الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عندما يتعرى الإنسان (1 من 12) “دروس للناس: فى الطب النفسى”

عندما يتعرى الإنسان (1 من 12) “دروس للناس: فى الطب النفسى”

نشرة “الإنسان والتطور”

30-5-2011

السنة الرابعة

العدد: 1368

كتاب جديد (قديم)

المقدمة:

مع اقتراب انتهاء السنة الرابعة لصدور هذه اليومية، يبدو أن النشرة سوف توظف أكثر فأكثر لإرغامى لتحديث ما سبق كتابته، فقد اكتشفت أنه هو هو، أو لعلى أنا الذى هو هو.

 مع اضطرارى للرجوع إلى ما سبق كتابته، بمناسبة كتاباتى الحالية متابعاً الجارى منذ  25 يناير فى مصر وقبلها فى تونس، اضطررت للتقليب فى أوراقى منذ 1968 وأنا تشغلنى الفكرة المتفائلة جدا عن احتمال اسهام التكنولوجيا الأحدث فالأحدث فى تكوين الوعى الإنسانى الكونى الجديد لمواجهة الانقراض الشامل الذى يتمادى نشره فانتشاره تحت مسمى “النظام العالمى الجديد” وهو ليس إلا الانقراض الجديد الذى تقوده الولايات المتحدة واسرائيل والقوى المالية الكانيبالية العالمية.

وقد اكتشفت أن كتاباتى الأقدم ليست اقل دلالة فى الإسهام فى هذا الإعداد بشكل أو بآخر،

 وبما أن قلة محدودة هى التى قرأتها حين صدورها الأول، فقد قررت أن استعمل هذه النشرة اليومية لأواصل نشرها بأقل قدر من التحديث، ربما يصل من خلال ذلك أن الإعداد للثورات التطورية هو الضمان الوحيد لمسار الانتفاضات فى طريقها الصحيح لتكون ثورة فثورة فثورة إلى وجهه تعالى.

وسوف أبدا من اليوم بتخصيص يوم الأثنين للطبعة الثالثة من كتاب:

عندما يتعرى الإنسان (1 من 12)

“دروس للناس: فى الطب النفسى”

(الطبعة الثالثة: 2011)

 وسوف أبدا بنشر هذا الكتاب الباكر سنة (1968) جنبا إلى جنب مع مقتطفات من كتاب “مقدمة فى العلاج الجمعى” قبل كتابة الكتاب الجديد فى نفس الموضوع، دون نسيان استكمال الأساس فى الطب النفسى،

ربنا يسهل.

****

إهـداء‏ (الطبعة الأولى) (1968 – 1972)

‏”‏إلى ‏أطفال‏ ‏العالم‏ ‏وشبابه‏…‏

من‏ ‏كل‏ ‏الأعمار‏… “‏!!!!

****

إهـداء (الطبعة الثالثة) (2011)

إلى من أَحَبَّ الطبعة الأولى أكثر منى،

شكراً وعرفانا

****

مقدمة‏ الطبعة الثالثة (2011)

1979 – 2010، تأكد لى أن ما جاء بمقدمة الطبعة الثانية هو هو ما حدث خلال بضع وثلاثين عاما، لكنه ليس هو نهائيا.

أنا أتغير فأنا موجود، وأنا موجود فأنا أصير، ورزقى ورزقكم على الله.

لكل مرحلة حديثها، ولكل وقت أذانه.

وقد اضطررت بصراحة أن أعدل بعض الكلمات فى أقل نطاق، لعلنى أخفف من جرعة المباشرة والتجريد التى أزعجتنى، فمعذرة.

هذه هى الطبعة الثالثة حتى لو بدت لى مقالا طويلا فى التطبيب النفسى، وليس إبداعا، فأنتم مسئولون معى.

شكراً مرة أخرى.

ونلتقى.

المقطم فى 12/9/2010

****

ملحق مقدمة الطبعة الثالثة:

هذا، ولم  أستطع أن أخرج به إليكم إلا اليوم (21 مايو 2011)،

 يبدو أننى لم أنتصر على مقاومتى تماما، بل لعلها زادت،

فقد اكتشفت وأنا أراجع “البروفات” أن جرعة الحديث عن “الإنسان” و”الحب” وتلك القيم التى تبدو تجريدا أو مثالية، وبرغم أنها جرعة صادقة، إلا أنها وصلتنى أقل جدوى فى توصيل الرسالة وبيان مسيرة العلاج، وذلك قياسا بما أمارسه الآن، وخاصة فى العلاج الجمعى، الذى تعلمت منه أكثر فأكثر كيف نركز على الواقع “هنا والآن”، وعلى “الفعل”، وعلى “إعادة تشكيل أنفسنا” بما نستطيع معا، على أرض قوية بما فيها ومن فيها.

كتبت هذا الكتاب سنة 1968 وكان عمرى 34 سنة، ومدة خبرتى عشر سنوات تقريبا، والآن عمرى 78 عاما، وخبرتى 53 عاما، هل يجوز أن أعدَل فيه؟

لا، لن أفعل، اللهم إلا لتصحيح أخطاء شكلية أوتعديل صياغة بعض الجمل، أو حذف بعض التكرار، لن أفعل، فللتاريخ احترامه.

هأنذا أقدمه لأصحابه دون حماس، أمِلا أن يظل مفيدا لزملائى وزميلاتى الاصغر، وربما لأصدقائى المرضى أيضا، وقد غيرت العنوان الفرعى إلى “دروس للناس: فى الطب النفسى” للتأكيد على كل ذلك.

أتذكر قولا لأوسكار وايلد ينبه فيه أن فائدة الفن غير مرتبطة بجماله، بل إنها قد تنقص من أصالة إبداعه لا أذكر ألفاظه، ولا أذكر أين استشهدت به، لكننى عثرت له الآن على مقولة أخرى تشرح لى مقاومتى أكثر فى قوله:

“كل ما أعجب الناس خطأ”،

وقد رفضت الاستشهاد بهذا القول الأخير، 

مع أننى فعلت

فعذرا مرة أخرى

يحيى الرخاوى  

 المقطم فى 20 مايو 2011

****

كلمة الطبعة الأولى – الثالثة:

“… ‏من‏ ‏قرأ‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب، ‏ولم‏ ‏يفهم‏ ‏ما‏ ‏فيه،‏

‏ ‏ولم‏ ‏يعلم‏ ‏غرضه‏ ‏ظاهرا‏ ‏وباطنا، ‏لم‏ ‏ينتفع‏ ‏بما‏ ‏بدا‏ ‏له‏ ‏

من‏ ‏خطه‏ ‏ونقشه، ‏كما‏ ‏لو‏ ‏أن‏ ‏رجلا‏ ‏قدر‏ ‏له

‏ ‏جوز‏ ‏صحيح‏ ‏لم‏ ‏ينتفع‏ ‏به‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يكسره‏”‏

برزويه‏ (‏رأس‏ ‏أطباء‏ ‏فارس‏) ‏

كليلة‏ ‏ودمنة

****

من مقدمة‏ الطبعة الثانية (1979)

عندما صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب لم أكن أتوقع لها أن تلقى هذا القبول من مختلف الاتجاهات، وحين سمعت عنها ما طمأننى إلى إمكان التواصل، قررت أن أعيد طبع هذا العمل الذى لا أعرف حقيقة مكانه بين الأعمال الأدبية والعلمية: أهو قصة قصيرة، أم صور كلينيكية أم حكمة عصرية؟

…….

…….

فليكن العهد بيننا أن “نكون” وأن “نصير” بشراً بحق، ونحن قادرون عليها….

وعليكم السلام

يحيى الرخاوى

الاسكندرية فى 11/5/1979

****

مقدمة الطبعة الأولى (1968 – 1972)

على ‏لسان‏ ‏الحيوان‏ ‏تعلمنا‏ ‏الحكمة، ‏وقال‏ ‏بيدبا‏ ‏الفليسوف‏ ‏لدبشليم‏ ‏الملك‏ ‏حكمة‏ ‏الأمس‏.. ‏، وحكمة‏ ‏اليوم‏ ‏أبعد‏ ‏منالا‏ ‏وأصعب‏ ‏تحقيقا‏.. ‏فهى ‏أشهد‏ ‏اختلاطا‏ً ‏بالوهم‏ ‏من‏ ‏أى ‏وقت‏ ‏مضى، ‏وبذلك‏ ‏فهى ‏أقل‏ ‏تحديدا‏ ‏ووضوحا‏.‏

وهى ‏لا‏ ‏تجرى ‏على ‏لسان‏ ‏الحيوان، ‏ولكن‏ ‏على ‏لسان‏ ‏الإنسان‏ ‏الذى ‏رفض‏ ‏أن‏ ‏يجارى ‏أغلب‏ ‏الناس‏ ‏نوع‏ ‏إنسانيتهم‏ ‏الحالى، ‏وهم‏ ‏حين‏ ‏قالوا‏ “‏خذوا‏ ‏الحكمة‏ ‏من‏ ‏أفواه‏ ‏المجانين‏” ‏لم‏ ‏يتعدوا‏ ‏الحقيقة، ‏ربما‏ ‏بغير‏ ‏قصد، ‏أو‏ ‏حتى ‏بقصد‏ ‏السخرية، ‏لأنه‏ ‏ربما‏ ‏ثبت‏ ‏لمن‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏الحقيقة‏ ‏أن‏ ‏المجانين‏ ‏هم‏ ‏العقلاء‏ ‏أو‏ ‏العكس، ‏ونحن‏ ‏بذلك‏ ‏لا‏ ‏نحبذ‏ ‏الجنون‏ ‏ولكنا‏ ‏نحترمه‏ ‏ونبحث‏ ‏عن‏ ‏العدل‏ ‏والحق‏ ‏والخير‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏دراسة‏ ‏مأساته‏.‏

وقد‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏حكمة‏ ‏اليوم‏ ‏فى ‏حديثى ‏مع‏ ‏أصدقائى ‏المرضى ‏ووجدتها‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مرة‏ ‏بلا‏ ‏استثناء، ‏وحين‏ ‏كنت‏ ‏أعجز‏ ‏أن‏ ‏أراها، ‏كنت‏ ‏أعلم‏ ‏أنى ‏لم‏ ‏أفهم‏ ‏لدرجة‏ ‏كافية، ‏أو‏ ‏أنه‏ – ‏صديقى ‏المريض‏ – ‏لم‏ ‏يعانِ‏ ‏لدرجة‏ ‏كافية‏.. ‏

سوف أحاول‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏اللقطات‏ ‏أن‏ ‏أعرض‏ ‏بعض‏ ‏زوايا‏ ‏من‏ ‏صور‏ ‏الإنسان‏ ‏حين‏ ‏يتعرى ‏ليهيم‏ ‏على ‏وجهه‏ ‏باحثاً‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏ذاته، ‏وإنى ‏إذ‏ ‏أعرض‏ ‏هذه‏ ‏الصور‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تصف‏ ‏إنسانا‏ ‏بذاته، ‏أرجو‏ ‏أن‏ ‏يقبل‏ ‏القارىء‏ ‏ابتداء‏ ‏صداقه‏ ‏أصدقائى، ‏فهم‏ ‏أعز‏ ‏عندى ‏من‏ ‏أن‏ ‏أعرض‏ ‏صورهم‏ ‏ إلا على ‏أصدقاء، ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏توجد‏ ‏لقطة‏ ‏واحدة‏ ‏يمكن‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏صاحبها‏ ‏الحقيقى ‏احتراما‏ً ‏وعهداً‏.‏

****

قال‏ ‏أحد‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأصدقاء، “‏الفتى” ‏الذى ‏اتضحت‏ ‏رؤيته‏ ‏واستقام‏ ‏على ‏الطريق”:‏

‏ ‏أمَا‏ ‏وقد‏ ‏انتهى ‏بنا‏ ‏المطاف، ‏فهلاّ‏ ‏حدثتنى ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏ماعلمتَ‏ ‏من‏ ‏أمور‏ ‏النفس‏ ‏وأحوالها،‏ ‏لعلى ‏أتعلم‏ ‏منك‏ ‏ما‏ ‏لن‏ ‏أجده‏ ‏عند‏ ‏غيرك ‏وربما‏ ‏نفعت‏ ‏به‏ ‏غيرى.‏

قال‏ ‏الحكيم‏:‏

‏- ‏أما‏ ‏عن‏ ‏رأيتُه‏ ‏فهو‏ ‏كثير‏ ‏كثير، ‏ليس‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏أره، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏علمته‏ ‏فهو‏ ‏أقل‏ ‏مما‏ ‏رأيت‏ ‏فليس‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏رأيته‏ ‏علمته، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏علمته‏ ‏‏ ‏رأيته‏.. ‏فكم‏ ‏يرى ‏العالم‏ – ‏مهما‏ ‏علم‏ – ‏رؤيا‏ ‏لا‏ ‏يجد‏ ‏لها‏ ‏فى ‏علمه‏ ‏تفسيرا، ‏وكم‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏تصورها‏ ‏قانونا‏ ‏فلا‏ ‏يصادفها‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏أبداً، ‏وليس‏ ‏هذا‏ ‏نقصاً‏ ‏فى ‏قدرته، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏قصور‏ ‏فى ‏علمه، ‏ولكنها‏ ‏طبيعة‏ ‏العلم‏.. ‏وتقلب‏ ‏صور‏ ‏الحقيقة، ‏وما‏ ‏دام‏ ‏العلم‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏نهاية‏ – ‏وخاصة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأحوال‏ – ‏فالمجال‏ ‏يتسع‏ ‏لكل‏ ‏ما‏ ‏يقال‏.‏

أما‏ ‏أن‏ ‏نتعلم‏ ‏مما‏ ‏أقول‏: ‏فهذا‏ ‏ما‏ ‏أراه‏ ‏جائزاً‏ ‏ولا‏ ‏أحسبه‏ ‏قاعدة‏ ‏يمكن‏ ‏إطلاقها، ‏فأحوال‏ ‏النفس‏ ‏لا‏ ‏يتعلمها‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏الكلام، ‏وقوانينها‏ ‏لا‏ ‏يصدر‏ ‏بها‏ ‏أحكام، ‏وعلينا‏ ‏أن‏ ‏نقيم‏ ‏الحقيقة‏- ‏أو ‏المعرفة‏ ‏التى ‏نتصورها‏ ‏حقيقةَ‏ “‏الآن‏” – ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تحتمل‏ ‏اللحظة‏ ‏الحاضرة‏ ‏من‏ ‏إدراك‏ ‏الأمور، ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أتيح‏ ‏لنا‏ ‏من‏ ‏وسائل‏ ‏حالية‏. ‏ولكن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نحمل‏ ‏أيضا‏ ‏تفتحا‏ ‏دائما‏ ‏لكل‏ ‏جديد‏، ‏ولتكن‏ ‏التجربة‏ ‏هى ‏الأصل‏ ‏فى ‏كل‏ ‏حال‏.‏

وتجارب‏ ‏الإنسان‏ ‏الفرد‏ ‏لا‏ ‏يعدلها‏ ‏تجارب‏ ‏الغير، ‏وإنما‏ ‏جُعلت‏ ‏معرفة‏ ‏تجارب‏ ‏الغير‏ ‏خيرا‏ ‏لجواز‏ ‏النفع‏ ‏منها‏ ‏لا‏ ‏للاقتداء‏ ‏بها، ‏فالانسان‏ ‏هو‏ ‏ذاته‏ ‏بكل‏ ‏معالمها‏ ‏الخاصة، ‏ولا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏الفريدة‏.. ‏وأن‏ ‏يحقق‏ ‏وجوده‏ ‏كوحدة‏ ‏مستقلة‏ ‏فى ‏تفاعل‏ ‏دائم‏ ‏مع‏ ‏الدنيا‏ ‏الصاخبة‏ ‏بالناس‏ ‏والأشياء، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏يهتدى ‏فى ‏ذلك‏ ‏بما‏ ‏يتعلم‏ ‏ويعلـَم، ‏ولكن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يذكر‏ ‏دائما‏ ‏أن‏ ‏الحقيقة‏ ‏الأساسية‏ ‏هى ‏أنه‏ “‏إنسان‏ ‏فرد‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏أحد‏ ‏آخر‏”،  ‏وأن‏ ‏وجوده‏ جزء من وجود الآخرين، وأنه ‏بغير‏ ‏تحقيق‏ ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏لن‏”‏يكون‏” ‏شيئاً، ‏ولا‏ ‏حتى فى  نظر الآخرين.

وأما‏ ‏ما‏ ‏تسمعه‏ ‏منى ‏ولا‏ ‏تجده‏ ‏عند‏ ‏غيرى، ‏فأعلم‏ – ‏بُنَىّ – ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏عندى ‏جديد‏ ‏غريب، ‏وأن‏ ‏الذى ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يرى ‏كما‏ ‏أرى، ‏ويحس‏ ‏كما‏ ‏أحس‏ ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏يجد‏ ‏كل‏ ‏طبيعى ‏غريب‏، وأيضا أن‏ ‏كل‏ ‏غريب‏ ‏طبيعى، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏لابد‏ ‏سيجد‏ ‏مفتاح‏ ‏الحقيقة، ولعل العثور على مفتاح الحقيقة ‏هو‏ ‏الطريق‏ ‏الأول‏ ‏أو‏ ‏الأوحد للمعرفة، ‏لأن ‏الحقيقة‏ ‏ذاتها‏ ‏غير‏ ‏ثابتة‏ ‏ولا‏ ‏هى ‏محدودة‏ ‏ولا‏ ‏محدّدة، ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏السعى ‏إليها‏ ‏هو‏ ‏غاية‏ ‏تحقيقها‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت، ‏فليس‏ ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏ترى ‏المنار‏ ‏الذى ‏يضيء، ‏ولكن‏ ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏تمشى ‏فى ‏نوره، ‏وليس‏ ‏ضروريا‏ ‏أن‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏الشمس‏ ‏حتى ‏تتمتع‏ ‏بضيائها‏ ‏ودفئها‏..، ‏ولذلك‏ ‏فإنك‏ ‏مهما‏ ‏سمعت‏ ‏ووعيت‏ ‏فستجد‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏سمعت‏ ‏هو‏ ‏القليل‏ ‏وأن‏ ‏ما‏ ‏ستلاقى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏الكثير‏ ‏الذى لا ‏تنتهى ‏حكمته، ‏ ‏ولا‏ ‏تبلى ‏جدته‏.‏

وأما‏ ‏أن‏ “‏ينفع‏ ‏حديثنا‏ ‏هذا‏ ‏غير‏ك” ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يدعونى ‏إلى ‏الاستجابة‏ ‏لمطلبك، ‏لأن‏ ‏العلم‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏ينتفع‏ ‏به‏‏ ‏الناس‏ ‏لهو‏ ‏أمانة‏ ‏ضائعة، ‏وخازنه‏ ‏كسارق‏ ‏الجوهرة‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏بيعها، ‏فيحبسها‏ ‏ويعيش‏ ‏فى ‏فقره‏ ‏مع‏ ‏أوهام‏ ‏المطاردة، ‏وخدعة‏ ‏امتلاك‏ ‏شىء‏ ‏ثمين‏ ‏وما‏ ‏هو‏ ‏بثمين‏.‏

على ‏أن‏ ‏الكلام‏ ‏كالسكين‏ ‏ذى ‏الحدين‏: ‏قد‏ ‏يأتى ‏منه‏ ‏الضرر‏ ‏من حيث‏ ‏ترجو‏ ‏به‏ ‏النفع، ‏وبما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏هناك‏ ‏وسيلة‏ ‏للتفاهم‏ ‏أفضل‏ ‏من‏ ‏الألفاظ‏ ‏فى ‏مجالنا‏ ‏هذا، ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏الحذر‏ ‏ونحن‏ ‏نرسل‏ ‏الكلام، ‏ولا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏الحرص‏ ‏وأنت‏ ‏تسمع‏ ‏الخبر، ‏ولتأخذ‏ ‏منه‏ ‏ما‏ ‏تحس‏ ‏أنه‏ ‏وافق‏ ‏مكانا‏ً ‏صالحا‏ً ‏فى ‏فكرك، ‏ولا‏ ‏تقحم‏ ‏على ‏نفسك‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏ترتاح‏ ‏إليه‏ ‏طبيعتك، ‏وبهذا‏ ‏ينتقى ‏كل‏ واحد ‏من‏ ‏الحديث‏ ‏ما‏ ‏يصلح‏ ‏له‏ ‏أو‏ ‏يصلح‏ ‏به، ‏لأنه‏ ‏ليست‏ ‏للتجارب‏ ‏قواعد‏ ‏ثابتة‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏أمثلة‏ ‏تنفع‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏تنفع، ‏فإنك‏ ‏إنما‏ ‏تسمع‏ ‏منى ‏جانباً‏ ‏من‏ ‏رؤيتى ‏لكيانٍ‏ ‏ما، ‏فى ‏لحظة‏ ‏ما‏.. ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الصور‏ ‏قد‏ ‏تصل‏ ‏إليك‏ ‏بإحساس‏ ‏حى ‏يجعل‏ ‏إدراكها‏ ‏كواقع‏ ‏قائم‏ ‏أمر‏ ‏سهل‏ ‏ومفيد؛ ‏أو‏ ‏هى ‏قد‏ ‏تظل‏ ‏ملساء‏ ‏مسطحة‏ ‏لا‏تـُدرك‏ ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏الصورة‏. ‏وفى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏فلا‏ ‏فائدة‏ ‏منها‏ ‏وما‏ ‏هى ‏إلا‏ ‏رواية‏ ‏تتناقل‏ ‏مثل‏ ‏بعض‏ ‏القصص‏ ‏الجوفاء‏.. ‏، أما‏ ‏أن‏ ‏تنفع‏ ‏الناس‏ ‏بدورك، ‏بما‏ ‏تسمع‏ ‏وتعى، ‏فإنك‏ ‏إنما‏ ‏تفعل‏ ‏ذلك‏ ‏إذا‏ ‏أدركت‏ ‏ما‏ ‏راق‏ ‏لك‏ ‏فعشتـَه‏ ‏وتمثـَّلته‏؛ ‏ثم‏ ‏حفظته‏ ‏ووعيته، ‏ثم‏ ‏كان‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏كيانك‏ ‏ونفسك‏.. ‏فإنه‏ ‏ ‏ينضح‏ ‏بالخير‏ ‏على ‏غيرك، ‏فإنما‏ ‏تنتشر‏ ‏الحكمة‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏هى ‏الحقيقة، ‏وإنما‏ ‏تتأصل‏ ‏الحقيقة‏ ‏إذا‏ ‏اختلطت‏ ‏بالذات‏ ‏لتصبح‏ ‏إيمانا‏، ‏ثم‏ ‏يكون‏ ‏الإيمان‏ ‏عملاً ‏طبيعيا‏ً ‏تلقائياً‏ ‏سلساً‏.‏

وأخيرا‏.. ‏فإنى ‏أحدثك‏ ‏اليوم‏ ‏لأنه‏ ‏كما‏ ‏قلت‏ ‏قد‏ ‏انتهى ‏بنا‏ ‏المطاف‏ ‏فى ‏تجربتك، ‏ولو‏ ‏أن‏ ‏المطاف‏ ‏لم‏ ‏ينته‏ ‏لما‏ ‏كان‏ ‏لهذا‏ ‏الحديث‏ ‏مكان‏ ‏ولا‏ ‏معنى ‏ولا‏ ‏فائدة، ‏فإنما‏ ‏يقع‏ ‏الضرر ‏من‏ ‏تناول‏ ‏القواعد‏ ‏العامة‏ ‏وكأنها‏ ‏الدواء‏ ‏الناجع‏ ‏لمرض‏ ‏بذاته، ‏فلو‏ ‏أنك‏ ‏مازلت‏ “‏الفتى ‏المريض‏” ‏لما‏ ‏كان‏ ‏لهذا‏ ‏الكلام‏ ‏جدوى، ‏بل‏ ‏لكان‏ ‏السكوت‏ ‏عنه‏ ‏أبلغ‏ ‏وأجدى،  ‏فالعهد‏ ‏القديم‏ ‏بيننا‏ ‏قد‏ ‏انقطع، ‏ولنتفق‏ ‏على ‏أن‏ ‏يدور‏ ‏الحديث‏ ‏بين‏ “‏الفتى” ‏و”‏الحكيم‏” ‏لا‏ ‏بين‏ “‏المريض” ‏و‏”‏الطبيب‏”، ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الأخير‏ ‏دور‏ ‏له‏ ‏أبعاده‏ ‏وظروفه‏ ‏وشروطه‏ ‏التى ‏تختلف‏ ‏من‏ ‏فرد‏ ‏لآخر‏ ‏اختلاف‏ ‏بصمات‏ ‏اليد، ‏بينما‏ ‏حديثنا‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعدوا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏رؤية‏ ‏عامة‏ ‏قد‏ ‏يهدى ‏من‏ ‏هم‏ ‏فى ‏مفترق‏ ‏الطرق‏ ‏إذا‏ ‏رأوا‏ ‏فيه‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏أنفسهم، ‏يشرح‏ ‏لهم‏ ‏أمسهم‏ ‏بتجاربه‏ ‏وأحداثه، ‏ثم‏ ‏يحدد‏ ‏لهم‏‏ ‏حاضرهم، وقد ‏يرسم‏ ‏لهم‏ ‏غدهم‏.‏

****

على ‏أنى ‏يا‏ ‏بنى ‏لا‏ ‏أطمع‏ ‏فى ‏الكثير، ‏فلعلى ‏بهذا‏ ‏الحديث قد‏ ‏ألقيتُ‏ ‏فى ‏بحر‏ ‏الركود‏ ‏والظلام‏ ‏حجرا‏ حاولت أن أشحنه‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أحمل‏ ‏للانسان‏ ‏من‏ ‏حب، ‏ومهما‏ ‏كان‏ ‏الحجر‏ ‏صغيرا‏ ‏فأملى ‏أن‏ تنزاح‏ به ‏دائرة‏ ‏صغيرة‏ ‏لتصبح‏ ‏دوائر‏ ‏متتابعة‏ إلى غاية نأملها، دون أن نضطر لتحديدها بشكل حاسم مسبقا.‏

فاذا‏ ‏خرجتُ‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏كله‏ ‏ببضع‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏مثلك‏ ‏يا‏ ‏بنى، ‏هزتهم‏ ‏الحقيقة‏ ‏فساروا‏ ‏على ‏الطريق‏، أو‏ ‏إذا‏ ‏أثرتُ‏ ‏به‏ ‏بعض علامات‏ الاستفهام‏ ‏أو التعجب‏ ‏عند‏ ‏بضعة‏ ‏عشرات‏ ‏آخرين‏ ‏يعقبها‏ ‏أنه‏ “‏ربما‏”..، ‏أو‏ ‏حتى ‏إذا‏ ‏هيجتُ‏ ‏به‏ ‏الرفض‏ ‏للقديم‏ ‏والجديد‏ ‏معا‏ ‏عند‏ ‏بضعة‏ ‏مئات‏، ‏إذا‏ ‏تم‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏فقد‏ ‏حققت‏ ‏ما‏ ‏أردت‏.‏

كما‏ ‏أوصيك‏ – ‏بنى- ‏ألا‏ ‏تتعجل‏ ‏الحكم‏ ‏على ‏الأمور، ‏فأنت‏ ‏لن‏ ‏تدرك‏ ‏أول‏ ‏الحديث‏ ‏إلا‏ ‏بآخره، ‏لأنه‏ ‏حديث‏ ‏يكمل‏ ‏بعضه‏ ‏بعضا، ‏فاسألنى ‏يا‏ ‏بنى ‏ما‏ ‏شئت‏ ‏وسأبحث‏ ‏لك‏ ‏فى ‏جعبتى ‏عما قد‏ ‏يشفى ‏غليلك‏.‏

قال‏ ‏الفتى‏:‏

فاضرب‏ ‏لى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الجيل‏ – ‏وكل‏ ‏جيل‏ – ‏حين‏ ‏يرفض‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏كائن‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏بديلا‏ ‏يصلح‏ ‏أن‏ ‏يكون‏.‏

قال‏ ‏الحكيم‏:‏

فاسمع‏ ‏منى ‏بنى ‏مأساة‏ ‏ذلك‏ ‏الشاب‏ ‏الذى ‏تعثر وهو يرفض حتى كاد يتحطم‏ ‏وهو‏ ‏يبحث‏:

يحيى الرخاوى باريس 1968 – 1969

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *