نشرة “الإنسان والتطور”
13-6-2011
السنة الرابعة
العدد: 1382
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (4 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
الفصل الثالث: فى القفص
قال الحكيم:
– هى حكاية فتى ضاق بسجن التقاليد والنظم، فآمن بكل ما اقتنع به وترك ما دون ذلك، والتزم بتنفيذ ما آمن به، وعاش يتنقل من نظام إلى نظام ومن مبدأ إلى مبدأ، ينبهر بكلٍّ فترة من حياته، ثم يكتشف عند التطبيق أن المسافة بين ما هو مكتوب وما هو واقع أكبر من كل ما يمكن أن يتصوره، فأخذ ينتقل من النقيض إلى النقيض حتى كفر بنفسه، وفقد أمله فى المستقبل بل وفى تطور الإنسان، وجاءنى يتساءل عن كل هذا بعد أن فقد عقله أو كاد، بالرغم من أنه كان يتصور أنه اهتدى إلى العقل الكامل، ما دام هو الذى اختاره بالكامل، لكنه اكتشف أنه ربما ضل الطريق وهو لا يدرى.
قال الفتى:
– وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
– حين تهتز القيم، وتصبح مواصلة الحياة عملية صعبة بل خطيرة، تحمل من التهديد أكثر مما تحقق من الراحة والارتواء، قد يختار الإنسان الهرب، بل إنى قابلت بعض الأصدقاء المرضى الذين حاولوا أن يختاروا طريق الجنون فلم يستطيعوا إليه سبيلا.. وكأنه هدف بعيد المنال، وقد تعجب لقصة ذلك “السارق” الذى دخل “سجن مصر” بعد أن عجز عن دخول ساحة الجنون.
قال الفتى:
– لقد بدأ كل هذا الحديث يثيرنى حتى أنى احترت أيهما أسمع أولا، فلتقص على حكاية ذلك الفتى الذى فشل أن يجن، فما أروع أن يفشل الإنسان أن يضل…
قال الحكيم:
– … إن هذا كله نابع من مشكلة الاختيار، وفى خبرتى وجدت أن الإنسان يمكن أن يختار متى كان سليما، متى كان واحداً صحيحاً، له كيان مستقل، ولكى يكون هناك “كيان” لابد أن يتخلص من صراعات عظيمة تتحكم فيه دون علمه، ليس مجرد صراعات الخير والشر، ولكن صراعات أن “يكون” أولا “يكون”، ثم أن يكون أو يصير، وهو بالتالى يختار كيف يكون، ولابد لتحقيق ذلك أن يتخلص من حب ذليل ومن حب مسيطر، وأن يحافظ على حب قوى مستمر يعطى بلا خوف ويأخذ بلا حذر، ولابد أن ينتصر على أطماع صغيرة وأهداف زائفة، ثم بعد ذلك يستطيع أن يقول “أنا أختار” ثم هو قد يصيب وقد يخطيء.
قال الفتى:
- ولكن التخلص من كل هذا أمر عسير جداً، بل هو فى نظرى مستحيل.
قال الحكيم:
- هو كذلك، إذا أردت الكمال، ولكنه ليس كذلك إذ كانت الأهداف المطلقة لا تلزمنا بضرورة تحقيقها فى صورتها المثالية فورا، ولكنها تنير طريقا إليها، وبالتالى يكون السير تجاهها هو هو تحقيقها ولو لم نصل إليها، مهما طالت المسافة بعد ذلك، نعم: لا يهم “الوصول” بقدر ما يهم السير فى الطريق مجتهدين طول الوقت.
قال الفتى:
- “الوصول”؟ كم كرهت فى تجربتى الصغيرة كلمة “الوصول” هذه، أنا لم أصادف فى حياتى إنسانا ممن يطلقون عليه (وللأمانة: على شرط أن يعتبر نفسه أيضاً) “واصلا” إلا وجدته لزجا لا قوام له، وما نظرت فى أهداف وصل إليها، أو أشخاص وصل بهم أو إليهم إلا وجدت داخلهم أجوفا كعيدان البوص، قد يصفر فيها الهواء ولكن ضغط الأصابع يكسرها.
قال الحكيم:
– ألم أقل لك إنك تتعلم الحكمة بأسرع مما حسبت، حتى أكاد أراك سبقتنى إلى معرفة جوهر الأشياء، إذ أراك تقترب من حقيقة الإنسان بأمانة سوف تجلى بصيرتك، وأكاد أتصورك بعد تجربة مرضك تساهم فى مسيرة الإنسان على طريق تطوره.
قال الفتى:
– ولذلك حرصت أن أسمع منك أكثر وأكثر، فلنبدأ بحكاية “السارق” الذى فشل أن يجن، ثم تحكى لى بعد ذلك حكاية “الثائر” الذى اختلت موازينه.
قال الحكيم:
– أما حكاية السارق الذى فشل أن يجن فهى حكاية ذلك الفتى الذى عاش مختنقا فى قفص نفسه، وحين حاول الهرب منه إلى حرية الجنون وجده حلا سخيفاً لأنه يوصل إلى حرية ضعيفة مشكوك فى أمرها، فلم يستطيع، ثم بمحاولة غريبة أراد تجسيد الواقع بالدخول إلى قفص من حديد.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
- هو شاب عاش مع الإهمال غير المقصود، حتى وجد نفسه فى “سجن مصر” متهما بجريمة “سرقة بالإكراه” حاول أن يحقق بها تجسيد واقعه المر. ولكن يبدو أنه لم يحقق شيئاً، وحين حوّله المحامى الذى عينته الدولة بعد أن رفض تفويض محام خاص للدفاع عنه جاء إلىّ ساخراً ساخطاً ثائراً، لأنى لم أكن فى خطته، بل لعل من أهداف خطته الأولى أن يتجنب هذا اللقاء.
****
دخل علىّ قصير الخطى محدد القسمات ثابت النظرات يضغط على أسنانه فتظهر عضلات فكه تحت جلد صدغيه فى انتظام رتيب… كان أقرب إلى القِصَر مليء الجسم عضلى التكوين، وجلس دون أن ينطق، وكأنه ما جاء إلا ليجلس، ومر الوقت ببطء سخيف قبل أن يقول:
- ماذا تنتظر
- أنتظرك.
- ولكنى هنا منذ فترة
- ليس تماما.
- هل تشككنى فى نفسى؟… أنت أيضا؟… ألست وكيل نيابة آخر بدرجة طبيب… سوف أضحك ما شاء لى الضحك.. افتح محضرك الطبى لتستكمل الصورة أبعادها.. افتح المحضر من فضلك
- أى محضر؟
- أليست تهمة جديدة.. تضاف إلى صحيفة سوابقى… أليست أمراضكم هذه تهمة… بل هى أشنع من السرقة والتهديد التى أحاكم من أجلها… المرض ضعف وأنا لست ضعيفاً.. أنا قوى، أنا لص، أسرق فى وضح النهار وبالإكراه، لست ضعيفا ولست مريضا مهما قلتم.. هذا المحامى المعتوه الذى عينته الحكومة هو الذى أصر على استشارتك… وهأنذا، لن تعرف منى شيئا… فأنا لست مريضا، لست ضعيفا ولن أكون، ولم أكن كذلك أبداً.
هيا افتح المحضر.. ولا تضع وقتى فكم سأتمتع بحوارك، ولن تدخلنى أبدا هذا السجن الجديد سجن الضعف والشفقة، لن أعترف بالمرض أبدا، بل لن أمرض أبداً، وعلى كل حال ليس لازما أن أعترف حتى أدخل السجن… هذه كذبة قديمة… ليس هناك علاقة بين السجن والجريمة، ولا بين الإعتراف والعقوبة، هذه أشياء وضعتموها لتبرروا بها ما تفعلون دون اقتناع، تبررون بها هذه القضبان وهذا الظلام وهذا البرد..
- أى برد تعنى؟
- برد الوحدة والقسوة.. فى زنزانة إنسان جف وسط مجتمع لا يفهم، لا تنتظر منى شيئاً، لن أتكلم… لن أعترف بهذه التهمة الجديدة، سوف أخرج من هنا لأقول إنك مثلهم تماماً ألست منهم، واحداً منهم.
- ممن؟
- من وكلاء النيابة والمحامين والآباء المحترمين.
- نعم.. تقريبا.. ولكن..
- اتفقنا، هكذا أستطيع أن أستريح، لقد جئت نتيجة لتصميم ذلك المحامى الأبله. وتحققت مما ظننت، وجدت أنك منهم لا أكثر ولا أقل، وعليه فلن أمكنك من بقية نفسى، لن يبقى لى إلا هذه الأسرار التى أجترها فى خيالى لأشعر بخصوصيتى، لأشعر بأنى أعرف شيئا لا يعرفه أحد، لأشعر بأنى أتمتع بحرية التفكير فى السر، ولكن هل هذه حرية تلك التى تمارس فى السر؟… قل لى بربك هل يمكن أن تمارس الحرية سراً.
- لا أظن.
- ومع ذلك لن أطلعك على سرى، بل لعلى أخدعك إذا قلت لك إن عندى أسرارا، بل إن حيرتك تعجبنى، هل عندى أسرار أم لا؟ عندى؟ ليس عندى؟ لابد أننى عندى؟ لا ليس عندى؟ إنك تظن أنه عندى؟ وربما ليس عندى؟ ما أحلى حيرتك فى نظرى، هكذا أتنفس أعمق، أنا الآن الذى أسأل وعليك أنت أن تجيب، أنا الذى أمتلك زمام الموقف… أنا الآن حر… مسيطر… قوى، هيّا: بماذا تجيب؟ هل عندى أسرار حقيقية أم لا؟
- لا يوجد إنسان بلا أسرار.
- ولكنى اعترفت بالجريمة وكنت أستطيع أن أحتفظ بها سرا ولكن هل تعلم لماذا لا يوجد إنسان بلا أسرار.
- لماذا؟
- لأن الناس لا يؤتمنون على الأسرار، ولو كان الناس شرفاء لما احتفظ أحد بسر يضنيه أو يضلله، ولعاش كل الناس فى النور وعشت أنا حرا لا يعوق حركتى أحد ولا شىء.
- وما الذى يعوق حركتك؟
- الناس… البوليس… المخبرون.. الحكومة.. المبادئ. الحق.. الواجب… أنت وأنا.. أنا أعوق حركة نفسى… إن نفسى سجينة داخل جسمى. أريد أن أتحرر من هذا الجسد دون أن أموت، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أودع جسدى داخل سجن حقيقى من أربعة جدران، وأطلق نفسى حرة وراء الأسوار، هذه الطريقة العجيبة من اختراعى وحدى:
لكى تكون حرا يستحسن أن تدخل السجن، ربما هذا المنطق هو الذى دعا محامىّ أن يرسلنى إليك، لم يفهمنى ولم يفهم تمسكى بدخولى السجن وطلبى أقصى أنواع العقوبة.. إنى لا أمارس حريتى بالخارج لذلك لجأت إلى السجن لعلى أمارسها فى الداخل، ولذلك تعجب القاضى وتعجب المحامى وحولونى إليك.
- ولكن من الذى يمنعك من ممارسة حريتك.
- ما الذى يمنعنى؟ ولكن ما الذى يمنعك أنت؟ هل تمارس أنت حريتك؟ هل يمارس أحد حريته، إن كل إنسان يعيش داخل قفص وجد نفسه فيه، وراء قضبان يعتقد أنها تحميه… وهى فى الحقيقة تمنعه وتقيده وتعوقه، ثم هو يمارس حريته المزعومة داخل هذه القضبان التى تعود عليها حتى لا يكاد يراها… والفرق بينك وبينى أنى رأيت القضبان، ورفضت خداعها وقررت ألا أعيش فى هذا الوهم… وهم الحرية والاختيار… ثم قررت أن أجسِّـد هذه القضبان من حولى، فلأقلبها إلى قضبان مادية ملموسة، وبذلك أكون أكثر شجاعة… وأطلق نفسى خارجها. وأثبت أنى أبعد نظرا من كثيرين.
- أحيانا يقوم وهم الاختيار بوظيفة الاختيار ذاتها؟
- أى اختيار وأية وظيفة.. إنك تستطيع أن تختار السير داخل القضبان… أو الجرى داخلها.، تستطيع أن تختار أن تطليها باللون الأخضر أو باللون الأحمر، أما أن تختار أن تخرج منهما فهذه هى المصيبة الكبرى، يسميها البوليس مؤامرة، ويسميها الجيش خيانة، ويسميها الحزب انحرافا، ويسميها القاضى جريمة، وتسميها أنت جنونا، لقد مارستُ كل هذا وأنا أحاول أن أخرج منها، ويبدو أنى سأمارس النوع الأخير معك فى هذا القفص الجديد…، إلا أنى بدأت أتمتع بهذا القفص لأن الحارس لا يكثر من الأسئلة، أنت وكيل نيابة فاشل… ليس عندك “سين”.. ولا “جيم”، ولكن ربما هذه طريقه جديدة للاستجواب… للحصول على الاعتراف بغير جهد كبير… لكنك لا تستطيع أى شىء إزاء إنسان اختار تحقيق حريته بأن يكون سجيناً.
- عندك حق، أنا لا أستطيع إلا بك… ومن خلالك.
- ماذا تريد منى أنت… ما هى تهمتى التى أتت بى إلى هنا؟ إن كان على السرقة فقد سرقت وهددت، وطلبت دخول السجن بنفسى، وهذا هو ما لم يعجب المحامى ولا القاضى ولا أحدا، هذا المحامى الذى عيَّنته الحكومة ضد إرادتى، يريد إثبات أنى غير مكتمل العقل، إنه لا يتصور أن إنساناً يفضل قضبانا حديدية محددة المعالم على حواجز وهمية تحطم ذاته، أنت لا تستطيع فعل شىءٍ ولو كنت تستطيع لكنت فعلت، هكذا كل الناس. الذى يستطيع يفعل والذى لا يستطيع يبحث عن مبررات، الحرية هى القدرة على الفعل.. هى القوة … هى السيطرة ولكن حتى السيطرة لن تحقق لى شيئاً، فقد كنت أستطيع أشياء كثيرة، ولكنى كنت مقيداً بأشياء أكثر، هل تريد أن تعرف كيف؟ هل تحب أن تسمع أكثر.
- أحب أن أسمع كل ما تريد أن تقوله
- ولكنى لا أعرف ما أريد أن أقوله، هل تعرف أنت؟ ربما أخطأ هذا المحامى الأبله العنوان، وكان ينبغى عليه أن يحولنى إلى ضاربة للودع أو قارئة للكف، لماذا لا تستعين بهؤلاء الزملاء يادكتور، لماذا لا تخصص هذه الحجرة المجاورة لهؤلاء المختصين الأذكى ربما أفادونى أكثر وأرشدونى إلى ما أريد، ربما كان ذلك أجدى من جلوسك هكذا بالساعات تحاول أن تفهم ما لا تعرف، لأنه إذا كنت أنا نفسى لا أعرف، فمن أين لك أن تعرف أنت.
- نعرف سوياً.
- ولماذا تعرف أنت؟ إن ما أريد أن أعرفه غير ما تريد أن تعرفه أنت، أنت تريد أن تعرف إن كنتُ مجنونا أم عاقلا، إن كنت مسئولا أم معتوهاً، أما أنا فأريد أن أعرف أشياء أخرى، أريد أن أعرف من أنا؟.. كيف أنا؟ لماذا أنا؟.. كم أنا؟.. أريد أن أعرف نفسى بكل أبعادها، فكيف نعرف “سويا” أشياء مختلفة أشد الاختلاف.
- ولكنا نلتقى بشكل ما، فكل ما يهمك يهمنى.
- أنا؟.. يهمني؟…أنا لا يهمنى شىء البتة، أى شىء يمكن أن يهمني؟… أنا لا أريد شيئا ولا أستطيع شيئاً، أنا لست أى شىء حتى يهمنى أو لا يهمنى، حتى تهتم لابد أن “تكون” وأنا لا شئ، ماذا عندك، هل عندك جديد.
- ربما وجدت شيئا.
- أى شىء تتصورونه أنت أو المحامى أو غيركما، هل قضبان القفص عندك من ذهب بدلا من الحديد الصدئ، هل مستشفى الأمراض العقلية أرحم من سجن مصر؟ أنا خبرت كل الطرق ولم يعد هناك شىء أنتظره، لأنه لم يكن هناك أحد ينتظرنى.. أبداً، لماذا تحاول استدراجى وأنا لا أثق فيك، إن وسائل التفاهم بيننا مقطوعة من قبل أن أجيئك، أنا أعيش فى سجن الحذر والتوجس ولهذا فضلت “سجن مصر”.. إن تجسيد الأمور فى صورة حقيقية ملموسة أسهل على النفس وأقرب إلى الواقع… يعنى أقرب إلى الصحة، أليست الصحة فى نظركم هى احترام الواقع… إذن فأنا احترم الواقع… لقد عشت سجينا بكل معنى الكلمة، وقد قررت احترام الواقع؟ لهذا أنا دبرت أمورى حتى أدخل السجن الحقيقى حيث أستطيع أن أمسك بالقضبان بين يدى بدلا من أن أتحدث عن قضبان وهمية تنتهى بى إلى حضرتك يا سيادة الطبيب النفسى.. بل دعنى أقول لك الحقيقة: لقد هربت، لقد اخترت الطريق الآخر، اخترت أن أكون مجرماً هرباً منك، من أن أكون مجنونا، أليس ذلك أسهل على النفس؟ إن تكسير الحواجز الاجتماعية أسهل من أن تكسر ذاتك وأنت تحاول إثباتها..؟ ولكن ما باليد حيلة… هربتُ إلى السجن لأقع فى قبضتك أخيرا. كان ينبغى أن أخدع وكيل النيابة أكثر، فحين قلت له أنا هارب “إلى” السجن، صحح قولى، حسب أنى أعنى الهرب “من” السجن، وحين أكدت له أنى لم أخطيء وأنى هارب “إلى” السجن فعلا، لم يفهم أننى أعنى أن سجن مصر أرحم من السجن الكبير الذى نعيش فيه جميعا، أرحم من القيد الذى كبَّلونى به صغيرا…، ونظر إلىَّ المحامى- محامى الحكومة، وبرغم ذلك يحاول الحصول لى على البراءة، ولكن الثمن غال، البراءة مقابل أن يلصق بى تهمة المرض، أيهما أفضل يادكتور أن تكون لصا أم أن تكون مجنونا.. ماذا تفضل أنت؟… لا ترد! وبعد ذلك تقول لى… لابد أن أثق فيك. حتى تساعدنى، تساعدنى فى ماذا؟.. أثق بمن؟…ولماذا؟ هل تعرف ثمن الثقة يادكتور؟ هل تعرف ماذا يحدث حين تثق بأحد الناس ثم يخيب ظنك؟ ثم يتخلى عنك؟ هل تعرف أن الثقة هى أغلى ما فى الوجود؟ وأخطره فى ذات الوقت؟ ماذا عندك يدعونى للثقة بك.
- ربما لأنه ليس عندى شىء معين.. أو فكرة مسبقة.. أستحق ثقتك، ربما لأنه ليس معلقا وراء رأسى ميزان العدالة، تستطيع أن تشعر أن الميزان بيدك أنت، وأن ما حدث هو نوع من اضطراب التوازن… ربما تكون المشكلة فى أن تجد أحدا… يسمع… حتى تعيد أنت وزن الأمور، تعيد رؤية الأشياء من زاوية أخرى، حتى بقصد تقويم ذاتك.
- ربما.. ربما.. كل شىء جائز… حتى ما فعلتـُه أنا هكذا يجوز أن يكون صواباً، ربما، ما دامت هناك “ربما” فليس هناك حقيقة ثابتة، إذن لماذا لا تدعونى أدخل بنفسى حيثما أردت، حثيما وضعنى القانون… أو حيثما ينبغى أن يضعنى.”ربما” يكون ذلك أفضل، لماذا يحاولون حرمانى من تحقيق أفكارى. ”ربما” وجدت حماية فى الداخل أضمن وأوقع من حماية الخارج… ربما.
– ولكن هذا الذى تفعله لا يطمس عليك حقيقة أنك هارب، لقد اخترت الابتعاد عن العالم الخارجى والمسئولية وراء أسوار حقيقية… متصورا أنك بذلك تتحدى العالم… وفى الحقيقة أنت تهرب منه.
– ربما كنت أهرب… بل إنى فعلا أهرب، الناس “فى الخارج” صعب، حين تحتاجهم لا يعطونك، وحين يعطونك تكون قد استغنيت عنهم ولا يعود لعطائهم معنى ولا فائدة، الناس” فى الخارج” صعب، ولذلك فقد قررت أن أدخل برجلىّ إلى الداخل… داخل السجن، هل تعلم يا سيدى لماذا دخلت السجن؟ برغم أنى لا أثق فيك ورغم أنك قد تعتبرنى مجنونا وتحاول تبرئتى إلا أنى ألاحظ أنك تحاول أن تفهم، هذه ميزة فى حد ذاتها: أن تحاول، لذلك سأقول لك…. ربما تفهم، ربما أجد فى النهاية من يفهم وحتى لو لم تفهم فإنى لا أهتم بك… ولماذا أهتم بك… إسمع… ولكن: هل تريدنى أن أقول فعلا؟
وحين هممت بالرد عليه… أكمل دون أن ينتظر ما كنت سأقوله.
- على كل حال فإن ما سأقوله سوف يقلب خططك، فأنت تحاول أن تثبت أنى مجنون… وربما ستعجب حين تعرف أننى حاولت فعلا أنى أكون مجنونا… ولما فشلت – نعم فشلت – سعيت إلى تقرير الواقع لأجلس وراء أسوار الحديد، فعلا، ما أجمل أن تكون القضبان ملموسة… واقعاً محسوساً، بدلا من وهم الحرية فى الخارج، هذا تصرف ربما تعتبرونه غريباً، ولكنه ليس جنونا على كل حال… فقد فشلت أن أجن: هذه مأساتى.
- مأساتك أنك لم تجن؟!
- نعم أليس الجنون فى تعريفكم بعد عن الواقع وعدم احترامه؟ أليس هو تحطيم الأسوار العادية فى دنياكم التقليدية؟… أليس هو تغيير كامل فى الشخصية؟ لقد فشلت فى كل هذا، فأنا مازلت أحترم الواقع بدليل أنى لجأت إلى السرقة حتى أوضع بحكم القانون فى السجن بعد أن فشلت فى الخروج عن الواقع بالجنون، بعد أن فشلت فى تغيير شخصيتى تغييرا جذريا يسمح لكم بلصق تهمة الجنون بى، هل تعلم ما الذى جعلنى أعدل عن قرار الجنون؟
- …….؟
- الشفقة.. وأسوار الألفاظ، لقد أبيت أن يشفق الناس على، لقد أبيت – أو قل لم أستطع- أن أبدو ضعيفا أمام أحد، لم أرضَ أن أُسجن وراء تشخيص من تشخيصاتكم التى لا معنى لها… الجنون الحقيقى هو الحرية الكاملة، ولا توجد حرية كاملة حتى وراء أسوار مستشفى الأمراض العقلية، لذلك فقد رفضت الشفقة والضعف ووشم التشخيص الذى سوف تلصقونه بى، وفضّلت أن أكون مجرما بمحض إرادتى، فضلت تجسيم الواقع بالعيش وراء أسوار السجن على تزييف الحرية بتحطيم أسوار الواقع بالجنون، اكتشفت ببعد نظرى أن تشخيصاتكم ومستشفى الأمراض العقلية واقع أمرّ من واقع الحياة التى رفضتها، هل تذكر أنى قلت لك فى أول الحديث لقد اخترت أن أكون مجرما هربا منك… هرباً من أن أكون مجنونا؟ فى الحقيقة أنا لم أهرب من الجنون ذاته ولكنى لم أستطع أن أقبل الضعف ولا الشفقة، ولا الصورة التى ترسمونها فى أذهانكم للجنون، وجدت أن الجنون ذاته له أسوار، وأن مأساتى ستنقلب إلى ألفاظ لاتينية تتشدق بها أنت وزملاؤك، فرفضت كل ذلك، رفضت أن أصبح سجينك أنت بعد أن عشت سجين الناس والمجتمع، لذلك فأنا أنصحك لوجه الله أن توفر جهدك، فأنت تحاول أن تثبت ما لم أستطع أن أحققه، تحاول أن تثبت أنى غير مسئول، وأنا أحكى لك مسئوليتى كاملة، مسئوليتى عن الجريمة، عن الحياة، بل عن فشلى فى أن أجن لأصبح كما يزعمون.
- أنا لا أحاول شيئا الآن… لابد أن تدرك أنى أحاول مساعدتك ليس إلا، أحاول أن نناقش اختيارك الجديد، هل سيفي بغرضك أم لا؟ وأنا أطرح سؤالا عليك: هل اختيارك هذا حل لمشكلة وجودك؟
- اختيارى؟ وجودى؟ هل أنا اخترت، وهل يمكن أن أختار؟ يبدو ذلك ممكنا فى الظاهر، ولكن عندك حق… أين وضعنى اختيارى هذا؟ هل السجن الحديدى أفضل من السجن النفسى؟ لم أعد أدرى، هذه هى مشكلتى فعلا، أريد أن أختار “أنا” بنفسى، وهذا ما لم أحققه أبدا رغم أنى قضيت حياتى كلها أصارع من أجله.
- وكيف ذلك؟
- ولكنها قصة قديمة مكررة، لابد أنك سمعت مئات مثلها لأنها قصة كل يوم، أو هى خدعة كل يوم: “أن تختار”!.. ماذا تختار؟ منذ كنت طفلا وأنا أحاول أن أختار أحاول أن أثبت لنفسى أنى أنا الذى اختار، كنت اختار عكس ما يختار أخى الأكبر…، إذا اختار الأحمر اخترت الأبيض، وإذا قال “أخرج” قلت “أبقى” أنت تعرف هذه القصة العادية فليس فيها جديد فهى فى كل بيت وكل أسرة، ولكن أنا.، لماذا كنت أشعر بها وكأنها مأساة العالم؟ حين كنت طفلا لم يكن يعنينى ما يحدث عند الجيران أو حتى ربما ما يحدث لك أنت، كنت فى محاولات دائبة لإعلان وجودى، ولم أنجح فى ذلك أبدا لأنى كنت خامس “ذكر” فى عائلة تريد أن تقتنى من كل صنف عددا ما. عندها الذكور فكانت تريد أن تكمل “المجموعة” ببنت ظريفة تكون “حبيبة أمها”. ما ذنبى أنى كنت شيئاً مكررا فى المجموعة التى يقتنونها، لقد جئت على غير رغبتهم، ولكنها على كل حال لم تكن رغبتى، وحين جاءت “حبيبة أمها” أختى الوحيدة، جاءت بعدى وبعد حمل متعسر، كانوا ينتظرونها، ولكنها تأخرت إلى القطار التالى، كل هذا يفسر موقفى فمنذ أن وصلتُ خطأ قوبلتُ بالسخط بل بالرفض. لم يكونوا “ينقصوننى” على حد تعبيرهم، ومازلت أذكر هذه الجملة ترددها والدتى وترن فى أذنى حتى الآن “إحنا كنا ناقصينك”؟ وبعد أن وصلت أختى فى القطار التالى خف السخط على لأنهم نسونى تماما، هل تعلم ياسيدى أنى كنت أتمتع بالسخط لأنه كان يشعرنى بكيانى “المسخوط عليه”… ولكن ذلك الإهمال… هو الموت البارد ذاته… لم يعد لى وجود فعلا رغم أنهم لم يتأخروا فى “واجباتهم” تجاهى مثلى مثل الآخرين، وحين كبرت وبدأت أناقش وضعى كانوا دائما يحتجون بأنه لا ينقصنى شىء… وكان هذا كله يثيرنى حتى أفقدنى معنى كل شىء، كان كل ما يعنيهم هو “الواجب”، كنت أحس بلفح العواطف تحوم حولى ولكنها لا تصل لكيانى أبدا، إن الذى يشعرك بالبرودة أكثر هو أن يقترب منك الدفء ولكن لا يصل إليك. هنا تصيح كل خلية فى عقلك وجسمك صيحة الحاجة. وكأنها قطط صغيرة ترتجف من البرد والجوع وتفتح أفواهها تموء طلباً للدفء. والحياة، ثم لا تجد شيئا، كانت العواطف توجه لمن جاء قبلى – بحكم العادة – ومن جاءت بعدى- بحكم الصنف الجديد – “حبيبة أمها”. أما أنا.. فأنا الذى جئت خطأ، كنت أحس دائما أنى رقم.. مجرد رقم، ولكنه رقم بعد العلامة العشرية ليس له إلا قيمة الكسور، كنت أحس أنى جئت بعد ما استكفوا، فوضعوا علامة بعد أخوتى الأربعة، فجئت بعد هذه العلامة، هذا حين كنت “مسخوطا علىّ مرفوضا” أما بعد أن أصبحت مُهْملا… أصبحت صفراً عظيما على يمين العلامة أيضا. وأنت تعلم ما قيمة الصفر بعد العلامة العشرية… هل تستطيع أن تتابعنى يا دكتور.
- بكل تأكيد.
- “برافو”… شاطر أنت فى الحساب، كنت رقم “خمسة” ”أنا”، بل بالأحرى كنت “الرابع مكرر” حيث كان المنتظر من أخى الرابع أن يكون أيضا بنتا، ولكنهم أكرموا وفادته لأن الدنيا لم تكن قد ازدحمت بعد، لم يكونوا قد وضعوا العلامة العشرية بعد، أما أنا… ما ذنبى أنا؟ هل خيرونى فى المجيء. لماذا لا يؤخذ رأى الأولاد قبل أن تصنعهم نشوة ليلة دافئة بهيجة، أو تصنعهم رغبة فى النوم عن طريق التخلص من توتر فسيولوجى بعد يوم قلق؟ فلتركزوا يا دكتور على ذلك فهذا أجدى من إلصاق تهم المرض بالناس… وأجدى من أبحاث العد والضرب والطرح والقسمة فى مشاعر الناس… أنت معى يا دكتور؟
- طبعا.
- وما رأيك؟
- فى ماذا؟
- فى هذا الاقتراح…، أن يؤخذ رأى الجنين فى تحديد نوعه، أليس هذا مشروع بحث علمى يمكن أن تترقى به فى سلك وظيفتك… أليست الأبحاث العلمية عندكم وسيلة للترقي أم أن هذه أصبحت موضة قديمة بعد أن زادت الأبحاث المضروبة؟
- يعنى..!!
- دع اختيار النوع جانبا، ما رأيك أن يؤخذ رأى الجنين، فى قدومه أصلا، ثم هم: ماداموا لا يريدونه، إلا بشروطهم لماذا يعرضونه لكل هذا الضياع. ماذا كان سيحدث لو نقص العالم واحدا مثلي؟ ولماذا لم يئدونى كما كانوا يفعلون مع البنات فى الجاهلية؟ لعلك تسأل الآن بدورك: ولماذا لا أذهب أنا؟ لقد فكرت فى ذلك ووجدته سخيفاً سخف الجنون ذاته. لماذا أنهى حياتى وأنا لم أصنعها، بل لم أعشها، إن الانتحار هو التخلص من الحياة، ولكنى لست حياً بهذه الصورة فممَّ أتخلص؟ لذلك قررت أن أحسم واقع الحياة بالهرب وراء تلك القضبان، لقد كنت مجرد رقم وفى السجن سيصبح لى رقم، فعلا، وسأعلق رقمى على ذراعى أو فوق صدرى سوف أحقق الواقع الذى عشته. هل تحب أن تعرف كيف كنت رقماً؟ هل أضرب لك مثلا؟ حتى تفهم إن كنتَ تريد أن تفهم
- نعم.
- كنا فى العيد… وقال أبى لأمى أنه سيشترى أربعة أحذية… وقالت أمى: اجعلهم خمسة، ورن الرقم فى ذهنى، لماذا نسينى أبى، ولمَ لم تذكرنى أمى بالاسم؟ أنا “حذاء خامس”… نمرة خمسة. هذا هو كل ما هنالك.
وحين تقدمت فى العمر، علا صوتى وتعلمت ما هو الاحتجاج وأصبحت صداع الأسرة المزمن، رفضت أن أكون رقماً مكرراً… فماذا صرت؟ صرت رقما معكوساً، كنت أختار عكس ما يختارون لى، وباستمرار كنت أحاول أن أشعرهم أن المسألة أكثر من زيادة حساب الملابس والأحذية، بل كثيرا ما فكرت أنه حتى هذه الزيادة لم تشعرهم بى لأنهم ربما اشتروا الأشياء أرخص “بسعر الجملة”، وكثيرا ما كنت أتأخر عن ميعاد الطعام فلا يسأل عنى أحد، بل إنى كنت اختبيء بالساعات فى ركن مظلم بارد لمجرد أن أكتشف هل افتقدنى أحد أم لا، وحين يقرصنى الجوع أخرج من مخبئى… ولكن لا أحد ينتظرنى.. لا أحد يفتقدنى. وكأن شيئا لم يكن، ثم وجدت أنه لا داعى لأن أختبيء حتى أعرف من أنا، يكفى أن أجلس ساكنا بلا حراك حتى أضيع وسط الزحام.. ولا يشعر أحد بوجودى.. كنت أحيانا أشعر أن أى أحد يمكن أن يتعثر فىّ وهو يسير كما يتعثر فى الكرسى أو فى أى شىء ملقى على الأرض، وحين انتبهت لكل ذلك حاولت أن احتج فبدل أن كنت “زائد واحد” أصبحت “ناقص واحد” لأنى أخذت اختار العكس على طول الخط، حتى أصبح مفهوما مسبقا ما سأقول، وبذا فقد الاختيار معناه. كنت أخالف حتى أُعرف، لكنى خالفت حتى لم أعد أُعرف، ألا يكفى هذا، هل يمكن أن نقفل المحضر الآن؟ ألم تتم أقوالى بعد؟
- ولكن لماذا تصر على موقف المتهم؟
- لأنى متهم فعلا… ألم أسرق بالإكراه؟ ألم يحولونى إليك لتقرير سلامة عقلي؟ ألا يكفى هذا لأكون متهما؟
- ولكنك أنت الذى اخترت هذا السبيل بنفسك، أنت المدعى الذى قررت أن تكون متهما.
- لقد سعيت إلى السجن، ولكنى لم أسع إليك، وعلى كل حال.. يبدو أن مقابلتك مصادفة لم تكن فى حسبانى، يبدو أن عندك شيئاً آخر.
- فهل نراجع اختيارك
- أنا موافق أنه يستحق المراجعة.. لا من حيث المبدأ، ولكن التفاصيل كانت مفاجأة.. لأنى وجدت أن بالداخل ناساً، يسمونهم مجرمين وهم كذلك ، ولكنى لا أخافهم لأنهم مجرمون بل أخافهم لأنهم ناس، مجرد ناس، الناس يخيفون أكثر من المجرمين! المجرم يفعل فعلته فى وضح النهار.. فالحذر منه سهل، والقانون له بالمرصاد… أما الناس حين يغتالون كيانك، حين يسجنونك فى آرائهم التى لا يعرفون لها قيمة حقيقية، حين يكرهونك إذا اختلفت عنهم… ليس لهم قانون يردعهم… بل أحيانا يكون القانون عليك.
- ولكن لا بد من احترام ما هو قائم حتى يتم تغييره إلى ما هو أحسن.
- تغييره؟… نعم!! ربما يكون هذا هو السبيل، لقد فوجئت فى الداخل بقيودى تسير معى، وكانت مفاجأة حين انتهكوا وحدتى وأنا جالس وراء القضبان، كنت رقما جديدا… فلم تتحدد لى معالم جديدة لم ينفع الرقم بديلا عن اسمى… الذى نسيته أنا ذاتى… ولكن كيف؟ هل تتصور أن إنسانا ينسى اسمه أحيانا.
- أحيانا.
- لقد نسوه دائما فلماذا أذكره، إن للاسم رنينا إذا كان لصاحبه كيان، ولكنه صدى أجوف إذا كنت لا شىء… لا شىء.
- وحين فعلت ما فعلت ماذا أحسستَ لحظتها؟
- لحظتها؟ لحظتها؟ كانت سيدة عجوز لم أحاول إيذاءها ولكنى تعمدت أن آخذ الحلى أمامها، بل أقول لك الحقيقة، لقد أرغمتها أن تناولها لى بيدها من داخل الصوان، لماذا لم آخذها أنا بنفسى، لا أدرى، ولكنى ساعتها كنت أريد أن تعطينى هى أغلى ما لديها، أن تعطينى جزءاً من نفسها وبالإكراه، أنت تعلم كيف تكون الحلى قريبة إلى نفس عجوز، وحيدة، إنها تصبح جزءاً منها، وقد أخذت هذا الجزء، بل للدقة لقد اضطررتها أن تعطينيه، ولكنى حين استوليت عليه وخرجت، لم أحاول أن أبيعه… فقد العمل كله معناه، لم يعد له قيمة، شعرت أنى احمل ثقلا من النحاس والزجاج، وذهبت إلى اقرب قسم بوليس، وأبلغت عن نفسى وانا ممتليء بشعور التفاهه: ما فائدة أن أرغم إمراة عجوزاً وحيدة أن تعطينى، ما فائدة كل هذا، ما فائدة ان ترغم أحداً أن يعطيك؟ العطاء لا يكون عطاء إلا إذا خرج من نفس إنسان لآخر تلقائيا، برضى، باختيار، بحب، نعم بحب… هذا هو الموضوع.
- نعم… هذا هو الموضوع “العطاء… والأخذ… بحب”
وسكت قليلا وتغيرت نظرته وأخذ يتأمل وجهى مليا ثم قال:
- ولكن كيف عرفت أن “هذا هو الموضوع؟”
قلت:
- لأن هذا – فعلا- هو الموضوع… ليست السرقة ولا التهمة، ولا الجنون ولا شىء يهم سوى هذا الموضوع.
- نعم.. ولكن لابد أن تعيش مأساتى حتى تشعر أن هذا هو الموضوع.
- أو أن أعيش مشاعرك وأنت معى… أن أنبض مع ألفاظك.. أن أصدّقك، هذا هو الطريق إلى فهم مأساتك
- إذن هى ليست مناقشة عقلية أو تمرين هندسة تحاول أن تحله لتأخذ عشرة على عشرة.
- بل هى مأساة إنسان أحاول أن أعيشها معه ولو لحظات.. لأشعر بخفق مشاعره فأفهم. فأحس… فأحب. فأساعد، فيتقبل.. إن استطعنا
- وهل نستطيع
- نحاول.
- ولكن إذا كانت والدتى التى أنجبتنى لم تستطع.. فكيف تستطيع أنت.
- والدتك لم تقصد.
- ولكن الأطفال حين يقذفون الضفادع بالحجارة لا يقصدون قتلها، وحين تموت الضفادع تموت جدا لا هزلا، أليس هذا مثلا صينيا على ما أذكر؟
- هو كذلك… ولكنا نعيش لحظة “الآن” و”أنت”
- فهل تعيشها معى. وهل تستطيع فعلا.
- ما رأيك؟
- أراك تحاول.
- فهل نتفاهم؟
- ربما… ولكن
- ولكن ماذا؟
- أنا بردان.
-…
- اريد الدفء… لقد ولدت فى شهر ديسمبر وما زالت الحياة كلها ليلا طويلا باردا… انا ارتجف احيانا واحس بالبرد فى عز الصيف، الستَ طبيباً مثل الأطباء؟. ربما كان عندى “ملاريا” وهى اسهل فى التشخيص مما تحاولون إثباته. عينة من الدم… شريحة من الزجاج و”ميكروسكوب” وسلامتك وتعيش، أما ما تفعله أنت… كان الله فى عونك، ولكن قل لى يا دكتور: ما الذى دفعك لاختيار هذه المهنة؟.. هل تتمتع بالفرجة على مأساة البشرية، وإلا فلماذا أنت تتعب كل هذا التعب؟ وانت تستطيع ان تكسب أضعافا مضاعفة من مهنتك الأصلية.
- ولكن هذه هى مهنتى الأصلية.
- ماذا؟
- أن اكون إنسانا بالقرب من إنسان يحتاجنى.
- طبيب يترك مهنة الطب ليكون إنسانا.. هل هذه وظيفة؟
- حين يفتقر الناس لإنسان يفهم… من خلال مشاركتهم مأساتهم… لا لمجرد أنه يحفظ الكتب، تصبح – للأسف – صفة الإنسان مهنة.
- ما أعجب كل هذا… ومن هو الإنسان.
- هو الشخص الذى يستطيع أن يمنح الحب الدائم الدافيء… ويستقبل المشاعر بصدق وأمانة حتى يذوب الجليد الذى نعيش فيه، برغم كل شىء
- وهل يذوب؟
- لا بديل لذلك.
- وبعد أن يذوب… ماذا أفعل بالخوف من الناس لو تكررت المأساة: حين أحتاجهم لا أجدهم، وحين استغنى عنهم بالبرود العاطفى، لا أجد لأى شىء معنى ولا جدوى، حتى إذا عادوا فأعطونى، يكون قد فات الأوان، وأرجع إلى بلادتى.
- إذا ذاب الجليد فعلا… دبت فيك الحياة… وأصبحت أنت مصدرا للحرارة… والحرارة ستذيب الجليد الذى يفصلك عن الآخرين حتى ولو كان يحيط بهم هم، لأنك تستطيع أن تمنح الحب فى قوة وثقة وأمان، ولن تنتظر الكثير بل أنت ستتأكد من الاستجابة المخلصة مهما طال الزمن.
- لا تعدنى بما لا يكون، بما لن يكون.
- ولكنك تشعر الآن بشىء جديد.
- قد تستطيع أن تحكم على نفسك، ولكن الناس شىء آخر.
- أنا من الناس.
- ولكنك تمتهن مهنة “إنسان” ربما أثناء تواجدك فى العيادة، وربما تعود بعد ذلك مثل الناس.
- ولكنى مثل الناس فعلا… كل ما فى الأمر أن قسوة الحياة جعلتك لا ترى فى الناس إلا الشر والخيانة.
- ولكنهم كذلك.
- ليس تماما.
- كيف؟
- حين تحب… تمنح دون حساب ودون رجاء… وحين لا تنتظر الكثير… يتجمع القليل ليصبح كثيرا، الناس جميعا رغم قسوتهم الظاهرة “مساكين” لا يدركون ما يفعلون ببعضهم البعض، وفى نفس الوقت لا يكفون عن أن يعطوت بعضهم بعضا حتى وهم لا يقصدون.
- أنت بتصورك هذا أجن منى، لعلك تتصور أنك أنت الذى سوف تصلح الكون؟
- بل أنت.
- أنا؟
- نعم أنت… حين تحب وتعطى ستشعر بالقدرة التى لا حدود لها… وسيصبح لكل شىء معنى.
- كيف أعطى وأنا لم آخذ… وحين سرقت وسموها “سرقة” بالإكراه” كان الدافع أن أجعلها -هذه السيدة المسكينة- تعطينى حليها… أنا أريد أن يعطونى. أريد أحدا يعطينى ذاتى.
- إن أحداً لن يعطيك ذاتك… إنك أنت الذى ستخلقها من جديد…
- كيف؟
- لو استوعبنا معا ما تحسه الآن هنا… سوف ترى رؤية جديدة وتتعلم أشياء جديدة، ثم تمارس مشاعر جديدة… ثم تنطلق إلى رحاب الناس بما هم، كيف هم، فيصلك القليل كثيرا، فتجدك أنت الكسبان
- ما أبعد ذلك.
- وأروعه.
- لعل… لعل للأمر وجه آخر
- دعنا نحاول
****
قال الفتى للحكيم:
- آه لو تم كل هذا، إذن لتغير وجه الحياة. ولكن حديثنا عن ذلك الفتى الهارب إلى السجن، الذى فشل فى أن يجن، لم يُنْسِنِى حديثنا الأول عن ذلك الفتى الثائر الذى آمن بكل شىء، بحثا عن الشىء الحقيقى، وحين لم يجده فقد نفسه… واضطربت عليه الأمور… فحدثنى عنه، فقد طال بى الشوق إليه.