“نشرة” الإنسان والتطور
26-2-2008
العدد: 179
علاج المواجهة المواكبة المسئولية م.م.م. (3)
المواجهة -1
ما زلنا نحاول أن نتعرف على ما أسميناه “علاج م.م.م. علاج المواجهة المواكبة المسئولية، وكان ما جعلنا نعرُج إلى ذلك هو ما المحنا إليه فى أول هذه الحلقات عن أحدث ما تطورت إليه الموجة الثالثة من “العلاج المعرفى”، باسم علاج القبول والالتزام Acceptance Commitment Therapy
قد تحدثنا أمس عن أنواع الحوارات، وأنها جميعا، فى ظروف خاصة، يمكن أن تؤدى وظيفة علاجية ما، وانتهينا إلى حوار المواكبة.
لا نوصى تحديدا بالرجوع إلى مواصفات هذا الحوار أمس، لأنه لن نتبين معالمه بشكل واضح إلا بعد تناول عنصر “المواكبة” فى هذا العلاج م.م.م. فهو يتم على محاور متعددة، كثير منها غير لفظى، وسنعود إليه فيما يخص معنى وأسلوب “المواكبة” بصفة عامة، باعتبارها ليست مجرد حوار بالمعنى الشائع لكلمة “حوار”.
المسألة تبدأ من تغيير الموقف العلاجى كما شاع حتى الآن، على الأقل فى ثقافتنا، من حيث التركيز على البحث عن الأسباب التى حدثت فى الماضى (السببية الحتمية) Deterministic Causality إلى البحث عن المعنى الذى تقوله الأعراض هنا والآن، والغاية التى تريد الأعراض تحقيقها، ولكنها لم تجد سبيلا إلى ذلك إلا بالمرض (السببية الغائية) Teleological Causality أى أنه علينا أن ننتقل
مِنْ:
لماذا؟؟
إلى:
ما معنى هذا؟
ثم:
إذن ماذا؟، إلى أين
ثم:
ماذا بعد؟
المواجهة
هذه المرحلة، فى محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، هى التى يمكن أن تتصف تحديدا بما أسميته “مرحلة المواجهة“، وهى مرحلة ممتدة متداخلة فيما بعدها
المواجهة مؤلمة عادة،
مواجهة النفس،
مواجهة الواقع،
مواجهة الآخر،
مواجهة الذات،
مواجهة العجز،
مواجهة الداخل،
من هنا، أنبه دائما أنه من نعم الله أنه أنعم علينا بنعمة العمى المناسب فى الوقت المناسب، لنتجنب جرعة مفرطة من المواجهة يمكن أن تخل بتوازننا،
هذا العمى الجّيد المناسب هو ما نسميه علميا بالاسم الرشيق “الحيل (الميكانزمات) الدفاعية”، مرة، وصلت التعرية أن دعونا الله بما يشبه الغناء: “يا ربَّنا يا ربَّنا، أَدِمْ علينا نعمة العمى”.
الحيل (الدفاعات، الميكانزمات) النفسية هى بداية رائعة لمسيرة الحياة،
صحيح أننا نولد بدونها، لكن سرعان ما نتغطى بها بالقدر المناسب حتى نستطيع أن نستمر،
لكن إذا امتد الغطاء حتى كتم أنفسنا،
أو أُحْكِمَ حولنا حتى منع حركتنا،
تصبح نفس هذه الحيل عائقا للنمو الذى خلقنا الله لنواصله.
هذا ما عبرتُ عنه شعرا قائلا:
مُذْ كنتُ وكانَ الناسْ
وأنا أحتالُ لكَىْ أمضىَ مثل الناسْ
كان لِزاماً أن “أتشكَّلْ”
أن أصبح رقماً ما
لكن أن يستمر هذا الاضطرار طول العمر، فهو الأمر المرفوض بنفس قدر قبوله مبدئيا، لأن نتيجته كما نراها فى إرهاصات هذا المتن تقول:
كان لزاما أن “أتشكل”
أنْ أصبحَ رقماً ما
ورقةُ شجرٍ صفراءْ
لا تصلحُ إلا كَىْ تُلْقىَ ظِلاًّ أغبرْ
فى أهمالٍ فوق أديم الأَرضْ
والورقةُ لا تتفتحُ مثل الزهرةْ
تنو بقدَرْ
لا تُثمرْ
فقضاها أن تذبلْ
تسقطْ
تتحللْ
تذروها الريحُ بلا ذكرى
كان علىّ أن أضغط روحى حتى ينتظم الصف
..إلخ
المواجهة تبدأ بأن نرصد تناسُب المرحلة مع ضرورة العمى.
فى الحياة العادية يجرى التعرى الاضطرارى والرؤية الصعبة أثناء أزمات النمو العادية (حسب إريك إريكسون: ثمانية عصور للإنسان)، هذا بالإضافة إلى دور الفن والإبداع فى الكشف والحفز نحو تعرية مناسبة للمتلقى المرن الذى يغامر بخوض تجربة الإدراك الإبداعى، والحفاظ على الدهشة.
بالنسبة للمريض، فإن المواجهة تفُرض عليه فرضا،
إما لفشل هذا العمى (الميكانزمات) من فرط استعمالها حتى أنهكت،
وإما لطول مدة الاستعمال أكثر مما تحتمله المرحلة،
وإما لاستعداد وراثى يبرر ضعف ميكانزمات بذاتها لحساب أخرى،
وإما بانهيار جانب من جدار التغطية ليعوَّض بجانب آخر أكثر تَعْميةً وأكثر خطورة،
العلاج التقليدى، بما فى ذلك ما يسمى العلاج النفسى (خاصة التنفيثى منه) يهتم بالإفراج عن بعض الضغط الداخلى أملا فى إعادة تنظيم الدفاعات بشكل أقدر، وأكثر تناسبا،
المواجهة لا ترفض ذلك لكنها تعتبر أن الغرض، حتى منذ البداية، هو فى معرفة “ماذا“، وليس فقط “لماذا“،
“لماذا” هذه لا تُرجْع الماضى لتصحيحه، ولكنها قد تساعد على تخفيف الضغط حتى يمكن التغطية بطريقة أفضل، لمعاودة استمرار النمو.
نوع آخر من المواجهة
المواجهة لا تقتصر على مواجهة الداخل وقبوله، والبحث عن معنى العرض، وإعادة توجيه المسار،
هناك نوع من المواجهة أبسط وربما أكثر فاعلية فى العلاج، وهو يتماشى مع المبادئ التقليدية للعلاج السلوكى والمعرفى، خاصة من الأنواع الأحدث فالأحدث.
يتناول الناس وبالذات الأهل، وكثير من الأطباء، خاصة غير المختصين، وكذا الأخصائيين الاجتماعيين والتربويين يتناولون كثيرا من الأعراض والشكاوى النفسية، بالنصح المتكرر بضرورة مقاومة المرض، ونسيان الأعراض، والبحث عن وسائل لتقوية الإرادة، بما يستتبع كثرة االتطمين والتهوين والوعظ والإرشاد، وكل ذلك بحسن نية مفرطة، ربما يهدف إلى دعم الغطاء الدفاعى وتحسين فاعليته، الأمر الذى يفشل فى كثير من الأحيان،
ساعد فى هذا التوجه (التغطية) المسارعة من جانب أغلب الأطباء بإعطاء المسكنات والمهدئات والمنظمات تحت مبررات علم كيميائى حقيقى، وأيضا تحت مزاعم علم – كيميائى- زائف، وكلاهما يلجأ إلى تفسير خطى ميكَنىِ عشوائى يربط بين العقار وتركيبه وطريقة فاعليته وبين أثره، مع أن كل هذا أمر لا يهم – فى المقام الأول- المريض والطبيب الذى يعرف مهمته، فما يهم كليهما – أو المفروض يعنى- هو النتيجة المرجوة من وقوف الطبيب الحكيم بجوار المريض حتى يبرأ مما يعانى منه، فيعاود المسيرة.
المواجهة المعرفية السلوكية، غير المواجهة الكشفية النمائية، مع أنها أيضا تركز على ما هُوَ: “هنا والآن”،: تركز على البدء من الموجود، وذلك بالقبول والاعتراف به، ثم نرى،
هى تبدأ بأن تتعامل مع الموجود “بما هو“، وليس بما يشاع عنه، وهى لا تتوقف عند ما يفسره، لا كيميائيا، ولا فى الماضى، وإن كانت تستعين بهما
العلاج المعرفى المسمى “علاج القبول والالتزام” يبدأ بالقبول،
هذا القبول هو ما يقابل ما أسميناها المواجهة التى تقبل، وتترجم، وتبدأ فورا.
القبول هو من أول أولويات آليات المواجهة، كما نمارسها، وهو أمر مرفوض عند معظم المرضى عادة، وبالذات مع بداية الاستشارة،
لكن بعد اكتساب الثقة مرة أو اثنتين غالبا، لا نحتاج أكثر منهما، ومع ثقة الحكيم فيما يقول ويفعل، يمكن توصيل الرسالة للحصول على نتائج أوضح وأسرع.
وبعد
شعرت أننى تماديت فى التنظير حتى الآن منذ فتحنا ملف هذا العلاج، ففضلت أن أتوقف لأقدم أربعة أمثلة سبق أن كتبتها فى عجالة ما، وهى تشرح فكرة البداية بالقبول، بالمواجهة، وأغلبها له جذوره فيما يسمى بالعلاج السلوكى والمعرفى، وهى عكس ما شاع من توصيات، وتسكينات وهى كما يلى:
1- علاج الأرق بتناول “الأرق” (وصفة الأعراض): بدلا من الشكوى منه، (وداونى بالتى كانت هى الداء)
2- علاج الشكوى من عدم التركيز، بتجاوز الحزق للتركيز
3- علاج الوسواس القهرى بالغمْر (على بن أبى طالب: “إذا خِفْتَ شيئاً فـَقَعْ فيه)
4- علاج رهاب الموت بالمشى فى جنازة المريض حيا
أولا: علاج الأرق بالأرق
“وصفة الأعراض” تعبير غريب، لكنه ليس من ابتداعى، صحيح أننى كنت أمارسه تلقائيا حتى أسماه أحد زملائى (أبنائى) النفسيين الذين أصبحوا من فرنسا فى فرنسا، (د.رفيق حاتم) وذلك حين عاد فى زيارة لمصر أصر فيها أن يحضر إحدى جلسات العلاج النفسى التى تدرب عليها هنا قبل سفره، وحين شاهد بعض التفاعلات العلاجية، كان تعقيبه أن هذا هو ما يسمى فى فرنسا “العلاج بالأعراض”. أو بتعبير أدق بوصفةُ الأعراض Symptom Prescription هذه الفكرة نفسها تعتبر جزءا من العلاج السلوكى فى بعض حالات الوساوس والرهابات (المخاوف المرضية).
الفكرة بسيطة: بدأت بمواجهة مع بعض مرضاى الذين يزوروننى بعد أن يكونوا قد زاروا عددا هائلا من الزملاء الممتازين سواء فى الطب النفسى أو فى التخصصات الأخرى، يأتون ومعهم هذا الملف الضخم من الوصفات الطبية، وهم محمَّلون بحقيبة من الفحوص والأشعات ونتائج المعامل وما إلى ذلك. كنت اسألهم ابتداء: ماذا ينتظرون منى أكثر من هؤلاء الزملاء الأفاضل الذين يحذقون كل ما أحذق، ويعرفون فى العقاقير الحديثة خاصة أكثر كثيرا مما أعرف؟ وحين يصرون على أنهم قد يجدون شيئا مختلفا، أعرض ما عندى،
مثلا: يشكو المريض من الأرق، وليس بالضرورة أنه لا ينام فعلا، فأكتب له على الروشته أنه “ممنوع النوم” على مسئولية الطبيب، فينزعج، وينزعج الأهل أيضا، فأضيف “إلاّ غصبا“، فيأتى فى الاستشارة يعتذر لى أنه نام ضد تعليماتى، لكن والله العظيم غصبا عنه، فتنقطع الحلقة المفرغة من: خوفه من ألا ينام، ومن خوفه من آثار الأرق، وتتوقف شكواه مما نسميه “أرق ذاتى“، وهو الذى يشكو فيه المريض من أنه لا ينام، وهو يحكى صادقا، فى حين أن المحيطين به عادة ما يلاحظون غير ذلك. هنا يمكن القول أننى وصفت له “الأرق” علاجا، وكتبته على روشتة، مثلما أكتب أى دواء، فى حين أنه كان يشكو منه. (وداوِنى بالتى كانت هى الداء).
أنا لا أنصح بذلك على طول الخط، فللأرق أسباب كثيرة، وقد يكون عرضا لأمراض أخرى، وقد يكون بداية لحالة خطيرة
تحذير:
قد لا يستطيع الطبيب الناشئ أن يكتب نفس الوصفة بنفس الحسم، حتى لا يترتب على ذلك سوء فهم من المريض أوأهله، لكننى فقط أريد أن اشرح الفكرة التى أنوى أن أواصل إيضاحها لاحقا.
ثانيا: علاج الشكوى من عدم التركيز، بتجاوز “الحزق للتركيز”
خاطبتنى احدى المذيعات الفاضلات من قناة فضائية مصرية قطاع خاص، وطلبت منى أن أساهم هاتفيا فى بعض ما ينفع الطلبة بمناسبة بداية العام الدراسى الجديد. مازلت أذكر آثار مشاركتى فى برنامج فى إذاعة الشرق الأوسط باسم “تذكرة نجاح” عام 1974، الأمر الذى أدى دورا لم أكن أتوقعه حتى أن رجالا ونساء حول الخمسين، يذكّرونى الآن بما كنت أقول آنذاك إذا التقيت بهم بين الحين والحين. كانت كلماتى (خمس دقائق) تنتهى كل يوم بأنه “إعمل إللى عليك دلوقتى، وسيب النتيجة على الله“.
كنت على ما أذكر أحاول أن أوقف هذا الانشغال المشَتِّتْ حول تصوّر عدم التركيز وضعف الذاكرة: أنبه أن كل ما على الطالب، وعلينا، هو “ملء الآن” بما ينبغى، لا أكثر، لم أكن أدرك أننى أشير إلى كفاءة المخ البشرى وقدراته الرائعة على الأداء السليم بمجرد أن تتاح له الفرصة الحقيقية.
دق جرس التليفون من الفضائية وسمعت طرفا من الحديث وكان الضيف ينصح الطلبة بضرورة التركيز للفهم لأنه بدونه لا فائدة!! برغم ما فى هذا القول من بعض الصواب، إلا أننى شعرت أن ثمة مبالغة قد تُفْهَمُ خطأ، وتؤدى عكس المطلوب حاولتُ أن أفهم المذيعة والزميل أن الفهم أسهل على المخ السليم من عدم الفهم،
حاولت أن أبين كيف أن المخ البشرى يفهم غصباً عنا مهما حاولنا إعفاءه من الفهم،
حاولت أن أنفى الأوهام التى تؤكد ضرورة أن يكون التركيز والفهم من أعمال الإرادة الواجب توافرها بوضوح أثناء أو قبل الاستذكار،
حاولت أن أبين كيف إن المعلومات المنظمة تنساب إلى المخ وتبقى حتى لو تصورنا أننا لا نركز ولا نفهمها، وأن توزيع الطاقة فى استجلاب إرادة التركيز وإرادة الفهم قسراً وقَبْلاً، قد يشتت هذه الطاقة ويجعل المخ فى انشغال بالتجهيز والتشكيك، بدلا من التهيؤ والتفرغ لتلقى المعلومات المرتبة بتلقائية طبيعية.
قلت لهما إن المهم هو الأداء المنتظم فى الاستذكار لمدة أربع ساعات يوميا – مثلا – من كتاب واضح، مكتوب بلغة سليمة، قد يشرحه مدرس منظم. ثم إن نفس هذا المخ هو الذى سيرتب الإجابة ويستعيد المعلومات تلقائيا أثناء الامتحان، لو أحسنّا تشغيله دون تشكيك وإضاعة الوقت فى تساؤلات وتوصيات حول مسائل التركيز والذاكرة.
اعترض أو دهش الزميل المقدم بذوق وأدب، وشكرنى على مداخلتى باعتبار أننى أنا الذى طلبت المداخلة، فاعترضتُ، وأعلنتُ أنهم هم الذين طلبونى، ضحكتْ المذيعة، وشكرنىِ الزميل، عرفت بعد ذلك أنهما كانا من الأمانة بحيث تركوا اعتراضى على الهواء ليعاد كما هو لاحقا.
ثالثا: علاج الوسواس القهرى بالغمْر
طيب، والوسواس القهرى؟
بصراحة المفروض أن يأتى هذا المرض أولا فى سلسلة العلاج بوصفة الأعراض، ذلك أن إحدى طرق علاج الوسواس هى “الغمْر”، أو الفيضان ، بمعنى أن الوسواس ، سواء كان فكرا (فكرة لحوح تتكرر هى هى) بلا منطق ولا داع، أو سلوك (مثل تكرار غسيل الأيدى، أو غلق الأبواب، ..إلخ) بدلا من أن ننصح المريض أن يقاوم هذا أو ذاك، بلا طائل، يمكن أن نطلب منه أن يفعلها إراديا بنفسه.
قالوا وكيف ذلك؟
فها أنذا أحكى:
جاءنى مريض مصاب بالوسواس يكرر بعض الأفعال أربع مرات أو مضاعفاتها، وجد فردة حذاء فى الطريق وهو عائد إلى منزله، فشاطها بقدمه، (مثلما يفعل أى واحد منا أحيانا)، لكن الوسواس هاجمه، وألزمه أن يعود ليشوطها ثلاث مرات أخرى حتى يكتمل العدد أربعة، ماذا وإلا، فعاد، وهكذا.
هذا المريض نفسه شك ذات مرة عندما دخل منزله: هل كان العدد أربعة أم أنه نسى، ورجح أن العدد كان أربعة، ومع ذلك نزل استجابة للشك، وشاط فردة الحذاء ثمان مرات (ضعف أربعة)، وهو يعلم تماما أنه لا لزوم لكل هذا، لكنه لا يستطيع أن يكف عن فعل ذلك.
هذا المرض يعالج بالعقاقير علاجا ناجعا فى بعض الأحيان، لكن العلاج بالغمر، (نوع مبالغ فيه من “وصفة الأعراض”) يساعد العقاقير تماما، يتمثل هذا العلاج أن تطلب من المريض ألا يقاوم الفكرة أصلا، وتطلب من أهله أن يكفوا عن إقناعه طول الوقت، فهو يعرف أكثر منهم أنه لامعنى لما يفعل، وتوصيه بما تيسر من زيادة إرادية فى وساوسه عدة مرات.
طلبت من هذا المريض، بدلا من المقاومة، أن يضيف إلى وسواسه بإرادته عددا آخرا من نفس الفعل، فإذا ألح عليه الوسواس بالعدد ثمانية ، فليكملها ستة عشر(4×4)، شرحت له كيف أن هذه الزيادة الإرادية هى لحساب العلاج، ثم أضفتُ: أربعة للوسواس، والباقى للدكتور، (ومن ثم للعلاج)، وذلك بعد الاطمئنان إلى اكتساب درجة مناسبة من ثقته.
سمعت أثرا عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال ما معناه “إذا خِفْتَ أمرا فقّعْ فيه“، (قعْ: فعل أمر من وَقعَ)، وهذا ما نشير به على المريض حين نستبدل بالمقاومة الاقتحام: قَعْ فيه.
المسألة ليست أوامر، بقدر ما هى اتفاق، وثقة، وإصرار من الطبيب، فالمريض، وتعاون من الأهل، وعقاقير مساعدة.
رابعا: علاج رهاب الموت بالمشى فى جنازة المريض حيا
الخوف فى المرض النفسى له تصنيفات وتشكيلات، فالخوف من مجهول غامض متذبذب وداخلى غالبا، يسمى “القلق العام العائم المتماوج“. هذا المرض كان شائعا فى أول ممارستى للطب النفسى (أواخر الخمسينات) لكنه أخذ يتراجع لحساب نوبات الهلع هناك أنواع أخرى من الخوف تحدث بالنسبة لمثير بذاته، لا مبرر للخوف منه، على الأقل الآن، مثل الخوف من الأماكن المرتفعة، أو الضيقة المغلقة، وهو ما يقال له “رهاب” (بضم الراء على وزن فعال)، ويسمى هذا الخوف أو ذاك “رهاب كذا، أو رهاب كيت، مثلا: رهاب الموت، أو رهاب السرطان..إلخ
كيف يمكن أن نتناول رهاب الموت، كمثال، من منطلق “وصفة الأعراض”؟، هل نوصى بالوفاة علاجا للخوف منها؟ أنا أمزح!! ولكن خذ ما حدث، ويحدث:
يأتى المريض ويحكى عن خوفه من الموت، وأنه يخشى لحظة الاحتضار، أو عذاب القبر، ثم يسأل وهو يشير إلى بعض أعراضٍ تُذكّرُهُ بالموت: يعنى أنا حاموت يا دكتور؟ فأبادر بالتأكيد أنه “إن شاء الله“، (بدلا من: بعد عمر طويل، أو بعيد الشر) فيقفز المريض متعجبا: إن شاء الله ماذا؟ فأرد فورا “إن شاء الله ربنا ياخدك”، هذا إذا كنت قد اطمأننت لدرجة مناسبة من ثقته بى طبعا، (وأنا أحصل عليها بسهولة نتيجة طيبة مرضانا، فروق ثقافية!!) فيكمل المريض “كيف؟ ماذا تقول؟”، فأواصل” تماما كما سيأخذنى وقتما يشاء سبحانه. ثم أتحسس ثقةً أعمق لأواصل التقدم، وأنا أطلب منه ألا يقاوم الفكرة بل يستدعيها، طالما أنها فكرة الموت، وليست الموت نفسه، وهذا عكس ما يقال له عادة فى الاتجاه الآخر من أن عليه أن يستعيذ من الفكرة، وأن يطردها بأن يحل محلها أفكارا بهيجة، أو أن يشغل نفسه بما هو أكثر واقعية. يستغرب المريض وهو يريد أن يتأكد من أنه أمام طبيب حقيقى، فأكمل بأن أكتب له على الروشتة فعلا “مسموح الموت وقتما يشاء سبحانه وتعالى“. وقد أمضى – حسب درجة الثقة – فى أن أوصيه بأن يخطرنى قبيل أن يحدث ذلك.
فى الاستشارة – إنْ أطال الله عمره وعمرى- نتواجه من جديد، ويتأكد هو من موقفى، وقد نتحدث فى نوع الجنازة التى يفضلها، أو تفاصيل النعى، وقد يبادلنى مثل ذلك، ونضحك غالباً، وقد يتدعم موقف الثقة بما يسمح لى أن أكتب له عبارات معينة يكررها مرات محددة صباحا ومساء، وقد يقبل، وقد يشفى، أو قد يذهب إلى من هو أحذق منى، وأطيب،
مع أننى طيب والله العظيم، لكن الطيبة أنواع.
كما أن العلاج أنواع .
والبشر أنواع.