دعوة للقراء للمشاركة
منظومة الأخلاق تتغير
لا مفر من إعادة النظر فى مضمون ما شاع من تقديس بعض المفاهيم الأخلاقية التى تجمدت أو انقلبت إلى عكسها، فى السر أو فى العلن.
رأينا فى نهاية الملف أن نضع فرضا خطر على بالنا ونحن فى سبيل أن نعرض قائمة بالتحولات التى نتصورها فيما هو خلق، مما أصبح جديد بالنظر فى عصرنا هذا، بأدواتنا الأحدث، وحضورنا المختلف.
وأملا منا أن يشترك القراء -رغم تقصيرنا فى الانتظام -رأينا أن نعرض هذه القائمة كمجرد فرض، يصح أو لا يصح، وأن ندعو القراء للمناقشة حوله، ثم ننتهى بعد عدد أو عدة أعداد إلى ما يمكن أن نعرضه بشكل أوفى، ومشاركة أشمل.
الفرض
نقترح إعادة النظر فى منظومة الأخلاق السائدة على الوجه التالى:
المجموعة الأولى: أخلاق وقيم تحتاج إلى إعادة نظر:
الفرض يزعم أن ثمة قيم وأخلاق جميلة (مثل التضحية، والبراءة، والثبات على المبدأ) يمكن أن يكون عمرها الافتراضي، بما شاع عنها، قد انتهي، فهى تحتاج إلى تعديل أو تطوير أو إحلال. ليس المقصود بذلك أنها لم تعد قيما مطلوبة، أو مفيدة، لكن الدعوة هى لإعادة النظر بشكل أكثر موضوعية، وإبداعا.
[أنظر ملحق (1) فى هجاء البراءة فى حضورها السلبي،أو المثالي، أو التبريرى.]
المجموعة الثانية: رذائل وقيم سلبية شاعت حتى كادت تصبح مقبولة أو حتى مطلوبة.
إن عددا من السلوكيات القبيحة، واللاأخلاقية، أصبحت تمارس علانية وجماعيا حتى لم يعد يخجل منها صاحبها، بل إنها كادت تتحول إلى ميزات . قد لا يفخر بها صاحبها علانية (وإن كان هذا وارد ومتزايد)، ولكن أغلب من يتصفون بها يمارسونها بزهو ظاهر أو خفي. تحت اسماء متعددة مثل: الواقعية، والعملية، والنجاح ، وما شئت من صفات حقيقية، أو أقنعة خافية.
[راجع مقال::’دعوة ضمنية ‘ضد-أخلاقية’ من المثل الشعبي’]
المجموعة الثالثة: الفضائل الجديدة الدالة على النضج والواعدة مستقبلا لتميز الإنسان حالة كونه يتطور.
وردت خلال الملف أمثلة كثيرة لهذه المجموعة إشارات إلى مفاهيم وقيم لم تكن تعد من الفضائل أصلا، لكننا أسميناها كذلك: مثل أن يصبح التفكير السليم خلقا حسنا (ص: 59)، أو أن يصبح العلم ضميرا حيا ( ص: 56)، أو أن تصبح الحرية شرفا (ص: 41) لا تسيبا واستسهالا، أو أن يصبح الإبداع فى ذاته تناغما قيميا، ناهيك عن علاقة الأخلاق بالجمال. إلى غير ذلك مما جاء فى الملف.
[أنظر أيضا الملحق (2) -كمثال تفصيلى نسبيا- عن ما أسميناه ‘فضيلة الدهشة’].
الدعوة للمشاركة:
فيما يلى عينات من المجموعات الثلاثة، والمطلوب من القارئ هو التعبير عن رأيه فى هذا الفرض أصلا، رفضا، أو قبولا، أو تعديلا.
ثم إننا ندعوه إلى إضافة أو تعديل أو نقل أى من القيم الموضوعة تحت كل مجموعة. وقد قصدنا عمدا أن نكتفى بتحديد اسم القيمة المقترحة، أو السلوك المعني.
الهوامش
[الهوامش الملحقة تبين بعض ما قصدنا إليه من إعادة النظر وتغيير القيم وتشمل :
(1) قصيدة (فى هجاء البراءة) تعرى السلبيات التى تتخفى تحت هذا الاسم
(3) تعريف بقيمة مهملة أسميناها (فضيلة الدهشة).
(3) تفرقة قديمة بين نوعين من الأنانية وردت فى أول عدد للأهرام (سنة 1876)
المجموعة الأولى
فضائل لإعادة النظر 1- الثبات على المبدأ 2- ‘أنصر أخاك ظالما أو مظلوما’ 3-البراءة الطفلية (نكوصا) 4- الفخر بالوساطة 5-مسايرة الجماعة(جدا) 6-الفخر بالنشر (للنشر) 7-التقدير من خلال نيل الجوائز (فى ذاته) 8- احتكار الجنة 9- تقديس’تراب الوطن’ 10- التضحية المثالية. 11- الحصول على لقب علمى (جدا) 12- التميز الطبقى (العنصري) |
المجموعة الثانية
رذائل كادت تصبح فضائلا 1-الغش الفردى (بوعى أو بدون) 2- الغش الجماعى (الأسرى خاصة) 3-الشطارة (طول الوقت) 4-التهرب من الضرائب 5 التلفيق فى الأبحاث (ولو لاشعوريا ) 6- الاعتداء على حق المؤلف 7- الشللية (على حساب الآخرين) 8-تمشية الحال 9- التزوير فى الانتخابات 10- التعصب الديني 11- العزوف عن القراءة 12-الاحتكار فى التجارة |
المجموعة الثالثة
فضائل وقيم تتخلق 1-فضيلة الحيرة الطازجة (أنظر الملحق 2) 2- فضيلة المخاطرة المبدعة 3- فضيلة الحس النقي 4- فضيلة الإتقان 5- فضيلة الوعى الممتلئ 6-فضيلة الجهل المعرفي 7- فضيلة الإنصات 8- فضيلة التلقى المبدع 9- فضيلة تأجيل الحكم 10- الاقتحام المسئول 11- الحوار بالجسد 12-العمل البدنى (واليدوي) |
هوامش: ملحق (1) (نموذج المجموعة الأولى) فى هجاء البراءة
هذه القصيدة تحاول أن تعرى كيف تستعمل قيمة حسنة السمعة, وهى ‘البراءة’
لتغطية أو تبرير ما قد يمارس به حضورها السلبى حين تحل محل يقظة الوعى وقتال الشر
- 1 -
براء ة ممتهنـة, تنازلت عن حولها والقوة -2- براء ة باهتة قد حال لونها وظلـلت بالسهو والعمي, أحمالى الثقال. -3 - براءة قاسية تقتل بالإغفال والمسالمه وتلصق الجريمه, بموتى اليقظ . - 4 - براءة ساكنة تقطـعت أطرافها, فساحت الحدود, مائعة مرتجة - 5 - براءة زاحفة مبتلة قد سيبت مقابض الأفكار براءة سارقة من فطرتى عبيرها وبعثها |
- 6 -
براءة جبانة غبية ,…وكاذبة قد لوحت لمثــــلنا بالجنة الموات والسكينة فناء ظهرنا بكدحـنا ومادت السفينة - 7 - براءة مخاتلة ,وتاجرة تطل من بسمتها المسطـحة , معالم المؤامرة والصفقة الخفية - 8 - براءة مشلولة تنتف ريش نورس محلـق معاند تحشى به الوسادة تزين القلادة -9- تكاثـر الجراد جــحـافل البــشـر كـالــدود والجـــــذور تغوص فى اشتياق فى الطين والعفن . |
هوامش: ملحق (2) عينة من الفضائل الجديدة (المجموعة الثالثة):
فضيلة الدهشة
إذا تلفت حولك لأى نقاش, أو طالعت الوجوه فى أى اجتماع (سياسى أو علمى أو ثقافى أو غيرذلك) فى بلادنا هذه فى عصرنا هذا, فلابد أن يأخذك العجب وأنت تشاهد الثقة المفرطة تغمر الوجوه, أغلب الوجوه, تتـناوب بانتظام مع ابتسامات الاستعلاء وغمزات التهوين مما يقال, يتم كل ذلك فوق أرضية متسعة من درجات مختلفة من عدم الانتباه أو اللامبالاة أو’الفرجة’ على وجوه بقية الحضور. كأن لسان حال المشاركين يقول:
هذا الذى أسمع إما أنى أعرفه من قبل , فهو أصح الصحيح, أو أننى لا أعرفه, فهو تافه لا لزوم لمعرفته.
هؤلاء الناس يكادون يصنـفون الكلام على أنه: إما كلام ‘فارغ’ (وهو الجديد الذى لا أسمح له أن يصلنى فيدهشني), أو كلام’مفروغ منه'(وهو القديم الذى لم يعد يدهشني).
لعل فى هذه الظاهرة المتواترة ما ينبهنا إلى ضرورة إعادة النظر فيما حدث فى عقولنا حين كادت تستسلم تماما للمعلومات المصقولة من كل مصدر, حتى أصبحت مخزنا للمعلومات أكثر منها مصنعا للأفكار. لعله ينبه إلى أن أغلبنا يحاور ليدافع عما يعرف, لا ليحاول أن يعرف ما لا يعرف, أغلبنا يقرأ ليؤكد ما سبق له قراءته, لا ليفحص ما تمت كتابته دعوة له للمشاركة بالتلقى الخلاق.
الثقافة ليست موقفا من الحياة فحسب, وإنما هى قدرة على الحياة. تنبع هذه القدرة من الاحتفاظ بأبـواب العقل مفتوحة لكل جديد, مندهشة من كل اختلاف, منصتة لكل رسالة.
لابد أن نبدأ فى إعادة النظر فى موقفنا من طريقة انفتاحنا على المعارف.
إن العقل البشرى هو كيان مندهش بالطبيعة. إن غريزة الدهشة هى أول ما ينشط عند الطفل. إنها إعلان أن جديدا يصل إلى الوعي. بهر الإدراك Orientation) ( هو أول ما ينشط فى الأطفال حين ينظرون إلى ما يصل حواسهم (بصرهم مثلا) ليتبينوا معالمه فى دهشة منبهرة, هى أساس تكوين وتشكيل أدمغتهم من البداية للنهاية.
ماذا نفعل بالنشء لنفاجأ بهم وقد شبوا عن الطوق وهم لا يستطيعون استخدام عقولهم إلا فى ‘الترجمة الفورية’ إلى معجم ساكن يصنف المعلومات حسب الرموز السابقة التجهيز, الثابتة الدلالة.
أخطر الخطر على عقولنا هو أن نتبادل المعلومات من موقع ساكن مستتب بلا حراك خلاق.
إن العلم المطلق هو لله وحده سبحانه وتعالى عما يصفون, أما ونحن مازلنا بشرا فلابد من مساحة كبيرة من ‘الجهل المستكشـف’, الذى من خلاله يمكن أن نواصل مرونة تواجدنا متزايدة الاتساع, متمتعين بما أحب أن أسميه هنا ‘الدهشة الخلاقة’.
إنـنى أتصور أن هذه الدهشة الخلاقة هى التى يدعوننا ديننا الحنيف أن نمارسها إذ ننظر فى السماء والنجوم ونحن نتأمل فيما خلق وسوى سبحانه وتعالي. إنها ليست دعوة لترجمة ما يطالعنا فى السماء والأرض من آيات إلى معارف علمية مختزلة قد تتغير فى أى وقت, إننى أراها دعوة للإيمان بالغيب إذ يتفتح إدراكنا ليستقبل-مندهشا-ما لا يعرف, فيؤمن أكثرفأكثر بما يمكن أن يعرف. إنها دعوة لاستمرار تجديد المعارف بشكل لا ينتهي.إنها ليست درسا فى علم الفلك ولا نظرية فى دوران الأرض.
أن تدهش حين تقرأ ما يخالف رأيك, فتعيد النظر فيهما, فيما قرأت وفى رأيك,وأنت مستعد أن تقبل إمكان صحة أيهما. هذه فضيلة.
أن تلتقى بـإنسان مختلف عنك, فتنصت له ويرتفع حاجباك دهشة وتقديرا لبعد المسافة بينكما, لكنك تحترم ما يقول وأنت لم تفهمه كله, فلا ترفض ما لا تفهم . هذه فضيلة.
أن تضع نفسك مكان محدثك , فتتبنى وجهة نظره, وتتصور ما كان يمكن أن تكونه .لو أنك فى موقعه فتفهم أكثر كيف يفكرهكذا, هذه فضيلة.
كل هذه فضائل تشير إلى كرامة العقل البشري.
ياترى كم منا يستطيع أن يلقى بنفسه من جديد فى بحار معرفة لا يعرفها, سواء كان من أهل اليمين أو اليسار, أو أهل أى منظومة دينية مختلفة؟
ياترى كم منا يستطيع أن يعيد النظر فى حكاية ‘يحيا الثبات على المبدأ’ التى قد تشير ضمنا إلى الجمود أو البلادة أو الرعب الدفين, وليس بالضرورة إلى الاستقرار والاعتزاز بالرأي؟
ياترى كم منا يستطيع ان يفرج عن بعض الذين حبسهم داخل سجن أحكامه المسبقة ‘لعلهم’ أو ‘لعله’…؟ ولربما التقى الجمعان على خير أرحب؟
إن حيوية أمة من الأمم يمكن أن تقاس بمدى وفرة هذا النوع الجيد من البشر. إنه لا قيمة لما يسمونه الديمقراطية إلا إذا كانت وظيفتها الأولى هى أن تتيح قدرا من الأمن خليقا بأن يسمح للعقل البشرى بالتجول مع العقول الاخري, والتنقل بين الأفكار الأخري, الديمقراطية لا تقتصر وظيفتها على فرض رأى أغلبية لا تعرف حقيقة من أعطته أصواتها, تنيبه فيما لم تفوضه فيه !!
أود أن أوضح أخيرا أننى لا أفتح بذلك بابا ‘للشك المطلق’, ولكننى أحاول أن أحرك الجمود, وأهز اليقين الزائف, وخاصة إذا كان يقينا يحمل شعارات لم نشارك فى صكها, ولم نراجع مضمونها.
إن نافذة فضيلة الدهشة الخلاقة هذه, يمكن أن تهب علينا نسمات المعرفة المتجددة, المحملة بلقاح الحياة الطازجة, وإذا بنا نتمطى متألمين بعد طول التجمد والقرفصة, لنكتشف برودة رخام قبر التلقى السلبى الساكن, فنأبى أن ترقد فيه عقولنا حيث لا يخفف من برودته جمال نقوش الرثاء على أبوابه, ولامعلقات الفخر والهجاء على جدرانه.
هوامش: ملحق (3) مقتطف (من الأهرام من قرن وربع) , وموقف: (الآن)
الأنانية الفضيلة , والأنانية الرذيلة , والحرب والسلام
مقدمة:
حين ندعو إلى إعادة النظر فى المسلمات المتعلقة بالنية السائدة, فنحن لا نبدع جديدا, إن إعادة النظر مطلوبة باستمرار, بل أنها جارية فعلا رضينا أم لم نرضي.
فى يوم 5 أغسطس سنة 1876 صدر العدد الأول من صحيفة الأهرام, وكان به موضوع يشير إلى ما نحن بصدده فى هذا الملف وهو: إعادة النظر فى مسألة: ‘حب النفس’, كغريزة طبيعية ترتقى لتصبح فضيلة متعلقة بحفظ الذات وحفظ النوع ثم يصيبها الإنحراف, وعدم الترتيب’ حتى تنقلب إلى رذيلة تكمن وراء أوهام التميز العنصرى فالاستعلاء فالاستعمار فإشعال الحروب.
أخذنا هذا المقتطف الصادر فى صحيفة يومية منذ قرن وربع لنقرأه معا, نقف من ما يعن لنا من مواقف ونحن ندعو إلى إعادة النظر.
المقتطف:
(الأهرام 5 أغسطس سنة 1876 العدد الأول)
كيف ما وجه العاقل أفكاره باحثا عن حركة العالم الإنسانى يرى فروع الحوادث راجعة إلى أصل واحد, أنتج نتائج متعددة أوجبت تشعشعا مستمدا من عدم ثبوت الحال عل نمط بالنظر إلى السلام وعدمه.
الموقف:
نشر هذا الكلام منذ قرن وربع, فى العدد الأول فى الصفحة الأولي, دون عنوان محدد يشير إلى أنه مقال عن النفس الإنسانية, أوعن السلام, أو عن حركة العالم, كما لم يكتب اسم كاتبه أصلا,ولا تحدد المقال دون ما بعده إلا بخط متوسط مهزوز.
يلاحظ منذ البداية بعض العموميات كما يلي:
(1) الاهتمام منذ هذا التاريخ بمخاطبة العقل ودعوته للامتداد إلى العالم, باحثا عن حركة العالم الإنساني. الهم واحد , وما يروج له من عولمة هو ليس جديدا , بل إن الامتداد الذى دعا إليه المقال يبدو أكثر انتماء إلى وحدة العالم, وأيضا إلى محاولة فهم القواعد الأساسية التى تحكم سلوك البشر أفرادا, فجماعات. أكثر وجدية مما يجرى الآن مع فوارق السرعة , والإغارة , وغموض الدافع.
(2) إن هذه الدعوة بإعمال الفكر إنما توجه للقارئ العادى فى صحيفة يومية
(3) إن الانشغال بـ’السلام’و’عدمه’ هو هم من هموم الإنسان منذ ذلك الحين.
المقتطف:
ولو أشغلنا الفكر مليا للوقوف على حقيقة تلك النتائج العظيمة لقادتنا ضرورة هذه الحقيقة إلى البحث البسيط والافرادى بالنسبة إلى الشخص الواحد حيث يتركب الجمع من المفرد, وحينئذ يسهل علينا أن ندرك هذه الأمة أو تلك المملكة مع عظمها وسؤددها وسطوتها الأدبية والمادية بالنسبة إلى جرى أعمالها ومسير حركاتها فى ساحة الهيئة الاجتماعية واختلافها عما سواها ومراقبتها من دونها بأية حالة كانت.
الموقف:
هذه القضية لم تحسم حتى الآن, قضية أن ما يسرى على الفرد يمكن أن يسرى على الجماعة قياسا موازيا. ينكر علم النفس الاجتماعى عادة هذه المقولة, لكن الملاحظ أن كثيرا من التفسيرات والاجتهادات تنهج هذا النهج, وتحاول -خطأ أو صوابا- تفسير سلوك المجاميع وكأنها كيانات فردية. هذه القضية الخلافية بدأت منذ مقولة أفلاطون أنه ‘مثل الإنسان ..مثل الدولة’. كتب أفلاطون جمهوريته باعتبارها دراسة للنفس الإنسانية اضطر أن يقوم بتكبيرها إلى ما هو دولة حتى يمكن النظر إليها بتمعن وتفصيل (معظم الناس ينسون هذه الحقيقة التى أكدها أفلاطون فى مقدمة الجمهورية ويتصورون أن الجمهورية هى نظام سياسي, وأنها يوتوبيا واعدة, وليست محاولة لفهم النفس الإنسانية, ومن ثم فهم العالم.
المقتطف:
ومتى بحثنا مدققين فى الفرد الواحد ذاته وقابلناه بالنسبة إلى غيره, لاح لنا من وراء الحجاب تلك الصفة الغريزية التى لا يخلو منها إنسان, ولا تحول عن أحد, فهى كقول من قال: عادة فى البدن لا يغيرها إلا الكفن. وإن أردنا أن نعبر عن هذه الصفة بما يدل عليها, فتدعونا الأفكار متسابقة إلى التصريح بها بقولها حب الذات, حب الذات.وبالحقيقة أن هذه الصفة الغريزية مستقلة فى كل فرد ولها عليه دواع ودعاو, فهى الأميرة المطاعة والسلطانة المطلقة التصرف, ولا ننكر أن هذه الخلة هى من الخلال الغريزية التى تحل الإنسان محل الشرف وترفعه من عمق الكسل والتهاون, فيتزين برداء الفلاح ويتكلل بتاج التقدم فيها وعليها مدار سيرته وإنفاذ أمره.
الموقف:
اعتبار حب النفس غريزة, وفى البدن, بداية مهمة لتفكيرعلمى وواقعي, ثم اعتبارها إيجابية يذكرنا بما آل إليه الفهم المدعى (شبه المثالى) من التأكيد على مقابلة ما هو أنانية بما هو إيثار. يذكرنا هذا الموقف الإيجابى من حب النفس (كنقطة بداية, وحافز للطموح, والتفوق) بما ذهب إليه حديثا إريك فروم من التركيز على ضرورة التفرقة بين ‘حب النفس’ و ‘الأنانية’. إن حب النفس سمة إيجابية وضرورية ولازمة للانطلاق إلى الآخرين من موقع ناضج. لا يوجد ما يطمئن إلى موضوعية حب الآخر (الموضوع) إلا مرورا بحب النفس, وبالعكس.
ثم لاحظ وصف حب النفس بأنه غريزة ‘تحل الإنسان محل الشرف وترفعه من عمق الكسل والتهاون’. إن ما يسمى بالشخصية غير الكفء تتصف, رغم الطيبة والمطاوعة الظاهرتين, بأن صاحبها خال من الطموح, عاجز عن المبادأة. هذا ما انتبه إليه هذا الكاتب, ليثبته فى صحيفة يومية تصدر فى مصر منذ قرن وربع. إن من أهم الصفات الأخلاقية التى تحتاج إلى مراجعة هو ما يسمى ‘الطيبة ‘ (!!) . أنظرهذا الكاتب فى الأهرام وتساءل معى عمن يخاطبه من قراء هذا الخطاب العميق. إنها وظيفة الصحافة المعرفية, جنبا إلى جنب مع وظيفتها الإعلامية , والترفيهية (الأمر الذى استقر مؤخرا فى الصحف العريقة, والشاملة, لاحظ صفحات الرأي, والصفحات المتخصصة فى الأهرام اليوم)
المقتطف:
ولكن نستجير من الله منها إذا تجاوزت تمام الترتيب وكانت غير محاطة بدائرة الاعتدال التى نقطة مركزها مهما ترد أن يفعل الناس بك افعل أنت بهم حيث لاتتساوى خطوطها بالنسبة إلى خط الدائرة , بل تذهب بالخط المنحرف إلى زاوية الانعكاس طمعا بزيادة الاستيلا فتنتج الطمع غير المرتب الذى يصورلكل إنسان استيلآ ما لسواه له, فلا يراعى حرمة زيد ولا يسأل عن حقوق عمرو, وكأنه يقول لا يوجد غيرى على وجه الكرة, فتراه مشتغلا دون انكفاف بالحصول على ذاك, والقبض على تلك إلخ. ولدى وقوفنا على هذه الحالة الحقيقية المتعلقة بالواحد, لا يصعب علينا الوقوف على الحقيقة المتعلقة بالاثنين أو بالثلاثة وهلم جرا.
الموقف:
من هنا يبدأ المقال فى التمييز بين الاعتدال والتوازن فى ناحية , فى مقابل الانحراف حتى تؤدى نفس السمة عكس ما كانت تعد به, حتى تصبح السمة الإيجابية سلبية.لاحظ التأكيد على أن الذى يقلب الإيجاب سلبا هو ثلاثة أمور (1)تجاوزالاعتدال (2) فقد الاتساق (عدم الترتيب) (3 ) عدم تحرى العدل حتى تنسى (ا) أن ثمة ناسا (ب) أنك ينبغى أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
إن نتاج كل ذلك هو ‘الطمع غير المرتب’ الذى يصل بك إلى أنه ‘لا يوجد غيرى على وجه الكرة’ (لاحظ: لم يقل الكرة الأرضية).
وقفت طويلا أمام تعبير الطمع غير المرتب وكأن الطمع المرتب هو شيء آخر.. إلخ.
كل هذا وهو يتكلم عن الفرد , لكن هذا ليس هو المقصود أصلا, ذلك أن مدخل الكلام كان تساؤلا عن السلام, وعما يجعل الناس يتفرقون إلى قبائل متناحرة حتى الحرب. يتدرج الحديث فورا إلى الإشارة إلى أن هذا الوجه السلبى لحب النفس , نتيجة للطمع غير المرتب, هو الذى يتكرر فى المجاميع وهى تتكون وينضم أفرادها إلى بعضهم البعض ليصبحوا قبائل متناحرة من حيث أن الذى جمعهم هو التميز عمن سواهم, لا التعاون فيما بينهم إلى من سواهم. وبصياغة أخرى: إن غريزة حب النفس لا ينبغى أن تعنى بحال إلغاء الآخر, ولا الاستعلاء عليه. إن تجمع الناس بعضهم إلى بعض شعوبا وقبائل تتماثل أفراد كل منها, هو اختلاف للالتقاء. ‘وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا’. أما إذا كان الاختلاف للتميز,والاستعلاء , فالاستعمار (القديم أو الجديد) فخذ عندك :
المقتطف:
……إذا لاحظنا انضمام الأول إلى الثانى دون الثالث وانضمام الثالث إلى الرابع دون الخامس حيث يتألف من ذلك قبيلة شمالية وأخرى جنوبية الواحدة غربية والثانية شرقية إلخ. وعند الاتحاد الأدبى يصدر المادي, فتجتمع المقاصد, ويرجع كل منهم إلى مبداه, فيتحد هذا مع رفيقه لعدم التباين فى الوضع, فيرون من دونهم من القبائل أو من الممالك بالطمع المتسلط ويرجعون بالتكاتف والتعاضد إلى اعمال ما يخفف طمعهم من الاستيلا على سواهم, وإحرازهم تحت مطلق تصرفهم من يكون مستقلا عنهم,وقس…
الموقف:
لم أستطع لأول وهلة أن أفهم كيف يخففون طمعهم من الاستيلاء على سواهم , تمنيت أن تكون خطأ مطبعيا, وأن يكون النص الأصلى هو ‘يخفي’, لا ‘يخفف’, إن صح ذلك فلعل الكاتب يشير إلى تبرير الاستعمار, بأن الذى يتصور نفسه أرقى وأكثر حضارة إنما يستعمر من دونه ليعمر أرضه ويرتقى به, وهو فى واقع الحال إنما يزيد تعاليا, واستعمالا لمن هم دونه قوة على الأقل, الأمرالذى أصبحت له صورة عصرية أخرى تجرى تحت مزاعم ما يسم بـ’حقوق الإنسان, ونصرة الأقليات, والتأكيد على الديمقراطية وما شابه ذلك.
على أنه يبدو أن هذا الإخفاء (أو التخفيف!!) لا يصلح, فسرعان ما يعلن الأمر , ويكشر العدوان عن أنيابه, ويختفى السلام.
المقتطف:
…, فيجاهرون بالعدوان ويفزعون إلى هدم الراحة ليستروا نبراس السلام بكثافة غيوم الحروب والقلاقل غير مبالين بما هنالك من تشويش الأفكار وانقلاب مركبات الأعمال بتعطيلهم مسالكها القويمة, كأنهم هم العالم وليس سواهم.
الموقف:
لاحظ أيضا التدرج الذى أدى أن تحل غيوم الحرب محل نبراس السلام, وكيف أن المسألة مرتبطة بـ ‘تشويش الأفكار, وانقلاب مركبات الأعمال..’. إن الحرب منذ أن كانت, هى مسألة غير منطقية مهما كانت تبريراتها, ثم إنها أصبحت أقرب إلى الجنون فى صورتها الأخبث والأحدث (القتل عن بعد دون فروسية), الحرب مسألة ليست فقط مخالفة للطبيعة, وضد الحياة, بل إنها مسألة ضد المنطق ودليل على تشويش التفكير. إنها ضد الفطرة الإنسانية السليمة حتى لو ثبت رسوخ جذورها فيما قبل الإنسان.
المقتطف:
فنرى إذ ذاك تغيرات شتى وانقلابات عديدة ومقاصد متنوعة ومذاهب مختلفة وتضعضعا مستمرا من حركات متجاذبة متدافعة.
الموقف:
هذا التداعى الذى تتداعى به الحروب, وكأنها بمجرد انطلاقها تتمادى بالقصور الذاتى , صوره الشاعر العربى حين قال:
وما الحرب إلاما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحـديث المرجـم
متى تشعلوها تشعلوها ذميمة وتضرى إذا ضريتموها فتضرم
المقتطف:
فنلتزم وقتئذ بعد معاناة البحث أن نرجع هذه الروع إلى أصل واحد أنتج هذه النتائج, وندعوه بالمقال, ودليل الحال:حب ذات غير مرتب, أصدر طمعا فعل ما تري.
الموقف:
وهكذا يختتم الكاتب مقاله بالتذكرة بالفرض الذى اقترحه كبداية لتفسير غباء, ولاترتيب, وأنانية, وظلم الحروب, وأنه يرجع إلى حب ذات غير مرتب يصدر طمعا , وبالتالى فهى الحرب والضياع.
وبعـــــــد:
ليس الغرض من إلحاق هذا المقتطف فالموقف بملف الأخلاق أن نكرر مقولة أنهم كانوا زمان أسبق, وأعمق, وأكثر إحاطة, وأدق استنتاجا, هذه لهجة لا تفيد حتى ولو كان فيها تكريم للسابقين, وتمجيد لما كانوا يتمتعون به من حصافة وجدية. إن الغرض فيما يتعلق بالمسألة الأخلاقية, وأيضا بصفة عامة يمكن إيجازه كما يلي:
1- إن للصحافة اليومية دورا معرفيا شديد الدلالة
2- إن الأخلاق تحتاج إلى فحص أشمل من الأحكام المطلقة التى اعتدنا عليها ونحن نقسمها إلى ‘أبيض-أسود’, أو ‘حلال- حرام’.
3- إن فحص الأخلاق ومراجعتها خليق بأن يعيد تصنيفها, وترتيبها, وتنقيتها, وقبول ما أشرنا إليه من قيم جديدة تتولد من إعادة النظر, وتعميق الفهم.
4 – إن السلام مرتبط بـ ‘حب النفس’ فى هارمونية (مرتبة) وهو شرف وحفز, وليس سكونا وإيثارا زبلها , ولا هو تنازل واستخذاء هروبي.
5- إن الحرب عمل لا أخلاقى مهما قيل فى تبريرها, من حيث أنها طمع غير مرتب, و ورطة غبية, يدفع ثمنها فى نهاية النهاية كل من الجانى والمجنى عليه , وربما الجانى أكثر لو تمادى , فى حين أفاق المجنى عليه ليحب نفسه (وقد يحب الجانى إذ يحول دون ظلمه وشطحه) بطريقة أرقى وأكثر إنسانية .
6- إن مقولة فهم المجتمع, والسياسة, والدول, والمجاميع, من خلال القياس على فهم الذات, هى مقولة تستأهل العودة للمراجعة المرة تلو المرة .
7- إن الجدية التى كتب بها هذا المقال فى أول عدد فى الأهرام تستأهل وقفة لمراجعة مدى الجدية التى تصدر بها الصحف, أغلب الصحف هذه الأيام, وإن كان علينا أن نعترف أن الأهرام ما زال رائدا فى هذا المجال منذ صدوره حتى الآن.