنسى أيضا، فماذا نحن- القراء- فاعلون بتعاطفنا معها منذ البداية، وهى صغيرة، هشة، مجروحة، فائرة،معطاء فى حضن مصطفى ومن حوله؟
ننظر فى مشهد الفيديو أولا:
قبل أن تظهر ماتيلدا وجدنا أنفسنا نشاهد أشخاصا غير مميزين، وإذا بنا وسط إرهاصات دفق غامر بما يبرر ما ذهبت إلى تسميته لبالطوفان الجنسي:
“…. .كانت هناك مطاردة بين رجل وامرأة، الرجل يجرى عاريا، والمرأة عارية أيضا، تمسك فى يدها رمحا طويلا تطارده فى شراسة وعدوانية خالصة” (ص 49).
إذن فنحن أمام هجوم جنسى برمز محدد، ومن جانب المرأة أاسا، المرأة التى لم نتبين من هى حتى الآن، ثم تظهر ماتيلدا:
“…. ولكنه يفاجأ بماتيلدا على الشاشة.. كانت تتلوى فوق جسد رجل لم يكن شكله واضحا فى الصورة، أهو الشيخ؟ أم أحد أصدقائه؟ أم يكون هو مصطفى نفسه؟”… (ص 50).
وهذه اللقطة تؤكد أمرا، وتضيف آخرا، فهى من ناحية تقول لنا إن الجنس الذى تعاطفنا معه منذ قليل هو هو الذى يعرض على الشاشة “… تتلوى فوق جسد رجل.. الخ”، وهى من ناحية أخورى تعلن فقد الخصوصيية وذوبان الهوية أمام سحق القهر، وبديهى أنه لا توجد وسيلة تكنولوجية تسترق الصوت والصورة بكل هذه التفاصيل دون علم صاحبها، مما يرجح أن هواجس مصطفى ومخاوفه هى التى سهلت عليه تقمص شريك ماتيلدا فى الفيديو، فضلا عن دهشته واستبعاده أن ما ذاقه طواعية واختيارا قد أعطته ماتيلدا لغيره علانية واستعراضا، فالأرحم له أن يغتبر رجل الفيديو هو نفسه، ليتعرى رغما عنه، من أن يشوه ما تصوره عطاء خاصا به وحده، وهذا التقمص يتضمن عرضا آخر مما نسميه فقد أبعاد الذات Loss of ego boundaries حيث يصبح الكيان نهبا للآخرين بلا حدود، فيذاع ما بالداخل على الملأ، وفى هذا الموقف بالذات، ومصطفى قد سلب كل شئ حتى صدق تجربته مع ماتيلدا، فإن فقد الهوية بهذه الصورة لدرجة تسهيل التقمص برجل الفيدو هو أقرب التفسيرات وأرجحها حيث تداخل عرض الإذاعةBroadcasting مع حيلة التقمص والانكار Identification &Denial فقد فضل أن يعتقد أنه قد أذيع ما كان بينه وبين ماتيلدا، فراح يتقمص الشخص الذى فى الفيديو حتى لا يكون غيره (مما لا يحتمله)، وبذلك بنكر أن تعطى ماتيلدا لغيره ما أعطته له هكذا بحذافيره،.
وكان من أروع ما وفق إليه الكاتب أنه، وحتى نهاية القصة، أنه لم يجزم لنا إن كان مصطفى هو رجل الفيديو نفسه أم لا.
وينبغى أن نتوقف ثانية عند إصرار الكاتب على أن جنس الفيديو هو هو جنس الحجرة الخاصة على سطح بيت متواضع “.. قالت نفس الكلمات، وضج وجهها بنفس الشهوة، ونزت نفس حبات العرق” ثم هو يذكرنا أن عطاءها هذا يفيض ولا يفرق، يغمر ولا يغرق، إذ سرعان مال يردف: “كأنها تضاجع كل الموجودين فى القاعة” (ص 50).
لكنه هنا- ومن خلال كشف هذا الوجه الآخر لنفس الجنس- يكاد يؤكد أن هذه الشهوة الجامحة هى القائد لهذا كله، بل لعلها هى هى المسئولة عن إثارة شذوذ الشييخ “كانت شهوة ماتيلدا عارمة حتى أن المنظر كاد يصبح ضبابيا من أثر الصهد المنبعث من جسدها”، وقبل ذلك كان قد أشار إلى أه “…لعل هذا الانكسار والذوبان فى ممارسة الحب هو الذى دفع بالسيد الشيخ إلى شهوة جنونه، هذا التفانى الجسدى هو الذى جعله يصنع من جسدها مطفأة لسجائره… ” (39) فهل بقى بعد ذلك شك فى أن ماتيلدا هى ماتيلدا مع كائن من كان، وأ هواجسه عن شخص الفيديو أنه هو نفسه ليست إلا نتاجا لما ذكرنا؟ فهو يقارن ويخاف ويستبعد فيتقمص، فيتعرى “.. يعرف هذه الانتفاضة، وهذا الرحساس الغامر بالمتعة، والشعور الطاغى بامتلاك ما لا يمتلك، بالألم والفرح والخوف والانبهار” (ص 50).
فلما كانت ماتيلدا هى ماتيلدا، والشهوة هى الشهوة، والفيض هو الفيض، فلماذا نعتبره وجها آخر لنفس الجنس، ولماذا لم نكتف بأن نقول أنه هو هو مع مصطفى أو مع غيره؟؟
أعتقد أن هذه التفرقة الدقيقة هى من أفضل حدس امؤلف بلا جدال، ذلك أنه لم يستسهل، ولم يستقطب، فمن أبرع براعة الكاتب أنه قدم لنا صورة تفان جنسى رائق، وماصاحبه من ذوبان وولاف والتحام وامحاء.. وصلاة وخشوع فى إيقاع نابض فشمول وانتشار، فلم نكد نقول “هذا هو” حتى راح يفاجئنا بأنه أيضا، وربما قبلا: شهوة عارمة: وصهد صاهر، ومومسية معلنة (وكأنها تضاجع كل الموجودين بالقاعة) (ص 50).
وقد لاحظت أنى شخصيا- وخاصة فى القراءة الثانية فالثالثة- لم أعد أشعر بأى تناقض فى كل هذا، ثم رحت أحمد له هذه الجرعة الإبداعية الجسور، وفى نفس الوقت فإنى لم أقبل أن يكون جنس الفيديو مجرد تسجيل متجسس لجنس الحجرة، لا.. أبدا، ليس جنس الاخنتيار الحر والنتح الفيض الدافئ هو هو جنس الطوفان الغامر والفيضان الصاهر، صحيح أنهما ينبعان منمصدر واحد هو التصالح مع الجسد، وتلقائية العطاء، لكن الذى يوجه المسار إلى هذه الوجهه الوجه) أو ذاك هو المجال والتلقى، فحين كان المجال إنسانا شهما متواضعا خائفا اتضحت صورة النتح الطبيعى والصلاة المذيبة.. الخ. و حين كان المجال إثارة وشيوعا وتحديا واستعراضا تميزت صورة الطوفان الشهوى والفيضاناللذى فى دفقات صاهرة مذيبة، ولعلنا نذكر تعبير الكاتب: “دون عهر أو براءة” فى محاولة تنبيهنا إلى هذه القضية التى تجعل البراءة 0البرود الزوجى عادة) هى النقيض للعهر (=الفجر القارح) مما يوقع الأزواج -على غبائهم وحسب طلبهم- بين اختيارين انشقاقيين متضادين: فإما الخيانة مع من تعرف مفاتيح الجسد فى دور اللهو وأمثالها(26)، وإما الجفاف أوالبرود مع وسائد لحمية خالية من الحياة، فرحت أعتبر هذه اللقطة العميقة من أبرز اقتحامات المؤلف، عساه إذ أفجعنا أيقظنا، وإذ واجهنا عرانا، لعلنا نرفع الوصاية عن أجسادنا وأجساد أولادنا دون خوف من عهر أو دعارة، إذ ندرك أن تحرير الجسد ليس معناه التفريط فيه، بل إنه يعنى مزيدا من احترامه، فإذا تحرر الجسد ابتداء ناغم الطبيعة، ثم تأتى بعد ذلك المسألة الأخلاقية يحددها المجال لا تشويه الفطرة، فالاختيارات ثلاثة على الأقل: إما الحرية الفضيلة، أو الثلاجة الجبانة، أو الصفقة الدعارة.. (وليست استقطابا بين براءة باردة وعهر قارح).
******
القصة الثانية
الوداعة والرعب
”الجنس الصفقة” (الجسد اللحم)
تأتى قصة “الوداعة والرعب” (الثانية فى المجموعة) لتؤكد موقف الكاتب وقدرته على معايشة الواقع الآنى بسبق سوف يذكر له، ففى هذه القصة راح يقتحم موضوع التطبيع مع الجارة اللدود، فرسمه بحدة تحدياته على مختلف المستويات، دون استقطاب مسطح، فهو قد أوضح وجهة نظر الابن الشاب اليائس الضجر المهاجر (مع وقف التنفيذ)، وموقف الأم الخرساء حزنا على ضناها الشهيد، ثم موقف الأب المتردد بين قبول الأمر الواقع وألم الشعور بالغفلة والخضوع لعبة أكبر من مقاومته، فردا منهكا مكلوما، وقد اتخذ الكاتب لشخوصه مسرحا يتحركون فيه بعيدا عن أرض الوطن (مصيف فارنا) مما أتاح له مساحة أكبر للحركة والمراجعة والحوار المتنوع، لكنه كان بمثابة من نقل معه الوطن (ممثلا فى بقية أفراد الفوج السياحى)، فاستطاع أن يرسم لنا صورة رجل الأعمال الذى يستنفع من التطبيع – بالمرة- ثم قدم الأستاذ الجامعى الإسرائيلى الذى يتقن “الجاسوسية العلمية” الأحدث والأخبث، وابنته التى تذكرنا بالصورة القديمة لليهودية البائعة جسدها بالمقابل المناسب حسب إحتياجات السوق وتعليمات الطائفة، وقد استطاع الكاتب أن يقدم لنا صورة عصرية مواكبة حيث جعل الثمن فى هذه القصة هو وعى الشاب المصرى وكيانه، وتليين الوالد المصرى وترويضه، غير المكاسب الأخرى المحتملة مما لم يعلن.
وجاءت الصورة الجنسية- إذن- فى هذه القصة مختلفة تماما عما قدم الكاتب فى القصة الأولى، وهذا فى حد ذاته دليل على أن الكاتب لا يكرر نفسه، وأنه لا يستقى معلوماته عن الجنس من مصادر جاهزة – علمية أو أدبية- بل من حدس إبداعى يفيض فى كل خلق بحيبه، فى هذه الصورة نفتقد المعالم التى ميزت الجنس فى القصة الأولى، معالم الوجهين معا، فرغم أن الجسد هنا أيضا يحتل الواجهة، إلا أننا نفتقد هنا السلاسة والسهولة والتكامل الجسدى فى الوجود الكلى، كما نفتقد العطاء الحر الغامر،… الخ، وقد كان على – كقارئ- أن أنتبه إلى الفروق الجوهرية وراء الشهوة الجامحة هنا (أيضا) حتى لا أخدع فى شبه ظاهرى، وهذا ما كان:
فالجنس هنا هو جنس وقح، منفصل، ملتذ، مؤقت بوقته،يبدأ جسديا وينتهى جسديا، مفرزا على جنبيه بنود الصفقة، بما تعلن وما تخفى من منافع متبادلة، وشروط محددة.
كانت صفقة طول الوقت، حتى الألفاظ التى استعملت فى وصف البضاعة أو المساومة أو العملية كانت أقرب إلى لغة التجارة بشكل أو بآخر:
تبدأ الصفقة مثلما يفعل أى تاجر شاطر بالملاحقة والإثارة: “…لكن طارق أحس بها وهى تلاحقه بصمتها الغريب، بجمالها الغامض”.. الخ (ص 72).
ويمضى الزبون فى مقاومة العينة بسائر البضاعة المعروضة، لكنه يستسلم فى النهاية لبضاعة التاجر الأشطر الواثق من نفسه (… تستحوذ عليه وتفقده أية متعة يمكن أن يشعر بها وهو يرى كل تلك الأجساد العارية التى يمتلئ بها الطريق) (ص72) (وكأنه يتفرج على بضاعة مرصوصة على الأرصفة على الجانبين)، ثم يظهر ما يشير إلى أن المسألة محسوبة بشطارة غير معلنة “…. يحيط بهما جو من الريبة والتواطؤ” (ص 78) (لاحظ كلمة التواطؤ هنا بما يقابل “سيم” التجار، وخاصة السيم السرى بين التاجر وولده والذى لا يعرفه حتى العامل بالمحل).
ثم تتعرى المسائل، ويوفق الكاتب توفيقا شديدا حين يتكلم ويعاود تكرار أن العلاقة الجارية ليست إلا علاقة بين جسدين، ليست بين كيانين أو شخصين، ياله حين يقول: “… فى أى لحظة عند انطلاق أى شرارة، سوف يمتزج اللحمان… ” (ص 78)، إذن لم يعد هناك شك أن المسألة برمتها هى صفققة جسدية محددة: ملاحقة، استحواذ امتزاج اللحمين، (ولا بد من وقفة عند استعمال لفظ اللحم هنا فى صيغة المثنى).
ثم تمضى الصفقة اللحمية “…. يد فى يد، وصدر فى صدر”، “… لحمها يتوثب من خلال ثوب الموسلين” (ص 80).
وربما كان مما يخفف من وقع التجارة والشطارة أن الصفقة جرت فى جو شبابى حار، مما يجعل الصفقة مبلوعة بعض الشئ، شك أن ثمة جذب لحمى “كان من ضمن البنود والشروط والعوامل المساعدة”.. اكتشفا أنهما خفيفان لا تكد أقدامهما تلمس الأرض. (ولعل هذا ما جذب انتباه د. على الراعى إلى اللحظات التى رقصا فيها رقصا رقيقا متناغما) لكنهما ليسا سوى جسدين حتى للناظر من الخارج “… ألا يمكن لهذه الموسيقى أن تتوقف، وهذان الجسدان أن ينفصلا… ” (ص 82).
ثم يتأكد ما ذهبنا إليه فى المشهد الجنسى العارى، حيث الخلفية كلها أجساد فى أجساد، بكل ما فيها من “قبح وجمال” (والذى لا يشترى يتفرج) حيث كان العرى هو إذن الدخول: عرى الجسد والأحاسيس والرغبات (ص 92) لكنه لم يحدثنا- وربما حدسا إبداعيا- إلا عن عرى واحد هو عرى الجسد، وفى هذا المشهد بالذات يبدو أن الصفقة كادت تكتمل، فالبضاعة واثقة وحاضرة، والزبون مجذوب، وكأنه قد فقد إرادته (.. لم تبال حتى بالالتفاف، كانت متأكدة من أنه يتبعها(ص 98) ثم انظر كيف لم يفت المؤلف تحديد “ماذا” يتبع: “… كان فقط يتبع رائحة جسدها” (ص 98).
وحين التقى الجسدان، كان لقاء ذا دلالة هامة، حتى وكأن الثقل الميكانيكى للجسد هوالذى أدى إلى الالتحام الأولي: “… خطا الخطوة الأخيرة إليها، أحس بنفسه فوق جسدها” (ص98) ولأنها مسألة ميكانيكية، فالمحرك و”الموتور” ما زال باردا، وربما احتاج بعض الوقت للتسخين (قارن حرارة وصهد ماتيلدا فى القصة الأولى) فهو يردف: “كان (جسدها) باردا مرتعدا، فتشبث فيه بكل قوته” (ص 98).
فإذا كانت صفقة كما استقبلناها فإنه من المناسب أن نعرف طبيعتها ما هي؟ ماذا مقابل ماذا؟ أو بكم؟، وأحسب أن الكاتب ألمح، وصرح، بطبيعة هذهالصفقة، وتصورى أنه يمكن صياغتها كالتالي:
”خذ جسدي- بضمان والدى وعلمه- فى مقابل أن تسلمنا- أنا وأبى وناسي- كيانك ووعيك وانتماءك”.
إذن فالثمن هو الثمن الذى يدفعه ذكر النحل ليواقع الملكة، وقد ذكر الكاتب هذا القياس الرمزى تحديدا حين قال: “… لسانها لاذع كأنه ذنب شهد الملكة التى تؤدى بكل الملوك”. (لعله يقصد الذكور).
وقد أشار عبد الغنى (الوالد المصرى) إلى طبيعة هذه الصفقة وكأنه يكتب المذكرة التفسيرية لبنود العقد، إذ طلب وعدا من والد ليزا (البروفيسور الصهيونى) وعدا تحفيظيا ” .. هل يمكن أن تعدنى ألا تقتلوا طارق أيضا؟” وللقارئ أن يقرأ “القتل” كما شاء، الإستيلاء على إرادته، تهجيره إلى “السلمية” “.. جاءوا، وأقاموا وتناثروا كنباتات الحلفا” (ص66) والمتاعب الدفينة، يدرسونها ويحللونها لتصبح نقاطا فى صالحهم، كل سر صغير يساعدهم على قتل المزيد من الناس” (ص 93). أليس هذا هو “القتل” الذى كان يطلب عبد الغنى من والد ليزا أن يعده ألا يحدث؟
إذن فالثمن هو “الكيان” هو التلاشى، ليس تلاشيا بالمعنى الأول فى القصة الأولى، أى تلاشى النقيضين فى الجديد المتخلق، لكنه تلاشى الكيان الأضعف- وإن بدا ذكرا- فى الكيان الملتهم، فهل يا ترى كان الكاتب يقدم هذاالبعد الموازى ليعلن رأيه فى طبيعة الصفقة الأكبر أى: تسليم الأرض (سيناء) فى مقابل استسلام الكيان المصرى (كشخصية حضارية مستقلة واعدة)؟؟
وعلى ذكر مقارنة التلاشى هناك (القصة الأولى) بالتلاشى هنا (القصة الثانية) فإنه يمكن البحث عن مقابلات أخرى موازية مثلما أشرنا إليه فى دلالة لغة اللسان فى الفم، والتى نكررها هنا للأهمية ومزيد الإيضاح:
هناك: “كان لاذع كأنه ذنب الملكة (ص99).
هناك: “تقوده بأناة ومهل دون عهر أو براءة، ولم تفقد وعيها بما يحدث، ثم شاركته فى نفس اللحظة، غرست أظافرها فاختلطت المتعة بالألم” (ص 40).
هنا: “تعض عضلات صدره، وتخمش ظهره بأظافرها ويتحول صوتها إلى نوع من العواء الحيوانى الجائع” (ص 99).
(غرس وخمش، ولكنه شتان بين لحظة ألم محدد يؤكد التداخل والتوحد، تعقب قيادة متمهلة متأنية “دون عهر أو براءة” (هناك) وبين عواء ذنبه تعض وتخمش فريستها طول الوقت (هنا):
هناك: “… كان يريد أن يعرف من صاحب هذا اللحم الذى يمتزج مع لحمها ” (فى الفيديو) (ص 50).
هنا: “… عند انطلاق أى شرارة سوف يمتزج اللحمان” (ص 78).
ومع أنى لا أستطيع أن أميز فرقا دالا بين امتزاج لحم ولحم، إلا أن مصطفى (فى القصة الأولى) لم يتكلم بهذه اللغة إلا حين انفصل عن الموقف وهو يشاهد الفيديو مغيظا غيورا متقمصا ناكرا.. الخ، ومن ثم اقتربت الصورتان.
على أن ثمة بعدا آخر فى هذا الجنس الصفقة فى القصة الثانية، وهو أن طارقا إذ راح وراء “البضاعة” مجذوبا مخدرا، عومل هو أساسا كبضاعة مشيأة فعلا، أنظر حين سألها أصدقاؤها مشيرين إليه “… من أين أتيت بهذا الشاب؟” (ص 100) وكأنها كانت تتسوق فاقتنته، فسألوها مثلما يسأل الواحد منا صاحبه: “من أيت أتيت بهذا الجورب، أو هذا الحذاء.. الخ”، كذلك فقد تأكدت معاملته كالآلة” الجنسية” التى تفرغ لتمتلئ ” … سوف نبعث فيه النشاط من جديد” أو: “…. وأخذت تسكب على رأسه البيرة” (ص 101) وكأنها تملأ الخزان بالوقود (التنك بالبنزين).
ثم تأتى النهاية لتعلن فشل الصفقة، لأسباب خارجة عن إرادة المتعاقدين، لكن يبدو أن البنود السرية التى كانت تجرى موازية للصفقة الجنسية كانت جزءا لا يتجزأ من “الإتفاقية”، ولعل التحام الشابين فى الجنس كان المعادل الموضوعى لالتحام جسد الوالدين الدموى فى العراك البدنى (وبالعكس)، ورغم اعتراضى على النهاية، (فلم أفهم لم يكون القتل متبادلا، فالسياق يغرى باعدام القاتل لا الضحية مما لا داعى لتفصيله هنا) فقد أعلنت (النهاية) بشكل أو بآخر أن الجنس إذا انفصل عن الكل، أو كان وسيلة لغيره، وإذا كان تخديرا ماديا محدود، فهو العدم ذاته، حتى لو تأخر إعلان هذه الحقيقة.
*****
القصة الثالثة:
اتجاه واحد للشمس
الجنس اليأس (تراكمات الجوع والفقر)
وددت لو اكتفيت بهذه المقارنة بين جنس وجنس من واقع قصتين طويلتين، أو قل روايتين صغيرتين، كتبتا – فيما يبدو – فى زمن متقارب، إلا أنى عدت فقدرت أن النظر إلى قصة أقدم (10) (وأقل جودة) قد يضيف بعدا زمنيا لتطور الكاتب،، كما قد يكشف لنا أشكالا أخرى للجنس لم تغب عن وعى الكاتب، مما يؤكد ما ذهبنا إليه مقدما من أنه إنما يستهدى بحدسه بأقل قدر من الوصاية.
وقد فضلت أن أكتفى بالاشارة السريعة إلى ما ورد فى هذه القصة الثالثة من تنويعات جنسية للوفاء بالغرض الذى أوضحته حالا، لكننى توقفت عند نوع منها غلب على أجوائها، وهو ما تعلق بالجنس مدفوعا بالفقر والجوع (على أكثر من محور) معلنا اليأس (تراكما.. ففجأة) وقبل ذلك أقدم خطوط وجو هذه القصة الثالثة فى إيجاز:
تجرى أحداث هذه القصة فى مصنع له صاحب (“حاج” كالعادة)، وله مدير، ومساعد مدير، وبه عمال ورئيس لهم، بينهم أسطى (نقابى أو كالنقابى) يحب الآلات ويكره توقفها كما يكره أصحابها، وثمة كاتبة وعاملات.. الخ، ويدور الصراع تقليديا بين العمال من ناحية وصاحب المال من ناحية أخرى، وتتحدد العلاقات بالطريقة التقليدية، على محاور متعددة، لا تخلو من عاطفة هنا، وشذوذ هناك، وأفكار وتلميحات جنسية طول الوقت. ثم تنتهى بلقاء جنسى غير محسوب، بين عاملة شهية، وعامل فتى، على أكياس القطن فى عز النهار، فيضبطان، فينتهزها صاحب المصنع فرصة ليصرخ: “.. كأنه يعلن صيحة الجهاد: نجاسة” ويفسر بذلك ما أصاب آلات المصنع من عطب حتى توقفت جزاء وفاقا لهذا الإثم الذى يجرى بين عماله “.. قطعت عيش العمال يا نجس يا ابن الكلب” (ص 142).
فكيف ظهر الجنس متخللا نسيج القصة من البداية للنهاية؟
كان الجنس دائما فى خلفية الأحداث، كل الأحداث تقريبا، فكنت تشعر به، إن لم يظهر صريحا، وهو يتحفز متلمظا على جانب ما من وعى الجميع، وكان التعبير عنه فى كثير من الأحيان تعبيرا جسديا بدائيا، فالريس أحمد “.. تزداد حدة الأكلان لديه حين يشاهد بهية بجسدها الملفوف وساقيها.. الخ” (ص 115)، “واكتشفت بهية أن الريس أحمد مازال جالسا يحتك فى الجدار وهو يحدق فيها” (ص 118).
كذلك فقد فهمت، أو قدرت، أن قئ سامية المفاجئ كان تعبيرا جسديا عن مساومة إبراهيم (خطيبها مساعد المدير) الذى يقول لها: “الأمر لا يتطلب أكثر من أن تكونى ظريفة معه (مع المدير) متجاوبة قليلا” (ص 126)، “.. وكان لحمها حينذاك باردا مقشعرا، ولم يبد على وجهها تعبير من أى نوع” (ص 126).. وهكذا كنت أشعر فى كثير من الأحيان أن الجسد والأحشاء تتحدث بلغة بديلة وقوية ودالة كلما اقتربنا من ما هو جنس على أى مستوي.
كذلك تعددت الصفقات الجنسية بشكل صريح وعلى مختلف المحاور وبمختلف المقايضات، فهى لم تقتصر على صفقة لحمية مثل القصة الثانية، ولم تتحدد بثمن باهظ كما تحددت هناك، (جسد مقابل كيان)، لكنها كانت صفقات عابرة متناثرة ناقصة مجهضة دائما أبدا، هنا وهناك، على أن ثمة صفقة أساسية- لم تتم أيضا – تعلن صراحة وتحديدا هى تلك التى تتحدث عنها بهية “لم يتقدم من يشترى الصفقة كلها.. هى، ولحمها، ورطوبة فقرها..”، “.. كل الذين تقدموا كانوا يريدون التقاطها هى فقط.. جائزة ثمينة عن مجهود لم يقوموا به” (ص 120) وتبدو طبيعة الصفقة أكثر صراحة قالت لها أمرأة عجوز (بعد أن شهقت وبسملت): “… إن ثمنك غال فلا تفرطى فى نفسك.. – الرجال حيوانات لكنهم يفهمون الشئ الجيد وهم على إستعداد لدفع الثمن المناسب” “.. ثم دعى المساومة لي” ثم “.. لا تتركى نفسك بالمجان” (ص 132).
كانت هذه أصرح صفقة معلنة ومباشرة، ومع ذلك فهى لم تتم، لأن تراكم الجوع وإلحاح اليأس أفسدا الحسابات (أنظر بعد).
ولعل الصفقات الثانوية الأخرى كانت تسير على نفس المنوال، صفقات بالأجل، وفى الخيال، ومع وقف التنفيذ.. الخ فقس على ذلك علاقات رتيبة مع شنودة أفندى (دواء للخوف والوحدة فى مقابل القرش والزواج) “… خيل إليه أن جسدها يمكن أن يكون تابوتا دافئا لجسده”، إبراهيم مساعد المدير وسامية الكاتبة، علاوة للخطيب مقابل لين المدير “فى حدود الأدب”، ثم بنايوتى (صاحب المصنع السابق) مع شنودة أقندى (إرضاء شذوذ بنايوتى فى مقابل الاستعلاء… “القفز على أسيادك يا شنودة”) وهكذا كلها صفقات مادية مختزلة ومحسوبة ومجهضة يحيط بها الحرمان ويطل من خلالها اليأس.
وتأتى النهاية لتؤكد أن الجنس هنا قد تفجر تلقائيا بلا صفقة ولا حتى غاية، فبهية صاحبة الجسد الذى يساوى الشئ الفلانى تجد نفسها فى لقاء عفوى مع عبد التواب، لقاء بدا أبعد ما يكون عن المساومة أو حتى اللذة الواعية المختارة، فكشف هذا اللقاء عن تراكمات الجوع والفقر حين تصل إلى حدة ملحة، فتدفع بهية – وهى تعلم ثمن جسدها – إلى اليأس فالجنس، فتلتقط بالصدفة رغبة ميتة من زميل منهك “… كانت جائعة.. وعليها أن ترضى بفتات الطعام.. وفتات الرجال.. إذا كان هناك رجال”(ص 120)، وقد كانت تظن أنه لا يوجد من يملأ عينها ويستأهل جسدها فضلا عن أنها كانت محاطة طول الوقت بـ “رطوبة فقرها” “..كانت بهية متعبة وجائعة إلى درجة الحزن” (ص 137)، ثم “.. يطل عليها وجه عبد التواب يحملق فيها ولا يحمل إلا مزيدا من الغبار والتعب والرغبات الميتة…” (ص 132)، لاحظ إلى أى مدى وصل الانهاك، ثم لاحظ “الرغبات الميتة” فماذا يقفز إلى وعى بهية بالمقابل وقد وصلت رطوبة الفقر ولسع اليأس إلى مداهما؟ فورا تتذكر قول المرأة العجوز: “لا تتركى نفسك بالمجان” (ص 132) لكن الواقع والانهاك لا يسمحان بالمساومة فالشوارع تضيق من حولها وتمتلئ بالعيون الواسعة بدون أهداب، بالدكاكين الفقيرة الترابية، إذن فالفقر يتحدى، واليأس يتقدم، وكل شئ يضيق، وحين التقى الجسدان لم ينجذبا إلى بعضهما، وإنما التقيا بفعل قوى طاردة (الجوع والفقر واليأس) وكأنهما تصادما إبتداء، لم تكن ثمة رغبة دافعة أو دافقة، ولكن بعد الصدام تحرك المجهول بشرارة المصادفة، وليكن ما يكون، فلم يعد هناك ما يعد بانتظاره “..كانت مشمئزة ومتعبة، تحس برغبة لشئ مجهول”، “..كان مقبلا عليها ككابوس، كحلم بلا لون” (ص139) فهل بقى بعد ذلك مجال لتأويل؟
وهكذا نرى نوعا آخر من الجنس يحدث عفوا بفعل قوى طاردة تتصادم بسببها أجساد وكيانات منهكة يحيطها اليأس وينخر فيها الجوع ويذلها الحرمان فلا صفقة لحمية، ولا تفجر طبيعة، ولا شئ يبقى بعد شرارة المصادفة، اللهم إلا الوشم بالنجاسة والنبذ والاتهام.
وبعـد
فلقد حاولت بهذه القراءة أن أقدم للقارئ (وللكاتب على حد سواء) محاولة قراءة مجتهدة، فيما هو جنس، تلك المنطقة التى يتصور الناس أن العلم قد أحاطها من كل جانب، فى حين أن الفن الصادق هو القادر على كشف طبقاتها، ولغاتها، ومحاورها، طالما يحرك الإبداع وعى مخترق، وحدس نشط، دون وصاية أو نمطية.
وهذا ما فعله محمد المنسى قنديل قبل وبعد كل شئ.
******
ملحق (3)
دروس فى الجنس من الإبداع الأدبى
من النقد الأدبى:
(1) جدل العلاقة فى “إسم آخر للظل”
حسنى حسن
(2) إشكالة التواصل:
صعوبة التواصل حتى بالجنس والكتفاء بالعطش: فى يقين العطش.
إدوارد الخراط
(3) تنويعات فى لغة الجنس ودلالاته:
الجنس”الفيض”، والجنس “الصفقة”، والجنس “اليأس” فى “بيع نفس بشرية ”
محمد المنسى قنديل
إعتذار:
لم أتمكن فى المسودة الثانية هذه من اقتطاف المناسب تماما لإثبات أن النقد الأدبى هو منهج فى المعرفة مستقل، وهام فى الثقافة العلمية.
فألحقت ماتيسر من النصوص المناسبة لتوضيح كل من التواصل واللغة الجنسية، دون إعادة ترتيب أو محاولة ربط لاحق.
جدل العلاقة:
العلاقة بالموضوع هى قدر الكائن البشرى، وبدونها لا “يكون” (لا يكون بشرا)، والراوى يقر ذلك مباشرة، وبإلحاح).
وكلمة علاقة لا تعنى حبا أو كرها.
وقد آن الآوان ألا تـختزل إلى جنس (تناسلى أو لذى عادى أو أوديبى أو غير ذلك)
ولا إلى غرام: وهمى أو تسكينى ذائب
العلاقة هى: إقدام وفـر، هى حوار وقتل (أنظر بعد)
والإقدام (مع الجوع والشوق والهيام والمتعة واللذة والرضاعة والشبع) هو الجدير بما يسمى حبا
أما الفر، فله وجهان:
(ا)الإنسحاب (للعودة للرحم)
(ب) أو النفى والمحو (بالقتل السلبى ومكافئاته).
إذن حين نتحدث عن “علاقة ” فنحن نتحدث عن الحب وعن القتل معا
ص 125: لأنه مكتوب أنى أحبك، وأنى أقتلك (9)
ونبدأ فى قراءة العلاقة كما قدمها العمل، فهي:
أولا: قدر مكتوب.
ثانيا: إقتراب (إنى أحبك)
ثالثا: إقتحام إعصاري
ص 125: “ستدخليين حياتى كالإعصار”
(أوالبديل الذى ظهر مترددا فى العلاقة بحنان: تسحب تراكمى)
رابعا: إغماءه وإغفاءه، مشروعه
ص 15 “وسأدور معك ثملا مأخوذا”
خامسا: محاولة تأسيس مؤسسة ليست هى لأنها (125) مبنية بطوب هش علي”علاقات متآكله”
سادسا: عقم سلبى (العنة وتجنب الإنجاب)
سابعا: القتل لم أفلت “قتلناه لأنه مكتوب أن نقتله” .
فهذه العلاقة المهترئة منذ البداية مقضى عليها فى هذه الرواية بأكثر من سلاح
(أ) المطاردة بهياكل الماضى الخربة
(ب) الإعاقة بأسئلة الحاضر المعلقة
(جـ) التضليل بعتمة اليوم العادي.(والتى لا ينقذها حلم الإبداع. ولا حلم الإنجاب)
ووصف هذا المآل السلبى بأنه قدر، هو وصف متراجع متردد، لكنه صحيح فى جزئية، فهو قدر إرادى إن صح التعبير.
“نحفر بأيدينا مجرى عداوة الدم، لم تحفرى شيئآ ولم أحفر، ص 125
لا يعنى حتمية النهاية، والرسالة فى الرواية تقول:
إنه إذا كان علينا أن نقبل مثل هذا التركيب الصعب الذى لا يفرز إلا هذا المآل كقدر مكتوب، فإن المطلوب هو النظر فى أساس ما أدى إلى ذلك، وعندى أن القبول بالبداية (6)، بمعنى أن يواكب القتل الحب هو المطلوب ابتداء، لتجنب هذه النهاية.
ص125: (لأنه مكتوب أنى أحبك، وأنى أقتلك)
وما أفترضه هو أن النهاية تأتى سلبية حين ينفصل الحب عن القتل ولا يتحاوران.
ومن واقع معايشتى وممارستى فى هذه المنطقة فإنى قد استلهمت الذى لم يقل على الوجه التالي:
إذا تعمقت العلاقة وواكب الحب القتل بالمعنى الإيجابى، فثمة أمل فى حركية نمائية تناسب الإنسان .
فالقدر المكتوب هو أن يواكب الحب القتل، أما المسار والمآل فهذا يتوقف على موقفنا من ذلك
وهذا الموقف الثنائى الوجدانى (الوضع الإكتئابى) هو مرصود من البداية.
4/2 رحلة الذهاب والعودة
ص 14 مكتوب أن تعطى نفسك كاملا، وترفض كاملا
وحكاية “كاملا ” هنا هى الخطر الحقيقى كما يقولون، فجزء لا يتجزأ من حركية النمو من منظور هذه المدرسة (مدرسة العلاقة بالموضوع) هو ما يسمى “رحلات -برنامج- الذهاب والعودة،”
ولكى تكون هذه الرحلات فاعلة لابد أن يكون الدخول والخروج بحركة منقوص نهايتها حتى يتبقى من كل مشوار ما ينمو به الفرد حالة كونه متفاعلا مع موضوع ما،أما هذا الدخول “كاملا” فلا نتيجة له إلا “أن يرفض كاملا” لأنه يذوب فلا يعود له وجود فماذا يعطى ؟ لا شئ، وبالتالى يـرفض عطاؤه، لأنه وجوده هو وجود صغرى من البداية.
5/2 الموقف البارنوى:
ص 14″… حتى وأنا بين ذراعيك ستبقى تسائل نفسك إذا كنت فى حضنك حقا، أو إذا كان الحب يحق لك أنت أيضا”.
وهذا ما يسمى الموقف البارنوى الذى يحل محل الموقف الإكتئابى فينفيه ويحول دون التقدم إلى تخليق الذات والموضوع.(7)
وهنا نتساءل عن جذور هذا الموقف الذى يتذبذب بين الشك البارنوى
ص 14 “اذا كان الحب يحق لك”،
وبين الانسحاب بنفى الآخر
ص 125 “مكتوب أنى أقتلك،
أو بنفى الذات (تدميرها)
ص 14 “أنت مسكون بشهوة تدمير ذاتك”.
ويمكن – بشكل غير أساسي- إرجاع جذور هذا الموقف إلى غياب الوالد بشكل أقرب إلى الخيانة منه إلى الغياب بالإهمال أو بالموت، فالوالد الغائب هنا مازال حيا، لكنه ليس فى المتناول،
ص154″لا أستطيع نسيان أنى عندما طلبته، لم أجده ؟؟؟
والرواية من البداية للنهاية مليئة بالجوع إلى “الوالد”، من أول يوسف حتى مجاهد، بل إن سناء كانت أبوه أكثر منها أمه.
ثم إن هذا الغياب مع سبق الاصرار كان يحمل من جانب الوالد منذ البداية ثنائية الوجدان التى انتقلت بدورها إلى الإبن.
ص 155
”كان عنيدا فى إصراره على هجرنا حتى وهو يحتاج إلينا”
ولكن الأب حل فى الإبن (أبا داخليا)”
ص155
أرقد هادئا يا أبى، فبموتك أقيمك فى فؤادي.
وهنا نحتاج إلى التعرف على معلومتين مساعدتين:
النظرية الأولي: لها جذورها البيولوجية وهى ظاهرة “البصم”
أما الثانية: فهى النظرية التى تؤكد على تعدد الذوات من ناحية، مع قيادة إحداها فى لحظة معينة حسب الموقف المناسب.
وثمة علاقة بين المعلومتين حيث تقول النظرية الثانية بأن الخارج، وخاصة الكيان البشرى “ينطبع” داخلنا: الكيان تلو الكيان حسب لحظة ونوع دلالة التفاعل معه.
ومن أهم لحظات “الطبع” لحظة الوفاة وخاصة إذا كان الذاهب (المتوفى) لم يتم الحوار معه بحيث يتمثل غير مستقل داخليا على مسار النضج.
وهذا التعبير الدقيق الذى قاله الراوى بعد وفاة الوالد يشير إلى ذلك بكل دقة:
” أقيمك فى فؤاد أبا وراعيا، كما لم يحدث أبدا”
لكن الحالة التى تغلب على الراوى و تسمى عادة اكتئابا لا يكون فيها الأب الداخلى راعيا، بل قامعا مواجها حاد ملاحقا، فما تفسير ذلك؟
إما أن الكاتب قد التقط هذه الفكرة (الأب المنطبع) بحدسه الإبداعى ثم لم يطورها داخله فركز على الأب الحانى فى الداخل.
وإما أن الأم هى التى قامت بهذا الدور (الداخلى) الناهى القاهر المطارد طول الوقت.
وعلاقة الراوى بأمه علاقة خاصة تماما.
فهو من البداية قد شعر بخيانتها عندما لا يجدها إذ يستقيظ مفزوعا.
ص62″ومع تكرار افتقادى لها عند صحيانى مفزوعا عرفت أنها تكذب على، سيطر على شعور عميق بخيانتها لي” وما استطعت أن أغفر لها ذلك.
وكان يخاف من الشعور بالذنب حين تضبطه وهو يحب أباه (ص )
6/2
تعدد الذوات:
وقد امتد وعى الكاتب بتعدد الذوات حتى أصبح الموت ذاتا” وليس عدما فى الحلم والخيال وآثار ذلك فى الواقع
ص 64 “وجدتنى متورطا فى صراع وحشى مع جثتي”
وإذا كان الموت باعتباره سلبا جاذبا يمكن أن يتجسد فى ذات منطبعة داخليا (جثتى) فإن الحياة -الحقيقية – لا يمكن أن تكون كذلك (لا يمكن أن يصارع أو يحتضن الحياة مجسدة فى ذات، حتى فى الحلم، إلا كرمز بديل، لكن الحياة حركة دائبة، هى نتاج متجدد لعملية مستمرة، وهذا ما وصل إليه حدس الكاتب وكأنه يدرك أن الحياة ليست سوى جماع حركية الذوات كلها،
“لن تنجو بالموت بل بالحياة”
هكذا قال الشيخ أثناء رؤية اليقظة المكثفة
(ص64)
ولكن كيف ينجو بالحياة.
6/3
حيل أخرى (الإقدام مع وقف التنفيذ والتصنيم):
وتسلست العلاقة بالموضوع من الأب الغائب إلى الأم الحاضرة الخائنة (المهددة بالغياب)، مارين بممدوح وسعاد (قبيل وبعيد المراهقة) دون أن تمتلئ ذاته بأى كيان يرويها من خارج أو من داخل
فلما جاءت تجربته فى حب حنان، بدا وكأنه اختار منذ البداية ما لا يتحقق،
فقد اختارها شاحبة ضعيفة، وكأنها تسير قرب نهاية ما، (ص 177).
كما اختارها مسيحية ملتزمة بأهلها ودينا -ولو فى المدى ا لبعيد- لتستحيل العلاقة إن آجلا أو عاجلا “إذن ما شجعه على الإقدام إلا ضمان وقف التنفيذ”.
ونلاحظ فى علاقته بحنان كيف شيأها وهو يستعمل حيلة التصنيم لإماتة حيوية الموضوع، ولا يمكن الجزم أن اختفاء رسائل عينى حنان الدالة على العلاقة الحقيقية به كانت حقيقية نتيجة لموت العلاقة، أم أنها كانت تأثرا بمرض أبيها وصعوبة ظروفها، المهم أنه قام بتصنيمها بشكل لامع أخاذ:
ص26 “كانت عيناها أرحم ما فيها ورسولها فى إعلان التعاطف” ثم مباشرة يرادف
واليوم ما كنت مستطيعا إلا أن أنكرهما كلؤلؤتين لامعتين وجامدتين، كعينين داهمهما الموت بغتة، فبقيتا مفتوحتين على الرعب وما تحته”
وتظل لعبة التصنيم هى أقسى وأنجح الحيل التى تحول بينه وبين العلاقة بالموضوع.
ص 27
وستقول لى سناء إنى لا أخنلف عنها فى شئ: هى “جماد” وأنا “ميت” (7)
ثم يتركز تطوره العلاقاتى المجهض، مع وقف عن التنفيذ، والمنشق فى الداخل، والمصنم لكل نبض إنسانى، يتركز كل ذلك فى تداعيات البرود والفزغ فى علاقته الزوجية كما وصفها من البداية للنهاية
7/3
دور الجنس:
يمثل الجنس عموما أقوى الدوافع التى تقوم بدور التواصل البشرى، فالوظيفة التناسلية للجنس عند الإنسان تكاد تكون ثانوية إذا فليست بوظيفته التواصلية، بل إن الوظيفة اللذية للجنس تكاد تتوارى بجوار وظيفته التواصلية أيضا، حتى أننى رجحت أن أفترض أن الطبيعة قد وهبت الجنس البشرى بالنسبة لوظيفته الجنسية خاصتين للحفاظ على الوظيفة التواصلية، وهما اللذة المصاحبة، والقدرة على التوصال طول الوقت، بغض النظر عن الحاجة إلى الإنجاب أو الاستعداد للتلقيح
وفى هذا العمل بدا لى أن ذلك كان واضجا تماما فى حدس الكاتب، حتى أنه أفشل كل المحاولات الجنسية المنفصلة عن الكل، وللأسف فإن موضوع الجنس ليس واضحا حتى عند المثقفين والمختصين اللهم إلا من الناحية الفسيولوجية، وإلى درجة أقل من الناحية النفسجنسية، فى حين أن الجنس من المنظور التكاملى هو أكبر من أى تصور، ولعل فرويد كان يقصد ذلك فى بداية تنظيره، لكنه ابتعد هو، والأكثر ابتعد تابعوه عن توظيف الجنس لغة، وتكاملا.
ولن نبدأ بمتابعة تسلسل التاريخ الجنسى مع تاريخ الراوى، ولا مع ظهور ظاهرة الجنس طوليا فى الرواية، ولكن نبدأ مع سناء
فمنذ أحلام القبلات فى طنطا،
”مستدعيا إرادة العشق الذى استولى على لسنوات ونحن نسير معا فى شوارع طنطا وأسواقها، حتى خبراته المتنوعة والمجهضة جميعا وقصته مع الجنس تقول أشياء كثيرة.
وقد كان فشله مع سناء لمدة شهرين واضحا ومهينا.
-ألا تحس أتركنى فى حالى . أرجوك
إلى أن قالت والجنس قريب وجاهز ومنتظر
- طلقنى كن رجلا مرة واحدة (ص 126)
ثم تتطور تجربته مع سناء على الوجه التالي:
ينقذه الشاب الشاذ جنسيا حين يثيره -رغم رفضه من حيث المبدأ-، ولكن نجاحه كان هذا قصير العمر بشكل دال، وفى ذلك نقول:
إنه لم يستطع أن يقتحمها إلا بعد أن آثاره الشاذ جنسيا الذى عرض نفسه عليه، لكنه نجاح لم يدم طويلا.، وفى هذا الموقف نقول:
(1) أنه بالإثارة الخفية من الشاذ رغم الرفض الظاهر – استطاع أن يخترق حاجز العلاقة بالآخر، وهذا دليل على أن المشكلة هنا – وعادة – هى فى العلاقة بالآخر وليست فى العلاقة الجنسية مع جنس مخالف حتما.
(2) أنه لما أثيرت فيه الشبقية الذاتية حين رأى نفسه فى الشاذ جنسيا نجح، فكأنه لم ينجح مع سناء، بل نجح مع ذاته، قد كان يضاجع نفسه إذ يضاجع سناء، لكن هذا لم يدم بعد ذلك مما يثبت أنه لم ينجح مع سناء، بل مع ذاته، التى سرعان ما طغت عليها الذات الجثة فى الداخل.
(3) إن العلاقة لما نجحت وضعتهما فى اختبار أعمق، فأعلن فشلها إذن فقد كانت العلاقة التى وصفها مجاهد بأنها تكافلية
“تعطين الحب والأمان، وأعطى العبادة والإذعان” أو “ستكونين الحياة وأكون سلبها”
وهذه ليست علاقة تكافلية بالمعنى الإيجابى وإنما هى علاقة تقع ما بين العلاقة المواتية والعلاقة الطفيلية ، وبالتالى فشلت حين قرر أحد أطرافها (سناء) أن ينجو بجلده، وإن كان الفضل يرجع أيضا لعجز وإصرار الراوى على خيبته المقصودة.
نرجع إلى تفصيل هام بالنسبة لدور الجنس قصير العمر، حين نجح بعد أن أثير بالشاذ (لأنه آخر ذاتى فى الأغلب)
: “كان برغم إنقسامه، أو ربما بسببه، شقيقا بالروح”…
”لم أكن مستعدا لتلبية ندائه لمجاراته فى جنونه الإنقسامي”.
أثار فيه هذا الشاذ مواقف ودفاعات مختلفة منها:
أولا: التقمص
(شقيقا بالروح)،
ثانيا: عمق الرؤية
ص 126: وبدا لى إمعانه فى تعميق التباسه أمرا لا يليق بكرامة الإنسان، وموقفا مضادا لكبريائه، مهما كانت مقتحمة بجهل وقساوة الوحوش الصغيرة
ثالثا: التعاطف
”قلبى يبكيه دون أن أسمح لدموعى بتحويل الموقف إلى مهاترة عاطفية سخيفة”
رابعا: الرفض:
(كرهت ضعفه وهوانه، وأنا أفكر فى عاهتى)
وأخيرا: بإطلاق الوجه الإيجابى فى العلاقة بالآخر بحفز الاقدام.
“زمن البكاء والشكوى قد آذن بالرحيل، وأن زمنا للعنف والتقتيل يوشك أن يظل روحى لعتامته”.
وهنا لمسة جديدة للعلاقات البشريةعادة ما تقابل ممن يسمعها منى بالرفض، وهى ما يتعلق بدورالقتل (العدوان) فى العلاقات البشرية.
والكاتب هنا حين يرسم هذه المراحل التى انتصر بها على عاهته يجعل الحل مرتبطا برفضه لسلبيته. ”.. أن زمنا للعنف والتقتيل يوشك أن يظل روحى بعتامته.
إذن فإطلاق سراح القتل هو الذى تحقق من خلاله رفض الوجه السلبى فى الشذوذ رغم التقمص الكامل به، (كان برغم إنقسامه شقيقا للروح)،
وهو الذى جعل إنتصابه
(يكاد يفجر شظايا جسده، كما جعل شبكته فولاذيه،
وهو الذى أعانه على ألا نستسلم للغل الذى انطلق من نظرتها (سناء) إذ قصدت أن تكويه بها.
”وبقوة غضبى الأزلى اقتحمتها،
وهتكت سترها الذى ظل متأبيا
عنيدا كل تلك الدهور”.
لكن بالرغم من هذا النجاح المحدد
”غرقنا فى راحة لذيذة كسلى،
كمصارعين انتصرا معا”،
وإنقلبت تلك المرأة
الجدار التى تكوى بنظرات الغل
إلي
تلك التى “أثارتنى رقتها”،
فأندفع فى جنس لا يهدأ،
أهم ما فى هذا أنه بعد كل هذا النجاح أصبح الجنس أشبه بالوسواس القهرى
”مطاردا على درب شهوتى العنيدة
التى لا ترتوى ولا تموت”
”أنت إنسان غريب ألا تشبع أبدا.
إذن فقد انفلت الجنس منه
إنفصل عنه ربما لأنه انطلق عبر ثورة إطلاق “العنف والتقتيل”
وإذكاء “قوة الغضب”،
ونفذ إلى أعماقها، لكن بدلا من أن يرسى علاقة ما ذهب يشرب من ماء مالح
”صحراء روحى القاحلة لايرويها كل مائك”؟
وحين ينفصل الجنس عن الوجود الكلى يصبح جسما غريبا مشحونا بذاته لذاته، وربما كان هذا هو ما أسماه:
”مائه العكر” أو “دمه الملوث”.
وسناء تلتقط ذلك تحديدا، وترفضه، وهو يعجب لرفضها إياه:
”لماذا تريدين لى أن أخجل من دمي؟ أن أهيل التراب على بئر
لذتى الذى ما سمم أحدا سواي”
فهل صحيح أنه ماسمم أحدا سواه؟
وهل يمكن أن يكون قد التقط ذلك فتمنى عدم الإنجاب
وأين أحلامه بالعمل اليدوى البسيط وإنجاب طفل.
ثم يردف
”كم كنت عادلا معك لأننى لم أسمم دمك
يكفى هذا لنقول:
إن الجنس لم ينجح أن يكون عاملا تواصليا،
ويؤكد هذا أيضا تجربته مع نجوى (8).
فمن ناحية هى التى دعته إليها
ومن ناحية أخرى كانت هى التى توقفت لذتها تثبيتا على جنس محرم مع خالها فراحت تطلبه (لا تشعر بالذنب إزاءه) حتى مع زوجها، فلا تجده فتثبتت عند اشتهاء هذا الألم الثاقب
فراحت تستعمل جسدها مغتربا منقوصا بدلا من سفسطة عقلها، فكانت تستعمله دون أن تسمح بالنهاية أعلى القمة
وعندما تفتح مسام وجودها،
أصطدم بحاجز شفيف صلب،
لا أعرف كيف ولماذا تقيمة
فى وجهى قبل لحظة الحسم، ومع التهديد بالترك، ونجاحه واستسلامه لما أشارت به من إيلام
وفى لحظة واحدة كنت قد فتحت قلعتها
وهدمت آخر تحصيناتها
لكن ذلك أيضا لم يمثل علاقة إنسانية طبعا وإنما كان أشبه بالتدريب العنيف الناجح لمباراة لم تقم أبدا. وهكذا عجز الجنس عن أن يكون تواصلا، ولم يتعد لعبة النصر السلطوى والاقتحام الرجولى العاجز عن الامتدادإلى النبض البشرى المتكامل.
وحتى الجنس الذى كان فى خلفية القص، كان منفصلا وجسما غريبا لا تواصلا جسديا
سواء مع سعاد الشغالة
أو بالسمع مع ممدوح ابن الخالة
أو تبرير االزواج أبيه الثانى،
أو ذلك الجنس الذى مارسه والدة ليلة واحدة فأتى بأخته نهى المصروعة (9)
خلاصة وإضافات الجزء الثاني
أرجو أن أكون قد استطعت أن أقدم فى هذا الجزء كيف عرض هذا العمل تعقيد العلاقة الإنسانية (العلاقة بالآخر) بالموضوع بشكل شديد التكثيف شديد العمق رائع التداخل فى الحضور، وأوجر ما حاولت تقديمه فى هذا الجزء فيما يلى:
أولا: إن العائش منا فى الظل هو كائن بشرى له كل معاناة وحضور وآلام ومخاوف وطموح وآمال وتعدد وحركية وتطور وخلود إنسان القمة أو الإنسان فى النور أو الإنسان الشاخص فى المقدمة.
أفشل كل المحاولات الجنسية المنفصلة عن الكل، وللأسف فإن موضوع الجنس ليس واضحا حتى عند المثقفين والمختصين اللهم إلا من الناحية الفسيولوجية، وإلى درجة أقل من الناحية النفسجنسية، فى حين أن الجنس من المنظور التكاملى هو أكبر من أى تصور، ولعل فرويد كان يقصد ذلك فى بداية تنظيره، لكنه ابتعد هو، والأكثر ابتعد تابعوه عن توظيف الجنس لغة، وتكاملا.
ولن نبدأ بمتابعة تسلسل التاريخ الجنسى مع تاريخ الراوى، ولا مع ظهور ظاهرة الجنس طوليا فى الرواية، ولكن نبدأ مع سناء فمنذ أحلام القبلات فى طنطا،
”مستدعيا إرادة العشق الذى استولى على لسنوات ونحن نسير معا فى شوارع طنطا وأسواقها، حتى خبراته المتنوعة والمجهضة جميعا وقصته مع الجنس تقول أشياء كثيرة.
وقد كان فشله مع سناء لمدة شهرين واضحا ومهينا.
- ألا تحس أتركنى فى حالى . أرجوك
إلى أن قالت والجنس قريب وجاهز ومنتظر
- طلقنى كن رجلا مرة واحدة (ص 126)
ثانيا: إن العلاقات الإنسانية التى تبدو غير سوية هى أساس فى التركيب البشرى فى تركيبتها الأساسية، وقد أظهرها هذا العمل باستعمال أدوات الإبداع بحذق شديد، لكنه لم يخترع علاقات شاذة أو يفتعل تركيبات خاصة بأبطاله، لا يستثنى من ذلك الشذوذ الجنسى، أو مضاجعة المحارم، أو العنة، أو ارصاصات القتل.
ثالثا: إن اختزال العلاقت الإنسانية إلى تسطيحات ثنائية (أب وإبن: صراع الأجيال..إلخ) أو ثلاثية أب وأم وإبن (أو بنت) (أوديب- إلكترا ..إلخ) وقراءة بعض الأعمال من خلال هذه التركيبة المختزله هو نوع من التبسيط المخل بفهم النفس الانسانيه.
رابعا: إن التنويعات والاحتمالات التى تناولها هذا العمل فى عرضه واختباره لما هو إنسانى للشخص العادى حالة كونه فى الظل هو أعمق من عدد هائل من المراجع المتخصصة فى تشريح النفس الإنسانية.
خامسا: يبدو أن مشاكل الانسان المعاصر فى عصر “العولمة” “والشفافية، والمشتبكية” سوف تتخطى القيم التى ألفنا تناولها سواء قيم البطولة أو الوطنية أو العدل أو الحرية أو الحب أو البطولة، وهى تتخطاها لا بمعنى إهمالها أو التقليل من شأنها، ولكن بمعنى أن هذه القيم لتتحقق، لابد من العمل فيما تحتها وحولها وأعمق منها حتى لايلهينا الاستغراق فيها عن رؤية أصل التشويه الذى لحق بالطبيعة البشرية.
سادسا: إن الحب بمعناه المعروف سواء كان حب حنان أم سناء أم نجوى أصبح قصير العمر، وهو لا يثرى الطبيعة البشرية بأى قدر يناسب تعقيدها الذى عرضته الرواية، وإن كانت الرواية لم تقدم بدائل ممكنة،
فلا حب الذوبان فى المجموع
ص 118 مجاهد
“… ولأول مرة فى فى حياتى
أرانى نقطة ذاتية فى بحر مائج وتراجعت أحاسيسى بالغربة”
ولا الحب الذى بدا وكأنه يحاول تخطى كل الحواجز حتى حواجز الدين (حب حنان)
ولا الحب الجسدى المنفصل عن الحركة الدؤوب لإرساء علاقة.(حب نجوى)
والعلاقات البديلة ليست جاهزة على مستوى الممارسة الواقعية
والمؤسسة الزواجية مضروية بلا هوادة، كما ظهرت (ا) فى الأسرة الكبيرة (الأب، وزواجه الثانى الذى لم يغنه عن حاجته للزواج الأول بلا طائل فى الناحيتين)
(ب) عندما تمثله “حنان” وهى تدعى احتقارها (المسيحى) للحم والدم
نعم احتقرهما، ولكنى أخافهما
فيكمل هو لنفسه.
وفى يوم غير بعيد سيصلك الفارس المعتبر
من دائرتك الحميمة وكنيسيتك المقدسة
سيمتطى صهوة أشواقك وفانتازياتك
الدينية ليندفع بك على طريق اللحم والدم الخ”
سابعا: إن الجنس إذا فقد وظيفته التواصلية واقتصر على دوره اللذى أو الاقتحامى أو التفريغى أو الرمزى يصبح جسما غريبا لا ينفع إلا للتناسل أو التسكين والتأجيل.
******
(2) إشكالـة التواصل
صعوبة التواصل حتى بالجنس والكتفاء بالعطش
فى يقين العطش. إدوارد الخراط
(مقتطفات من النقد دون تعليق)
مدخل:
تبدو العلاقة مع الآخر فى الحب والجنس والزواج والسياسة والمجمتع أمرا بديهيا، وهى ليست كذلك، ويحاول علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعى، وعلم نفس الجماعة، والتحليل النفسى، وعلم السياسة، وعلم نمو الأطفال، وطب نمو الأطفال، والطب النفسى: أن يكشفوا عن خفاياها فى محاولة حل بعض تعقيداتها، وتنجح هذه المحاولات بدرجات مختلفة . ولكن الإبداع الأصيل يتجاوز كل هذا ليضعنا فى بؤرة الإشكال.
وهذه القراءة تحاول أن تكتشف- من خلال نص يقين العطش لإدوار الخراط -عمقا خاصا لهذه العلاقة، إذ تستلهم منه حضور تفاصيل فرض نابع من النص اهتداء بمدراس نفسية نمائية تطورية أغلبها، ليست لها علاقة مباشرة بالتحليل النفسى الفرويدى، كما أنها أقل حظا وشيوعا عنه وعن الطب النفسى الوصفي(4).
الفرض
ويتكون من خطوات بعضها مترتب على بعض على الوجه التالي:
(1) إن العلاقة التامة الموضوعية مع آخر حقيقى مستحيلة (آخر حقيقي= ليس مسقطامن داخلنا، ولا مزيــفا بتشويهه بإدراكاتنا المتحيزة، أو بحيل دفاعاتننا – ميكانزماتنا العامـية).
(2) إن السعى المستمر إلى عمل مثل هذه العلاقة -رغم استحالتها فى صورتها الكاملة – هو ممكن إلا إذا حال خوفنا وانسحابنا دونه (5).
(3) إن تبرير الانسحاب من هذه المحاولة (كما وردت فى: 2) أو إبدالها بعمل علاقة مع “موضوع ذاتي” (داخلي/ مسقط)، أو مع موضوع مصنوع (بالحيل الدفاعية العامـيـة والإدراك المزيف) هو الخدعة التى تجعل من الممكن مستحيلا (الممكن: هو السعى رغم التهديد بالاستحالة، التى لا تتحقق – فعلا – إلا بالعزوف عن المحاولة)
(4) إن الحل (البيولوجي/ النفسى) يبدأ بالتأكيد على ضرورة الاستمرارية من خلال مرونة وتطوير ” الدخول الخروج “مع “موضوع” (آخر) يتخلق باستمرار فى اتجاه اقتراب أكثر فأكثر بعد كل جولة، وعلى الرغم من أن هذا البرنامج هو إشارة أصلا إلى الدخول إلى الرحم (النكوص للنمو) ثم الخروج منه (= إعادة الولادة)، فإن هذا البرنامج قياسا، ورمزا، وواقعا، يشير إلى مرونة الحركة (مع ذات الشخص أو غيره)، الحركة المصاحبة برعب الاختفاء (خوفا من الدخول بلا عودة =الفناء) وآلام الولادة (خوفا من الخروج بلا رجعة = الألم المعجز)
وحتى ينجح هذا البرنامج” الدخول الخروج” فى تحقيق الممكن (التعامل مع موضوع تزداد موضوعيته)، ومن ثم تخليق الذات باستمرار، لا مفر من أن نضيف الفروض الفرعية التالية : أ- إن العطش إلى “الاخر” (الممتد حتى موضوعية المطلق) هو دافع موجود ليبقى، وليس فقط ليروي
ب- إن العلاقة بالآخر- كوجود حقيقي-هى هدف لا يمكن إتمامه،كما لا يمكن التوقف عن محاولة تحقيقية
جـ- إن مبدأ “الحركة والإمكانية “وليس مبدأ “الكينونة بالإشباع” هو سر تخلق الوعى البشرى إلى أعلي
ء- إن غاية النمو -التى لا تتحقق- هى استمرارية نمو الذات نحو موضوعية تسمح بوجود يقينى مبدع دوما
هـ- إن النجاح النسبى فى ذلك يسمح بتوسيع رحابة الموضوع (الموضوعى)-وليس إبداله- ليشمل الكون، والمطلق (الله) دون التخلى عن التفرد الحركى المبدع.
…………………………..
………………………….
يبحث عن شئ (ص:132)
وكأنما ينقل هذا الوحش (13) له رسالة ما، وكأنه لا يحتاج إلى حل ألغازها، لكن النتيجة هى أن الموج الملح ظل يضطرب حوله والنهاية:
” لو رويت حتى الغصص ما ازددت إلا يقينا بعطشى المقيم” (ص:134)
لكننا نحتاج إلى حل ألغاز هذه الرسالة، هل هذ الوحش هو صورة الذات ؟
هل هو الذات الداخلية المشوهة بالعطش المالح؟ وما الذى جاء بالارتواء هنا -حتى الغصص - دون شوق، ودون آخر، ودون سعى أو محاولة اقتراب ؟
ربما ثمة مجال لأمل الارتواء من الحب، من الشوق، من الجسد، من الجنس، أما الارتواء والموج الملح محيط، والوحش الغريب يطل ليختفى، فهذه إشارة أخرى تحتاج إلى وقفة أخرى تقربنا من أصل القضية فى الداخل، وتبرئ – إلى حد ما – ساحة مسئولية “الموضوع” الخارجى عن إحداث هذه الصورة برمتها، والتى ليس من بين ملامحها عامل خارجى، أو موضوع مهدد أصلا
لعل الحل هو فى أن نتبين أن يقين العطش هو غيراليقين بالعطش الذى انتهى به هذا المنظر على شاطئ أبو تلات، اليقين بالعطش ربما يعنى أنه لا فائدة من الارتواء، هو معرفة حقيقة لزوم العطش، أما يقين العطش فهو اليقين بأن الارتواء ليس ضد العطش ولكنه حق العطش، مكمل لعطش آخر يعــد بيقين لا يطفئ العطش، ولكنه يجدده
…………………………..
………………………….
وفى الحقيقة أنه هرب إلى دون كيشوت، فلما فشلت اللعبة هرب أيضا إلى دون جوان (المقلوب) ولم ينجح بأيهما (لأنه لا دون كيشوت، ولا دون جوان الأصليان نجحا) – وهما (الكاتب و ميخائيل معا) قد فقسا هذا الفشل، على الرغم من محاولته إعطاء شكل البطولة والتمرد والثورة لهما معا.
كلاهما خرج ليتحدى الشرائع والقوانين وربما الآلهة (ص:128)
ثم (ص:166) عاد يقولها بالألفاظ ردا على تساؤلها”
كيف تفسر إذن أنهن كثيرات ؟ قال: أبدا كلهن واحدة، كلهن أنت (ص:166)
فهل هذا يعنى أنه عمل معها علاقة، أم معهن، أم لا “معها” ولا “معهن”
فتكمل هى منبهة إلى أن مثل هذا قد يلغيها ككيان متـفرد:
” أنت تعاملنى كأداة جنسية بامتياز” قال: أنا أعاملك كمبدأ كونى، امرأة واحدة من وراء ألف قناع.. (ص:166)
……………………..
……………………..
فسرعان ما بادر بتغييب هذا الجسد المعشوق المرعب، بأن قال: حب الجسد بالمطلق، أعنى جسدك هنا ليس إلا جسد العالم،ء كل الرجال كل الأشياء، جسد السماء نفسها جسد النجوم .. (ص:83)
والرعب من الجسد الحى (اللحم الدم- الموضوعى) هو رعب من عمل علاقة حقيقية بآخر موضوعى، لأنه يهدد من خلال الحضور الفيزيقى المستقل- بإعلان وتأكيد أن هذا الكيان “المجسد الآخر” (محاطا به فى حضن، أو مشتبكا معه فى حوار حسى أو مندمجا فيه فى اتحاد) هو “آخر”، إذ هو جسد له حجم وحضور مستقل، ومن ثم هو آخر (ليس آنا)، وهذا هو رعب الشيزيدى الأكبر، والذى يحاول إنكاره، وتحويره، وتجنبه بكل الوسائل، وأهمها وأخفاها إبدال هذا الجسد الحى، بجسد مصنوع من خياله، يشكله تماما كما يريد (أو يخاف) أو يحور به موضوعا مسقطا أساسا من داخله، أو يضيف وينتقص ويغير ويحور جسدا حيا خارجيا لا تكون وظيفته إلا بمثابة الصلصال أو الطين الذى ينحت منه النحات تمثاله، ومسألة أن الشريك من الجنس الآخر هو كيان داخلى أساسا مسقط على من نزعم حبه مسألة لها جذور فى فكر كل من كارل يونج، سيجموند فرويد على حد سواء، وإذا ما تمادى الإسقاط والتشكيل الخيالى إلى درجة قصوى -مثلما هو الحال عند الشيزيدى وكما ورد فى هذا النص- فإنه يترتب على ذلك أن فعل الجنس مع جسد آخر لا يكون إلا بمثابة استمناء نرجسى بشكل أو بآخر، وهكذا يصبح الموضوع مزاحا ومخفيا داخل هذاالتجسيد الخيالى حتى لو تسمى بأسماء المحبوب والمعشوق وماشابه، وقد انتبه حسنى حسن إلى مثل ذلك فى أعمال الخراط الأخرى حيث يتحدث عن قضية الخراط التى تظهر وهو يتناول هذه المنطقة من العلاقة وهى “… الوفاء بأمله فى تجاوز الإنسان الفرد لمحنة وجوده الشخصى فى جسد يسجنه داخل حدوده، ولا يكف مع ذلك عن نشدان التوحد والانصهار فى جسد آخر غائب تماما وهو – حسنى حسن ـ يكرر نفس المعنى إذ يشير إلى أنه كلما زادت المناجيات الحسية اللاهبة كان ذلك مؤشرا على أن اللحظة الجنسية الحقيقية مرفوعة، يأتى ذلك من نص سابق (رامة والتنين) “…وفى هذا السياق إنما انظر إلى تلك المناجيات الحسية اللاهبة التى يكابدها ميخائيل ويرفعها إلى رامة، هما يطاردان معا-كل فى اتجاه- لحظة جنسية مرفوعة تماما.
[1] – محاضرة ألقيت فى منتدى أبو شادى الروبى (لجنة الثقافة العلمية) 15/12/1998.
[2] – سبق أن حاولت تعريف الثقافة العلمية لتتميز عن العلم فى مقال عن الثقافة العلمية والعلوم النفسية، ثم فى سلسلة مقالات فى الأهرام، وكل ذلك ملحق بهذه المحاضرة فى ملحق مستقل بعنوان “عن الثقافة العلمية”
[3] – مازالت كلمة ثقافة، وما يقابلها فى الإنجليزية cultureتثير إشكالية عند الخاصة والعامة على حد سواء، وفى حديث قريب مع أ.د. جابر عصفور سأله د. عمرو عبد السميع: (الأهرام العربى العدد 90 بتاريخ12 ديسمبر 1998)
دعنى أسألك سؤالا مباغتا..لماذا وزارة الثقافة، فالموسوعة الفرنسية -مثلا- تعرف الثقافة بوصفها لفظا كليا مرادف للحضارة يشتمل على العمل المهنى والمجهود البدنى، ومن ثم فإن وزارة الثقافة هى تعنى فى أحد مفاهيمها وزارة ككل الوزارات، وبالتالى دعنى أكرر السؤال لماذا توجد وزارة للثقافة،
ورد عصفور قائلا: “هى الوزارة المعنية بالتربية الإبداعية لقدرات الأمة” …إلى أن قال “الثقافة هى الرؤية الشاملة للحياة، على نحو يستلزم أن ينتقل الإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية” ….الخ.
وعندى أن الثقافة هى جماع وعى مجموعة من الناس فى وقت بذاتها فى بقعة بذاته والمثقف هو من يستوعب ويمثل هذا الوعى بقدر أكبر،
فثمة ثقافة تسمى ثقافة الخرافة، وثقافة الكلمات دون الفعل (ثقافة العرب الحالية) والثقافةالسلفية والثقافة العلمية، وكل هذا كان وما يزال يشغلنى وأنا أحاول أن أمارس دورى فى هذه المؤسسة هكذا
[4] – لا أظن أن استعمال كلمة “الميتافيزيقا ” أصبح يستحق نفس المشروعية التى كان يتمتع بها سابقا بعد أن امتدت الفيزيقا إلى كل ما بعدها !!! فهل عاد شيء إسمه “ميتا” “فيزيقا “؟
[5] – لأننى بدأت أشك فى قدرتى على توصيل هذا المفهوم عن الثقافة، وأيضا منطلقاتى الخاصة من خلال خبراتى، فضلت أن يكون فى متناول الحضور نسخة من المحاضرة -بالإضافة إلى محاولات تعريفى للثقافة العمية- آملال فى استمرار الحوار – بين الحضور وبين المحاضرة، فيما لم أستطع توضيحه أثناء اللقاء
[6] – أذكر أن العقاد ذكر أن الذى ينشأ فى الريف تتاح له فرصة أن يتثقف جنسيا من سلوك الحيوانات والطيور الداجنة، بحيث لا يحتاج إلى ما يسمى الثقافة الجنسية التى فشلت النظم التعليمية - عندنا على الأقل أن تقدمها بأى قدر من الموضوعية للأطفال خاصة.ويبدو أن فرصتى بدأت من مثل ذلك
[7] – Michel Foucault History of sexuality
An Introduction Transtlated by Robert Herely Penguin Books Reprint 1984
[8] – كتب د. أحمد شوقي(زميلنا فى اللجنة) فى مجلة سطور العدد سبتمبر 1998
والتاريخ يبدأ بالبيولوجيا
…بدأت الحكاية بجزيئات عضوية تستطيع أن تكررنفسها، بعد تاريخ طويل من التطور الكيماوى وذلك بأن يعمل أحدها كقالب يتكرر عليه الثانى، أول حالة تزاوج فى تاريخ الحياة
بعد التزاوج جاء الازدواج الذى يسمح بتكرر أكثر دقة ..يسمح بتوارث المعلومات المتضمنة فى هذه الجزيئات، وككل إنجاز بيولوجى يتم تثبيته وانتشاره بالانتخاب الطبيعى، وتجمعت الجزيئات ونواتج نشاطها فى تكوين معقد أكثر كفاءة: الخلية الحية الأولى، الشبيهة بالبكتيريا الحالية وتعلمت الخلايا الدرس اذى يمارسه الإنسان الآن بعد بلايين السنين: تبادل المعلومات لتكوين توليفات وراثية متنوعة، أكثر قدرة على مواجهة الظروف الصعبة، ….
قبل ذلك كان التكاثر لا جنسيا….لكن التنوع الذى ينتج عن التكاثر الجنسى يزيد من القدر على التكيف
[9] – أشهر مثل ذلك وإن لم يكن أحدثه هو تقريركينزي
[10] – أثناء الممارسة الإكلينيكية، وفى قمة السرية والثقة، أعجز كثيرا عن أحصل على إجابات ذات دلالة عن مسألة ذروة الشهوة، وكثير من السيدات اللاتى قررن أنهن يتمتعن بذروة الشهوة يتراجعن فى ذلك بعد سنين من النضج والوصول إلى ذروة أخرى فأخرى وهكذا، ومن خلال مثل هذه الملاحظات، وبالمقارنة بطريقة ملء الاستمرارات لا بد أن نتحفظ على أرقام الإحصاءات الانتشارية، ولا نستسلم لها أو نروج لها بطريقة تلقائية.
[11] – ألحقت نقدا كاملا عن تصنيفات الجنس كما أوردتها فى نقدى لمجموعة محمد المنسى قنديل “بيع نفس بشرية – ثم أضفت قبلها - مقتطفات وشواهد من أكثر من عمل قمت بنقده، فيما يتعلق بكل من الجنس، والتواصل (الملحق3)
[12] – ختان الإناث جريمة إنسانية، وليس خطيئة مجرد جنسية، ولكن الختان النفسى الذى يحدث للإناث فى الشرق والغرب أكبر من الختان الجسدى، فماذا لو سمع الحاضرون بحثا يثبت فيه أن المتختنات نفسيا (بالدفاعات والقهر وزيف المعلومات) أكثر برودا من المتختنات جسديا، وبنفس القياس ماذا لو سمع الحاضون بحثا إحصائيا يشير إلى أن المنقبات أكثر استجابة جنسيا من المحجبات اللاتى هن بدوهن أكثر استجابة من السافرات اللاتى هن أكثر استجابة من العاريات، كل هذه أمثلة، ولكننى أعرض فى هذا الهامش تسؤلات حول طبيعة تلقى ما لا نتوقع، لا أكثر .
(ملحوظة: للأمانة أعترف أن ممارستى الإكلينيكية تشير إلى صحة مثل هذه الافتراضات)
[13] – أنظر ملحق (3)
[14] – كثير من المناقشات التى دارت حول مسألة اللغة المستعملة فى تناول المسألة الجنسية حتى فى سياق أدبى كان وراءها بحث فى دلالات ذلك عبر التاريخ من أول الموقف من عوليس جيمس جويس حتى كتابات د،،هـ لورنس
هذا بالإضافة إلى دلالة ما لحق بديوان الحسن بن هانئ، وألف ليلة وليلة، وغيرها من مصادر التراث.
وقد تراجعت فى آخر لحظة عن أن أقتطف استهلال هذه المحاضرة من كتاب الروض العاطر فى نزهة الخاطرتأليف قاضى الأنكحة أبى عبد الله محمد بن محمد النفزاوى إذ يقول ” الحمد لله الذى جعل اللذة الكبرى فى ..إلخ”، وسوف أكتفى بالإشارة إلى خطاب الوزير الأعظم “عبد العزيز صاحب تونس وهو يدعوه إلى تأليف الكتاب بعد اطلاعه على كتاب سابق (تنوير الوقاع فى أسرار الجماع)، يقول الوزير “..لا تخجل ..فإن جميع ما قلته حق،..(و) هذا العلم …يحتاج إلى معرفته ثم يضيف: ولا يجهله ويهزأ به إلا كل جاهل أحمق قليل الدراية”….الخ
[15] – (قراءة مصطلح: من مجلة الإنسان والتطور عدد أكتوبر – ديسمبر 1998)
[16] – فضلنا تعريب لفظ schizoid إلى “شيزيدي” بدلا من الترجمة الخاطئة “شبه فصامي” وكذلك هذا أفضل من الاختزال المخـل إلى لفظ انطوائى، والظاهرة الشيزيدية تعنى عجز الإنسان عن عمل علاقة بالآخر، وهذا العجز الظاهر هو نوع من الاختيار الغائر، فهو فى عمقه يشمل كلا من العزوف عن عمل هذه العلاقة، والخوف منها فى آن (أنظر بقية المتن).
[17] – “الأحداث الدامية فى قصصى المنسى قنديل” ابداع، عدد 12، السنة الخامسة، ص 23.
[18] – علامات التعجب إضافة طبعا!!
[19] – د. على الراعى، 25 ديسمبر 1987، محمد المنسى قنديل، وثلاث من قصصه القادرة، المصور، عدد 3298.
[20] – كان من أضعف نقاط تصوير هذا القهر: تكرار الصورة القديمة للمدرس الذى يضطر إلى مغازلة بنت الناظر العانس (ص 27) (تكرار: السكرتير الفني- سك على بناتك إلى آخره…)
[21] – أردف الكاتب تعليقا هاجسا على لسان “مصطفي” يفسر هذا الموقف بأنه “… خارج الحدود كل شئ مباح.. ” وهو من وصليلته التزيدية (انظر بعد).
[22] – حين أكرر “طفلة” لا أعنى السن بداهة، وقد استعرت الصفة أساسا من حجم الفلبينية الذى أوحى للكاتب عدة مرات بهذا الوصف. لكن المعنى يتجاوز الحجم طبعا.
[23] – خيل إلى أن كلمة “حياتك” هنا تزيد مخل.
[24] – Janow A. (1970) Primal Scream، New G.P. PPutman،s Sons
[25] – يزعم فرويد- بحق- أن الأنثى (إئ هى طفلة فامرأة) فى محاولة انتصارها على افتقارها إلى قضيب أسوة بالذكر (أحسب القضيب Penis Envy.) فإنها تجعل من جسدها كله قضيبا، أو رمزا للقضيب.
[26] – من أشهر هذه الأمثلة انشقاق “السيد أحمد عبد الجواد” فى ثلاثية نجيب محفوظ.
مرحبًا!
اكتشف ثورة توليد المحتوى مع هذا الذكاء الاصطناعي الذي يحدث طفرة!
هل أنت متعب من قضاء ساعات في صياغة النشرات الإخبارية المثيرة والمواضيع المؤثرة على تويتر؟ هل تتمنى حلاً فعالًا يقوم بتوليد محتوى عالي الجودة تلقائيًا في لمح البصر؟
لا داعي للبحث بعيدًا لأن هذا الذكاء الاصطناعي الثوري هنا لتلبية احتياجاتك! باستخدام تقنية متقدمة، كل ما عليك فعله هو إدخال رابط موقع أو موضوع، وسيقوم الذكاء الاصطناعي بتوليد رسائل تسويقية مقنعة وتغريدات ذات تأثير فورًا.
إن ضرورة عرضنا واضحة! في عالم المنافسة اليوم، من الضروري جذب جمهورك وجعله يشعر بالانخراط بسرعة. تلعب الرسائل التسويقية القوية دورًا حاسمًا في نمو عملك.
ومع ذلك، يمكن أن يستغرق الأمر وقتًا وجهدًا لإيجاد الكلمات المناسبة وجذب جمهورك. هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي! بفضل قدرته على تحليل وفهم البيانات على الفور، يمكنه توليد رسائل تسويقية مقنعة ستساعدك على زيادة تأثيرك وتحقيق نتائج استثنائية.
تخيل سرعة توليد النشرات الإخبارية عالية الجودة ورسائل التسويق المثيرة والمواضيع المؤثرة على تويتر باستخدام هذا الذكاء الاصطناعي الثوري. لا تحتاج بعد الآن إلى إرهاق عقلك في البحث عن أفضل عبارات أو قضاء ساعات في تحسين محتواك. احفظ الوقت الثمين وزيّد إنتاجيتك بالسماح للذكاء الاصطناعي بالعمل من أجلك!
علاوة على ذلك، يتم تدريب هذه الأداة لتوليد نصوص تسويقية بأقصى درجة تشبه البشرية بأي لغة.
انقر الآن على الرابط التالي لمعرفة المزيد عن هذا الذكاء الاصطناعي واكتشاف كيف يمكن أن يحدث طفرة في نهجك التسويقي: https://tinyurl.com/3t4j5vrw
لا تدع منافسيك يتقدمون. استغل هذه الفرصة الفريدة للاستفادة من قوة الذكاء الاصطناعي لتوليد رسائل تسويقية قوية وجذابة. مستقبل التسويق بين يديك. اتخذ الإجراء الآن وقم بثورة في استراتيجيتك الاتصالية!
انقر هنا لمعرفة المزيد: https://tinyurl.com/3t4j5vrw
مع أطيب التحيات