دعوة ضمنية “ضد-أخلاقية” من المثل الشعبى
الاستشهاد بالأمثال ليس دعوة لتطبيقها. قد يكون تنبيها لتطبيق عكس ما يقوله المثل, وقد يكون كشفا لأمر يجرى بشكل ملتبس, فيعريه المثل. ومع ذلك, فكثيرون منا يتصورون أن للأمثال قيمة أخلاقية إيجابية فى ذاتها, فى حين أنها قد تفيد فى كثير من الأحيان معان سلبية, بل وقد تساعد على الحفز إلى ممارسة هذه القيم السلبية, مثل الدعوة إلى قبول الذل, أو التأكيد على التمييز الطبقى أو العنصرى، أو تشويه صورة الذات الوطنية أو القومية , بما لا يدع مجالا للشك عن مغزى ظهور مثل هذه الأمثال, وترجيح سمة العصر الذى ظهرت فيه.
إن الوعى الجماعى قد تبلغ به القسوة مبلغا لا أخلاقيا ينبه إلى أنه ليس كل ما يجمع عليه الناس, هو أفضل, أو أصدق, أو أرحم. بل لعل العكس يكون أقرب للصواب أحيانا كثيرة. نتذكر – مثلا – لعبة الحكم على الحلاج, والقاضى يتذرع بحكم العامة, بعد أن استدرج الحلاج حتى “يبوح”, لكى يصدر فيه ما قرر ودبر متذرعا بحكم العامة, نذكر كيف ينهى عبد الصبور مسرحيته الرائعة ” مأساة الحلاج” بتذكيرنا بقسوة المجموع. (أنتم حكمتم فحكمتـم). نذكر أيضا منظرا مقابلا فى فيلم زوربا اليونانى – رحم الله أنتونى كوين- وهو يصور نساء الجزيزة وهن يشمتن , أو يدمغن , أو يتشفين فى بريئة متهمة . (شيء من هذا القبيل, لا أذكر التفصيل , لكن الصورة حضرتنى ماثلة).
دأبنا فيما سبق فى باب مثل وموال فى هذه المجلة آن نقدم الجانب الإيجابى والمعرفى فى المثل العامى، ثم ننتهزها فرصة هذه المرة لنقدم الوجه الآخر لجانب لاأخلاقى من الوعى الشعبى، دون أن ننسى ما بدأنا به هذه المقدمة, بأن المثل , حتى إذا تضمن دعوة لاأخلاقية, فإن استعماله قد يكون أخلاقيا بقصد تعرية الموقف حتى نتجنبه, أو على الأقل لا نتمادى فيه.
إن سياق المثل, وتوقيته, لا ألفاظه, هو الذى يمكن أن يحدد حسن أو سوء استعماله.
”أصل الشر فعل الخير”
هذا مثل يبدو شديد الغرابة, ماذا يريد أن يقول؟ هل ينهى عن فعل الخير أم يشكك فى جدواه, هل يريد أن نقتل بعضنا بعضا خوفا من أن ينقلب الخير شرا, أين هذا المثل من المثل الذى أشرنا إليه مرارا ونحن ننبه ألا ننتظر العائد السريع لفعل الطيب. ذلك المثل الجميل الذى يقول “إعمل الطيب وارميه فى البحر”.
”إضرب البرئ لما يقر المتهوم”
تعرف أنه برئ, ولا تتردد فى ضربه, حتى يقر المتهوم, كيف يقر المتهوم, خوفا من أن يأتى عليه الدور؟ لا أعرف. ما يجرى فى العصر الحاضر هو أن البرئ يضرب حتى يقر هو أنه مذنب وليس فقط متهما. إن مجرد ضرب البرئ ونحن نعرف أنه برئ أمر بالغ النذالة والقسوة.
إطعم مطعوم ولا تطعم محروم
سبق أن فسرنا هذا المثل تفسيرا إيجابيا,(الإنسان والتطور: العدد الثالث والعشرون لسنة 1985). وقد بدا ذلك التفسير للكثيرين متعسفا. عرضنا آنذاك تبريرا أو تفسيرا يقول: إن هذا المثل لا يوصى بإطعام المطعوم دون المحروم, ولكنه ينبه إلى درجة ما من الحرمان تجعل كل ما يلقى إلى صاحبها يختفى فى دوامة طلب المزيد, ثم إن المحروم لا يقدر ما يعطى، فى حين أن من سبق أن تذوق طعم ما يعطى يمكن أن يقدره, فيرتوى به إذ يكتفى بالقدر المناسب.
الاعتراضات التى واجهت هذا التفسير تفيد أن ظاهر المثل على الأقل هو التوصية بأن من عنده يعطى ويـزاد, ومن ليس عنده يهمل, ويـنكر, ولو مات جوعا واحتياجا.
اللى بعيد عن العين بعيد عن القلب
التفسير السلبى (أو الاستعمال السلبى) هنا يشير إلى أن عمق العلاقة إنما يتوقف على الحضور العينى لمن يرجو أن نتذكره, أو نحبه, أو نعمل علاقة معه. إن النظريات النفسية, وخاصة ما يتعلق بما يسمي”العلاقة بالموضوع ” تنبنى جميعها أو أغلبها على فكرة بسيطة, وهى امتلاء وعى الإنسان بموضوعات (ناس) تثريه من الداخل . إن العلاقات الحقيقية لا تتم بسبب حضور ماثل للآخر أمام حواسنا, بقدر ما يعتبر الماثل أمامنا هو المجال الذى نسقط عليه موضوعات الداخل التى أصبحت بعيدة عن العين. ليس معنى ذلك إنكار الخارج إلا باعتباره مسقطا لموضوعات الداخل. إن العلاقة الحقيقية هى رحلة بين الداخل والخارج, بين الماثل فى وعينا والمثير لأحاسيسنا. المثل بهذه الصورة ينبه إلى نوع من العلاقات مرتبطة باللحظة الراهنة, والصفقة الجاهزة, مع إنكار أى التزام ممتد أثناء الغياب, وكذلك أى مشاعر أصيلة بغض النظر عن الصفقة أو الحضور العينى.
إن مثلا آخر قد يؤكد هذا المعنى السلبى، وهو الذى يقول ” الغايب ما لوش نايب, والنايم غطوا وشه” , ليستحوذ “الحاضر” على المكاسب المادية, والوجدانية معا !!!
اللى يشبع بعد جوعه ادعو له بثبات العقل
مثل آخر, يذكرنا بالتحذير من إطعام محروم لأنه لا يشبع, (لا نافية). إنه إشارة إلى أن شدة الحرمان تفقد الإنسان توازنه خاصة إذا ما لوح له بارتواء حقيقى لم يكن ينتظره أو ليس فى حسبانه. لا يخفى من هذا ما يصلنا من إنكار حق الجائع أن يشبع, إن المثل يستبعد أن يشبع من طال جوعه أصلا, وأنه إذا فعل يجن إما لأنه لم يتوقع الشبع أصلا فهو لن يشبع مهما أكل, وإما لأنه لا يمكن أن يشبع لأنه محروم. وبالتالى هو مثقوب لا يمتلئ , ومعرض أيضا لعدم التصديق أنه شبع أو أن من حقه أن يشبع. هناك مثل مواز لا يمكن أن يذكر بألفاظه الأصلية يقول “زى اللى عمره ما شاف لحمة شاف “لحم” امه اتهبل”. الهبل هنا هو ما يقابل ما يقوله المثل الحالى: “إدعوله بثبات العقل”.
إن جاك النيل طوفان حط إبنك تحت رجليك
دعوة إلى النجاة على حساب أى آخر, حتى لو كان هذا الآخر هو ابنك شخصيا
لا يمكن التغاضى عن ما فى هذا المثل من واقعية مرة, وهو يذكرنا بيوم القيامة , يوم يفر المرء من أخيه , وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه , لكن الفرار يوم القيامة شيء, وأن يستعمل الواحد ابنه كأداة لنجاته, إذ يضعه تحت قدميه ليطفو هو ولو قليلا, ولو مؤقتا, فهذا هو المعنى السلبى الذى يشار إليه.
رب ابن ابنك, وابن بنتك لأ
هذا المثل لا يشير فقط إلى تفضيل الابن على البنت , ولكنه أيضا يشير إلى علاقة الملكية التى تربط الإبن بأبيه, وبعصبه, دون البنت. ويا ليت المسألة كانت قاصرة على التمييز فى العطاء , أو الإرث, أو الفرص, لكنها تشير إلى “استخسار” التربية. والتربية قد تشير إلى الرعاية والإنفاق , كما قد تشير إلى القدوة والنصيحة , والمثل ينهى بشكل واضح عن الامتداد غير المشروط فى جيل لاحق, وأن شرط الرعاية التربية هو انتماء الذكور انتماء عصب مباشر, هذا معنى قديم يتردد بكل لغة يقوله شاعر الفصحي: “بنونا بنو أبنائنا, وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد” ومع شدة قبح مثل هذا الشعر (والقبح بالقبح يذكر) نلاحظ أن زوج البنت وأهله أصبحوا يمثلون “الرجال الأباعد”
على ما تتكحل العمشة يكون السوق خرب
تتكرر الأمثلة التى تهين القبح بقسوة أيضا, وكأن من حرم الجمال قد أذنب فى حق قائل المثل. ثمة أمثلة موازية تقول: “إيش تعمل الماشطة فى الوش العكر”, وبدرجة أقل: ” الحلو حلو ولو قام من النوم, والوحش وحش ولو غسل وشه كل يوم”.
حاولت أن أتصور أن فى هذا الموقف بعض إعلاء قيمة للجمال, أو تنبيها إلى أن التجمل المصطنع يستحيل أن يغير الواقع الصعب, لكننى لم أنجح أن أرى غير القسوة والحكم الفوقي.
لبس الاسمر احمر واضحك عليه
يقال إن الإنجليز كانوا وهم يحتلون السودان يـنعمون على بعض الكبراء بحلة حمراء وهات يا كذب عليهم حين يصورن لهم أن مجرد تغيير الملبس هو تكريم لهم وإيهام بمساواة ما.
لهذا المثل تطبيق معاصر يجرى حالا حين يلبس الناس “اللى فوق” بعض الشعوب الإفريقية بعض مظاهر المدنية, مثل فرض لغة فرنسية عليهم, أو تصوير ما يمارسونه من قبلية مقاتلة على أنها ديمقراطية حديثة, أو تصدير بعض قشور الإنجازات التقنية للاستعمال الاستهلاكى الضحل, كأن الشكل الحضارى يتحقق بمجرد استعمال أدوات تشبه ما يستعمله المتحضرون.
وهناك تطبيق أخفى يتم فى مجال نشر الأبحاث العلمية , حين نتصور أن النشر فى مجلات عالمية هو اعتراف بقيمة البحث العلمية, ومن ثم فنحن مثلهم ننشر عندهم!! والأمرليس كذلك فى معظم الأحيان.
أيضا, يحدث مثل ذلك فى تولية بعض علماء العالم الثالث أو الرابع مناصب قيادية أو شبه قيادية فى المؤسسات والجمعيات العالمية, إما لأن الدور قد جاء على قارة إفريقيا مثلا, وإما لأن هناك حاجة إلى الظهور بمظهر المساواة, وكلام من هذا . وهنا تصبح الصورة المعاصر للمثل تقول “لبس الإفريقى أو الأسيوى، منصبا رئاسيا, واضحك عليه”.
تقوم أيضا شركات الدواء بتزيين بعض الوجوه, وتقديمهم لأنفسهم وللمجتع العلمى والمجتمع العالمى، باعتبارهم روادا فى مجالهم, وبعد أن يصدقوا أنفسهم, هات يا ضحك, وهات يا نصب.
لولاك يا لسانى ما انسكيت يا قفاى
هذه دعوة ضمنية للنفاق, وهى ليست دعوة للصمت الحكيم, أو للتحفظ فى الكلام, فإن الذى يـسك على قفاه لمجرد أنه نطق برأى أو أشار بمشورة لا يكون سكوته حكمة, وحسابات.
بلغنى أنه مثل يروج لصمت منافق, ويدعو لجبن مشارك لا أكثر
جور الغز, ولا عدل العرب
كلمة الغز كانت فى الأصل تطلق على الأتراك, ثم امتد معناها إلى التمييز الطبقى بصفة عامة, لا أخلاقية هذا الموقف لا تقتصر على التمييز الطبقى، أو التفرقة الإثنية, ولكنها أيضا تكمن فى تفضيل الرضا بالذل من سيد لأنه سيد بأصله, عن العدل من عامة الناس. إن شيوع ثقافة الذل والرضا بالظلم من السلطة, أو السادة , أو الطبقة الأعلى أيا كانت هو أمر قبيح من حيث المبدأ سواء كان الظالم من أهلنا أم غريبا.
قد يذكرنا هذا بأن الأمر لا يقتصر على تفضيل الأجنبى على العربى، أو نسبة الصفات الجيدة للأجنبى (مواعيد انجليزى) دون العربى (كله عند العرب صابون), بل قد يمتد إلى تفضيل فرد له كاريزما على آخر لا يتمتع بذلك مثل القول الذى شاع يوما هتافا شعبيا يقول “الاحتلال على يد سعد, ولا الاستقلال على يد ثروت, أو عدلي”.
لا يمكن إغفال احتمال يخفف بعض الشيء من وقع هذا المثل حين نتصور أنه يعنى أن ما يسمى عدلا عند العرب قد لا يكون كذلك, وقد يخفى ظلما أكبر وأخطر من الظلم الصريح الذى يمارسه غير العرب. بمعنى أن ظلم الأجنبى محكوم بقوانين تحد من تماديه, فى حين أن العربى قد يدعى موقفا عادلا, لكنه يمارس ظلما حقيقيا تحت لافتة عدل فضفاض.
لا يخفى ما فى هذا المثل من إهانة, وتهوين من شأن الذات, مما لا يتفق مع حقيقة ما تكشـف عنه وجه الغرب الشائه, باعتبار أن أهل الغرب هم “الغز المعاصرون”. إن زرع إسرائيل وممارساتها ودعم الغرب (الغز) لها دون شروط , هو ضد هذا القبح الكاذب الذى يتضمنه هذاالمثل. وعدم مصداقيتهم فى كل قضايا العرب, وفى الوصاية الفوقية لتصنيف التمييز الدينى والعنصرى، وفى التحيز الأعمى للموقف الإسرائيلى، الأمر الذى تعرى بشكل صارخ مؤخرا.
إن قابلك الاعمى خد عشاه, مش حا تكون أرحم ماللى عماه
هذا مثل يبدو فى منتهى القسوة, وهو يبرر التمادى فى ظلم الأضعف, بل إنه يتطاول حتى على رحمة ربنا.
إن تبرير هذا المثل بأنه يدعو إلى أن نكتشف من عمق آخر تحذيرا ضمنيا من اصطناع شفقة زائفة, نتصور بها أننا أكثر حكمة من القدر نفسه, هو تبرير ضعيف, وإن كان يشير إلى تعرية أن الحرص على مصلحة الذات قد يكشف عن تهافت المثالية القصيرة العمر.
ولو. هذا تبرير ضعيف وخائب.
وبعد
يالرغم من أن أغلب هذه الأمثال لم تعد متداولة فيما بيننا فى العصر الحاضر, إلا أننا يمكن أن نوجز بعض ما شرحناه من دلالات, وغيرها فيما يلي:
أولا: إن الوعى الشعبى قد يكون شديد القسوة. كما قد يكون ذا قدرة فائقة على اختراق النفس البشرية وتعرية نوازعها الأخري.
ثانيا: إن الزعم بأن أهل الزمن الفائت قد يكونون أقل قسوة, وأكثر حكمة, وأكثر رحمة هو زعم باطل غالبا. هم قد يكونون كذلك, وقد يكونون عكس ذلك.
ثالثا: إن ما حل محل مثل هذه الأمثال مما يسمى الآن “اللغة الشبابية” أو ” اللغة الجديدة” أو “البيئة”. وهى لها وعليها أيضا, ينبغى أن يؤخذ مأخذ الجد, وأن يوضع فى مكانه بسلبياته وإيجابياته.
القضية هى هى على مر العصور, ومن أهم ما يفيدنا هذا الإبداع الشعبى هو أن نستدل من خلاله على منظومة القيم السائدة فى ثقافة بذاتها, فى مرحلة من مراحل التاريخ.
رابعا: إن تسجيل معالم القيم السلبية فى مثـل, أو قول شائع حتى يصير مثلا, فى فترة بذاتها, لا يعنى الإقرار بها – كما أشرنا – بل قد يعنى التنبيه إليها.
خامسا: إن قسوة الوعى العام هى تحذير من تقديسه, وفى نفس الوقت إن إعلانها من خلال الأمثال والأقوال السارية, هو دعوة إلى مواجهة هذه السلبيات المعلنة بالرفض, والتجاوز, والإبداع.