نشرة “الإنسان والتطور”
الاربعاء: 18-6-2014
السنة السابعة
العدد: 2483
عزاء جارثيا ماركيز فى مسجد عمر مكرم (1)
بعد 87 عاما من حياة حافلة بالحياة الحية، وليس فقط بالكتابة والإبداع، رحل أول أمس جابرييل جارسيا ماركيز :(6 مارس 1927)، رحل ونحن – عبر العالم- أحوج ما نكون إليه، تماما مثلما كنا ومازلنا أحوج ما نكون إلى محفوظ، وإلى مانديلا، وإلى كل من استطاع أن يطمئننا أننا ما زلنا بشرا “نستطيع” و”نواصل”. كتبوا عنه وعن رحيله منذ أول أمس كل ما يمكن أن يكتب عن رجل يستأهل ما كتب فيه وعنه، كتبوا بحب وفهم ومسئولية وأمل، وكأنهم يحاورونه بعد رحيله ليطمئن أنه مستمر بجوار ربه، بطريقته، ورضا ربنا عنه، رحل الكولومبى الشهير، ووصف بأنه الحائز على جائزة نوبل 1982، ولا أظن أن هذا هو ما يميزه أكثر، مهما بلغت قيمة الجائزة التى قام بتعريتها شخصيا قبل الحصول عليها، وخاصة فى مجال السلام، ولم يكن متناقضا، فلكل مجال رجال، والقاضى ليس واحدا.
إنسان يمثل البشر الحقيقيين كما خلقهم ربهم مثل ماركيز لا يرحل، لأنه لا يُنسى، وهو الذى علـّمَنا وهو يخاطب زوجته واصدقائه فى آخر رسائله قائلا: “الموت لا يأتى مع الشيخوخة بل بفعل النسيان” وأيضا قال “..لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر، تعلمت أن الجميع يريد العيش فى قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن فى تسلقه”، لن أتمادى فى الاقتطاف من فيض إناراته فى كلماته الحكيمة بعيدا عن رواياته، مع أنى أعتبرها مثل أقوال أينشتاين، بعيدا عن نظرياته، وكلمات زرادشت (بعيدا عن فلسفة نيتشه)، واشعار طاغور، وحكمة محفوظ (الشيخ عبد ربه التائه)، أعتبر كل ذلك زادا بشريا لا يقل فائدة، ولا يقصر اختراقا فإثراءً لوعى البشر، من إبداعاتهم.
وبعد
أبلغتُ شيخى محفوظ نبأ رحيل جارثيا ماركيز، فترحم عليه، وسألنى عن مكان المعزى، فقلت له إنه فى عمر مكرم، فتعجب، فذكّرته بأن السيدة “مارسيدس” أرملة المرحوم هى حفيدة أحد المهاجرين المصريين، وهو ما يبدو جليًا في عظامها العريضة وعيونها الواسعة ذات اللون البني !! فطلب منى أن أصحبه للعزاء.
فى السرادق، وجدنا ديستويفسكى، وكازانتاكس، وعمر الخيام، والشيخ أمين الخولى، وكاسترو، وكافكا، وعبد المنعم رياض، وروجيه جارودى، ونلسون مانديلا، ما هذا؟ من الذى جاء بهؤلاء هكذا؟ نظرت فى ساعتى فإذا بها قد انقلبت إلى آلة الزمن، وراحت تعيد ما دار بيننا ذات خميس (الموافق: 9 -2-1995)، رحت أتأمل الشاشة وهى تظهر بعض ما سجلته تلك الليلة بعد عودتى هكذا (ملحوظة :النقط فى النـَّـص المقتطف تمثل مكان ما حذفت) : قرأت ما كتبته فى ذلك التاريخ بعد جلسة حرافيشية اقتصرت علينا نحن الاثنين، فكان منه ما يلى :
“… انتهزت فرصة وجودى وحدى معه، وأخذت أبدى له إعجابى الشديد بالشيخ أمين الخولى (جارنا فى شارع قمبيز بمصر الجديدة) وكم كنت افرح وأنا أشاهده يخطر بجبته وقفطانه فى حديقة منزله المقابل، وشاركنى شيخى إعلان محبته،…… ثم انتقل الحديث، لست أدرى كيف إلى أدب أمريكا الجنوبية، فوجدت نفسى………. أسأله عن رأيه فى جارثيا ماركيز، قال قرأت له، وأعجبت به، إن خياله واسع رائع، مزج فى تكامل بين الأسطورة والرواية الحديثة، قلت له لكننى بصفة عامة أتحفظ على قراءة مثل هذه الأعمال الكبيرة مترجمة، قال عندك حق، لكننى – كروائى – أستطيع غالبا أن أشعر بالهنات والنواقص، وأتصور أننى أستطيع أن أملأها، فيصلنى العمل شبه كامل، أقرب إلى أصله، ..فقلت له لقد تحفظت على كل ما قرأت مترجما إلا عددا قليلا مثل ترجمة سامى الدروبى لديستويفسكى، إننى أحيانا اشعر وأنا أقرأ ترجمة الدروبى أن ديستويفسكى كتب باللغة العربية أولا ثم ترجم إلى الروسية، فوافق شيخى قائلا: ” .. سمعت عنها مدحا كثيرا، لكنى قرأت ديستويفسكى بالإنجليزية. فلم أجد مبررا أن أقرأه ثانية بالعربية، قلت: والأصعب حين تكون الترجمة نقلة ثانية أو ثالثة وليست من اللغة الأصلية، قال: فعلا، إن ديستويفسكى هذا بكل عظمته وإبداعه تـُـرجم لأول مرة ترجمة سيئة بالانجليزية، فلم يلتفت إليها أحد، ثم جاء مترجم آخر وترجمه ترجمة وافية أمينة، وخذ عندك دخل ديستويفسكى تاريخ العالم الغربى والعالم أجمع..، ثم اضاف: مصداقا لما قلت فإن البعض يرجع شهرة رباعيات الخيام فى الغرب إلى ترجمة الكاتب البريطانى إدوارد فيتسجيرالد أكثر من الرباعيات نفسها… ”
شربت شفطتين من القهوة السادة، وأنهى الشيخ التلاوة، وفى طريق العودة ذكرت لشيخى أننى كنت هممت أن أقوم بنقد مقارن بين “مائة عام من العزلة، وثلاثيته، لكننى عدلت بعد نقدى لرائعته “ليالى ألف ليلة”، وأيضا نقدى المقارن لأسطورته “رحلة ابن فطومة، مقارنة بساحر الصحراء لكويلهو” ثم نقدى لأحلام فترة النقاهة، وأننى حمدت الله أن عدلت عن مقارنة لاحت لى لمجرد أن كلا من الثلاثية ومائة عام من العزلة رواية أجيال، حمدت الله لأن الأوْلى بالمقارنة بمائة عام : هى رائعته “ليالى ألف ليلة، وكذلك أحلام فترة النقاهة، لما بهما من سحر وأساطير وأحلام وتكثيف شعرى لا مثيل له.ولم يعقب شيخى.
أقفلت ضوء ساعتى، وأحكمت قبضتى على عجلة القيادة، وأفقت لأجدنى أقود سيارتى وحدى، يغمرنى يقين أن كل هؤلاء الذين جاءوا فى هذا المقال، سوف يلتقون عند ربهم، يرحمهم بفضله، ويجزيهم عنا وعن البشرية خير الجزاء.
[1] – تم نشر هذا المقال فى موقع اليوم السابع، بتاريخ: 19-4-2014